وإذن فيجب أن يلتزم السينما كما يلتزم الأدب؛ أي: يجب أن يعرض السينما على النظارة حياتهم، وما يملؤها من المشكلات وما يمكن أن يواجهوا به هذه المشكلات من حزم وعزم، ومن رفق وأناة، ومن صبر واحتمال، ومن حيلة وتصرف، وما يمكن أن يجدوا لهذه المشكلات من حلول تريحهم منها ليستقبلوا غيرها.
فحياة الناس لم تخل ولا يمكن أن تخلو من المشكلات، ولا سيما حين يكون لهؤلاء الناس حظ من رقي العقل، وذكاء القلب، ودقة الحس، وقوة الضمير.
وقد حاول جان بول سارتر اصطناع السينما لإذاعة أدبه أول ما حاول بعرض قصته تلك القصيرة التي حظرت في بريطانيا العظمى وأذيعت في الراديو، وهي القصة التي عنوانها:
Huis Clos ، والتي أستطيع أن أسميها من «وراء السور».
فالقصة تعرض أمر نفر من الناس دفعوا بعد الموت إلى الجحيم، وضرب من دونهم بسور ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، وليس في جحيمهم هذا الذي دفعوا إليه نار تتلظى، ولا سعير تصهر فيه الجلود وتذاب فيه الأجسام، بل ليس فيه ألم مادي ما، وإنما هم مدفوعون إلى حجرة من الحجرات التي ألفوها في حياتهم الدنيا، وهم مكرهون على أن يقيموا في هذه الحجرة إلى آخر الأبد، إن كان للأبد آخر.
وهم يصلون متتابعين إلى حجرتهم هذه، لا يعرفون أنهم موتى، وإنما يخيل إلى كل واحد منهم أنه قد أقبل على فندق من الفنادق، وقاده الخادم إلى حجرة من حجراته، فهم يتفقدون في هذه الحجرة مرافقهم التي ألفوها في الحياة الدنيا، وهم يتبينون شيئا فشيئا أنهم قد ماتوا، وأنهم يلقون في هذه الحجرة جزاء ما قدموا بين أيديهم من الأعمال.
وليس هذا الجزاء ألما ماديا، كما قدمت، وإنما هو ألم معنوي يتبينون إحساسهم له شيئا فشيئا؛ يتبينون ذلك حين يتعرف بعضهم إلى بعض، وحين يذكر كل واحد منهم لنفسه أولا ولرفاقه بعد ذلك، ما قدم من أعمال منكرة وما اقترف من آثام استحق عليها العقاب، ثم حين يكون بينهم الاختلاف والتناكر، وحين يستبين كل واحد منهم أنه لا يستطيع أن يعاشر رفاقه راضيا عن عشرتهم، ولا يستطيع أن يفلت من هذه المعاشرة؛ فهو مكره إذن على معاشرة لا يطيقها ولا يطمئن إليها، ولا يستطيع أن يخلص منها إلا إذا عكف على نفسه وأهمل طائعا أو كارها من حوله من الرفاق.
وسواء أراد أو لم يرد، فهو يرى هؤلاء الرفاق ويتأذى بمنظرهم، وهو يسمعهم ويتأذى بما يسمع منهم، وهو يحاول أن يفر منهم إلى نفسه، فلا يرى في نفسه إلا نكرا، وهو لا يستطيع أن ينسى هذا النكر الذي يراه في نفسه؛ لأن أعماله كلها تعرض عليه وآثامه كلها تمر أمامه من وراء هذه الأسوار؛ فيتحدث عنها فيؤذيه حديثه ويؤذي رفاقه، ويسكت عنها فيؤذيه سكوته ويؤذي رفاقه؛ لأن كل واحد منهم في حاجة إلى أن يشغل نفسه عن نفسه، ولأن كل واحد منهم يؤذيه أن يشغل نفسه عن نفسه، كما يؤذيه ما يحاول من الفراغ لنفسه والانصراف إليها عمن حوله من الناس.
فكل واحد منهم إذن إنما يحمل جحيمه في نفسه، وليست جهنم شيئا منفصلا عن الإنسان، وإنما هي شيء مستقر في ضميره حيا وميتا، وكل ما في الأمر أن الإنسان في حياته الأولى قد يخدع ضميره، أو يخدع عن ضميره، بما يكسب من عمل، وبمن يعاشر من الناس، وبما يعرض له من المشكلات التي يشغله بعضها عن بعض، ومن اللذات التي قد تشغله عن آلامه وقتا يقصر أو يطول.
فأما بعد الموت فليس يشغله عن نفسه شيء، وليس يصرفه عن آلامه وآثامه شيء، وهو يعلم حق العلم أنه موقوف على هذه الآلام والآثام، وأن هذه الآلام والآثام موقوفة عليه أبد الآباد أو أبد الآبدين.
ناپیژندل شوی مخ