المشترك اللفظي في الحقل القرآني
المشترك اللفظي في الحقل القرآني
خپرندوی
موسسة الرسالة
د ایډیشن شمېره
الثانية
د چاپ کال
١٤١٧
د خپرونکي ځای
بيروت
ژانرونه
تقديم
اللغة العربية تميزّت عن لغات العالم بكثرة ألفاظها، وغزارة معانيها.
وما ورد منها قليل من كثير، وغيض من فيض، وغرفة من بحر.
وما أصدق قول الإمام الشافعيّ: «لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبيّ» وقد سجّل ذلك ابن فارس في كتابه «الصاحبي» في معرض الفخر باللغة العربيّة التي اختصّها الله تعالى بالفضل، وميّزها بالبيان حيث قال جل شأنه: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ قال الصاحبي: ومعلوم أن العجم لا تعرف للأسد اسما غير واحد، فأما نحن فنخرج له خمسين ومائة اسم.
ولما بزغت شمس الإسلام من سماء القرآن اكتسبت اللغة العربية قوّة في البيان، وجزالة في اللفظ، وفخامة في المعنى، بما تشتمل عليه من ألفاظ موحية، وكلمات مشرقة، وتراكيب بديعة.
ومعاني القرآن الكريم لا تنتهي عند حد، ولا تقف عند نهاية، فكلما ظهرت معان تجدّدت معان أخرى، وهكذا.
فمعاني القرآن الكريم مع المتدبّرين والدارسين ولادة بعد ولادة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ولله درّ الإمام الغزالي حينما عبّر عن هذه المعاني بقوله: «إلى
1 / 5
كم تطوف على ساحل البحر مغمضا عينيك عن غرائبها. أو ما كان لك أن تركب لجّتها لتبصر عجائبها، وتسافر إلى جزائرها لاجتناء أطايبها، وتغوص في أعماقها، فتستغني بنيل جواهرها؟
أو ما بلغك من أن القرآن الكريم هو البحر المحيط، ومنه يتشعّب علم الأولين والآخرين كما يتشعّب من سواحل البحر المحيط أنهارها وجداولها» ومن المعاني الغزيرة التي ضمّها القرآن الكريم من خلال كلماته المشرقة وألفاظة البديعة ما يسمى بالمشترك اللفظيّ.
عشت في رحاب القرآن الكريم دارسا هذه الظاهرة، باحثا عن مصادرها، عارضا المؤلفات التي ألفت في ميدانها وأرجو الله أن يوفقنا لخدمة كتابه، وعرض درره وجواهره، إنه نعم المولى، ونعم النصير.
عبد العال سالم مكرم
_________
من كتاب: جواره القرآن الكريم ودرره للإمام الغزالي- طبع بيروت.
1 / 6
الفصل الأول المشترك اللفظي في الحقل اللغوي
1 / 7
١ - معنى المشترك اللفظي:
حدّد معناه السّيوطي ناقلا عن ابن فارس في «فقه اللغة» فقال:
«وقد حدّه أهل الأصول بأنه اللفظ الواحد الدالّ على معنيين مختلفين فأكثر دلالة على السّواء عند أهل تلك اللغة» (١) ومن هذا التعريف يتبين أن عمود المشترك اللفظي هو الدلالة، لأن اللفظ الواحد يدلّ على معنى أو اثنين أو أكثر.
ومن البدهيّ أن اللّفظ في أول وضعه كان يدل على معنى واحد، ثم تولّد من هذا المعنى الواحد عدّة معان، وهذا التّوالد هو ما نسميه:
تطور المعنى.
وهذا التّطور «يسير ببطء وتدرّج، فتغيّر مدلول الكلمة مثلا لا يتمّ بشكل فجائي سريع، بل يستغرق وقتا طويلا، ويحدث عادة في صورة تدريجية فينتقل إلى معنى آخر قريب منه.
وهذا إلى ثالث متصل به ... وهكذا دواليك حتى تصل الكلمة أحيانا إلى معنى بعيد كل البعد عن معناها الأول» (٢) والتطور مرتبط بعلاقتين يحكمانه، وهما: علاقة المجاورة والمشابهة.
_________
(١) المزهر: ١/ ٣٦٩.
(٢) علم اللغة للدكتور على عبد الواحد وافي: ٣١٤.
1 / 9
أما علاقة المجاورة قد تكون مكانيّة «كتحوّل» معنى «ظعينة» وهي في الأصل: المرأة في الهودج إلى معنى الهودج نفسه وإلى معنى البعير» وقد تكون علاقة المجاورة زمنية «كتحوّل معنى «العقيقة» وهي الأصل: الشعر الذي يخرج على الولد من بطن أمّه إلي معنى الذبيحة التي تنحر عند حلق الشعر» وأما علاقة المشابهة كتحول معنى
«الأفن»، وهو في الأصل:
قلّة لبن الناقة إلى معنى قلّة العقل والسّفه.
وتحوّل معنى المجدّ» وهو في الأصل: امتلاء بطن الدابّة من العلف إلي معنى الامتلاء بالكرم» (١) ومن التّطوّر الدّلالي وله علاقة بالمشترك اللّفظي:
أن تكون اللفظة تدل على معنى معيّن عامّ، فيتقادم الزمن بتناسى المعنى العام، لتستعمل الكلمة في معنى خاص.
«فمن ذلك جميع المفردات التي كانت عامّة المدلول، ثم شاع استعمالها في الإسلام في معان خاصة تتعلق بالعقائد أو الشعائر، أو النظم الدينيّة كالصلاة والحجّ، والصوم والمؤمن والكافر، والمنافق، والرّكوع والسجود ..
فالصلاة مثلا معناها في الأصل: «الدعاء» ثم شاع استعمالها في الإسلام في العبادة المعروفة لاشتمالها على مظهر من مظاهر الدعاء حتى أصبحت لا تنصرف عند إطلاقها إلى غير هذا المعنى.
_________
(١) علم اللغة للدكتور على عبد الواحد وافي: ٣١٦، ٣١٧.
1 / 10
والحجّ، معناه في الأصل: قصد الشيء والاتّجاه، ثم شاع استعماله في قصد البيت الحرام، حتى أصبح مدلوله الحقيقي مقصورا على هذه الشعيرة (١) وقد يحدث العكس بأن تكون الكلمة دالة على معنى خاص في أصل وضعها ثم تتطور إلى معنى عام بتقادم العهد «فالبأس في الأصل: الحرب، ثم كثر استخدامه في كل شدّة، فاكتسب من هذا الاستخدام عموم معناه ..
والرائد في الأصل: طالب الكلاأ، ثم صار طالب كل حاجة رائدا. (٢).
وهذا التطوّر أحسّ بها علماء اللغة القدماء قبل أن توجه إليه عناية اللغويين المحدثين.
قالأصمعيّ كان يقول: أصل «الورد»: إتيان الماء، ثم صار إتيان كل شيء وردا.
و«القرب» طلب الماء، ثم صار يقال ذلك لكل طلب، فيقال: هو يقرب كذا، أي يطلبه، ولا تقرب كذا» ويقولون: «رفع عقيرته» أي صوته، وأصل ذلك أن رجلا عقرت رجله، فرفعها، وجعل يصيح بأعلى صوته فقيل بعد لكل من رفع صوته: رفع عقيرته.
ويقولون: بينهما مسافة «وأصله من السّوف» وهو الشّمّ ومثل هذا كثير» (٣)
_________
(١) علم اللغة: ٣١٩، ٣٢٠.
(٢) السابق: ٢٢٠.
(٣) الصاحبي لابن فارس: ١١٢.
1 / 11
٢ - اختلاف العلماء في مجال المشترك اللّفظيّ:
لم يتفق علماء اللغة على رأي في وقوع هذه الظاهرة في ساحة اللّغة العربيّة، ففريق ينكر، وفريق يجوّز، ولكل فريق رأي واتّجاه. وعلى رأس المنكرين للمشترك اللّفظيّ في اللغة من القدماء ابن درستويه وسنلخص رأيه في إيجاز فيما يلي:
١ - رأي ابن درستويه:
يرى ابن درستويه أن المشترك اللفظيّ لا يقع في كلام العرب للأمور التالية:
أ- ليس من الحكمة والصواب أن يقع المشترك اللفظيّ في كلام العرب لأنه يلبس، وواضع اللغة وهو الله ﷿ حكيم عليم، فقد وضع الله تعالى اللغة للإبانة عن المعاني.
ب- لو جاز وضع لفظ واحد للدلالة على المعنيين المختلفين لما كان ذلك إبانة، بل تعميم وتغطية.
ج- الذين جوزوا وقوع المشترك اللفظيّ متوهمون مخطئون، والمثل على ذلك مجىء فعل وأفعل لمعنيين مختلفين في نظر المجوزين فمن لا يعرف العلل، ويتعمق في دراسة الكلمات يحكم هذا الحكم مع أنهما في الحقيقة لمعنى واحد، وإذا وقع في كلام العرب أنهما لمعنيين مختلفين، فإنما يرجع ذلك إلى لغتين متباينتين، أو لحذف واختصار وقع في الكلام.
د- ويضرب مثلا على توهم المجوزين بلزوم الفعل وتعديته وذلك أن الفعل لا يتعدّى فاعله إذا احتيج إلي تعديته لم تجز تعديته على لفظه الذي هو عليه حتى يتغيّر إلى لفظ آخر بأن يزاد في أوله الهمزة، أو
1 / 12
يوصل به حرف جر ليستدل السّامع على اختلاف المعنيين.
هـ- ويرى ابن درستويه أن بعض هذا الباب، ربما كثر استعماله في كلام العرب حتى يحاولوا تخفيفه، فيحذفوا حرف الجرّ منه، فيعرف بطول المادة، وكثرة الاستعمال، وثبوت النّقول، وإعرابه فيه خاليا عن الجار المحذوف» (١) وفي موطن آخر نرى ابن درستويه يسوق مثالا يدلل في ضوئه على أن المشترك اللفظيّ شيء ثابت فقط في أذهان من لم يتعمقوا في اللغة، ويعيشوا في محرابها بعقول متفتحة ونظرات نافذة، وذلك، لأن اللغة في رأيه لا تعترف بهذه الظاهرة، وأنه إذا وجد اختلاف في المعنى فإنما يرجع إلى تصاريف الكلمة، فهي المفتاح الوحيد للتفرقة بين المعاني، يقول:
وأما قوله: أقسط الرجل: إذا عدل، فهو مقسط، وقسط: إذا جار فهو قاسط، قال الله ﷿: وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (٢)، فهو كما قال، ولكن الأصل فيهما من القسط، وهو العدل في الحكم، والتّسوية بين الخصوم، وفي الأنصباء، ولذلك سمّي المكيال: قسطا، والنصيب قسطا والميزان قسطاسا.
وإذا استعمل ذلك في الظلم، قيل: قسط بغير ألف، وهو يقسط فهو قاسط على وزن: ظلم يظلم فهو ظالم، أي لم يوف بالمكيال والميزان أو في النصيب.
_________
(١) المزهر: ١/ ٣٨٥ بتصرّف.
(٢) الجن: ١٥.
1 / 13
وإذا استعمل في باب التسوية والإنصاف قبل: أقسط بالألف، فهو مقسط على وزن أنصف فهو منصف، أي صار ذا نصفة، وذا تسوية بالقسط، لأنهما بمعنى واحد» (١) فاختلاف المعنى في هذه الكلمة راجع إلى تصريف هذه الكلمة أو بعبارة أدق إلى الألف الزائدة في أقسط، وعدم وجودها في قسط، ومهما تغيرت المعاني، فإنها ترجع إلى معنى واحد.
ويؤكد ابن درستويه (٢) هذا المعنى في كتابه: «شرح الفصيح» فيقول في لفظة: «وجد» واختلاف معانيها ما نصّه:
هذه اللفظة من أقوى حجج من يزعم أن من كلام العرب ما يتفق لفظه، ويختلف معناه، لأن سيبويه ذكره في أول كتابه، وجعله من الأصول المتقدّمة، فظنّ من لم يتأمّل المعاني، ولم يتحقّق الحقائق أنّ هذا لفظ واحد، جاء لمعان مختلفة، وإنما هذه المعاني كلّها شيء واحد، وهو إصابة الشىء خيرا كان أو شرّا ولكن فرّقوا بين المصادر، لأن المفعولات كانت مختلفة، فجعل الفرق في المصادر بأنّها أيضا مفعولة، والمصادر كثيرة التصاريف جدا، وامثلتها كثيرة مختلفة، وقياسها غامض، وعللها خفيّة، والمفتشون عنها قليل، والصّير عليها معدوم، فلذلك توهّم أهل اللّغة أنها تأتي على غير قياس، لأنهم لم يضبطوا قياسها ولم يقفوا على غورها» (٣) ومن المؤيدين لرأي ابن درستويه الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس، فما رأيه؟
_________
(١) تصحيح الفصيح لابن درستويه: ٢٧٣، ٢٧٤.
(٢) بعض العلماء ضبطه بضم الدال والراء، والبعض الآخر بضم الدال وفتح الراء.
(٣) المزهر ١/ ٣٨٤
1 / 14
٢ - رأي الدكتور إبراهيم أنيس:
يرى أستاذنا الفاضل أنّ المشترك اللفظيّ لا يقع إلا في لفظه تؤدّي إلى معنيين مختلفين كلّ الاختلاف، لبس بينهما أدنى ملابسة أو أيّة علاقة، أو أيّ نوع من أنواع الارتباط.
يقول ما نصه: «إذا ثبت لنا من نصوص أنّ اللفظ الواحد قد يعبّر عن معنيين متباينين كلّ التبّاين سمّينا هذا بالمشترك اللّفظيّ.
أما إذا اتضح أنّ أحد المعنيين هو الأصل، وأن الآخر مجاز له فلا يصح أن يعدّ مثل هذا من المشترك اللفظيّ في حقيقة أمره (١) ويضرب أستاذنا مثلا لذلك الذي يجعله العلماء الأسبقون بأنّه من المشترك اللّفظيّ مع أنه في الحقيقة ليس كذلك.
يضرب مثلا بكلمة: «الهلال» فهي حين تعبّر عن هلال السماء، وعن حديدة الصّيد التي تشبه في شكلها الهلال، وعن هلال النّعل الذي يشبه في شكله الهلال، لا يصح إذا أن تعدّ من المشترك اللفظيّ، لأنّ المعنى واحد في كلّ هذا، وقد لعب المجاز دوره في كل هذه الاستعمالات» وإلى جانب هذا المثال يقدّم مثالا آخر تتضح فيه ظاهرة المشترك اللفظيّ الذي يرى أنه يوجد حينما تفقد الصلة بين المعنيين في اللفظ المشترك، وهذا المثال هو كلمة: «الأرض»، «إن الأرض: هي الكرة الأرضيّة، وهي أيضا الزّكام، وكأن يقال لنا: إن الخال هو أخو الأم، وهو الشامة في الوجه، وهو الأكمة الصغيرة»
_________
(١) دلالة الألفاظ: ٢١٣.
1 / 15
ويؤيد الدكتور إبراهيم أنيس رأيه بأن القرآن الكريم لم يقع فيه المشترك اللفظيّ إلّا قليلا جدا، ونادرا، فيقول:
ويندر أن تصادفنا كلمة مثل «أمة» التي استعملت في القرآن الكريم بمعنى: «جماعة من الناس»، وبمعنى «الحين في قوله تعالى:
وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ (١)، وبمعنى «الدين» في قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ. (٢)
مناقشة هذا الرأي:
إن ما ذكره أستاذنا يختلف كل الاختلاف عما ذكره الأقدمون والمتأخرون في أنّ المشترك اللفظيّ وقع في القرآن الكريم بكثرة سواء كانت المعاني الدلاليّة للفظة
الواحدة متقاربة أو متباعدة.
وهناك من الآثار والأخبار ما لا يتّفق مع ما ذكره أستاذنا الفاضل، فقد قال مقاتل بن سليمان في صدر كتابه، المصنّف في هذا المعنى حديثا مرفوعا، وهو: «لا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة» (٣) وقد فسّر بعضهم هذا الحديث المرفوع بأن المراد أن يرى اللفظ الواحد يحتمل معاني متعدّدة، فيحمله عليها إذا كانت غير متضادّة ولا يقتصر به على معنى واحد.
وقصة علي كرم الله وجهه- معروفة في التاريخ الإسلامي، فحينما
_________
(١) يوسف: ٤٥.
(٢) الزخرف: ٢٣.
(٣) معترك القرآن: ١/ ٥١٤، ٥١٥.
1 / 16
أرسل عليّ كرّم الله وجهه- ابن عبّاس إلى الخوارج، قال: اذهب إليهم، وخاصمهم، ولا تخاصمهم بالقرآن، فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسّنّة» وفي رواية أخرى قال له: «يا أمير المؤمنين، فأنا أعلم بكتاب الله، وفي بيوتنا نزل، قال: صدقت، ولكن القرآن حمّال على وجوه، تقول، ويقولون، ولكن حاجّهم بالسنة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصا، فاخرج إليهم، فحاجّهم بالسنة، فلم يبق بأيديهم حجّة». (١)
ومالي أذهب بعيدا وقد قرّر بعض علماء اللغة المحدثين أن ظاهرة المشترك اللفظي تقع في كثير من اللغات، وهذا هو: «استيفن أولمان» يقرّر بما لا يدع مجالا للشك أن: «اللغة في استطاعتها أن تعبر عن الفكر المتعدّدة بواسطة تلك الطريقة الحصيفة القادرة التي تتمثل في تطويع الكلمات، وتأهيلها للقيام بعدد من الوظائف المختلفة، وبفضل هذه الوسيلة تكتسب الكلمات نفسها نوعا من المرونة والطواعية» فتظل قابلة للاستعمالات الجديدة. (٢)
على أن زميلنا الأستاذ الدكتور أحمد مختار لم يرتض رأي الأستاذ الدكتور أنيس، ووجه إليه ردا يضاف إلى ردّنا السابق. فماذا قال الدكتور مختار؟
قال: «وإذا كان لنا من تعليق على رأي الدكتور أنيس فإنه يتلخص فيما يأتي:
١ - «أنه رغم تضييقه الشديد لمفهوم المشترك اللفظيّ في كتابه:
«دلالة الألفاظ»، وقصره المشترك الحقيقي على كلمات لا تتجاوز أصابع اليد ... نجده في كتابه «في اللهجات العربيّة» يصرّح بإن المعاجم العربيّة قد امتلأت به.
_________
(١) معترك الأقران: ١/ ٥١٤، ٥١٥.
(٢) انظر: «دور الكلمة في اللغة» ترجمة الدكتور كمال بشر: ١١٥.
1 / 17
٢ - أنه لم يستقرّ على وضع واحد بالنسبة لكلمات المشترك التي نشأت عن تطور صوتي، فمرّة اعتبرها من المشترك، ومرّة عدّ من الإسراف والمغالاة مجاراة المعاجم العربيّة في اعتبارها من المشترك، وذكر أن الأقرب إلى الصواب أنها من قبيل التطور الصوتي.
٣ - أنه مزج بين المنهجين الوصفي والتاريخيّ في علاج هذه الظاهرة وكان الأولى أن يقتصر على أحدهما» (١)
٣ - رأي المجوزين لوقوع المشترك اللفظيّ:
أدلة هؤلاء تنحصر فيما يلي:
١ - الوضع اللغويّ:
وذلك لجواز أن يقع إمّا من واضعين، بأن يضع أحدهما لفظا لمعنى، ثم يضعه الآخر لمعنى آخر، واشتهر ذلك اللفظ بين الطائفتين في إفادته المعنيين، وهذا بناء على أن اللغات غير توقيفية» (٢)
٢ - نقل أهل اللغة كثيرا من الألفاظ المشتركة قال السّيوطي:
والأكثرون على أنه واقع لنقل أهل اللغة ذلك في كثير من الألفاظ» (٣)
٣ - الاشتراك من الناحية العقلية واجب الوقوع، لأن الألفاظ محدودة، ولها نهاية تقف عندها، أما المعاني، فتتوالد، وتتكاثر وتتنقل من حالة إلى حالة، كفروع الشجرة تنمو وتزدهر وتتشابك كلما دبت فيها الحياة، وسرى في عروقها الماء.
يقول السيّوطي: «ومن الناس من أوجب وقوعه- قال: لأن المعاني غير متناهية، والألفاظ متناهيّة،
_________
(١) علم الدلالة: ١٧٩.
(٢) المزهر: ١/ ٣٦٩.
(٣) السابق.
1 / 18
والألفاظ متناهيّة، فإذا وزّع لزم الاشتراك» (١) ومعنى العبارة الأخيرة: أن المعاني إذا قسمت على الألفاظ استوعبتها وبقى من المعاني الكثير الذي لم تستوعبه الألفاظ،
فتنقسم هذه المعاني على الألفاظ المحدودة، فربّما يكون لكلّ لفظ معنيان أو أكثر تبعا للظروف والأهوال، والمتّغيّرات التي تمّ فيها التقسيم.
٤ - الاشتراك من طبيعة اللغة، ففي مجال الحروف نجد أن النّحاة جعلوا لكل حرف معاني عدّة، وألّفوا في ذلك كتبا متعددّة ومستقلّة مثل: «الجني الدّاني في حروف المعاني لابن أم قاسم، ومثل الأزهية في علم الحروف للهرويّ، ومثل: «رصف المباني في حروف المعاني للمالقىّ.
وفي كل كتب النحاة تعرّض النحويون في باب حروف الجرّ لظاهرة المشترك اللفظيّ وبيّنوا أن لكل حرف عدة معان.
وفي حقل الأفعال نجد أن هناك اشتراكا بين الخبر، والدّعاء في الأفعال الماضية، وكذلك في الأفعال المضارعة.
يقول السيّوطيّ: وذهب بعضهم إلى أن الاشتراك أغلب لأن الحروف بأسرها مشتركة بشهادة النّحاة. والأفعال الماضية مشتركة بين الخير والدعاء، والمضارع كذلك، وهو أيضا مشترك بين الحال والاستقبال،
_________
(١) المزهر: ٣٦٩.
1 / 19
ثم قال السّيوطي: «والأسماء كثير فيها الاشتراك» (١) ومعنى ذلك أنه إذا كان الاشتراك في الحروف والأفعال، قضية مسلما بها، فكذلك القسم الثالث من أقسام الكلمة، وهي الأسماء، قضيّة مسلم بها.
٤ - اختلاف الحركات والمشترك اللفظيّ:
لم يتعرض القدماء والمحدثون إلى أنّ اختلاف الحركات في الكلمة ذات الحركات المختلفة، والتي تعطى معاني متعدّدة بإختلاف حركاتها قد يجعل هذه الكلمة من قبيل المشترك اللّفظي.
ويظهر أن «قطرب» المتوفي سنة ٢٠٦ هـ أول من تنبّه إلى هذه الظاهرة وهي التي تتمثل في «المثلثات» في كتاب ألفّه بعنوان:
«المثلث» أو «المثلثات» وقد حقّق هذه المثلثات الدكتور رضا السويسي (٢) وبيّن في مقدمة تحقيقه أن المقصود «من عبارة المثلّث أو المثلّثات هو مجموعة تضمّ ثلاثة مفردات، لها نفس الصيغة الصّرفيّة ومركّبة من نفس الحروف، فما يتغيّر فيها إلّا حركة فاء الكلمة أو عينها فيحصل بتغيير الحركة تغيير في المعنى، ومنه انتقال من مجال دلاليّ معيّن إلى مجال ثان» (٣) وقد ألف في هذه الظاهرة بعد قطرب:
١ - أبو محمد عبد الله بن محمد البطليوسي النّحوي المتوفي ٥٢٠ هـ ٢ - أبو حفص عمر بن محمد القضاعي البلنسيّ المتوفي ٥٧٠ هـ.
_________
(١) السابق: ٣١٠.
(٢) المثلّثات طبع بالدار العربيّة للكتاب، ليبيا- تونس.
(٣) مقدمة التحقيق: ١١.
1 / 20
٣ - جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك النحوي المتوفي سنة ٦٧٢ هـ.
٤ - أبو بكر الوراق البهنسيّ المتوفي ٦٨٥ هـ.
٥ - مجد الدين أبو طاهر محمد يعقوب الفيروز ابادي المتوفي ٨١٧ هـ.
٦ - حسن قويدر الخليلي المغربيّ المتوفي ١٢٦٢ هـ. (١)
ومن الأمثلة التي نقدمها من كتاب مثلثات قطرب كنماذج تدل على الظّاهرة، وتوضّح أنّها ظاهرة علاقتها بالمشترك اللّفظيّ علاقة وطيدة هي ما يلي:
أمثلة من مثلّثات قطرب:
١ - من المثلثات ما فتح أوّله، وكسر ثانيه، وضم ثالثه كلمة:
الغمر- الغمر- الغمر.
أمّا الغمر: فالماء الكثير، وأما الغمر: فالحقد في الصدر ومنه الحديث: «لا تجوز شهادة ذي الغمر على أخيه» (٢) ...
وأمّا الغمر، فهو الرّجل الذي لم يجرّب الأمور، الضعيف في حالاته ٢ - ومنه: السّلام، والسّلام، والسّلام.
فأمّا السّلام: فهو التّحية بين النّاس، قال تعالى: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٣)
_________
(١) انظر مقدمة التحقيق: ١٣.
(٢) ورد في سنن أبي داود في كتاب «الأقضية وسنن الترمذي: كتاب: الشهادات ومسند ابن حنبل: ٢/ ٢٠٤، ٢٠٨، ٢٢٥، وانظر المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي: ٤/ ٥٦٠
(٣) يونس: ١٠.
1 / 21
وأمّا السّلام: فالحجارة:: جمع سلمة .. (١)
وأمّا السّلام: فعروق ظاهر الكفّ والقدم، وجمعها: سلاميات» ٣ - ومنه: الكلام، والكلام، والكلام.
فأمّا الكلام فمن المنطق، وهو كلام النّاس، قال المؤمل:
منّي علينا بالكلام فإنّما* كلامك ياقوت ودر منظّم وأمّا الكلام فالجراحات، واحدها: كلم، قال أبو بكر الصديق ﵁: «أجدك ما لعينيك لا تنام؟ كأن جفونها فيها فيها كلام» وأمّا الكلام، فهي الأرض الصلبة فيها الحصى والحجارة.
قال بشر بن أبي حازم:
نطوف بسبسب لا نبت فيها* كأن كلامها زبر الحديد (٢) ونكتفي بهذا القدر من الأمثلة التي ساقها قطرب، وقد عرفنا من خلالها أنها لون من ألوان المشترك اللفظي.
وقد قام المحقق بدراسته متّصلة حول هذه المثلثات ووضع جداول لها في حقول الدّلالات، وقدّم لهذه الجداول بما نصه:
«إن توزيع المثلّثات إلى مجالات دلاليّة قد يساعدنا على حصر هذه المجالات، كما يساهم في تحديد نوعيّة العلاقات الدّلالية الرابطة بين كلّ مثلّث من حيث هي علاقة تنافر أو تقارب أو تناسق أو تشابه، كما يساهم البحث في مستوى الحركات على إبراز علاقات قد تكون من نوع مغاير كالانتقال من المادّيّات إلى المعنويّات والمجرّدات» (٣)
_________
(١) كفرحة.
(٢) انظر مثلثات قطرب: ٣١ - ٣٣.
(٣) المثلثات: ٩٠.
1 / 22
٥ - السياق محور المشترك اللفظي:
السياق هو علاقة الكلمة التي وقع فيها المشترك اللّفظي مع ما قبلها وما بعدها من كلمات الجملة، وذلك لأن الكلمات ليست أجساما بلا أرواح، ولكنها حيّة متحرّكة تعطي إشعات معينة للكلمات التي وقع فيها الاشتراك، وهي المفتاح الذي يفتح المغلق منها أو المصباح الذي يهتدي بضوئه على تحديد معاني الكلمة المشتركة.
«ولهذا يصرّح» فيرث بأن المعنى لا ينكشف إلّا من خلال «تسييق» الوحدة اللّغوية، أي وضعها في سياقات مختلفة.
ومعظم الوحدات الدّلالية تقع في مجاورة وحدات أخر، وأنّ معاني هذه الوحدات لا يمكن وصفها أو تحديدها إلّا بملاحظة الوحدات الأخرى التي تقع مجاورة لها» (١) ومن الأمثلة الحيّة على قيمة السيّاق في تحديد المعنى ما يلي:
١ - قال أبو الطيب في رواية مسلسلة بدأها بأخبار محمد بن يحيي، وانتهى بها إلى الجرمازيّ، قال للخليل ثلاثة أبيات على قافية واحدة، يستوي لفظها ويختلف معناها:
يا ويح قلبي من دواعي الهوى* إذ رجل الجيران عند الغروب أتبعتهم طرفي وقد أزمعوا* ودمع عيني كفيض الغروب كانوا وفيهم طفلة حرّة* تفترّ عن مثل أقاحي الغروب فالغروب الأوّل: غروب الشمس، والثاني: جمع غرب، وهو الدّلو العظيمة المملوءة، والثّالث: جمع غرب، وهي الوهاد المنخفضة. (٢)
٢ - في كتاب: «مراتب النّحويين» لأبي الطيب اللّغوي:
_________
(١) نقلا من «علم الدلالة» للدكتور أحمد مختار: ٦٨.
(٢) المزهر: ٣٧٦١.
1 / 23
قال: أنشدنا ثعلب:
أتعرف أطلالا شجونك بالخال وعيش زمان كان في العصر الخالي ليالي ريعان الشباب مسلّط على بعصيان الإمارة والخال وإذا أنا خدن للغويّ أخي الصبا وللغزال المريح ذي اللهو والخال وللخود تصطاد الرّجال بفاحم وخدّ أسيل كالوذيلة ذي خال إذا رئمت ربعا رئمت (١) رباعها كما رئم الميثاء (٢) ذو الرّيبة الخالي وفسر ذلك بقوله:
قوله: شجونك بالخال: يريد موضعا بعينه وقوله: في العصر الخالي: الماضي.
وقوله: الإمارة والخال: يريد الراية.
وقوله: ذي اللهو والخال: يريد الخيلاء والكير.
وقوله: كالوذيلة ذي خال، يريد واحد خيلان الوجه.
وقوله: ذي الرّيبة الخال، يعني العزب. (٣)
٣ - وفي المجمل يقدم لنا ابن فارس مثالا للفظة مشتركة وهي العين، فيقول:
«العين: عين الإنسان، وكلّ ذي بصر، وهي مؤنثة، والجمع: أعين وعيون، وعنت الرجل: أصبته بعيني، وهو معين ومعيون، والفاعل:
عائن، ورأيت هذا الشيء عيانا وعينة، ولقيته عين عنّة أي عيانا، وفعل ذلك عمد عين: إذا تعّمدّه، وهذا عبد عين، أي يخدمك ما دامت تراه فإذا غبت، فلا:
والعين: المتجسّس للخير ...، وبلد قليل العين، أي: قليل الناس ..
والعين للماء، والعين: سحابة تقبل من ناحية القبلة،
_________
(١) رئمت: احبت.
(٢) الميثاء: الأرض السهلة وموضع يعتيق المدينة والميث: اللين
(٣) مراتب النحويين: ٣٣ - ٣٥.
1 / 24
والعين: مطر يدوم خمسا أو ستا لا يقلع، والعين: الشّمس والعين: الثّقب في المزادة ... الخ (١)
٦ - أهم المؤلفات اللغوية في حقل المشترك اللفظيّ:
يعتبر كتاب «المنجد في اللغة» لأبي الحسن علي بن الحسن الهنائي المشهور بكراع أشمل كتاب في الحقل اللغوي، وهو وإن كان مسبوقا بمؤلفين اخرين أمثال:
١ - الأصمعيّ المتوفي سنة ٢١٥ هـ.
٢ - أبو عبيد المتوفي ٢٢٤ هـ.
٣ - واليزيديّ المتوفي ٢٢٥ هـ.
٤ - والمبرّد المتوفي سنة ٢٨٥ هـ. (٢)
إلّا أن كتاب «المنجدّ لكراع يعتبر أهم هذه المؤلفات على الإطلاق، وأهميته ترجع إلى ما يلي:
١ - احتواؤه على قرابة تسعمائة كلمة في حين يحتوى كتاب أبي عبيد على حوالي ١٥٠ كلمة، وكتاب أبي العميثل على حوالي ٣٠٠ كلمة.
٢ - أنه أول كتاب من نوعه تبدو فيه روح النظام.
٣ - أنه من أوائل كتب اللغة التي طبّقت نظام الترتيب الهجائي في عرض الكلمات، ولذا فتحت مجالا أمام أصحاب المعاجم، ليتركوا نظام الخليل الصوتي» (٣)
_________
(١) انظر المجمل لابن فارس تحقيق زهير عبد المحسن سلطان: ٣/ ٦٤٠، ٦٤١ بتصرّف.
(٢) مقدّمة المنجدّ: ١٢.
(٣) من مقدمة المنجد: ١٧.
1 / 25