وما هي إلا أيام معدودات ألفيتني جالسة في سقيفة فندق يطل على أمواه البحيرة ويشرف على مشهد الطبيعة الباهرة، وكان سحر المكان قد أسكرني وبدا لي أفتن مما كنت أذكر له من فتون، وجلست ممسكة بكتاب أتطلع إلى الأولاد وهم يرتعون على الضفاف ويسبحون على صدر الماء، فعادت نفسي تهفو في أثر البنين وعاد بي الحنين كما كان منذ سنين.
وحملني الخيال على أن أختار من بين أولئك الصغار صغيرا وأدعوه بيني وبين نفسي طفلي وصغيري، وكان وليدا ما أحسبه تجاوز الحول الثالث بعد، وسرني أن لداته الصغار جعلوا ينادونه باسم زوجي العزيز.
وبينما أنا في أحلامي هذه وتخيلاتي، إذ دلفت نحوي سيدة تنصف بها العمر، فجلست بجانبي وكانت ثرثارة حلوة الثرثرة، تعرف من شؤون الناس أكثر مما يعرفون من شؤونها، فسألتها عن «طفلي الصغير» فانطلقت تقول: أتعنين الوليد ذا الفروع الصفراء كأنها من سبائك الذهب صيغت، ألا ترينه جميلا بديعا، تلك أمه الجالسة عن كثب منا، السيدة ذات المظلة الحمراء، إنها والله لا تزال في مراح الطفولة كوليدها وهم يجيؤون للمقام بهذا الموضع مرة كل عام، وهذه المرة هي الثالثة، وقد جاء أبوه العام المنصرم، فإذا هو رجل أغيد مليح، وهو بابنه هذا صب كلف، يحنو عليه الحنان كله.
ودق الجرس إلى موائد الطعام فدخلنا إليها جميعا، وجاء مجلسي بجانب السيدة ووليدها الصغير، فتجاذبنا الحديث وآنست كل واحدة منا إلى جليستها، وإن كانت هي حيية لا تطيل حديثا، وإنما تحنو على صغيرها لا يشغلها عنه شاغل.
ولما نهضنا عن الموائد دس الطفل يده في يدي واقترح أن يريني سمكات له صغارا في دلو على الشاطئ.
ولما سرنا إلى السمكات راح يقول في لثغة الأطفال: أنا أحبك وأنت لطيفة جميلة ...
ومن ذلك العهد أقبل علي بنفسه وأصبح أتبع لي من ظلي، وجعل يناديني أمي الأخرى، وأحسست له حبا عميقا هو هتاف الأمومة المكينة من غريزتي الحبيسة في صدري، لم تجد من قبل متنفسا ولم تر لتبعتها مغيضا.
قلت له مرة: أود لو أن أمك وهبتك لي.
فنظر إلي مليا وراح يفكر في صمت، ثم انثنى يقول: أخاف أن لا يرضى أبي إلا إذا أخذته هو كذلك.
وكأنما أعجبته هذه الفكرة، فمضى يصفق لها ويضحك ملء فمه قائلا: إنه سيأتي غدا فلتسأليه وستأخذني أمي إلى المحطة لاستقباله.
ناپیژندل شوی مخ