136

ولكن الرجلين على هذا التفرق احتفظا بالمودة الخالصة والصداقة الصافية، واشتركا بحكم هذه المودة، في حب العلم والأدب والفن، وهذا الترف الرفيع الذي يتصل بحياة العقول والقلوب، وقد ورث أتيكوس عن أسرته ثروة ضخمة، فلم يكد يجاوز طور الطلب حتى فرغ لهذه الثروة يدبرها ويثمرها وينميها، وأقام بينه وبين السياسة سورا كثيفا حرم على نفسه أن يعبره أو ينفذ منه، وحرم على السياسة أن تنفذ إليه مهما تحدث الأحداث ومهما تكن الخطوب.

وهو من أجل ذلك يهجر مدينة روما حين تعصف بها الثورة السياسية في أيام سولا، ويعبر البحر إلى بلاد اليونان؛ فيقيم في أتينا وفي غيرها من المدن اليونانية ما شاء الله أن يقيم، حتى إذا هدأت الثورة واستقرت الأمور عاد إلى روما وقد أضاف إلى ثرائه ثراء، وإلى علمه علما، وقد استقر في نفوس الساسة أنه ليس من السياسة في شيء، وأنه لا يريد أن يكون منها في شيء، وإنما هو رجل مال وعلم، لا يريد أن يزيد على المال والعلم شيئا.

وهو من أجل ذلك صديق للساسة جميعا مهما تكن أحزابهم، ومهما يحسنوا أو يسيئوا، ومهما تختلف بهم الظروف، قد زهد في مناصب الحكم فتركها لهم، وزهد في مجلس الشيوخ فتركه لهم، وزهد في الطبقة الأرستقراطية الممتازة فتركها للذين يسعون إليها من أصحاب الطمع والطموح، وقنع بأن يثمر ثروته، وينشئ في روما وفي الأقاليم مصرفا هو أعظم المصارف وأكثرها تشعبا وأكثرها عملاء.

فهو يقرض المحتاجين إلى أن يقترضوا، ويدبر لأصحاب الثراء ثراءهم، ويحفظ على أصحاب الأموال أموالهم، يعتدل فيما يأخذ على القروض من فائدة، ويسخو فيما يرد على أصحاب الأموال من ربح، ويكفل بذلك لنفسه حب الموسرين والمعسرين جميعا.

وقد شغف أتيكوس بالفلسفة والأدب والفن، فلم يلبث أن شغف بالكتب وجعل يجمعها وينشئ لنفسه خزانة كتب ممتازة، ويسرت له ذلك إقامته في بلاد اليونان وثروته الضخمة، فجعل يجمع المخطوطات القديمة ونفائس الآثار ما وجد إلى ذلك سبيلا.

وانتقل بهذا كله إلى روما، ودعا الناس إلى داره، فرأوا وقرءوا وأعجبوا، وأحبوا أن يكون لهم مثل ما رأوا من آيات الأدب والفن والفلسفة، وما هي إلا أن يصبح أتيكوس خبيرا يشير على المثقفين والمترفين، ثم وسيطا يشتري لهم من الكتب والآثار وطرائف الفن ما يريدون، وعنده كتب كثيرة نادرة ليس من اليسير أن تقتنى، وهو لا يعير شيئا من كتبه، فالناس مخيرون بين أن يسعوا إلى داره لينظروا في هذه الكتب، وبين أن يستنسخوا هذه الكتب إن أرادوا أن يملكوها.

وإذا أتيكوس يؤلف جماعة من الرقيق المثقفين، منهم من أتقن تنظيم خزانات الكتب والقيام عليها، ومنهم من أتقن النسخ والمراجعة والمعارضة، وإذا هو قد أنشأ دارا للنشر عظيمة الخطر في روما، يعمل فيها النساخ والمراجعون ينسخون للأدباء ما يحتاجون إلى استنساخه من الكتب، ويسبقون إلى نسخ طائفة من الكتب اليونانية واللاتينية تشتد إليها حاجة القراء.

وما هي إلا أن تتسع دار النشر هذه، فلا تكتفي بنسخ القديم وإذاعته، وإنما تضيف إلى ذلك نشر الآثار التي ينشئها المحدثون، وإذا هذه الدار قد أصبحت أشبه شيء بدور النشر الحديثة التي نعرفها الآن، لا يكاد الشاعر ينشئ ديوانا ولا يكاد الكاتب يؤلف كتابا حتى يدفعه إلى أتيكوس، فإذا هو ينسخ وينشر، لا في روما وحدها، بل في إيطاليا، ثم في الأقاليم الرومانية في الشرق والغرب.

وكذلك أصبح أتيكوس أكبر رجال المال في روما، ويسر له ذلك الاتصال برجال السياسة على اختلاف أحزابهم وبأكبر رجال النشر القديم والحديث، ويسر له ذلك الاتصال برجال الثقافة على اختلاف أحزابهم أيضا.

وإذ كان سيسرون من الممتازين في السياسة والثقافة جميعا - وسنرى أنه كان من الممتازين في المال أيضا - فقد اتصلت الأسباب الوثيقة اليومية بينه وبين أتيكوس، وقد أشرت آنفا إلى أنهما كانا صديقين منذ أيام الطلب في عهد الصبا والشباب ، فقد زادت صداقتهما قوة وتوثقا على مر الأيام وتعاقب الأحداث، ومن المحقق أن أتيكوس كان أشد الناس بسيسرون صلة، وأدناهم منه مكانة، وأعرفهم بدخائل أمره كلها، سواء منها ما يتصل بالحياة العامة وما يتصل بالحياة الخاصة في أدق خفاياها.

ناپیژندل شوی مخ