وكانت الخطبة قد تمت بيننا على أحسن ما تتم الخطبات بين المتحابين المؤتلفين اختار كل منهما صاحبه، واصطفاه لعيشه وشركته في حياته وأمره، والذي زاد في فرحنا بالخطبة أنها جاءت بديعة وليدة حب لا يعرف غير التفاني، وحنان لا يؤمن بغير التلاشي فيمن يحب والفناء.
وما كادت بضعة أشهر تنقضي على أعز فرحات الحياة حتى قامت الحرب والتحق بالجيش ومضى في الذين راحوا يهطعون إلى الميدان، وذهب كذلك صديقه وأعز صحبه عليه، وكنت أرى في عينيه بريق الإخلاص الطاهر العف الجليل للفتاة التي أحبها صديقه واختارها لنفسه، ولكنه لم يشأ أن يدع شيئا ينم عما في نفسه من الحب إلى مخافة أن يدفعه اليأس إلى تنغيص هناءة صاحبه وفتاته.
فلما وقفنا وقفة الوداع قبيل صفير القاطرة الراحلة بالجند، انثنيت إلى الصديق فأعطيته صفحة وجهي لقبلة الوداع، حنانا مني ورحمة، إذ لم تكن لي في الفتيات من صاحبة ولا خطيبة يتودع منها بالقبلات، رأيته يجمع قبضتيه ويغمغم كاشرا عن أسنانه وهو يقول في خفية: لا ينبغي أن يعود كلانا من الحومة حيا، وأدعو الله من أعماق فؤادي أن يكون هو العائد وأنا الذاهب لا رجعة لي ولا عودة.
والتزمني خطيبي فأمسك بي لصق فؤاده مليا وغمغم يقول: انتظريني أيتها الغالية، سأظل وفيا لحبك حتى أعود، وكنت أومن به وأعلم أنه لقسم عظيم وموثق لا نكث فيه ولا حنث.
ولما عاد ح ... وحده ذهبت إليه في لهفة أسأله أين ترك صاحبه، فعلمت ويا سوء ما علمت، لقد عاد الذي كان يود أن لا يعود، ولم يرجع الذي ود أن يرجع!
وطفق يتحدث عن شجاعة صاحبه وثباته وبسالته في الميدان، ويعود إلى الحديث غير متململ ولا ضجر، فأعلنته بنيتي قائلة: لن يملك فؤادي من بعده أحد ... فلما سمع كلمتي هذه امتقع وجهه، وساد سكون رهيب فلم يقل شيئا ...
وفي ذات يوم راح في جلال وحزن بليغ يشكو لي حبه الدائم لا يفنى، ووجده المقيم لا يموت، ويسألني أن أتقبله زوجا، فأبيت ولكن في رفق، وعادت بنا الخواطر إلى ف ... فانثنى يقول: إذا وجدت لي يوما حبا في فؤادك فعودي إلي فسأظل في انتظارك حتى تحين ساعتي، فإذا لم تعودي كنت أسعد وأهنأ لأنني أكون قد بقيت الدهر على حبك.
وانفرطت ستة أعوام.
وأحسست رغبة مستحوذة تدفعني إلى زيارة قبر خطيبي، فسافرت من يومي إلى مشهد أيام القتال وساحته، وفي المحطة قبل أن يقلني القطار وقف ح ... لوداعي فقال في لهفة ووجد كظيم: إنني منتظر ...!
ولكني بضحكة عصبية راعشة الرنين قلت له: ابحث لك عن فتاة غيري في غيبتي.
ناپیژندل شوی مخ