وكان يحسب أنه شيء علوي تسخر له الأحياء الأرضية، ولا يحسب أنه فرع من فروع الشجرة التي نبتت منها سائر الفروع.
فتغير نظره إلى الكون ونظره إلى نفسه.
ولكن هل تغير نظره إلى الله؟
لم يكن ذلك حتما لزاما من نتائج العلم بدوران الأرض أو العلم بمذهب النشوء والارتقاء، لأنهما خليقان أن يحدا من قدر الإنسان ولكنهما لا يحدان من قدرة الله.
وغاية ما هنالك أن هذين الكشفين قد زعزعا عقائد أناس من المتدينين الذين أخطأوا فهم الدين، فحسبوا أن الدين يفرض عليهم الإيمان بدوران الشمس حول الأرض وانقطاع العلاقة الجسدية بين الإنسان وسائر المخلوقات. أما الذين تعقلوا هذين الكشفين فلم يغيروا إيمانهم بالله، بل وجدوا فيهما دليلا جديدا على اتساع الكون وانتظام قدرة الله في خلقه من أهون الأشياء إلى أرفع الأحياء.
فمن أين إذن جاءت هذه النزعة الحديثة في بعض الفلسفات العصرية التي تؤمن بوجود الله ولكنها تقيده بقوانينه أو تقيده بنواميس المادة والقوة؟ أو تفرط في هذه الوجهة فتزعم أنه من ثمرات التطور في الكون الشامل، أو أنه عنصر من عناصره التي تضبطه أحيانا وتنضبط به في كل حين؟
ليس ذلك من إيحاء مذهب النشوء والارتقاء ولا هو من إيحاء القول بدوران الأرض في الفضاء كما جاء في بعض الآراء، ولكنه من نتائج الأطوار الاجتماعية وليس من نتائج الكشوف الفلكية أو العلمية، وأشبه الأطوار الاجتماعية بإيحاء هذا المعنى هو طور «الحكومة المقيدة» في السياسة الأرضية، فإن الملك المقيد بقوانينه ومشيئة شعبه ومقتضيات ملكه هو أحدث الأفكار العصرية في أطوار الاجتماع، وليست النقلة بعيدة بين تقييد الحاكم في الأرض وتقييد الحاكم في جميع الأكوان.
وربما كانت هذه النقلة غريبة في بعض الأمم الشرقية التي تعودت أن تدين ملوكها بكتابها السماوي في شئون المعاش وشئون المعاد على السواء، ولكن الكتب الدينية التي آمن بها الملوك الغربيون لم تتعرض للشئون المعاشية وتركتهم مطلقين في وضع الشرائع لهذه الشئون، فلما سهل على الأذهان عندهم أن تتصور الحاكم المطلق مقيدا بعد انطلاقه الطويل في سياسة الشعوب لم يصعب عليها أن تقبل القيود لكل حكم مطلق لم تكن له قيود.
لقد كان الإنسان يؤمن بأنه مركز الوجود، ولكنه كان يخضع للملوك المطلقين، فلم يكن في وسعه أن يتخيل كيف يجوز الحساب أو التقييد على ملك الملوك في جميع الأرضين والسماوات.
ثم عرف أن الأرض ليست بمركز الوجود، وأنه هو فرع من فروع شجرة الحياة، فكان خليقا بهذه المعرفة أن تزيده خضوعا على خضوع وأن ترضيه من الأقدار الإلهية بكل ما تفرضه عليه، ولكنه صغر من جانب وكبر من جانب: صغر في الكون وكبر في حياته السياسية، وراح يحاسب الحاكمين الذين كانوا مطلقين، وتعود أن يشاركهم في القوانين وقد كانوا وحدهم مصدر القوانين، فليس بالمستغرب في هذه البيئة الاجتماعية أن تنشأ بينها عقول تسيغ السلطان المقيد في الكون كله، وحيثما قام قائم بالتصريف والتدبير، وقد ساغ لها فهم «التقييد» حيث لم يكن قبل ذلك سائغا في الواقع ولا في التفكير.
ناپیژندل شوی مخ