152

فلك أن تقول: إن الأحياء قد عاشت لأنها لم تنقرض كما انقرضت الأحياء الأخرى التي أعوزتها وسائل المعيشة وأسباب البقاء، ولكن ليس لك أن تقول: إن هذا التفاضل بين الأحياء لم يكن هو الطريق الذي اختاره الخالق المريد لاستبقاء الحياة المثلى والترقي بها في معارج الكمال، ولا أن تقول إن المصادفة أقرب إلى التصور من هذا التفسير، ولا سيما إذا رأيت أمامك أمثلة الترقي بالحياة من الخلية المفردة إلى عقل الإنسان.

ويبدو لنا أن الاعتراض الذي يقام له وزن بين جميع الاعتراضات المتجهة إلى هذا البرهان هو الاعتراض بوجود الشر والألم في الحياة، فكيف يقال: إن القصد ظاهر في هذا العالم ثم يجتمع القصد مع وجود الشر والنقص والظلم فيه؟ هل يقال إذن: إن الشر مقصود؟ وهل يقال: إن الظلم مما يليق بحكمة الحكيم؟

وليس جوابنا على هذا الاعتراض أن نعزو إلى الله دواعي مقدرة لخلق هذه الأمور، فإن الدواعي التي نقدرها لن تبلغ بنا إلى نهايات الأشياء، ولن تزال واقفة بنا عند بدايات مفروضة لا تغني عن تلك النهايات.

ولكننا نرجع إلى المقابلة بين هذا العالم وبين العالم الذي يتخيله أولئك المعترضون وافيا بالقصد أو جديرا بحكمة الله، فإن كان هو أقرب إلى التصور فقد صدقوا وأصابوا، وإن كان العالم الذي نحن فيه هو الأقرب إلى التصور فقد سقط الاعتراض.

فما العالم الذي يتخيل المعترضون أنه أجدر من عالمنا هذا بحكمة الله وقصد المدبر المريد؟

هو عالم لا نقص فيه فلا نمو فيه، ولا آباء ولا أبناء، ولا تفاوت في السن والتهيؤ والاستعداد، ولا تقابل في الجنس بين الذكور والإناث، بل جيل واحد خالد على المدى لا يموت ولا يتطلب الغذاء ولا الدواء.

عالم لا نقص فيه فلا حدود فيه، وكيف يوجد الناس بلا حدود بين واحد منهم وأخيه؟ بل لماذا يوجد الألوف ومئات الألوف نسخة واحدة لا فرق فيها بين أحد وأحد، ولا محل فيها للاختلاف، إذ كان الاختلاف يستدعي نقص صفة هنا ووجودها هناك؟

إذن يخلق إنسان واحد يحقق معنى الإنسانية كلها ولا يكون فيه نقص ولا تعدد ولا تكون له بداية ولا نهاية، فلذلك إذن إله آخر مستمتع بكل صفات الكمال والدوام!

عالمهم المتخيل هو عالم لا حرمان فيه، فلا ينتظر فيه الحي شيئا يجيء به الغد ولا يشتاق اليوم إلى مجهول.

بل ماذا نقول؟ أنقول الغد واليوم؟ ومن أين يأتي الغد واليوم في عالم لا تغاير فيه ولا تنوع في التراكيب والحركات؟ إنما يأتي اليوم والغد من تغاير الكواكب بالحركة والضخامة والدوران، فإذا بطل التغاير والتركيب فلا شمس ولا أرض ولا قمر ولا أيام ولا أعوام.

ناپیژندل شوی مخ