178

وهذه العقيدة الدينية هي عقيدة خلقية في صميمها؛ لأنها تجعل الإيثار وملابسة الأغيار معيار الحياة الواسعة و«الذات» المستفيضة والوجود الكامل والمناقب المأثورة، فمن فني في الذوات الأخرى فذلك هو الموجود حق الوجود، ومن فني في الله فذلك أعظم الأحياء. •••

وتكملة الثلاثة بجميع معاني التكملة - هو جورج سانتيانا الذي لا يحسب فيلسوفا في غير القارة الأمريكية، وفي غير الفترة الأخيرة من القرن الأخير.

فوليام جيمس يمثل الواقعية الفكرية في القارة الأمريكية، وجوسيا رويس يمثل المثالية الفكرية في تلك القارة، ويبقى بعدهما مكان فارغ لمن يمثل الواقعية الشعبية كما يفهمها جمهور كل يوم وكل مكان، بغير تفكير وبغير بحث طويل أو قصير.

ويعتبر سانتيانا تكملة للفيلسوفين بمعنى آخر يتعلق بالجنس الذي ينتمي إليه، فوليام جيمس أعرق في الأمريكية ورويس بريطاني حديث العهد بالقارة، أما سانتيانا فهو أسباني ولد في مدريد وعاش في جزر الفلبين وحضر العلم في لندن وحمل الجنسية الأمريكية مع غيره من المهاجرين، فهم في جملتهم يمثلون الخليط الأمريكي من عدة أطراف.

ونقول إن سانتيانا لا يحسب فيلسوفا في غير القارة الأمريكية؛ لأن الأمريكيين الشماليين على التخصيص قد جعلوا لهم طابعا معروفا في كل مطلب من مطالب الحياة يتميز بالسرعة والاقتضاب والمساهمة في جميع تلك المطالب بمقدار، ومنها الفلسفة والفن والعلم والتاريخ، فللشعب هنا فيلسوف وفلسفة كما للشعب لاعب وملعب وصحفي وصحيفة ونصيب مقسوم من كل موضوع.

وسانتيانا هو فيلسوف «الشعب» غير مراء؛ لأن فلسفته لا تتطلب ملكة واحدة غير موفورة لجمهرة الشعب وأوساط القراء.

فالحس هو الحكم الأعلى في مسائل الفلسفة ومسائل العقيدة، وكل ما هو محسوس فهو حق أو فيه من الحق الكفاية لحياتنا في هذه الدنيا، وحسبنا «العقيدة الحيوانية» التي تفعم شعورنا بالثقة من حصول الحاصل كما نتناوله بحواسنا، وليس بالضروري لنا أن نمحص العقائد الدينية تمحيصنا للتجارب العلمية، ولا بالضروري أن نجحد الغريزة في سبيل العقل والمعرفة؛ لأن العقل ينسق الغريزة ولا يناقضها، فهذه العقائد الغريزية - ويسميها أحيانا بالأساطير - هي أخيلة شعرية جميلة نتقبلها كما نتقبل الشعر المعجب والصورة المنمقة، ومن ضيق الصدر أن نتعصب عليها أو نلح في تفنيدها، فهي إن لم تكن قيمة علمية أو قيمة فلسفية فلا شك أنها قيمة فنية وقيمة شعورية، ولها الحق في الوجود بشفاعة الحس الذي تثيره والذوق الذي توافقه والأمل الذي ترضيه.

وهذه المادة التي يختلف الفلاسفة في صحتها لا ندري ما هي ولا يضيرنا أن ندعها للعلماء يكشفون لنا عن كنهها ويردونها إلى أجزائها أو إلى أصولها، ولكننا خلقاء أن ندعوها بالمادة ونكتفي بما نعرفه من اسمها ومسماها، كما تسمي صديقك «سميث» و«جورج» وغير ذلك من الأسماء وأنت لا تكشف عن شيء من أسراره وخباياه، ولا تحلل أجزاءه تحليل المعامل ولا تحليل القضايا المنطقية.

ولا ينكر سانتيانا نظام الكون ولا تناسق قوانينه، ولكنه يقول: إننا نحسب الكون منتظما لأنه الكون الذي وجدنا فيه وأخذنا منه العقول التي نفهم بها النظام، وهكذا كنا نحسب كل كون نوجد فيه ونقتبس منه عقولنا ومادة حياتنا؛ لأننا لا نستطيع الخروج منه لنقيسه على غيره، ومع هذا نرقب كل حركة منتظمة في دنيانا فهل نرى أنها تستوحي نظامها من حكم عقلية أو حكم أدبية؟ يسأل سانتيانا هذا السؤال ويقول في جوابه: كلا، بل هي الحكمة المادية التي نقابلها بالعقيدة الحيوانية ونستوفي حقها بالأخيلة والخوالج المشربة بروح التدين والإيمان، وأول ما يفهم من ذلك أن الإرادة الإلهية - إن وجدت - لا تريد أن تتراءى لنا على غير هذا المثال. •••

وبعد فهذه خلاصات موجزة لمدارس الفلسفة البريطانية والأمريكية في العصر الحاضر، لم نؤثرها بالتلخيص لأنها أهم المدارس ولا أرجحها في ميزان الفلسفة، ولكننا آثرناها بالتلخيص لأنها تجمع الفكرة الغالبة من شتى أطرافها، وهي كما رأى القراء فكرة تقوم على قطبين أو تتسم بسمتين؛ «الأولى»: عجز الفلاسفة المحدثين عن التوفيق بين قدرة الله على كل شيء ووجود الشر والألم في خليقته كما يوجدان في هذا العالم.

ناپیژندل شوی مخ