نازي المانيه
ألمانيا النازية: دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (١٩٣٩–١٩٤٥)
ژانرونه
امتنعنا منذ أكثر من عامين عن كل مظاهرة من شأنها أن تعكر صفو الأمن العام وتعرقل أعمال الحكومة. ولكن سكوتنا لا يعني أننا قبلنا الحوادث التي وقفنا منها موقف المتفرجين المنكوبين. فقد وقع حادث ترحيل آلاف العمال الفرنسيين إلى ألمانيا موقع الاشمئزاز والسخط في نفوسنا، وكان إعجابنا كله متجها إلى الكثيرين من زملائنا الذين تركوا البلاد لمواصلة الكفاح ضد العدو الذي يحتل أرضنا ويستغلنا، وقد كنا في الوقت نفسه نعلل النفس بآمال النهضة الوطنية التي كنت تمثلها في نظرنا، والتي وعدتنا بها في رسائلك. ولكن الحوادث - مع الأسف - كذبت وعودك وأدت إلى انهيار صرح آمالنا. فقد رأينا فرنسا تزداد خضوعا للألمان وذهبت إلى حد التطوع تحت أعلام قاهرها، تلك الأعلام التي بدأ النصر يتحول عنها. أما الآن فقد أزفت الساعة التي يجب علينا فيها أن نستأنف تقاليد الجامعة التي كانت فيما مضى تعرب للملوك بكل حرية عن شكاوى الأمة، وتعبر بكل قوة عن مطالب الفرنسيين.
إننا مثلك نبغض تلك الأكاذيب التي أضرت بنا ضررا كبيرا، ويجب أن نضيف إلى هذه الأكاذيب أكذوبة الهدنة والتعاون التي دفعت بنا إلى قبول ما قبلته بلجيكا وهولندة والنرويج وبولندة ويوغوسلافيا مكرهة. ولنذكر بوجه خاص أكذوبة «الحملة في سبيل الحضارة» تحت لواء زعيم ينكر جوهر هذه الحضارة ويحتقر حقوق الإنسان. وتلك الأكذوبة الأخرى التي تنحصر في استبدال خمسين ألف مريض من الأسرى بخمسمائة ألف عامل. ونحن الآن نرفض أن نكون ألعوبة لمثل هذه الأكاذيب ، ونصرح بأن الواجب يقضي على جميع الفرنسيين بأن يرفضوا رفضا تاما كل أمر يرمي إلى العمل لتأمين انتصار ألمانيا. وإنه لمن العار علينا أن نعمل في سبيل قضية نعلم حق العلم أنها غير عادلة ولا تتفق مع استقلال فرنسا والمحافظة على حضارة البشر، فجميع زملائنا سيهربون متى وجدوا الفرصة المؤاتية بدلا من أن يساهموا في تعزيز أداة الحرب الألمانية. إن فرنسا ملأي بالغابات والجبال حيث يمكننا انتظار الساعة التي نستطيع فيها الانضمام إلى جيش تحرير الوطن. أما من يستطيع منا الفرار فلن يتردد في الانضمام إلى الزعماء الذين يمثلون روح المقاومة ويستحقون ثقتنا وإعجابنا، وسيسافر الذين يكرهون منا على السفر إلى ألمانيا وهم يعتزمون مساعدة إخوانهم العمال على تحطيم الروح المعنوية فيها، وتخريب مهمات عدونا اللدود. إننا لسنا من الملكيين ولا من المجانين، ولكننا طلبة وطنيون، وسنكافح ونتألم مع زملائنا البواسل في جامعات وارسو وبلغراد ولوبليانا وأكسفورد وكمبردج، وهارفرد، ومونتريال، ولوفان، وليتين، في سبيل انتصار مثلنا المشتركة. •••
هذه صورة موجزة لما كان يجري من ضروب المقاومة في أنحاء أوروبا النازية، وقد ألحقت أضرارا لا يستهان بها بعتاد الحرب الألماني من جهة، كما عطلت أداة الإنتاج الاقتصادي إلى درجة كبيرة. وقد ظهر كيف أرغمت هذه المقاومة الألمان على الاحتفاظ بقوة مسلحة كبيرة في جميع البلدان المقهورة لصيانة قلعتهم الأوروبية من أن تنهار جدرانها، هذا عدا جيش الجستابو الجرار الذي انبث أعضاؤه في كل قرية ومدينة لتأييد الاحتلال الألماني، ولمراقبة أعداء «النظام الجديد» في أوروبا الهتلرية، فأبقى الألمان عدة فرق في البلقان منذ تحولت هذه البلاد، بفضل الجيوش والعصابات اليوغوسلافية والبونانية خصوصا إلى ميادين قتال جديدة، أصبح من واجب النازيين أن يخوضوا فيها غمار معارك دموية عنيفة حتى يعيدوا فتحها من جديد، وبدءوا يدفعون أثمانا غالية «لانتصاراتهم». ثم عبأ الألمان قوى «البوليس» النظامي، ورجال الجستابو في بقية أوروبا النازية لصون الأمن، والقضاء على عناصر الفوضى والاضطراب ، والمحافظة على حياة رجال الاحتلال الألمان، وحياة معاونيهم الكويسلينجيين من أهل البلاد الذين قبلوا التعاون معهم .
ومع ذلك فإن المقاومة لم تكن وحدها مصدر كل متاعب النازيين في أوروبا؛ فسرعان ما صارت مقاومة أهل البلاد المقهورة، منذ أفاقوا من الذهول الذي أصابهم على أثر صدمة الغزو الأولى، تستند إلى تيار خفي لم يلبث أن زادها قوة على قوة، وأقض مضاجع الألمان وشرع بقوض أركان النظام الجديد في أوروبا. هذا التيار الخفي هو «الدعاية المضادة» أو الدعاية الخفية، ذلك السلاح السري الذي ظل نصله مرهفا رغم أنوف النازيين، لا في أوروبا النازية وحدها بل وفي الريخ الثالث، دولة أدلف هتلر نفسه.
الفصل الرابع
الدعاية الخفية
كانت الدعاية من الأسلحة القاطعة التي أجاد النازيون استخدامها كل الإجادة منذ قبضوا على أزمة الحكم في ألمانيا. ومن الحقائق المعروفة الآن، أنهم كانوا يقصدون من نشر دعايتهم إلى تأييد أركان الحزب النازي في دولة الريخ الثالث، ثم إدماج الريخ في الحزب النازي نفسه، وفرض مبادئهم وتعاليمهم فرضا على الشعب الألماني؛ حتى يتمكنوا من تأليف تلك الكتلة الصلدة المتماسكة التي كانوا يرون أنه لا غنى عن وجودها إذا أرادوا الوصول إلى السيطرة العالمية المنشودة. وكانوا يقصدون كذلك إلى تهيئة بقية الشعوب الأوروبية وإعدادها لاعتناق هذه المبادئ والتعاليم، وقبول سيطرة السادة النازيين عليهم. وقد نجحوا في داخل بلادهم نجاحا منقطع النظير كان من نتيجته أن أصبح الحزب يسيطر كل السيطرة على الحياة الألمانية، ويدفع بالأمة دفعا عن يقين وعقيدة، أو دون تفكير وتدبر أو تحت ضغط ما سلطوه من صنوف الإرهاب على الشعب الألماني، إلى مناصبة الأمم الأخرى العداء والالتحام معها في معارك الحرب الطاحنة. ولم يكن من أهداف «الدعاية» الداخلية بطبيعة الحال أن يعود الشعب الألماني التفكير مطلقا؛ لأن التفكير من شأنه أن يبعث المرء على أن ينقد كل ما يعرض له من مشاكل، ويدعو إلى مناقشة أعمال رجال الحكم، ويسبب لذلك صعوبات جمة تتطلب جهودا معينة لإزالتها، ولا يتفق وجودها مع برامج النازيين وخططهم.
ومن ناحية أخرى، أصاب النازيون نجاحا كبيرا في بقية أوروبا، وبخاصة في فرنسا والأراضي المنخفضة والبلقان، فظهر في هذه البلدان التي خضعت لطغيانهم سلما، أو من غير مقاومة تذكر، فريق من الكويسلنجيين تقدم ذكرهم، قبلوا التعاون مع النازيين، وأيدوا السيطرة الأجنبية في بلادهم، ومع أن خروج كل هؤلاء إلى الميدان، بمجرد وقوع الاعتداء النازي على أوطانهم، كان مفاجأة دهش لها العالم، فإن الحقيقة هي أن النازيين ظلوا منذ مدة طويلة يلقون بشباكهم في البلاد المجاورة لهم، وكذلك في الأقطار البعيدة عنهم حتى يتصيدوا الموالين لهم، وحتى يجذبوا إليهم الأنصار والمؤيدين، يشترونهم بالمال تارة وبالوعد «أو الوعيد» تارة أخرى. ولعبت الدعاية النازية في ذلك كله دورا دل على مهارة فائقة، واستطاعت أن تقنع كثيرين من هؤلاء الموالين والأنصار «بالأمور» التي شاء النازيون أن يقف العالم كله على «حقيقتها»، ومن هذه «الأمور» - على سبيل المثال - أن اليهود والشيوعيين يأتمرون بالعالم، وأن من الخير كل الخير أن تتحد الشعوب الأوروبية مع النازيين في بناء حضارة جديدة، وأن الكاثوليك أيضا مع أعداء الحضارة، وأنه ينبغي أن يمهد السبيل إلى ذلك كله بإزالة ما لحق بألمانيا من إساءات في معاهدات صلح فرساي المعروفة، وإدخال هذه الدولة في زمرة الدول الكبيرة على قدم المساواة معها وإشراكها في توزيع موارد العالم الأولية. ومن بين هؤلاء «المقتنعين» بصحة هذه الأقوال وجد النازيون ضالتهم، وبفضل مؤازرتهم استطاعوا شيئا فشيئا تحطيم روح الشعوب المعنوية حتى إذا جد الجد وأزف موعد الغزو، اعتمد النازيون على تسليم أهل هذه البلاد في غير حرب أو مقاومة، ثم كان لهم ما أرادوا حتى قيل إن الجيش الألماني في فتوحه الخاطفة الأولى دخل بلادا كان قد سبق فتحها وإخضاعها منذ مدة طويلة.
بيد أن دور الدعاية النازية لم ينته في الحقيقة عند ذلك، بل سرعان ما طلب إليها بعد الانتصار الخاطف أن تنشر الدعوة بين الشعوب المقهورة لقبول النظام الجديد على نحو ما تقدم ذكره، ومن ذلك الحين صار النازيون يحرصون على تفسير معنى النظام الجديد ، ويقيمون البرهان بعد البرهان على أنه النظام الذي يكفل من جميع النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية دعم أركان تلك الحضارة الجديدة التي أطالوا الحديث عنها في السنوات الماضية. ثم اجتهدوا حتى يحببوا أساليبهم وطرائقهم إلى أهل البلاد المفتوحة، وينشروا بينهم تعاليمهم ومبادئهم، ويشوقوهم إلى الإقبال على مناصرتهم وتأييدهم، والتعاون معهم لا لتعزيز شكل الحكم الجديد وتأييد أداته، بل ومن أجل إقصاء العناصر المعارضة جميعها، والقضاء على المقاومة بمختلف أنواعها، وتسخير الأهلين في إنتاج عتاد الحرب، ثم إشراكهم أخيرا في معارك الحرب القاتلة.
واعتمد النازيون على الصحافة والراديو في نشر الدعوة إلى النظام الجديد، ووجدوا في إثارة الإشاعات والأقاويل سلاحا ماضيا لا يقل في أثره عن فعل الكلمة المكتوبة، أو الأحاديث التي ينقلها الأثير إلى كافة الأرجاء، واستند النازيون فيما كانوا يذيعون إلى مبادئ معينة، وصلوا إليها كما قالوا بعد دراسة سيكولوجية الجماعات والشعوب، وأهمها: أن التكرار الكثير من شأنه أن يلصق في ذهن المخاطب نوع الصورة أو الفكرة التي يريد أصحابها أن تعلق في ذهنه وتتغلغل في فؤاده، وأن الكذب الفاضح يجد من سامعه قبولا وتصديقا؛ لأن الشخص إذا اعتاد الكذب «الصغير» في حياته اليومية، وصار لا يصدق الأكذوبة الصغيرة، بل الأكاذيب الضخمة وحدها هي التي تترك أثرا عالقا في نفسه، وأن مثل الجماهير في قدرتها على التفكير كالقطيع من الغنم الذي لا إدراك له ولا تمييز عنده.
ناپیژندل شوی مخ