الله، کائنات او انسان: دیني فکرونو په تاریخ کې مختصرکتنې
الله والكون والإنسان: نظرات في تاريخ الافكار الدينية
ژانرونه
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
1 - الدين والفلسفة
2 - الدين والحضارة
3 - الدين والأسطورة
4 - الديانات التوحيدية
5 - التناص بين الكتب المقدسة
6 - التناص بين الكتب المقدسة
7 - التناص بين الكتب المقدسة
ناپیژندل شوی مخ
8 - إله الغنوصية
9 - صيغ أخرى لمفهوم الله
10 - غروب الآلهة
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
1 - الدين والفلسفة
2 - الدين والحضارة
3 - الدين والأسطورة
4 - الديانات التوحيدية
ناپیژندل شوی مخ
5 - التناص بين الكتب المقدسة
6 - التناص بين الكتب المقدسة
7 - التناص بين الكتب المقدسة
8 - إله الغنوصية
9 - صيغ أخرى لمفهوم الله
10 - غروب الآلهة
الله والكون والإنسان
الله والكون والإنسان
نظرات في تاريخ الافكار الدينية
تأليف
ناپیژندل شوی مخ
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970م بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني، وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي، فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنجليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن الكتابة.
وفي عام 1971م قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة.
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في 20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعت أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومة مؤلفاتي الاثنين والعشرين ومخطوط كتاب لم يطبع بعد، لنبحث في إجراءات إصدارها في طبعة جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنت وأنا أتأملها كمن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عاما تفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتاب الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تكامل تدريجيا دون خطة مسبقة في ثلاث وعشرين مغامرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببت أن أشرك به قرائي. وفي كل مغامرة كنت كمن يرتاد أرضا بكرا غير مطروقة ويكتشف مجاهلها، وتقودني نهاية كل مغامرة إلى بداية أخرى على طريقة سندباد الليالي العربية. ها هو طرف كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمله، إنه في غلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام 1988، التي عاد ناشرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام 1976، الذي صممه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتت حتى بدت وكأنها بلون واحد لعدم عناية الناشر بتجديد بلاكاتها المتآكلة من تعدد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يخطر لي أن هذا الكتاب قد رسم مسار حياتي ووضعني على سكة ذات اتجاه واحد؛ فقد ولد نتيجة ولع شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكباب على دراسة ما أنتجته هذه الثقافة من معتقدات وأساطير وآداب، في زمن لم تكن فيه هذه الأمور موضع اهتمام عام، ولكني لم أكن أخطط لأن أغدو متخصصا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاو عاكف بجد على هوايته. إلا أن النجاح المدوي للكتاب - الذي نفدت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تتابعت طبعاته في بيروت - أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يتوقعون مني عملا آخر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يلقاه الكتاب الأول للمؤلف يضعه في ورطة ويفرض عليه التزامات لا فكاك منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاح أكبر، أو يسقط ويئول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسه في الكتاب الثاني. وقد كنت واعيا لهذه الورطة، ومدركا لأبعادها، فلم أتعجل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعت مسيرتي المعرفية التي صارت وقفا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعاما بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يتكامل في ذهني وأعد له كل عدة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبته في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام 1986؛ أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحا مدويا آخر فاق النجاح الأول، فقد نفدت طبعته الأولى، 2000 نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
ناپیژندل شوی مخ
كان العمل الدءوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصص، فتفرغت للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئا آخر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجت خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام 2012 للعمل محاضرا فيها، وعهدت إلي بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزت كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضل أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقة الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مرشحة دوما لاستقبال أعضاء جدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
وعلى الرغم من أنني كنت أخاطب العقل العربي، فإني فعلت ذلك بأدوات البحث الغربي ومناهجه، ولم أكن حريصا على إضافة الجديد إلى مساحة البحث في الثقافة العربية، قدر حرصي على الإضافة إلى مساحة البحث على المستوى العالمي، وهذا ما ساعدني على اختراق حلقة البحث الأكاديمي الغربي المغلقة، فدعاني الباحث الأميركي الكبير «توماس تومبسون» المتخصص في تاريخ فلسطين القديم والدراسات التوراتية إلى المشاركة في كتاب من تحريره صدر عام 2003 عن دار
T & T Clark
في بريطانيا تحت عنوان:
Jerusalem in History and Tradition
ونشرت فيه فصلا بعنوان:
Jerusalem During the Age of Judah Kingdom
كنت قد تعرفت على «تومبسون» في ندوة دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عام 2001، شاركت فيها إلى جانب عدد من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت بعد ذلك من خلال المراسلات، إلى أن جمعتنا مرة ثانية ندوة دولية أخرى انعقدت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، وكانت لنا حوارات طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائل عديدة أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «كيث وايتلام» قد دعا كلينا إلى المشاركة في كتاب من تحريره بعنوان:
The Politics of Israel’s Past
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستينا اللتين ستنشران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام 2013 عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسة لي عن نشوء الديانة اليهودية بعنوان:
ناپیژندل شوی مخ
The Faithful Remnent and the Invention of Religious Identity
خصصت آخرها لمناقشة أفكار «تومبسون»، ول «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
What We Do And Do Not Know About Pre-Hellenistic Al-Quds
والثانية خصصها للرد علي بعنوان:
The Literary Trope of Return - A Reply to Firas Sawah
أي: العودة من السبي كمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يولد ويعيش مدة ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يتحول إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القراء في عمر مؤلفاتي حتى الآن، ولم يختف أحدها من رفوف باعة الكتب، أما تحول بعضها إلى كلاسيكيات فأمر في حكم الغيب.
فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
ناپیژندل شوی مخ
فاتحة
يحتوي هذا الكتاب في مقدماته على إجاباتي عن أسئلة طالما وجهت إلي في مقابلات صحفية وإذاعية وتلفزيونية ؛ مثل: لماذا اخترت الكتابة في موضوع الميثولوجيا والدين؟ أو: لماذا لا نجد لك رأيا حاسما في المسألة الدينية؟ أو: هل تدعم كتاباتك الموقف المعادي للدين؟ وبعد ذلك انتقلت للإجابة عن تساؤلات طالما لمستها عند الآخرين بخصوص المسألة الدينية، وبعد كل إجابة كنت أتخذ موقف القارئ وأخرج بتساؤلات محتملة قد تبنى على تلك الإجابة. وهكذا تسلسل العمل عن طريق السين والجيم، إلى أن أنجزت ما كنت أصبو إليه، وهو صياغة رؤية موجزة لتاريخ الأفكار الدينية في تفاعلها وعلائقها بعضها مع بعض عبر مسيرة الثقافة الإنسانية. هذا التاريخ يصب في تيار ما يدعى بتاريخ الأفكار العام، وهو منظومة معرفية جديدة تتوحد فيها الأفكار الحكموية والأفكار الفلسفية والأفكار الدينية؛ فعلى الرغم من أن الدين يتميز عن الحكمة والفلسفة بنظامه الطقسي الذي يهدف إلى إقامة الصلة بين المقدس والدنيوي، إلا أنه في جانبه الاعتقادي لا يختلف عن الفلسفة من حيث تقديمه للأجوبة عن الأسئلة الكبرى للإنسانية، وكلتا المنظومتين عبارة عن تفكير منظم في شئون الحياة والكون؛ ولذلك فإننا في دراستنا للأفكار الدينية عبر التاريخ إنما نقوم بدراسة الجانب الأهم من تاريخ الأفكار العام، وذلك لما للأفكار الدينية من تأثير على البشر لا يعادله تأثير الأفكار الفلسفية.
أما لماذا اخترت أسلوب السؤال وفضلته على السرد المتصل؟ فلذلك قصة؛ فقد تعرفت خلال إقامتي الحالية في بكين على الشاب غزوان بريك، وهو سوري يعمل محررا في وكالة أنباء الصين الجديدة. وكانت لنا لقاءات كلما توافر الوقت لكلينا، وفي كل لقاء كان يطرح علي سؤالا يتعلق بمؤلفاتي التي قرأها فأجيبه، ويتلو ذلك نقاش حول إجابتي ينتج عنه سؤال آخر. وقد لفتت نظري هذه الحوارات إلى ما يمكن لصيغة السؤال والجواب أن تفعله لجهة توضيح ما يطرحه المؤلف من أفكار في سياق عمله، وإلى أن الفكرة التي يقدمها المؤلف ثم يتجاوزها ربما لم تكن مفهومة من قبل القارئ، أو تحتاج إلى مزيد من الشرح أو التطوير. وهكذا ولدت في ذهني فكرة هذا الكتاب، وعرضتها على السيد غزوان فأيدني بقوة ، وكانت أراؤه كقارئ عونا لي على رسم المخطط العام للكتاب وتحديد محاوره. ولقد كانت متعتي في العمل حافزا لي على المثابرة، فأنجزته خلال أشهر شتاء 2014-2015م.
فراس السواح
بكين، حزيران (يونيو)، 2015م
المحور الأول
الدين والفلسفة
(س):
هنالك سؤال يطرح نفسه على من رافق مسيرة فراس السواح الفكرية خلال الأربعين سنة الماضية، وهو: لماذا اخترت موضوع الدين وتاريخ الأديان من بين جميع المنظومات المعرفية في الثقافة الإنسانية، وعكفت على دراسته والبحث في تفاصيله وجذوره العميقة منذ صدور كتابك الأول في العام 1976م؟ (ج):
أنا أومن بأن الكاتب لا يختار موضوعه، بل على العكس؛ فالموضوع هو من يختار كاتبه. وما أعنيه هنا هو أن الموضوع الذي يجد الكاتب نفسه مدفوعا للبحث فيه، لا ينبثق في عقله الواعي فجأة ومن دون أسباب ومقدمات، وإنما يكمن في لاشعوره لفترة طويلة، قبل أن يقتحم ساحة الشعور، ليجد الكاتب نفسه مدفوعا ودونما إرادة منه لإيلائه عنايته وتفكيره المنظم، ولا أدل على ذلك من أنني طالما اشتريت كتبا لم أكن مهتما حينها بموضوعاتها، ووضعتها في مكتبتي دون أن أقرأها، إلى أن انبثق موضوعها الهاجع في اللاشعور، فاستخرجتها بلهفة من عثر على كنز ثمين. (س):
ناپیژندل شوی مخ
ولكن لا بد من وجود أسباب شعورية أو لا شعورية خلقت في النفس موضوعا «هاجعا» كما سميته، ثم ساعدت فيما بعد على اقتحامه ساحة الشعور، والإلحاح على عقل صاحبه، فهل وعيت تلك الأسباب؟ وهل لنا في نبذة عنها؟ (ج):
أعتقد بأن البداية انطلقت عندي من التساؤل؛ فالإنسان يولد ومعه دافع طبيعي إلى التساؤل، وما إن يتفتح وعي الطفل حتى يأخذ بطرح الأسئلة حول أصل العالم، ووجود الله، والروح والحياة الثانية، والغاية من الوجود وحياة الإنسان، وما إلى ذلك. وفي الواقع فإن أسئلة الطفولة على بساطة طرحها، هي التي شغلت البشرية عبر تاريخها، وتصدت للإجابة عنها كل أشكال الحكمة والفلسفة والدين، وكذلك العلم في العصر الحديث. ولكن الدافع إلى التساؤل يخفت تدريجيا لدى معظم الأفراد، وذلك بمرور الوقت وضغط الشروط المادية للحياة اليومية، فيلجئون عندها إلى دين آبائهم ليجدوا فيه عقيدة ناجزة وأجوبة جاهزة، تعفيهم من حيرة السؤال وتضعهم في طمأنينة الأيديولوجيا، ولكن هناك قلة من الناس تبقى أمينة للسؤال ولأرق الحيرة الذي يهبنا الإحساس بالحرية وبحرارة الحياة، ويبدو أنني كنت من هذه القلة التي لم تقنع بالجاهز والموروث، وأعطت لنفسها حرية البحث والتفكير. (س):
ولكن لماذا اخترت البحث عن الأجوبة في ثنايا أديان الإنسان لا في غيرها؟ الفلسفة مثلا. (ج):
لقد كانت الفلسفة أول ما فتنني من المنظومات المعرفية، فانكببت على دراستها منذ أن كنت في مرحلة الدراسة الثانوية، وقرأت ما وصلت إليه يداي من الكتب التي تبحث في تاريخ الفلسفة الأوروبية من سقراط إلى هيجل، ثم سارتر وصحبه من الوجوديين الذين افتتنت بهم زمنا لا بأس به. أما الفلسفة العربية فلم ترق لي لأن همها الرئيسي كان يتمثل في التوفيق بين الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي؛ أي إن العقل الفلسفي العربي كان مقيدا ومشترطا بالدين، في الوقت الذي ينبغي فيه على الفلسفة أن تنطلق من الشك وعدم اليقين، لا من اليقين الذي يقوم عليه الدين، ولا بأس بعد ذلك إذا أعادت إلي اليقين. (س):
ولكنك تركت الفلسفة بعد ذلك وتوجهت إلى دراسة الدين. لماذا؟ (ج):
عندما بدأت بدراسة الفلسفة كنت أعتقد بأنني سأتوصل في النهاية إلى رؤية لوحة فسيفسائية جميلة تتخذ فيها كل فلسلفة مكانها المحدد الذي يساعد على إبراز المشهد العام، ولكن ما وجدته بعد أن سرت شوطا في دروب الفلسفة المتعرجة، هو أن كل فلسفة كانت تنقض ما قبلها لتبني من جديد؛ ومن ثم تأتي بعدها أخرى لتنقضها وتبني على أنقاضها. وما تحصل لدينا بعد مرور 2500 سنة على نضوج الفلسفة لم يكن لوحة فسيفسائية متكاملة، وإنما ركاما من الفلسفات التي ترسم مشهدا لمتاهة لا سبيل إلى الخروج منها. يضاف إلى ذلك أن الفلسفة لم تستطع تقديم عزاء لعامة الناس، وخارج الصين حيث لعبت الكونفوشية دور الدين، لم أعثر على فلسفة اكتسبت إليها حشدا من البشر الذين آمنوا بها وعاشوا وفقا لتعاليمها، وإنما بقيت لعبة ذهنية تمارسها النخبة. ولا أستثني من ذلك الماركسية؛ لأن الشرائح الاجتماعية التي قامت بالثورات الشيوعية لم تفعل ذلك لأنها فهمت الماركسية، ولكن لأنها كانت محرومة وجائعة. (س):
ولكن هل نجحت الأديان برأيك في تحقيق ما عجزت عنه الفلسفة؟ (ج):
الفلسفة هي حكمة شخص بعينه، أما الدين فهو حكمة شعب. وبينما تبقى الفلسفة محصورة في الأكاديميات، ينجح الدين في التمكن من قلوب وعقول شعب بأكمله؛ ولذلك أقول بأننا إذا ما أردنا البحث عن حكمة البشرية، فإننا سنجدها في تاريخ أديانها لا في تاريخ فلسفاتها. (س):
أنت تقول بأن الفلسفة هي حكمة شخص بعينه، ولكن أليس الدين حكمة شخص بعينه أيضا، وهو مؤسس ذلك الدين، نبيا كان أم شخصية روحية متميزة؟ (ج):
إن ظاهرة مؤسسي الديانات في تاريخ الدين هي ظاهرة حديثة نسبيا، ولا يمكننا متابعتها إلى ما وراء أواسط الألف الأول قبل الميلاد، عندما ظهر زرادشت نبي الديانة الزرادشتية، وبوذا مؤسس الديانة البوذية. وقبل زرادشت كانت الديانة الإيرانية التقليدية تضرب في عمق التاريخ دون أن يلمح لها بداية محددة أو شخصية متفوقة عملت على تأسيسها. وكذلك الأمر في الهندوسية التي كانت ديانة البوذا قبل أن يتنور وينشق عن دين آبائه، ومثلها ديانات مصر وبقية حضارات الشرق القديم التي تضيع بداياتها في ضباب التاريخ. هذا الطابع اللاتاريخي للدين هو الذي يجعل منه حكمة شعب لا حكمة فرد؛ لأنه ليس نتاجا لعقل واحد، وإنما نتاج تعاون عقول أجيال متتابعة عملت على صياغته وتطويره في حركة دائبة لا تهدأ. (س):
ناپیژندل شوی مخ
هذه الأديان التي ابتدرها مؤسسون تاريخيون، ألا تحمل طابع التجربة الروحية لشخص بعينه عمل على نشرها وتعميمها؟ فكيف يمكن أن نصفها بأنها حكمة شعب؟ (ج):
لا أستثني هذه الأديان من صفة حكمة الشعب؛ فنحن نستطيع أن نشبه فكر مؤسس الديانة ببذرة زرعت في أرض خصبة، ونشبه ديانته التي نمت بعد وفاته بالشجرة التي نشأت عنها تلك البذرة؛ فالزرادشتية في حياة مؤسسها وخلال فترة لا بأس بها بعد وفاته، كانت تقوم على أساس مجموعة من الأناشيد الدينية التي وضعها النبي ولخص فيها عقيدته، ثم قام الكهنة بعد ذلك بصياغة شروح على هذه الأناشيد تعبر عن كيفية فهمهم لها، أو حتى عن رغبة في الإضافة إليها والتعبير عن رؤى خاصة بهم، فظهرت مجموعة الأفيستا والأفيستا الصغرى التي صارت مرجعا آخر للدين. وبعد ذلك جاءت أجيال أخرى من المفكرين الذين رأوا وجوب تقديم شروحات على الأفيستا، فظهرت مجموعة الزند أفيستا. وعندما انتشر الإسلام في إيران بعد أكثر من ألف عام على وفاة المؤسس، لم تكن الزرادشتية تشبه كثيرا ديانة مؤسسها. والشيء نفسه يمكن قوله عن البوذية التي أخذت تتبدل وتبتعد عن تعاليم المؤسس في الهند خلال القرون الثلاثة التي أعقبت وفاته، وعندما وصلت إلى الشرق الأقصى لم تعد تشبه في شيء بوذية البوذا. (س):
وماذا عن الأديان التي نصفها بالتوحيدية، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام؟ هل خضعت أيضا للتطور على الرغم من أن عقائدها ترسخت في كتب مقدسة تم تدوينها خلال حياة مؤسسيها أو بعد فترة قصيرة من وفاتهم؟ (ج):
أولا، أريد أن أحذف اليهودية من قائمة الأديان التوحيدية لأسباب ربما نتطرق إليها لاحقا. وثانيا، إن قائمة الأديان التوحيدية لا تقتصر على الأديان الثلاثة التي ذكرت، بل يمكن أن نضيف إليها الزرادشتية والمانوية، وديانتين من بقايا ديانات الشرق القديم هما: المندائية والإيزيدية، واللتان لم يبق من أتباعهما سوى قلة قليلة تتوزع اليوم في العراق وسورية. ولقد خضعت الأديان التوحيدية للتطور والتبدل مثل غيرها من الأديان، على الرغم من تثبيت عقائدها في كتب مقدسة حفظت نصوصها من التغيير والتبديل؛ فمسيحية الأناجيل وبقية أسفار العهد الجديد لا تشبه مسيحية بولس الرسول الذي يحمل لقب مؤسس المسيحية، ومسيحية بولس لا تشبه كثيرا مسيحية قانون الإيمان الذي صاغه مجمع نيقية الذي انعقد في العام 325م، وبعد مجمع نيقية تابعت المسيحية تطورها، وترسخ مفهوم الثالوث الذي لم يقل به أصحاب الأناجيل ولا بولس الرسول ولا حتى مجمع نيقية، كما ترسخت عبادة السيدة مريم التي أعطاها أحد المجامع المتأخرة لقب «أم الله».
وفي الإسلام حصل التطور على ثلاثة محاور وهي: (1) الحديث؛ أي ما وصل المسلمين من أقوال الرسول أو أفعاله. (2) علم التفسير؛ أي تفسير ألفاظ ومعاني القرآن الكريم. (3) علم الكلام، وهو علم العقائد الإسلامية الذي يقابل اللاهوت في الديانة المسيحية. ومن خلال هذه العلوم أحدث العقل الإسلامي ما يشاء على الإسلام من تطوير وتغيير، وتعددت الطوائف الإسلامية، وكل طائفة تدعي بأنها الصيغة الحقيقية للإسلام في مقابل بقية الطوائف، وكلها تدعي أيضا بأنها تستند إلى القرآن وإلى الحديث الشريف. (س):
إذن أين ذهبت سلطة النص المقدس؟ (ج):
إن سلطة النص الديني المقدس في رأيي خرافة؛ فالسلطة الحقيقة هي للعقل الإنساني وكيفية فهمه للنص، النص المقدس بطبيعته نص إشكالي لأسباب لا أستطيع التوسع بها هنا، وهذه الإشكالية هي التي تستدعي تدخل عقل المفسر من أجل البحث عن المعاني الكامنة خلف مواضع الإشكال وهي كثيرة. (س):
لماذا تعتبر النص المقدس نصا إشكاليا؟ (ج):
يمكنك أن تتوجه بهذا السؤال إلى مفسري القرآن الكريم مثلا. لولا احتواء النص القرآني على الكثير من مواضع الإشكال في اللفظ والنحو والمعاني، هل كان من الضروري ظهور أكثر من 20 تفسيرا له في الماضي، أو ظهور تفاسير حديثة مثل تفسير سيد قطب، وتفسير الشعراوي وغيرهما؟ لست أنا القائل بأن النص المقدس نص إشكالي. (س):
نعود إلى قولك بأن التساؤل الطفولي المستمر قد قادك إلى دراسة الفلسفة أولا، قبل أن تفضل عليها دراسة الأديان، فهل من سبب شخصي إلى جانب ما ذكرت أثر على خياراتك؟ (ج):
ناپیژندل شوی مخ
نعم؛ فلقد مررت بفترة قلق ديني في فترة المراهقة ناجم عن إحساسي بوجود بعد ماورائي كامن خلف كل ما يتبدى لنا من مظاهر الوجود، لا يمكن اختصاره إلى مجموعة من الشخصيات الإلهية، ولا حتى إلى إله واحد يتحكم بالعالم من موقع مفارق، وهذا البعد الماورائي لا يمكن وصفه باللغة المعتادة بقدر ما يمكننا الإحساس به في أعماق النفس. وعلى حد قول الحكيم الصيني لاو-تسو:
في قلة الكلام تناغم مع الطبيعة.
الطبيعة لا تعبر عن نفسها بالكلمات. (س):
إذن فالله لا يعبر عن نفسه بالكلمات؟ هل هذا ما تقصد أن تقوله؟ (ج):
نعم. (س):
وماذا تقول عن الوحي الذي تلقاه الأنبياء من عند الله؟ (ج):
بوابات الاتصال بين المقدس والدنيوي أو بين الإلهي والإنساني ليست موصدة، وأقصى حالة لهذا التواصل هي حالة النبي الذي يكون في أشد حالات إحساسه بحضور الإلهي في قلبه، راغبا في تلمس ومعرفة المشيئة الإلهية، فتنبثق في أعماق نفسه معان يعبر عنها هو بكلمات، فالوحي والحالة هذه استنارة تحصل في جنبات النبي وهو في أقصى حالات البحث عن الحقيقة. (س):
ولكن الوحي في أديان التوحيد هو كلام يسمعه النبي على لسان ملاك! (ج):
لا شك في أن مفهوم الوحي متلازم مع مفهوم التوحيد؛ فلقد تلقى زرادشت وحيا من السماء عن طريق ملاك، وكذلك ماني، وكذلك محمد نبي الإسلام، ولكن ملاك الوحي ليس في واقع الأمر إلا رمزا لحالة التواصل بين الإلهي والإنساني، يمكن للجميع فهمه. وما أقوله هنا ليس جديدا على الفكر الإسلامي؛ فلقد ناقش علماء الكلام المسلمون مسألة ما إذا كان النبي قد تلقى الوحي بكلمات أو بمعان؛ فلقد قال بعضهم بأنه تلقاه بمعان لا بكلمات، وعلى رأس هؤلاء أبو المعالي الجويني الملقب بإمام الحرمين، وهو واحد من أبرز علماء الدين السنة في القرن الخامس الهجري. (س):
إذن كان لديك من الأسباب الشخصية ما يكفي لدفعك إلى دراسة الدين، وهذه الأسباب كما شرحتها تجعلك متعاطفا مع الظاهرة الدينية. ألا ترى أن من الممكن لهذا التعاطف مع موضوع البحث أن يفقد الباحث شيئا من موضوعيته؟ (ج):
ناپیژندل شوی مخ
على الرغم من أني أستخدم مصطلح تاريخ الأديان لوصف طبيعة موضوعي، إلا أن الوصف الأدق له هو فينومينولوجيا الدين. وفينومينولوجيا الدين تقع في الوسط بين فلسفة الدين وتاريخ الأديان؛ ففلسفة الدين هي تعبير عن فكر صاحبها وتوجهاته ومواقفه، وهي معنية بالتأمل لا بدراسة الوقائع. وبما أنني لست راغبا في تقديم وجهة نظر شخصية في مسألة الدين، وإنما أهدف إلى وصفه وتحديده موضوعيا ، فقد ابتعدت عن فلسفة الدين وعن إقحام أي رأي شخصي مسبق. أما تاريخ الأديان فيعتمد منهجا يقوم على تحليل الأديان في سياقها التاريخي؛ أي إنه يلجأ إلى الكشف عما حدث فعلا، دون العناية بفهم ما حدث أو تقديم تركيب منظم يجمع الظواهر الدينية التي يدرسها إلى ظاهرة واحدة.
أما المنهج الفينومينولوجي (الظاهراتي) في دراسة الدين فهو تطبيق لطرائق الفينومينولوجيا الفلسفية التي وضع أسسها إدموند هوسرل على دراسة تاريخ الدين. وما يميز فينومينولوجيا الدين بشكل خاص هو نظرتها العمومية الشمولية، وذلك من خلال تقصيها لكل ما هو مشترك وعام بين الأديان. وهي إذ تصف وتنمذج موضوعاتها، فإنها تعمل على استقصاء البنية الجوهرية والمعنى في الظاهرة الدينية. وعلى الرغم من أن الظاهراتي يتحاشى فرض أحكامه وقيمه على موضوع بحثه، إلا أنه ينطلق في الوقت نفسه من موقف متعاطف مع هذا الموضوع، لا سيما مع الجانب الإنساني فيه؛ فهو في وصفه للكيفية التي يعي بها المؤمن إيمانه ويفهمه، يحترم القيمة المطلقة التي يعزوها هذا المؤمن لعقيدته؛ فالفينومينولوجي عندما يتحدث مثلا عن الميلاد العذري في المسيحية، لا يعنى إلا بوجود مثل هذه الفكرة دون التطرق إلى صحتها أو خطئها. وهنا دعني أقول لك بأن أي فكرة تكتسب الطابع الموضوعي عندما تترسخ بإجماع الناس عليها وتغدو فاعلة ومؤثرة، مثل أي فكرة قائمة على التجربة.
إن خلاصة ما أود أن أقوله هو أن التعاطف لا يعني الانحياز، وإذا كان لدى الباحث رأي مسبق فيما يتعلق بموضوع بحثه، فإن عليه أن يضعه على الرف مؤقتا، ويقبل على بحثه بعقل فارغ من الآراء المسبقة، وهذا ما سوف يعينه على توسيع وتعميق معارفه، وربما على تعديل تلك الأفكار المسبقة التي كان يملكها.
وهنا تخطر في بالي قصة من قصص بوذية الزن ذات مغزى بالنسبة لما أسوقه هنا؛ فقد جاء إلى أحد معلمي الزن أستاذ جامعي اشتهر بمؤلفاته الكثيرة في العلوم الإنسانية، وقال له إنه يريد أن يتعلم الزن على يديه، فاستقبله المعلم بترحاب ودعاه إلى تناول الشاي، ثم راح يسكب له الشاي في كأسه، وعندما امتلأت تابع السكب حتى فاض الشاي من حواف الكأس، فقال له الأستاذ: يا معلم، انتبه. فأجابه المعلم: يا سيد، إن الكأس المليئة لا تستوعب المزيد كما ترى، وأنت جئتني مليئا بالأفكار. إن أردت أن تتعلم فأفرغ رأسك. (س):
أنت تتحدث هنا عن قوة الفكرة، وهذا ما يثير في ذهني سؤالا عن دور الأفكار في تاريخ الحضارة. (ج):
الأفكار هي القوة الرئيسية المسيرة للحضارة والتاريخ، لا فرق في ذلك بين فكرة تقوم على التجربة، وفكرة لا نستطيع البرهان على صحتها أو خطئها، لكنها ترسخت بإجماع الناس، وفكرة ثالثة خاطئة. وفي الحقيقة فإن الأفكار الخاطئة ربما تلعب دورا أكثر أهمية من غيرها في بعض الفترات، ومثال على ذلك فكرة تفوق العرق الآري على بقية الأعراق في الأيديولوجيا النازية، وما أدت إليه من كوارث إنسانية. واليوم نرى أن الأفكار الخاطئة عن الإسلام تستولي على عقول كثير من المسلمين، وتكسف الأفكار الصحيحة؛ فالإرهابي الذي يقتل باسم الإسلام دون تمييز لم يقرأ، أو أنه يتجاهل الآية القرآنية القائلة:
من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا (سورة المائدة: 32). والإرهابي الذي يحرق الكنائس المسيحية ويهجر المسيحيين من أراضيهم ومساكنهم يتجاهل الآية القرآنية التي توصي بالصداقة والتراحم بين المسلمين والمسيحيين (= النصارى)، والتي تقول:
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا (= للمسلمين)
الذين قالوا إنا نصارى (سورة المائدة: 82). (س):
أريد العودة إلى ما قلته حول تعاطفك مع الدين واحترامك للقيمة التي يعزوها المؤمن لعقيدته، وأتساءل هنا: لماذا إذن يتهمك البعض بالعداء للدين؟ فلقد سمعنا هذا الرأي مرارا من مسلمين ومسيحيين؟ (ج):
ناپیژندل شوی مخ
أتهم بالعداء للدين لأن أهل الحرف في المسيحية يتوقعون منك إذا تكلمت في المسيحية أن تلتزم بما تعلموه في مدارس اللاهوت، أو ما يكرره رجال الدين في موعظة يوم الأحد، وأهل الحرف في الإسلام يتوقعون منك إذا تكلمت في الإسلام أن تتكلم مثل شيخ أزهري، أو مثل خطيب مسجد في يوم الجمعة، أن تلغي عقلك وتتماثل مع الموروث هو المطلوب، هذا الموروث الذي ما فتئ يعيد إنتاج نفسه منذ قرون، أو بالأحرى إنتاج صور أكثر رداءة عن نفسه. وأنا هنا لا أدعو إلى نسف الموروث، وإنما أدعو إلى تجاوز مرحلة الجمود التي وصل إليها الفكر الديني، وإلى إعادة فهم النصوص المقدسة بما يتلاءم وروح العصر، أدعو إلى إبقاء باب الاجتهاد مفتوحا بعد أن أغلقه المجتهدون المتأخرون؛ لأنه وكما اجتهد الأولون، فإن باستطاعتنا نحن أن نجتهد، بل وأفضل منهم لأننا صرنا مزودين بمعارف لم يكونوا يحلمون بها، ولن نقبل بابن تيمية ولا بالقديس أوغسطين وصيا على فكرنا. (س):
ولكن نقاد الدين غالبا ما يستشهدون بمؤلفاتك في تقديم حججهم؟ (ج):
دعني أقول لك شيئا. إن من اكتشف الذرة لم يكن في ذهنه أبدا أن يصنع قنبلة ذرية، وإنما صنعها آخرون. أنا امرؤ تجريبي، وما أعنيه بالتجريبية هنا هو أنني أتوصل إلى الأفكار اعتمادا على دراسة واستقراء وقائع موضوعية، لا على تأمل ذهني بحت، وكل نظرية أطرحها تحمل في طياتها براهينها؛ وبالتالي يمكن لمن يود نقدها أن يختبر صحتها عن طريق دراسة هذه البراهين ورفضها أو قبولها على قاعدة تجريبية أيضا، ولكن من يتهمونني بالعداء للدين وإفساد عقول الشباب ينطلقون من أهوائهم ومواقفهم الذاتية، ولم يحفل أحد منهم بأن يرفق بتهمته أي برهان. وبتعبير آخر أنا لا أقدم أفكاري وآرائي الخاصة، وإنما نتائج بحث واستقصاء. (س):
ولا أدل على ذلك من أن معظم مؤلفاتك لا تحتوي على خاتمة. وهذا بالضبط ما يأخذه عليك أيضا بعض القراء الذين يرغبون في معرفة وجهة نظرك. (ج):
وجهة نظري بعد كل شيء تبقى وجهة نظر شخص واحد، كما أن المعرفة لا علاقة لها بوجهات النظر. إن ما أهدف إليه من وراء الكتابة هو تدريب عقل قارئي على التفكير الحر؛ ولذلك أقول لطلاب الدراسات العليا في الجامعة الذين يستمعون إلى محاضراتي في تاريخ الأديان ألا ينظروا إلى المادة المطبوعة التي أوزعها عليهم باعتبارها شيئا للحفظ، وإنما محرضا على التفكير، وأشجعهم على معارضتي ومخالفتي. وأذكر في هذا المجال أنني قلت لهم في إحدى المرات: إنه يسعدني أن أسمع من أحدكم قوله لي: إن ما تقوله في هذا الشأن كلام فارغ. (س):
وبالطبع لم يقل لك أحد ذلك! (ج):
لقد أردت أن أضرب لهم المثل الأقصى في قبولي للمخالفة وتحريضهم على التفكير. وقد بذلت جهدا لنقلهم من وضع المتلقي السلبي إلى المشاركة الفعالة. المعرفة تتطلب طرفين إيجابيين، لا طرفا سلبيا وآخر إيجابيا؛ أي ليس صيغة: أنا أتكلم وأنت تسمع، وإنما صيغة: أنا أتكلم وأنت تتكلم. (س):
أعتقد بأنك تتكلم هنا عن نظم التعليم وعلاقتها بإنشاء المعرفة على مستوى المجتمع. (ج):
هذا صحيح؛ فمن خلال نظم التعليم في العالم العربي ومن بقي مثلنا على هامش خط التطور الحضاري، نحن ننتج صورا عن أنفسنا في طلابنا، بينما يتوجب علينا أن ننتج صورا أفضل منا بكثير. وفي هذا المجال تحضرني حادثة مضحكة ومبكية في آن معا؛ فعندما كان ابني في الصف التحضيري؛ أي في سن الخامسة فقط، عرضت عليهم المعلمة صورا لحيوانات مختلفة لكي تعلمهم أسماءها، وعندما وصلت إلى صورة حيوان اللاما الذي لا يعيش في بلادنا، قالت لهم: هذا جمل. فصاح الطفل: لا يا آنسة، هذا لاما. فما كان من الآنسة إلا أن عاجلته بصفعة قوية بدل أن تثني عليه. والأمر في بقية مراحل الدراسة ليس أفضل من هذا بكثير لجهة تنمية الإبداع وتحرير الفكر. (س):
حسنا، كنت تقول قبل أن يأخذنا الحديث بعيدا، إنك لا ترى فائدة من طرح وجهات نظر شخصية لأنك تهدف إلى تشجيع القارئ على التفكير الحر، فهل يعني ذلك أنك تفضل الأسئلة على تقديم الأجوبة؟ (ج):
ناپیژندل شوی مخ
عندما سمع سقراط من المحكمة قرار الحكم بإعدامه، قال متعجبا: لماذا؟ لم أفعل سوى طرح الأسئلة.
أنا لست بداعية لمذهب أو مبشر بأيديولوجيا معينة؛ ولذلك أرى أن طرح سؤال جيد خير من إعطاء جواب يعتقد صاحبه بأنه على حق. أنا لا أعرف بعد ما هو الحق، ولكنني في الوقت نفسه أعرف بأنني لا أعرف، على عكس الكثيرين. (س):
ولكن ماذا عن أولئك المعلمين الكبار الذين قالوا لنا إنهم عرفوا كل شيء، وحددوا لنا معالم طريق الخلاص؟ البوذا مثلا. (ج):
لا أدري ما إذا كان البوذا قد عرف أم أنه توهم ذلك، معلمون آخرون قالوا الشيء نفسه، ولكن معالم الطريق لديهم تختلف عن طريق البوذا، فمن نصدق ومن نتبع؟ (س):
المعلمون كثر، وأنا أعيد إليك سؤالك: من نصدق ومن نتبع؟ (ج):
ثق بنفسك. (س):
ماذا تعني؟ (ج):
أعني أن الفلسفة ليست حكرا على الفلاسفة، وأن بمقدور كل شخص صياغة فلسفته الخاصة دون أن يكون ملزما باتباع أحد. (س):
نعود إلى موضوع الدين والفلسفة. ألا ترى معي بأن ما يجمع بين هاتين المنظومتين هو أكثر مما يفرق بينهما؟ (ج):
الدين والفلسفة صنوان من جهة طرحهما للأسئلة ومحاولة الإجابة عليها؛ ففي صميم كل ديانة كبرى فلسفة؛ لأن الفلسفة في أبسط تعريف لها هي التفكير المنهجي في أمور الحياة والكون، ولكن ما يميز الدين هو احتواؤه على بنية فوقية تتكون من الأساطير والعقائد والطقوس والمؤسسات. يضاف إلى ذلك أن الهم الأساسي للفلسفة هو الحياة في هذا العالم، أما الهم الأساسي للدين فهو السبل المثلى لتحقيق حياة في العالم الآخر. (س):
ناپیژندل شوی مخ
هل من الممكن أن تكون رداءة الحياة في هذا العالم هي ما يدعو البشر إلى التفكير في العالم الآخر؟ فالمتدين عندما ينكر الحياة فإنه لا ينكر سوى الألم والشقاء وما إلى ذلك من عذابات الدنيا. وهذا ما يدعوني إلى التساؤل الآتي: ألا يمكن للفلسفة التي يتركز همها - كما قلت - على الحياة في هذا العالم، أن تحل مكان الدين في تقديم العزاء للبشر؟ (ج):
هذا ممكن، ولكن فقط عندما لا يلعب الدين دورا مهما في حياة أهل إحدى الثقافات، ولدينا مثال على ذلك وهو الصين؛ فالصينيون لم يكونوا عبر تاريخهم شعبا تشغل الأفكار والممارسات الدينية حيزا واسعا من حياتهم، والمكانة التي شغلتها الفلسفة لديهم تعادل مكانة الدين في الثقافات الأخرى، وهي التي زودت الحضارة الصينية بأسس حياتها الروحية، وهذا ما جعلها مختلفة عن الحضارات الكبرى التي لعبت المؤسسة الدينية والكهنوت دورا طاغيا في حياتها؛ فمنذ القدم كانت الفلسفة تدخل في صميم ثقافة الفرد الصيني المتعلم منذ سنوات التعليم المبكرة، عندما كان الأطفال في مدارسهم يقرءون وينسخون نصوصا فلسفية، ولا سيما من الكتب الكونفوشية الأساسية الأربعة. وكان على الصفحة الأولى من الكراس الذين يتعلمون منه مبادئ الكتابة جملة تعبر عن أحد المبادئ الكونفوشية وهي: «إن الطبيعة الأصلية للإنسان خيرة.» وكان من شأن هذه الجملة أن تضع الأطفال في بؤرة التفكير الفلسفي. (س):
نحن هنا أمام فلسفة أخلاقية، أليس كذلك؟ (ج):
دعني أقول بأنها فلسفة حياة تهتم بسبل الحياة القويمة، ولا تلقي بالا إلى المسائل الميتافيزيكية التي أثقلت على جارتها الهند حتى أغرقتها في بحار الوهم؛ فالمزاج الصيني يتصف بالعملية والبعد عن التأمل الصوفي، والفرد الصيني متفائل ومحب للحياة الأرضية التي يجد فيها الغاية المثلى للوجود في هذا العالم؛ ولذلك فإن الحياة الأخرى لم تعن له كثيرا، وكانت فلسفته فلسفة مجتمع وأخلاق وعلاقات إنسانية، لا فلسفة أخرويات من بعث وقيامة وحساب وجنة وجحيم. وهذا ما عناه كونفوشيوس عندما سأله أحد التلاميذ عن معنى الموت، فقال له: «إنك لم تفهم بعد معنى الحياة، فكيف لك أن تفهم معنى الموت؟» وكذلك الأمر عندما سأله عن ماهية الأرواح وكيف نستطيع خدمتها؟ فقال له: «إذا لم يستطع المرء خدمة الأحياء، فكيف له أن يخدم الأموات؟»
وبدوره كان للحكيم لاو-تسو مؤسس التاوية موقف مشابه من مسائل ما قبل الولادة وما بعد الموت، وهذا ما عبر عنه شارحه الرئيسي شوانغ تزو في قوله: «الناس في الأيام الخوالي لم يعرفوا حب الحياة ولا كراهية الموت، الولوج إلى الحياة لم يكن بهجة لهم، والخروج منها لم يكن يثير فيهم جزعا ولا مقاومة. بهدوء كانوا يأتون وبلا ضجيج كانوا يغادرون. لا ينسون ما كانت عليه بدايتهم، ولا يتساءلون عما ستئول إليه نهايتهم، لقد قبلوا الحياة واغتبطوا بها، ثم نسوا وآلوا إلى حالة ما قبل الحياة.» (س ):
أنت تصف الكونفوشية هنا بأنها فلسفة، ولكننا غالبا ما نقرأ أن الأديان التي تخللت حياة الصين بعد الديانة التقليدية القديمة هي: البوذية والكونفوشية والتاوية! (ج):
قد تبدو الكونفوشية التي تخللت لقرون عديدة حياة الصين لأول وهلة بأنها ديانة، ولكنها في واقع الأمر ليست كذلك؛ فهي ليست ديانة أكثر مما هي فلسفة أفلاطون أو فلسفة أرسطو. وعلى الرغم من أن الكتب الكونفوشية الأربعة كانت بالنسبة للصينيين مثلما هو الكتاب المقدس بالنسبة لأهل الغرب، إلا أن هذه الكتب لم تحتو على قصة الخلق والتكوين، كما أنها لم تتطرق إلى مسائل نهاية التاريخ وما يتصل بها من قيامة عامة للموتى وحساب وجنة وجحيم، كما هو الحال في أديان التوحيد، أو إلى عودة الأرواح للاتحاد بمصدرها وهو المطلق الكلي، كما هو الحال في الغنوصية المشرقية ومذهب وحدة الوجود في الهندوسية. أما الميتافيزيكيات التي جاءت بها الكونفوشية الجديدة منذ معلمها الأول مينشيوس، فلم تكن سوى ماورائيات أفلاطون التي أرجعت كل حركة في الكون والطبيعة إلى مبدأ كلي دعاه بالمحرك الساكن (The Immovable Mover) . ولكن هذا «المحرك» لا يشبه الله في شيء. (س):
الفلسفة الصينية إذن هي فلسفة فعل وممارسة، لا فلسفة تأمل مجرد؟ (ج):
هذا صحيح، إن أقصى ما يسعى إليه الكدح الروحي للفرد في الثقافات المشبعة بالدين هو تحقيق القداسة، أما في الثقافة الصينية، فإن ما يكدح الفرد لتحقيقه هو مرتبة الحكيم؛ ففي شخصية هذا الحكيم تتحد المعرفة بالفضيلة، لأنه يعيش وفق قناعاته الفلسفية التي ليست أفكارا معروضة للفهم، بقدر ما هي مبادئ للعيش الصحيح. (س):
وماذا عن التاوية؟ أهي فلسفة أم دين؟ (ج):
ناپیژندل شوی مخ
هناك تاوية فلسفية أسسها الحكيم لاو-تسو الذي عاش خلال النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد، وعاصر كونفوشيوس الأصغر منه سنا، وقد عاشت هذه التاوية بضعة قرون قبل أن تنشأ عنها التاوية الطقسية التي اتخذت سمات الديانة. وتشترك التاوية الفلسفية مع الكونفوشية في كونها فلسفة حياة، وذلك من خلال التأكيد على ضرورة أن يحيا الإنسان حياة طبيعية خلال الفترة المقدرة له في هذه الدنيا، دون خوف من الموت أو تعلق بالحياة؛ ذلك أن الفرص في البقاء وطول العمر تكون أفضل عندما لا تؤرقنا فكرة الموت ولا يتملكنا هاجس البقاء، وإنما نسبح مع تيار الطبيعة الذي دعاه لاو-تسو ب «التاو». وهذا التاو ليس شخصية إلهية، ولكنه القاع الثابت الذي ينشأ عنه كل متغير ومتحرك، وهو أقرب إلى مفهوم قوانين الطبيعة في العلم الحديث. ولاو-تسو هنا يتفق مع الفيلسوف الهولندي اليهودي اسبينوزا الذي جاء بعده بألفي سنة، وطابق بين الله والقوانين الطبيعية في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة. (س):
وماذا عن البوذية؟ (ج):
البوذية ديانة هندية قامت على تعاليم سيدهارتا غوتاما الملقب بالبوذا، والذي ظهر في زمن قريب نسبيا من ظهور كل من كونفوشيوس ولاو-تسو. فإذا أضفت إلى هؤلاء كلا من زرادشت الإيراني وسقراط اليوناني، لحصلنا على فترة خصيبة من فترات الإبداع الديني والفلسفي لا مثيل لها في تاريخ الحضارة.
لقد تأخر وصول البوذية إلى الصين لأنها بدت غريبة على الطبع والموروث الصيني؛ حيث لا يمكن التوفيق بين الرهبانية البوذية التي تنكر الحياة، وما يتميز به الصينيون من تفاؤل وحب للحياة وإخلاص للأسرة. إلا أن ظروفا قاسية حلت بالصينيين، ومنها تسلل القبائل البدوية التي كانت محجوزة خلف سور الصين إلى الداخل، جعلت الكثيرين يتحولون عن المذهب الكونفوشي التفاؤلي، بعد أن تملكهم ازدراء غير صيني للحياة، ولكن البوذية لم تكسف الكونفوشية ولا التاوية، وإنما فازت بمكان إلى جوارهما، وصارت المذاهب الثلاثة تكمل بعضها بعضا، بحيث يمكن للمرء أن يكون كونفوشيا ينشد الصلاح الداخلي وحياة الأسرة، وتاويا منسجما مع صيرورة الطبيعة، وبوذيا ينشد الأمان بعد الموت. (س):
نفهم من ذلك بأن التعصب الديني بعيد عن الطبع الصيني؟ (ج):
هذا صحيح؛ فقد كان بإمكان أي مذهب أن يتسلل إلى الصين دون مقاومة رسمية أو شعبية، بسبب التسامح الذي تتصف به الثقافة الصينية؛ فبعد البوذية جاء الإسلام الذي فاز بمكان له أيضا بين مذاهب الصين، ولم يقاوم انتشاره أحد. (س):
هل تصارعت هاتان المنظومتان المعرفيتان ، أعني الفلسفة والدين؟ ومتى؟ وماذا عن مآل الصراع؟ (ج):
التفكير الفلسفي المتجرد من الدين هو شأن حديث في تاريخ الحضارة، ولا يمكننا متابعته إلى ما قبل القرن الخامس قبل الميلاد بكثير في موطنيه الرئيسيين الصين واليونان، عندما كانت بقية الثقافات الكبرى لا تزال غارقة في الفكر الديني الأسطوري. أما عن الصراع بين المنظومتين فقد كانت اليونان مسرحه الرئيسي لا الصين؛ وذلك لأسباب شرحتها في إجاباتي السابقة. وقد عبرت الفلسفة اليونانية عن هذا الصراع بأنه مواجهة بين الميتوس
Mythos ؛ أي الأسطورة والفكر الأسطوري، وبين اللوغوس
Logos
ناپیژندل شوی مخ
وهو العقل والتفكير العقلاني. (س):
من المفترض أن الفلسفة في اليونان كانت الرابحة في هذه المواجهة؛ لأننا غالبا ما نقرأ أن اليونانيين هم الذين حققوا النقلة الحاسمة من الفكر الميثولوجي إلى الفكر الفلسفي العقلاني. (ج):
لقد نجحت الفلسفة في تحديد مهامها وصياغة مفاهيمها الخاصة انطلاقا من نقدها للأسطورة والتفكير الديني بشكل عام، ولكن ذلك لا يعني بأنها حققت نصرا مؤزرا على الأسطورة، وإنما حصلت على حيز لها في الثقافة اليونانية إلى جانب الحيز الذي شغلته الأسطورة؛ فبعد أن حققت الفلسفة ذروة انتصاراتها في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، قام الجانب الأكثر صوفية في الديانة اليونانية بالتعبير عن حضوره واستيلائه على قلوب اليونانيين من خلال عبادات الأسرار المحلية؛ مثل أسرار إيليوسيس التي تدور حول الإلهة ديمتر وابنتها بيرسفوني، وأسرار أورفيوس، وأسرار ديونسيوس. إضافة إلى عبادات أسرار تم استيرادها من الخارج؛ مثل أسرار ميترا الإيراني وسيبيل الفريجية وسيرابيس المصري. وقد انتقلت هذه العبادات بعد ذلك إلى الرومان. وفي هذه الأسرار هناك إله يعد الفرد بالخلاص بعد الموت وخلود الروح في عالم آخر، إذا هو اتحد به من خلال طقوس سرية خاصة لا يعرفها سوى من انتسب إلى عبادة الأسرار وعد في حلقة العباد. (س):
ولكننا غالبا ما نقرأ أن تاريخ الفكر الإنساني قد تتابع عبر أربع مراحل هي: السحر فالدين فالفلسفة فالعلم التجريبي. ونفهم من هذا أن كل مرحلة كسفت ما قبلها ! (ج):
هذا صحيح بشكل عام، وإن كنت لا أفرق بين السحر والدين لأسباب ربما تحدثنا عنها في وقتها، ولكن كل مرحلة من هذه المراحل لم تكن تكسف ما قبلها وإنما كانت تضاف إليها، ولا أدل على ذلك من استمرار الدين قويا وفاعلا في دولة العلم الحديثة. إن نظرة فاحصة على تاريخ الحضارة تظهر لنا أن الفلسفة اليونانية لم تصمد في مواجهة الدين غير قرون قليلة، ثم اندحرت أمام المسيحية التي سادت زمن الإمبراطورية الرومانية شرقا وغربا، وحلت محل عبادات الأسرار بعد أن استعارت أهم رموزها الدينية، وهو رمز الإله المخلص الذي يموت ثم يقهر الموت لكي يهب خلاص الروح لعباده. وعقب تبني الإمبراطور الروماني قسطنطين المسيحية كدين رسمي، أعلنت الكنيسة حربا شعواء على الفلسفة وطاردت أصحابها، وقتلت من بقي منهم أمينا للعقل الفلسفي. (س):
وماذا عن الإسلام هنا؟ هل عمل بدوره على قمع الفلسفة؟ (ج):
الثقافة الإسلامية لم تقمع الفلسفة والفلاسفة، بل سمحت للفكر الفلسفي بالتفتح، وقام علماء الكلام وهم اللاهوتيون المسلمون بتبني الطرائق الفلسفية في الدفاع عن العقائد الإسلامية وإثبات صحتها. وظهر فلاسفة مسلمون كبار ترجموا المؤلفات الفلسفية اليونانية وشرحوها، إضافة إلى إنتاجهم لنصوص فلسفية أصيلة. وقد ترجمت خلال عصر النهضة الأوروبية أعمال بعض هؤلاء إلى اللاتينية فساهمت إلى حد بعيد في نهضة الفلسفة الأوروبية الحديثة، ولكن على الرغم من كل ذلك فإن الفلسفة لم تشغل حيزا واسعا من الثقافة العربية مثلما فعلت في الثقافة اليونانية، ولم تستمل إليها شرائح واسعة من المفكرين الذين شغلتهم علوم الدين؛ مثل: علم الكلام، وعلم الحديث النبوي، وعلم تفسير القرآن، وعلم الشريعة. يضاف إلى ذلك أن الفلسفة العربية شغلت نفسها بمحاولة التوفيق بين الفلسفة والدين الإسلامي؛ أي إنها خضعت لمحددات وقيود لم تعرفها الفلسفة اليونانية. (س):
هذا الصراع بين الدين والفلسفة، هل تحول بعد ذلك إلى صراع بين الدين والعلم، ولا سيما وأن العلم هو الابن الشرعي للفلسفة. (ج):
حصل هذا في المسيحية ولم يحصل في الإسلام؛ فقد أنكرت المسيحية في بداية عهدها كروية الأرض، وعندما اعترفت بها وقفت إلى جانب النظام الفلكي لبطليموس اليوناني الذي أيده ودافع عنه أرسطو أيضا، والقائل بأن الأرض هي مركز الكون وكل شيء يتحرك حولها بما في ذلك الشمس. وقد حاربت الكنيسة كل من يقول عكس ذلك. وعندما قال الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونو بأن الأرض ليست سوى كوكب صغير في كون واسع ولا نهائي يحتوي على أكوان لا حصر لها، عقدت الكنيسة محكمة من رجال الدين لمحاكمته، فحكمت عليه بالموت حرقا في العام 1600م. وبعد ذلك بعدة عقود كاد الفيلسوف والعالم الفلكي الكبير غاليلو غاليلي أن يلقى المصير نفسه لولا أن اعترف بخطئه أمام المحكمة وقال إن الأرض لا تدور. وكان من نتيجة ذلك انتقال النهضة العلمية من إيطاليا إلى المناطق الشمالية. وعلى الرغم من الانتصارات الباهرة التي حققها العلم بعد ذلك، فقد بقيت الكنيسة تقبل ما تشاء من مقولاته وترفض ما تشاء من موقع الوصاية، وعندما نشر داروين كتابه في أصل الأنواع وطبق نظرية التطور على أصل الجنس الإنساني، اتهمته الكنيسة بالتجديف ومحاولة تهديم أسس الدين، على الرغم من أن ذلك كان أبعد ما يكون عن تفكيره. (س):
واليوم نحن في عصر المعلوماتية وانفجار المعرفة. هل ما زال الصراع بين الدين والعلم قائما؟ (ج):
ناپیژندل شوی مخ
اليوم حصلت مصالحة بين العلم والدين، واتفاقية غير معلنة أعطى الدين بموجبها للعلم كل مجالات الطبيعة التي يمكن إخضاعها للتجربة والبرهان، واحتفظ لنفسه بمجال الحياة الروحية حيث لا ينفع برهان ولا تجربة؛ فنحن في التعامل مع الظواهر الطبيعانية نستطيع أن نتخلى كليا عن أي مفهوم ديني ونلتزم بالبراهين المنطقية والتجريبية، أما عندما ننتقل من مجال الطبيعة إلى مجال النفس، فإن الدين يؤكد حضوره اليوم مثلما أكد حضوره في الماضي. اليوم، وبعد أن رضي كل فريق بحصته من القسمة، فإن الدين يبدأ مهامه من حيث تنتهي مهام العلم؛ لأن الدين يتطلع إلى ما وراء مظاهر العالم، ويبحث في المعنى والغايات. وهذا المعنى ليس شيئا كامنا في بنية المظاهر الطبيعانية، بل هو شأن متعلق بالوعي الإنساني يضاف إلى المظاهر من خارجها. الظواهر تحدث ونحن نعطيها ما نشاء من المعاني، والعالم فقط يحدث، أما معناه فكامن فينا نحن الجنس الحي الوحيد الذي يبحث عن المعنى. (س):
وهل نحن في طريقنا لاكتشاف المعنى؟ (ج):
في السفر، ربما كانت مشاهد الطريق أجمل من الوجهة التي نقصدها، فلماذا نستعجل الوصول؟ ربما كان البحث عن المعنى هو المعنى ذاته.
المحور الثاني
الدين والحضارة
(س):
هل رافق الدين الإنسان منذ نشأة الحضارة، أم أنه اتصل بها في سياقات لاحقة؟ (ج):
علينا أولا أن نبين ما هي الحضارة ثم نقدم تعريفا للدين، وبعد ذلك نكون جاهزين للجواب على هذا السؤال. (س):
أنت على حق؛ فهنالك ثلاثة مصطلحات تختلط في أذهاننا وهي الحضارة والثقافة والمدنية، كيف نميز بينها؟ (ج):
الاختلاط ناجم في اللغة العربية عن ترجمة مصطلح
ناپیژندل شوی مخ
Culture
أي ثقافة أو حضارة، ومصطلح
Civilization
أي مدنية؛ فالثقافة أو (الحضارة) هي النواتج والإبداعات الفكرية والمادية والجمالية لمجموعة بشرية ما. وبهذا المعنى فإن أي مجموعة بشرية لا تخلو من الثقافة مهما كانت مغرقة في البدائية. أما المدنية فهي ثقافة مجتمع المدينة، وهي ثقافة جديدة نسبيا في تاريخ الإنسان، وتبدأ مع تشكيل المدن الأولى في ثقافة الشرق القديم، وتحديدا بلاد الرافدين وسورية ومصر، ولكن هذا المصطلح لم يعد مستخدما في اللغة العربية، وحل محله مصطلح الحضارة، فصرنا نقول مثلا: «فجر الحضارة في الشرق القديم»، بمعنى البدايات الأولى لثقافة المجتمع المديني، ونقول: «ثقافة العصر الحجري القديم» أو «الثقافات البدائية في أمريكا الشمالية». وهكذا عدنا إلى مصطلحين لا إلى ثلاثة. (س):
هل مضى على الإنسان زمن كان فيه بلا ثقافة؟ (ج):
هذا يتوقف على تعريفنا للإنسان، وعن أي إنسان نتحدث؛ فوفق علم الأنثروبولوجيا البشرية الذي يبحث في أصول الإنسان، لدينا ثلاث مجموعات شبه بشرية ظهرت في أفريقيا تباعا منذ المليون الرابع قبل الميلاد، وكل مجموعة تظهر شبها أكبر ووزن دماغ أكبر من سابقتها، وهكذا وصولا إلى جنس النياندرتال الذي ظهر في أوروبا ويعتبر حلقة وصل بين أشباه الإنسان أو الأناسي
Hominid
وبين الإنسان العاقل (أي نحن) الذي ظهر قبل نحو خمسين ألف سنة. (س):
هل يمكننا إذن تحديد زمن ظهور الثقافة بظهور الإنسان العاقل قبل خمسين ألف سنة؟ (ج):
كلا طبعا؛ فالثقافة الإنسانية أقدم من ذلك بكثير، ولكي نستطيع التعرف على بداياتها الأولى علينا أن نتحرى عن السلوك الثقافي الأول لأشباه الإنسان، وما أعنيه بالسلوك الثقافي هو السلوك الذي لا ينجم عن الغرائز والدوافع الطبيعية. وقد تجلى ذلك السلوك للمرة الأولى في صناعة الأدوات الحجرية واستخدامها لشتى أغراض الحياة. ويبدو من المعلومات الميدانية المتوفرة لدينا (أو لدي على الأقل؛ فلربما كانت معلوماتي قديمة بعض الشيء)، أن الأناسي قد صنعوا الأدوات الأولى في أواسط المليون الثالث قبل الميلاد، وهذه أولى المؤشرات الدالة على بدايات الثقافة الإنسانية، وقيام الإنسان بالتحكم بمحيطه بدل الرضوخ له. (س):
ناپیژندل شوی مخ
ولكن هل نستطيع اختصار الثقافة إلى هذه التكنولوجيا البدائية، أعني الأدوات الحجرية؟ ماذا عن النواحي غير المادية للثقافة وعلى رأسها الفن والدين؟ (ج):
لم ينتج أشباه البشر من الأناسي فنا بصريا، وكذلك الحال بالنسبة للنياندرتال. لقد كان على الفن أن ينتظر ظهور الإنسان العاقل الذي أحدث نهضة جمالية غير مسبوقة وبشكل فجائي. وقد تجلت هذه النهضة في فن المنحوتات الصغيرة وفي رسوم الكهوف التي يقول نقاد الفن بأنها لم تكن أقل حرفية وقيمة فنية من روائع الفن الحديث. أما الدين فهنالك دلائل غير وافية على وجوده في عصر الإنسان المنتصب
Homo Erectus
الذي عاش قبل النياندرتال، وبدأت آثاره تظهر منذ منتصف المليون الثاني قبل الميلاد في أفريقيا، ثم انتشر في أوروبا وآسيا وصولا إلى الصين، حيث وجد هيكل عظمي لإنسان منتصب في منطقة بكين دعاه علماء الأنثروبولوجيا بإنسان بكين. والدلائل غير الوافية التي ذكرتها جاءتنا من موقع واحد فقط وجدت فيه آثار هذا الإنسي في إسبانيا، وتبين للباحثين من دراستها أنه كان يدفن موتاه بطريقة تعدهم للانتقال إلى عالم آخر. أما الشواهد الكثيرة على وجود حياة دينية فتأتينا منذ أكثر من مائة ألف سنة قبل الميلاد؛ أي من عصر النياندرتال، ولكن لكي نستطيع أن نطلق على هذه الشواهد بثقة صفة الدينية لا بد لنا من صياغة تعريف للدين ينطبق على جميع الأديان من أكثرها بساطة إلى أكثرها تعقيدا وتركيبا. (س):
هذه ليست بالمسألة السهلة، فما الذي يجمع ديانة جزيرة هاييتي القائمة على السحر إلى أديان التوحيد مثلا؟ (ج):
التعريف الذي أقترحه هو تعريف للحد الأدنى المشترك الذي لا بد من توافره في ظاهرة ثقافية ما لكي نطلق عليها صفة الديانة. وهذا الحد الأدنى تقوم كل ديانة بتطويره على طريقتها؛ وبناء على ذلك أقول: إن الدين هو إحساس وإيمان بأن الوجود يتألف من عالمين أو مجالين، الأول هو المجال الدنيوي أو عالم الظواهر المادية الذي نراه ونعيش فيه، والثاني هو المجال القدسي الخفي الذي يقع وراء عالم الظواهر المرئية. وهذان المجالان على استقلالهما من حيث الظاهر إلا أنهما متصلان من خلال قوة تصدر عن المجال القدسي لتفعل في جميع العناصر الحيوية والجامدة للمجال الدنيوي. والإنسان نفسه موزع بين هذين المجالين لأنه يتألف من عنصرين؛ الأول مادي وهو الجسد، والثاني غير مادي وهو الروح. وهذان العنصران ينفصلان عن بعضهما بالموت الذي يفني الجسد ولكنه لا يفني الروح، ثم إن إحساس الإنسان بحضور هذه القوة الغامضة قد دفعه إلى الدخول في علاقة معها من خلال الطقوس، وهي سلسلة مرتبة من الأفعال والإجراءات والصيغ الكلامية. (س):
حسنا، في جوابك على سؤالي حول متى اتصل الدين بالحضارة، عرفنا الحضارة والإنسان والدين، وخلصنا إلى أن الدين قد رافق الإنسان منذ عصر الهومو إريكتوس؛ أي قبل أن يتخذ الأناسي شكل النياندرتال ثم الإنسان العاقل، وهذا يعني أن جنسنا لم يمض عليه زمن كان فيه بلا دين، فهل يمكننا القول بأن الدين شيء متأصل في الطبع الإنساني؟ (ج):
هذا صحيح، وقد وصفته في كتابي «دين الإنسان» بأنه أقرب ما يكون إلى الدوافع والغرائز المتأصلة في السلوك الإنساني. وبعد أكثر من عشر سنوات مرت على صدور كتابي، نشرت مجلة «تايم» الأمريكية دراسة لأحد علماء الوراثة الإنسانية تحت عنوان «جينة الله
God’s Genes »، تقول باكتشاف إحدى الجينات في الخلية مسئولة عن الإحساس الديني عند البشر. وقد ردت هذه الدراسة على من اتهمني بالتطرف في وصفي للإحساس الديني بأنه أقرب ما يكون إلى الدوافع الطبيعية. (س):
تعبير «جينة الله» يقودني إلى سؤال يتعلق بتعريفك للدين وهو: أين مكان الله في هذا التعريف. وبتعبير أعم: أين الآلهة؟ أليس الإيمان بوجود الآلهة والتعبد لها هو الدلالة الأبرز على الظاهرة الدينية؟ (ج):
ناپیژندل شوی مخ
إن فكرة الله هي مفهوم جديد في تاريخ الدين، ولا يمكننا متابعته إلى ما قبل القرن السادس قبل الميلاد، مع ظهور النبي زرادشت الذي كان أول من قال بأنه تلقى وحيا من الإله الكوني الواحد بواسطة ملاك. وقبل ذلك كان الناس يتعبدون إلى شخصيات إلهية تسكن المجال القدسي وتدير شئون الكون والطبيعة والمجتمعات الإنسانية من خلال امتلاكها لقوى خارقة لا يملكها البشر. ولكن مفهوم الشخصيات الإلهية بدوره لم يكن قديما قدم الثقافة الإنسانية؛ ففي المرحلة الأبكر من تاريخ الدين لم يعتقد الإنسان بوجود آلهة، وإنما بوجود قوة غامضة مقدسة تسري في مظاهر العالم المادي وتبث فيه الحركة والحياة. ويختلف مفهوم «القوة» عن مفهوم «الإله» في أن القوة لا تمتلك شخصية مثل الإله، بل هي أقرب إلى مفهوم الطاقة في العلم الحديث. (س):
وهل كان لدى إنسان العصور الحجرية مقدرة عالية على التجريد لكي يتصور وجود مثل هذه القوة؟ (ج):
لم يكن الإنسان بحاجة إلى التجريد قدر حاجته إلى الملاحظة الموضوعية لما يجري من حوله؛ فالرياح تهب ولا ندري من أين تأتي ولا إلى أين تمضي، والغيوم تنعقد ثم تمطر، والأعاصير تداهم وتخرب، والبراكين تثور والأرض تهزها الزلازل، والأجرام السماوية تتحرك في مساراتها. ولما كان أمام الإنسان في ذلك الوقت آلاف مؤلفة من السنين قبل أن يكتشف القوانين الطبيعية، فقد رأى وراء ذلك كله قوة فائقة غامضة، أو لنقل «حالة فعالية» نلمس آثارها دون أن ندرك ماهيتها. (س):
ولماذا لم ير وراء ذلك كله شخصيات إلهية؟ (ج):
لأن تصور وجود قوة أو حالة فعالية ، منبثة في المظاهر المرئية أقرب إلى المنطق البسيط من تصور شخصيات إلهية تفعل في هذه المظاهر عن بعد. وفي الحقيقة، فإن العلم الحديث الذي كف يد الآلهة عن التصرف في الطبيعة ووضعها في تصرف القوانين الطبيعية، قد عاد بطريقة ما إلى مفهوم القوة السارية التي نلمس آثارها في عمليات الطبيعة دون أن ندرك ماهيتها.
وهنا تحضرني قصة الفلكي والرياضي الفرنسي لابلاس مع الإمبراطور نابليون، عندما مثل أمامه وشرح له نظريته في أصل النظام الشمسي، فقال له نابليون بعد أن استمع إليه: ولكن أين الله في نظريتك؟ فأجابه: يا سيدي، هذه فرضية لا لزوم لها في نظامي. (س):
هل نقول إذن إنك تستبدل قوانين الطبيعة بالله؟ (ج):
أنا لا أقول شيئا، وإنما أعرض نظريات وآراء بعض العلماء. إن نظرية الانفجار البدئي العظيم التي تفسر ولادة الكون، وهي نظرية متفق عليها الآن، تخبرنا بأن القوانين الطبيعية كانت موجودة قبل حصول ذلك الانفجار الذي نشأت عنه المجرات وراحت تتباعد بسرعات خيالية عن مركز الانفجار. وهذا يعني أن تلك القوانين لا زمانية، بمعنى أنها خارج مفهوم الزمن المعروف، والذي ابتدأ في اللحظة صفر لحظة الانفجار. كما أنها لا متغيرة على ما أثبتته التجارب المخبرية على عمليات التخليق النووي البدئي؛ حيث لاحظ العلماء أن القوانين الفاعلة في هذه التجارب هي ذات القوانين التي كانت فاعلة لحظة الانفجار. هذه الصفة اللازمانية واللامتغيرة للقوانين تجعلها مرشحة لأمومة الكون.
وهنا يمكن للنظرية الدينية القول بأن هذه القوانين ليست سوى أداة الله في الخلق ووسيلته للتحكم في العالم المخلوق، وهي كلمته الخالقة على ما ورد في مطلع إنجيل يوحنا: «في البدء كان الكلمة. والكلمة كان عند الله، به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان.» و«الكلمة» في هذا النص هي ترجمة لأصلها اليوناني «لوغوس» التي تعني «العقل» وكذلك الكلمة المنطوقة باعتبارها أبرز مظاهر العقل. وفي الحقيقة فإن إنجيل يوحنا لا يتفرد في النظر إلى الكلمة/العقل باعتبارها وسيط الخلق، فقد قالت بذلك الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، التي ترى بأن العالم المادي فاض عن الله على ثلاث مراتب مثلما يفيض النور عن الشمس أو الماء عن النبع، وكانت أولى المراتب في الصدور عن الواحد هي مرتبة العقل الذي يرى الواحد من خلاله ذاته، وعن العقل فاضت المرتبة الثانية وهي النفس التي صدر عنها العالم المادي. كما نجد فكرة صدور المادة عن الله بتوسط العقل في الفلسفة الإسلامية منذ إخوان الصفا، كما نجدها في فكر الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي. (س):
أنت هنا تعبر بامتياز عن موقف الفينومينولوجي الذي يحجم عن إبداء رأيه! (ج):
ناپیژندل شوی مخ