نازي المانيه
ألمانيا النازية: دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (١٩٣٩–١٩٤٥)
ژانرونه
نأمل أن يطلع علينا المستقبل الذي نعمل على إعداده في الوقت الحاضر بمدنية تقوم دعائمها على حريات البشر الأساسية، وأولى هذه الحريات: حرية القول والرأي، والثانية: الحرية التي تجعل في استطاعة كل إنسان أن يعبد الله وفق معتقده، والثالثة: الحرية التي يحصل عليها الإنسان بالتحرر من نير البؤس، والرابعة: الحرية التي تنتج عن التحرر من الخوف، وليست هذه الحريات أحلاما بعيدة المنال يتطلب تحقيقها أجيالا طويلة، ولكنها مبادئ حقيقية ملموسة يجب على جيلنا الحاضر أن ينشرها في العالم أجمع.
فدل هذا التصريح - تصريح الحريات الأربع - على أن الديموقراطية الأمريكية العظيمة لا يمكن بأي حال أن توافق على مبادئ النازيين وتعاليمهم أو تقبلها، وأنها تسير في الحقيقة بخطى حثيثة صوب الانضمام إلى جانب بريطانيا ومجموعة الأمم المتحدة، وأن الفشل الذريع كان في نهاية الأمر نصيب الدعاية النازية في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الواقع كان التناقض واضحا بين هذه «الحريات الأربع» التي أراد الرئيس الأمريكي ذيوعها حتى تصبح أساسا تقوم عليه حضارة البشر، وبين المبادئ التي انطوى عليها ذلك النظام الجديد، الذي كان يطبقه النازيون في أوروبا المحتلة تمهيدا لفرض السيطرة الجرمانية على أمم العالم قاطبة.
وفي الشهور التالية ترقبت الشعوب التي وقعت تحت نير النازيين بزوغ فجر ذلك اليوم الذي يصبح فيه وقوف الولايات المتحدة إلى جانب الأمم المتحدة حقيقة واقعة، ولم يفد طغيان النازي على أيدي رجال الجستابو الملطخة بالدماء، ولا قسوة سلطات الاحتلال الألماني ولا الرقابة الصارمة، شيئا في إخماد آمالهم أو عزلهم عن بقية العالم ومنع تسرب الأخبار إليهم. وظل الحال على ذلك، حتى جاء اليوم الذي استطاع أن يجتمع فيه رئيس الحكومة الإنجليزية «ونستون تشرشل» برئيس الجمهورية الأمريكية على ظهر سفينة حربية وسط المحيط الأطلنطي، ووضع الزعيمان «وثيقة الأطلنطي» التاريخية في يوم 14 أغسطس 1941، فكانت هذه الوثيقة بمثابة العهد الأعظم الذي يتمسك به كل شعب يرغب في الحياة الحرة الصادقة في عالم يقوم على مبادئ إنسانية عالية تضمن له البقاء في ظل سلام مستقر لا يهدده طمع الدول الكبيرة ولا يجد فيه النازيون ومن سلك مسلكهم طريقا يمكنهم من تحقيق أغراضهم. وأي برهان أقوى على إيمان الديموقراطية الأمريكية بقدسية المبادئ الإنسانية النبيلة التي تناضل من أجلها بريطانيا والأمم المتحدة، من قول الزعيمين في المادة السادسة من هذه الوثيقة أنهما يأملان بعد سحق الاستبداد النازي أن تتوطد دعائم السلم الذي ينتج لجميع الأمم وسائل العيش بسلام في دائرة حدودها، ويمكن الناس في جميع أنحاء المعمورة من العيش في مأمن من الشقاء والخوف؟ وأي تنديد أشد من هذا التنديد بمبادئ النازية الغاشمة وتعاليمها؟ والحقيقة أنه لم تكد تمضي فترة وجيزة على وضع هذا الميثاق التاريخي حتى اعتدى اليابانيون اعتداءهم الأثيم الغادر على «بيرل هاربور» في 7 ديسمبر 1941، وفي 11 منه أعلنت ألمانيا وإيطاليا الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية، فأعلنت أمريكا الحرب عليهما!
وجدد صدور وثيقة الأطلنطي نشاط أنصار المقاومة السلبية والإيجابية في أوروبا النازية ووجدت «الدعاوة المضادة» في المبادئ التي تضمنتها هذه الوثيقة وسيلة لإحياء الأمل في النفوس وزيادة الثقة في النصر القريب. ولعل أظهر آثار هذه «الوثيقة» أن الشعوب المقهورة صارت تتخذها مثالا تنسج على منواله في تحديد الأغراض والأهداف التي تسعى جماعات المقاومة لتحقيقها. فقد استرشد أنصار المقاومة السرية في فرنسا بمبادئ هذا الميثاق في وضع أسس الاتفاق الذي أرادوا أن يجمع بين جبهة المقاومة الداخلية في فرنسا والفرنسيين الأحرار من أنصار «ديجول
De Gaulle » في العمل المشترك من أجل تحقيق البرنامج الذي يرتضونه لتنظيم الحياة الحرة المستقبلة في فرنسا ذاتها وفي إمبراطوريتها. وجرت هذه المفاوضة تحت أنوف النازيين وعلى الرغم من سيطرة الجستابو الرهيبة، على أساس إزالة حكومة فيشي الآثمة، وتمتع فرنسا «الموحدة» بمطلق السيادة في داخل البلاد وفي الإمبراطورية، بعد استرداد هذه السيادة وهذه الوحدة. ومعنى ذلك أن يسترد الشعب الفرنسي جميع حرياته المفقودة، بالقضاء على دكتاتورية النظام الوطني الاشتراكي الذي أنشأه النازيون في البلاد، وبإنزال العقوبة الشديدة بأولئك الذين تعاونوا مع أعدداء الوطن وساعدوا على تحطيم حقوق الفرنسيين وألحقوا الأذى بمصالحهم ودنسوا شرفهم، وبإعطاء فرنسا جميع الضمانات الداخلية والخارجية، التي تكفل الحرية والاحترام والأمن والطمأنينة لكل مواطن في داخل البلاد، وتمنع عدوها التاريخي من غزوها، ثم تمكنها من رد عدوانه إذا حدثته النفس بالاعتداء عليها مرة ثانية، وكذلك بالإبقاء على فرنسا أمينة على تقاليدها الجمهورية والديموقراطية، وإحياء مثلها العليا في الحرية والإخاء والمساواة! وقد سمي هذا الاتفاق الذي عقد في عام 1942 ب «الميثاق الأطلنطي الفرنسي».
وفي الحق إن الدعاوة المضادة أو الدعاية الخفية قد بلغت أشدها في عام 1942 وصار من المتعذر على النازيين إخمادها مهما استخدموا من أساليب، بل إن حوادث المقاومة الإيجابية التي زادت زيادة كبيرة في ذلك العام أيضا، كان من شأنها هي الأخرى تأييد الروح المعنوية لدى الشعوب المقهورة، وتغذية الدعاوة المضادة بسلسلة لا تنقطع من الأخبار يجد الأهلوان في قراءتها شاحذا لهممهم من جهة ومسريا عن نفوسهم من جهة أخرى. وفضلا عن ذلك فقد لحقت بالنازيين في ذلك العام أكبر هزيمة «حاسمة» في ميدان من الميادين التي عقدوا على الانتصار فيها آمالا عريضة: وهو الميدان الأفريقي، ولم يكن هذا الميدان في يوم من الأيام - كما أذاعت الدعاية النازية والمحورية، بعد أن تذوق السادة النازيون طعم الهزيمة - من الميادين الثانوية؛ لأن فرض السيطرة الجرمانية على القارة الأوروبية ودعم أركان هذه السيطرة كان يقتضي نشر سلطان النازية أيضا في حوض البحر الأبيض. ومنذ بداية الحرب أدرك ثقاة الخبراء العسكريين، وفي مقدمتهم «ماكس فرنر
Max Werner » أن السيطرة على هذا البحر يقتضي دعمها الاستحواذ على الأراضي الواقعة في حوضه والتي تحد هذا البحر من جنوبه، أي الاستيلاء على أقطار البحر الأبيض الشرقي والقطر المصري وأفريقيا الشمالية والغربية، فكان يوما عظيما ذلك اليوم الذي فوت فيه البريطانيون وأحلافهم على النازيين فرصة النصر في معركة العلمين التاريخية في 4 نوفمبر سنة 1942. ولذلك كله لم يكن غريبا أن تظل الشعوب المغلوبة في أوروبا النازية، أشد الشعوب قلقا وترقيا لنتائج هذه المعركة الفاصلة، ولم يكن غريبا أن يكون البولنديون - وهم من أشد أنصار المقاومة بنوعيها السلبي والإيجابي - أول من عرف بخبر هذه الهزيمة!
فقد حدث في الساعة العاشرة والربع من مساء 4 نوفمبر 1942 أن كان جماعة من الرجال والنساء البولنديين من أنصار الدعاوة المضادة مجتمعين في أحد الأقبية حول جهاز للراديو ينصتون إلى الأخبار بسماعات وضعوها على آذانهم خوفا من أن يتسرب صوت الإذاعة إلى الخارج، فيكشف الجستابو مقرهم ويكون جزاؤهم الإعدام، وإذا بصوت المذيع يتحدث إليهم بلغتهم البولندية من محطة لندن
B. B. C.
وينقل إليهم خبر اندحار «روميل» في معركة العلمين وهزيمته في أفريقيا الشمالية! فكان لهذا الخبر وقع عظيم الأثر في نفوسهم: كيف لا وقد أحرز الحلفاء بعد ثلاث سنوات نصرا حاسما!
ناپیژندل شوی مخ