129

ولو قد استجبت لميولي الأدبية لما أتممت قراءة الكتاب، ولكني لا أكاد أبدأ كتابا حتى أفرض على نفسي إتمامه، مهما يكن رضاي عنه، أو سخطي عليه، تفرض ذلك علي طبيعتي التي تحب الاستقصاء، وصناعتي التي تفرض علي الاستقصاء فرضا، وتدفعني إلى أن أتهم نفسي ولا أحفل بما يثور فيها من رضا أو سخط، ولا أجعل رضاها أو سخطها وسيلة إلى الحكم للكتاب أو الحكم عليه.

ومصدر هذا الضيق الذي وجدته أثناء هذه القراءة أن الكاتب أخلف ظني، فقد كنت أنتظر أن أقرأ آية أدبية ك «الغريب»، أو ك «اليجولا»، أو «سوء تفاهم»، أو كنت أنتظر أن أقرأ دراسة فلسفية متقنة كأسطورة سيزيف، فإذا أنا أمام شيء ليس هو بالقصص الخالص، ولا هو بالفلسفة الخالصة، وإنما هو محاولة لشيء بين ذلك، يريد أن تكون قصة تروع بالفن الأدبي فلا يبلغ ما يريد، ويريد أن يكون درسا يروع بدقة البحث وحسن الاستقصاء فلا يبلغ ما يريد.

وقد عرض علينا ألبير كامو في كتابه هذا مدينة بعينها هي مدينة وهران في الجزائر، تصور أنها قد امتحنت ذات يوم بوباء الطاعون؛ فهو يعرض علينا كيف استقبلت المدينة هذا الوباء شاكة فيه ساخرة منه أول الأمر، وكيف استقبلت هذا الوباء بعد أن انجلى الشك وأبانت الكارثة عن نفسها في غير غموض، فكان الذعر والهلع، وكان تردد الحكومة وتلكؤها وتقصيرها.

ثم كيف استقبلت المدينة هذا الوباء حين عظم أمره ، واشتد فتكه وأصبح خطره شنيعا، فقطعت المواصلات بينها وبين العالم الخارجي، وضرب عليها حصار شديد قاس يمنع الخروج منها والدخول إليها، ويعزلها عن العالم عزلا تاما، لولا البرق الذي ينقل أطرافا من أخبارها إلى الدنيا، وينقل إليها أطرافا من أخبار الدنيا، ويتيح لبعض أهلها في كثير من المشقة والجهد، أن يتصلوا بذوي قرباهم في المواضع النائية عنهم.

وكل هذا التصوير صادق كل الصدق، دقيق كل الدقة، قد شهدناه إلى حد ما في الأشهر القليلة الماضية، وتصوير آخر لحال المدينة ليس أقل صدقا ولا دقة من هذا التصوير، وذلك حين يعرض الكاتب ما يكون من الصلة بين الحكومة وبين الشعب أثناء المحنة، فالحكومة في أول الأمر قد فوجئت بالكارثة، لم تكن تنتظرها ولم تكن قد استعدت لها؛ وهي من أجل ذلك تنكر الكارثة مخلصة، ثم متكلفة، ثم مكابرة، ثم تضطر إلى الاعتراف بما ليس بد من الاعتراف به، ثم تتخبط في مواجهة الكارثة، فيكثر خطؤها ويقل صوابها، ثم تلتجئ إلى العالم الخارجي تطلب منه المعونة والغوث، ثم تنتهي آخر الأمر إلى الحزم الجاد حتى يزول الوباء. وهي في أثناء هذا كله لا تقول للناس من أمر الكارثة وتطورها وفتكها وضحاياها إلا ما تريد هي أن تقول، وبين ما تقوله للناس وبين الحقائق الواقعة بون شاسع وأمد بعيد دائما.

وليست حال الشعب نفسه بخير من حال الحكومة؛ فالشعب يشك ثم ينكر، ثم يتكلف ثم يكابر، ثم يذعن للحقيقة الواقعة، ثم تختلف به المذاهب بعد ذلك، فأما الفقراء فيذعنون في غير مقاومة ويؤدون إلى الوباء ضريبته فادحة؛ وأما الأغنياء فيؤثرون أنفسهم بأسباب الوقاية والعلاج ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، وأما أوساط الناس فيتذبذبون بين أولئك وهؤلاء بمقدار حظهم من اليسر وسعة ذات اليد، وقد حوصرت المدينة، وفرضت عليها الأحكام العرفية وقتر على أهلها في الرزق؛ فشقي الفقراء إلى غير حد، ونعم الأغنياء ما استطاعوا أن ينعموا، واضطرب أوساط الناس بين الشقاء والنعيم.

وتكشفت الأخلاق عن مكنونها، فكانت الأثرة، وكان الاحتكار، وكان ما ينشأ عنهما من التنافس والتباغض والاحتيال إلى آخر هذه الرذائل التي تتكشف عنها الإنسانية حين تلم بها الخطوب، وتلح عليها الكوارث.

وفي أثناء هذا الشر كله يظهر شيء من خير قليل، ولكنه قيم منتج قوي، يستطيع أن يقهر الشر شيئا فشيئا حتى يمحوه وحتى يطرد الوباء عن المدينة، ويرد الناس إلى ما ألفوا من حياة، أو يرد إلى الناس ما ألفوا من حياة. فهؤلاء الأطباء الذين يعرفون الوباء ويحققون خطره، ويصممون على مقاومته ما وسعتهم هذه المقاومة، لا يدخرون في سبيل ذلك جهدا، ولا يبخلون بقوتهم مهما تكن، ولا يترددون في التضحية براحتهم وأمنهم»، وفي التعرض للخطر مصبحين وممسين، ولا يبتغون على ذلك أجرا لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولأنهم يرون أن أجور الدنيا ليست بذات خطر ولا غناء، فهم أعداء الوباء لأنه الوباء، وهم حماة الحياة والصحة لأنهما الحياة والصحة، لا أكثر ولا أقل.

هذه هي الخلاصة الظاهرة للكتاب، وهي كما ترى يسيرة قريبة، لا عسر فيها ولا بعد، وهي كما ترى لا تدل على عمق في التفكير ولا على براعة في الابتكار، ولكن هذه الخلاصة الظاهرة ليست إلا أيسر ما في الكتاب، بل قل: إنها ليست إلا رمزا ضئيلا للحقيقة التي أراد إليها الكاتب حين ألف الكتاب؛ فهو لم يرد إلى مدينة وهران ولا إلى غيرها من المدن، وهو لم يقصد إلى الطاعون ولا إلى غيره من هذه الأوبئة التي تلم بالناس بين حين وحين، وإنما أراد إلى ما هو أعظم من ذلك شأنا، وأجل خطرا، وأكثر شمولا.

فمدينة وهران رمز لفرنسا وغيرها من البلاد الأوروبية التي اجتاحتها الحرب، واحتلها العدو وعزلها من العالم الخارجي عزلا تاما، والطاعون هو الحرب والاحتلال والبطش والنكال. والشعب الذي انقسم هذا الانقسام، وتفرقت طوائفه هذا التفرق، وتكشفت أخلاقه عن هذه السيئات الكثيرة والحسنات القليلة، واحتمل ما احتمل، وقاوم ما قاوم حتى انجلت عنه الغمرة، هو هذه الأمم التي اصطلت نار الحرب، وخضعت لنكر الاحتلال، والأطباء والمتطوعون الذين جاهدوا بأنفسهم وضحوا بحياتهم حتى جلوا هذه الغمرة، لم ينتظروا على ذلك أجرا هم قادة المقاومة وزعماء الجهاد.

ناپیژندل شوی مخ