ويسمى هذا البرهان في أسلوب من أساليبه المتعددة ببرهان المحرك الذي لا يتحرك، أو المحرك الذي أنشأ جميع المحركات الكونية على اختلاف معانيها، ومنها الحركة بمعنى الانتقال من مكان إلى مكان، والحركة بمعنى الانتقال من حال إلى حال، والحركة بمعنى الانتقال من حيز الإمكان إلى حيز الوجود، أو من حيز القوة إلى حيز الفعل، وفحوى البرهان أن المتحرك لا بد له من محرك، وأن هذا المحرك لا بد أن يستمد الحركة من غيره، وهكذا إلى أن يقف العقل عند محرك واحد لا تجوز عليه الحركة لأنه قائم بغير حدود من المكان أو الزمان، وهذا هو «الله.»
وجواب الماديين على هذا البرهان أنه لا مانع أن يكون المحرك الأول ماديا أو كونيا وأن يكون وجوده أبديا أزليا بغير ابتداء، ولا انتهاء؛ لأن قدم العالم أمر لا يأباه العقل ولا يستحيل في التصور، وحدوثه مشكلة تستدعي أن نسأل: ولم كان بعد أن لم يكن؟ وكيف طرأت المشيئة الإلهية بإحداثه وليست مشيئة الله قابلة للطروء ولا لتغير الأسباب والموجبات؟
ومن هؤلاء الماديين من يجزم بأن هذا الكون كله لا يحتوي شيئا واحدا يلجئنا إلى تفسيره بموجود غيره، ولا استثناء عندهم في ذلك للنظام ولا للعقل ولا للحياة.
فمن أقوالهم: إن المصادفة وحدها كافية لتفسير كل نظام ملحوظ في الكائنات الأرضية، وضربوا لذلك مثلا صندوقا من الحروف الأبجدية يعاد تنضيده مئات المرات وألوف المرات وملايين المرات على امتداد الزمان الذي لا تحصره السنون ولا القرون، فلا مانع أن هذه التنضيدات تسفر في مرة من المرات عن إلياذة هوميروس أو قصيدة من الشعر المنظوم والكلم المفهوم، ولا عمل في اتفاق حروفها على هذه الصورة لغير المصادفة الواحدة التي تعرض بين ملايين الملايين من المصادفات.
وهكذا الكون المادي في اضطرابه المشتت الذي تعرض له جميع المصادفات الممكنة في العقول، فلا مانع في العقل أن تسفر مصادفة منها عن نظام كهذا النظام وتكوين كهذا التكوين في عالم الجماد أو في عالم الحياة.
وهذا المثل نفسه ينقض دعوى قائليه ويستلزم فرضا غير فروض المصادفات التي تتكرر على جميع الأشكال والأحوال.
فقد فاتهم أنهم قدموا الفرض بوجود الحروف المتناسبة التي ترتبط بعلاقة اللفظ وينشأ منها الكلام المفهوم، فإن وجود الفاء والياء واللام والسين والواو مثلا لا يكون قبل وجود كلمة أو كلمات تشتمل على هذه الحروف، فمن أين لهم أن أجزاء المادة المتماثلة ترتبط بينها علاقة التشاكل أو التشكيل على منوال العلاقة التي بين الحروف الأبجدية؟ ومن أين للمادة هذا التنويع في الأجزاء؟ ومن أين لهذا التنويع أن تكون فيه قابلية الاتحاد على وجه مفهوم؟
وفاتهم كذلك أنهم قدموا الفرض بوجود القوة التي تتولى التنسيق والتنضيد، وليس من اللازم عقلا أن توجد هذه القوة بين الحروف، وأن يكون وجودها موافقا للجمع والتنضيد وليس موافقا للبعثرة والتفريق.
وفاتهم مع هذا وذاك أنهم فرضوا في هذه القوة الجامعة أنها تعيد تنسيق الحروف على كل احتمال كأنها تعرف بداءة كيف تكون جميع الاحتمالات، فلم تستنفد هذه القوة جميع الاحتمالات إلى آخرها ولا تتخبط في بعضها قبل انتهائها ثم تعيدها وتعيدها أو تكررها بشيء من الاستئناف وشيء من التجديد في جميع المرات إلى غير انتهاء؟
وفاتهم عدا ما تقدم أن الوصول إلى «تنضيدة» مفهومة منظومة لا يستلزم الوقوف عندها وتماسك الأجزاء عليها، فلماذا تماسك النظام في الكون بعد أن وجد مصادفة واتفاقا ولم يسرع إليه الخلل وتنجم فيه الفوضى قبل أن ينتظم على نحو من الأنحاء؟ وما الذي قرره وأمضاه وجعله مفضلا على الخلل والفوضى وهما مثله ونظيره في كل احتمال؟
ناپیژندل شوی مخ