وكان أتيكوس قد أحب مذهب أبيقور واتخذه لنفسه دينا، وتأثرت به حياته العقلية، كما تأثرت به سيرته اليومية أشد التأثر وأقواه، والقراء يعلمون أن أخص ما يمتاز به مذهب أبيقور من الناحية الخلقية، هو أن يجعل اللذة غاية الغايات للإنسان، ويرى أن هذه اللذة لا تخلص ولا تستقيم لطلابها إلا إذا برئت من الألم، فلم تعقبه ولم تورط فيه.
فالرجل الحكيم في هذا المذهب خليق قبل كل شيء أن يتجنب الألم ما وجد إلى ذلك سبيلا، وأن يبتغي اللذة ما وجد إليها سبيلا أيضا، وإذا كانت اللذات في أكثر الأحيان مصادر للألم ودوافع إليه، فالرجل الحكيم خليق أن يتجنب اللذات نفسها ليتجنب ما تعقب من الألم.
وخير للرجل الحكيم أن يفرض على نفسه حياة غليظة ساذجة فيها شيء من شظف وقسوة، من أن يقبل على الحياة الهينة اللينة ويستجيب للمغريات، فيستمتع بلذات كثيرة تدفعه إلى آلام كثيرة.
ومذهب أبيقور يمتاز كذلك بأنه حرر الإنسان من خوف الموت وما يمكن أن يكون بعد الموت؛ فالآلهة لا يحفلون بالإنسان ولا يسألونه عن عمله، ولا يجزونه بالخير خيرا ولا بالشر شرا، وإنما الإنسان مسئول عن نفسه أمام نفسه أثناء الحياة، فإذا أدركه الموت فقد عاد إلى العدم الذي خرج منه حين دخل الحياة.
وإذن فليس للإنسان أن يفكر إلا في حياته هذه التي يحياها، يلتمس فيها لنفسه الخير والمنفعة، ويصرف فيها عن نفسه الشر والمضرة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. والصداقة نفسها عرض من أعراض هذه الحياة، لا تلتمس لنفسها، وإنما تلتمس لما تتيح للإنسان من لذة ومنفعة؛ فالإنسان خليق أن يلتمسها ويستمسك بها ما أتاحت له لذة ومنفعة، وهو خليق أن يجتنبها ويتخلص منها إن عرضته لشر أو ضر، وهو خليق ألا يحفل بها ولا يلتفت إليها إن لم تغن عنه شيئا.
كذلك كانت الصداقة التي ادخرها أتيكوس لخليله الوفي الحميم سيسرون، صداقة قوية متينة ما جلبت له نفعا ولذة، وكان سيسرون مصدرا للذة والنفع جميعا، مصدرا للنفع لمكانه من السياسة والسلطان، ومصدرا للذة لمكانه من الثقافة العليا، وما امتاز به من رقة الشمائل وعذوبة الحديث، وجمال المحضر والمغيب.
ومن أجل ذلك كان الرجلان يلتقيان في كل يوم إن أتيح لهما اللقاء، فإن حيل بينهما وبينه عمدا إلى الرسائل تغنيهما عن هذا اللقاء، ولم يقف الأمر بين الرجلين عند هذه الصداقة، وإنما نشأت بينهما صلات المصاهرة، فتزوج كنتوس سيسرون أخو أديبنا العظيم من بونبونيا أخت أتيكوس مالينا العظيم أيضا.
فليس من الغريب أن يلجأ سيسرون إلى صديقه وصاحب صهره في كل ما ينوبه من الأمر؛ فهو مدبر ثروته ومستشاره في السياسة، وناشر كتبه ومنظم مكتبته، والداخل في الجليل واليسير من أمره كله، حتى يقتل سيسرون في أواخر سنة ثلاث وأربعين قبل المسيح.
وقد يسأل القارئ: ما حاجتنا إلى هذا التفصيل الطويل؟ فلينتظر قليلا، فستظهر الحاجة إلى هذا التفصيل واضحة كل الوضوح ، بعد أن نضيف له تفصيلا آخر يتصل بحياة أتيكوس نفسه، فقد أشرت إلى تأثره بمذهب أبيقور، واضطراره بحكم هذا المذهب إلى أن يتجنب الانغماس في الترف واللذة، وقد دفعه ذلك إلى أن يعيش أعزب دهرا من حياته، ثم اختار لنفسه زوجا ليست ممتازة الطبقة، وإنما هي من أسرة ضئيلة فقيرة ليست بذات خطر، ورزق من هذا الزواج طفلة لم يمنحها من عنايته إلا مقدارا معتدلا.
ولكن ثراءه وحياده وثقافته وامتياز مكانته في روما، كل ذلك قرب منه أوكتاف، حين استقامت له الأمور وأصبح مستأثرا مع أنطوان بالسلطان الروماني، وإذا هو صديق لأتيكوس، وإذا هو يتجاوز الصداقة إلى الصهر، فيصبح حفيده ختنا لأتيكوس، وحفيده هذا هو الذي سيخلف أوغسطس على عرش الإمبراطورية الرومانية، بعد موته، وسيسمى تيبيريوس.
ناپیژندل شوی مخ