الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
1 - الدين والفلسفة
2 - الدين والحضارة
3 - الدين والأسطورة
4 - الديانات التوحيدية
5 - التناص بين الكتب المقدسة
6 - التناص بين الكتب المقدسة
7 - التناص بين الكتب المقدسة
8 - إله الغنوصية
9 - صيغ أخرى لمفهوم الله
10 - غروب الآلهة
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
1 - الدين والفلسفة
2 - الدين والحضارة
3 - الدين والأسطورة
4 - الديانات التوحيدية
5 - التناص بين الكتب المقدسة
6 - التناص بين الكتب المقدسة
7 - التناص بين الكتب المقدسة
8 - إله الغنوصية
9 - صيغ أخرى لمفهوم الله
10 - غروب الآلهة
الله والكون والإنسان
الله والكون والإنسان
نظرات في تاريخ الافكار الدينية
تأليف
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970م بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني، وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي، فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنجليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن الكتابة.
وفي عام 1971م قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة.
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في 20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعت أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومة مؤلفاتي الاثنين والعشرين ومخطوط كتاب لم يطبع بعد، لنبحث في إجراءات إصدارها في طبعة جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنت وأنا أتأملها كمن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عاما تفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتاب الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تكامل تدريجيا دون خطة مسبقة في ثلاث وعشرين مغامرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببت أن أشرك به قرائي. وفي كل مغامرة كنت كمن يرتاد أرضا بكرا غير مطروقة ويكتشف مجاهلها، وتقودني نهاية كل مغامرة إلى بداية أخرى على طريقة سندباد الليالي العربية. ها هو طرف كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمله، إنه في غلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام 1988، التي عاد ناشرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام 1976، الذي صممه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتت حتى بدت وكأنها بلون واحد لعدم عناية الناشر بتجديد بلاكاتها المتآكلة من تعدد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يخطر لي أن هذا الكتاب قد رسم مسار حياتي ووضعني على سكة ذات اتجاه واحد؛ فقد ولد نتيجة ولع شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكباب على دراسة ما أنتجته هذه الثقافة من معتقدات وأساطير وآداب، في زمن لم تكن فيه هذه الأمور موضع اهتمام عام، ولكني لم أكن أخطط لأن أغدو متخصصا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاو عاكف بجد على هوايته. إلا أن النجاح المدوي للكتاب - الذي نفدت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تتابعت طبعاته في بيروت - أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يتوقعون مني عملا آخر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يلقاه الكتاب الأول للمؤلف يضعه في ورطة ويفرض عليه التزامات لا فكاك منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاح أكبر، أو يسقط ويئول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسه في الكتاب الثاني. وقد كنت واعيا لهذه الورطة، ومدركا لأبعادها، فلم أتعجل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعت مسيرتي المعرفية التي صارت وقفا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعاما بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يتكامل في ذهني وأعد له كل عدة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبته في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام 1986؛ أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحا مدويا آخر فاق النجاح الأول، فقد نفدت طبعته الأولى، 2000 نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
كان العمل الدءوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصص، فتفرغت للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئا آخر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجت خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام 2012 للعمل محاضرا فيها، وعهدت إلي بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزت كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضل أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقة الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مرشحة دوما لاستقبال أعضاء جدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
وعلى الرغم من أنني كنت أخاطب العقل العربي، فإني فعلت ذلك بأدوات البحث الغربي ومناهجه، ولم أكن حريصا على إضافة الجديد إلى مساحة البحث في الثقافة العربية، قدر حرصي على الإضافة إلى مساحة البحث على المستوى العالمي، وهذا ما ساعدني على اختراق حلقة البحث الأكاديمي الغربي المغلقة، فدعاني الباحث الأميركي الكبير «توماس تومبسون» المتخصص في تاريخ فلسطين القديم والدراسات التوراتية إلى المشاركة في كتاب من تحريره صدر عام 2003 عن دار
T & T Clark
في بريطانيا تحت عنوان:
Jerusalem in History and Tradition
ونشرت فيه فصلا بعنوان:
Jerusalem During the Age of Judah Kingdom
كنت قد تعرفت على «تومبسون» في ندوة دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عام 2001، شاركت فيها إلى جانب عدد من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت بعد ذلك من خلال المراسلات، إلى أن جمعتنا مرة ثانية ندوة دولية أخرى انعقدت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، وكانت لنا حوارات طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائل عديدة أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «كيث وايتلام» قد دعا كلينا إلى المشاركة في كتاب من تحريره بعنوان:
The Politics of Israel’s Past
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستينا اللتين ستنشران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام 2013 عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسة لي عن نشوء الديانة اليهودية بعنوان:
The Faithful Remnent and the Invention of Religious Identity
خصصت آخرها لمناقشة أفكار «تومبسون»، ول «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
What We Do And Do Not Know About Pre-Hellenistic Al-Quds
والثانية خصصها للرد علي بعنوان:
The Literary Trope of Return - A Reply to Firas Sawah
أي: العودة من السبي كمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يولد ويعيش مدة ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يتحول إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القراء في عمر مؤلفاتي حتى الآن، ولم يختف أحدها من رفوف باعة الكتب، أما تحول بعضها إلى كلاسيكيات فأمر في حكم الغيب.
فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
فاتحة
يحتوي هذا الكتاب في مقدماته على إجاباتي عن أسئلة طالما وجهت إلي في مقابلات صحفية وإذاعية وتلفزيونية ؛ مثل: لماذا اخترت الكتابة في موضوع الميثولوجيا والدين؟ أو: لماذا لا نجد لك رأيا حاسما في المسألة الدينية؟ أو: هل تدعم كتاباتك الموقف المعادي للدين؟ وبعد ذلك انتقلت للإجابة عن تساؤلات طالما لمستها عند الآخرين بخصوص المسألة الدينية، وبعد كل إجابة كنت أتخذ موقف القارئ وأخرج بتساؤلات محتملة قد تبنى على تلك الإجابة. وهكذا تسلسل العمل عن طريق السين والجيم، إلى أن أنجزت ما كنت أصبو إليه، وهو صياغة رؤية موجزة لتاريخ الأفكار الدينية في تفاعلها وعلائقها بعضها مع بعض عبر مسيرة الثقافة الإنسانية. هذا التاريخ يصب في تيار ما يدعى بتاريخ الأفكار العام، وهو منظومة معرفية جديدة تتوحد فيها الأفكار الحكموية والأفكار الفلسفية والأفكار الدينية؛ فعلى الرغم من أن الدين يتميز عن الحكمة والفلسفة بنظامه الطقسي الذي يهدف إلى إقامة الصلة بين المقدس والدنيوي، إلا أنه في جانبه الاعتقادي لا يختلف عن الفلسفة من حيث تقديمه للأجوبة عن الأسئلة الكبرى للإنسانية، وكلتا المنظومتين عبارة عن تفكير منظم في شئون الحياة والكون؛ ولذلك فإننا في دراستنا للأفكار الدينية عبر التاريخ إنما نقوم بدراسة الجانب الأهم من تاريخ الأفكار العام، وذلك لما للأفكار الدينية من تأثير على البشر لا يعادله تأثير الأفكار الفلسفية.
أما لماذا اخترت أسلوب السؤال وفضلته على السرد المتصل؟ فلذلك قصة؛ فقد تعرفت خلال إقامتي الحالية في بكين على الشاب غزوان بريك، وهو سوري يعمل محررا في وكالة أنباء الصين الجديدة. وكانت لنا لقاءات كلما توافر الوقت لكلينا، وفي كل لقاء كان يطرح علي سؤالا يتعلق بمؤلفاتي التي قرأها فأجيبه، ويتلو ذلك نقاش حول إجابتي ينتج عنه سؤال آخر. وقد لفتت نظري هذه الحوارات إلى ما يمكن لصيغة السؤال والجواب أن تفعله لجهة توضيح ما يطرحه المؤلف من أفكار في سياق عمله، وإلى أن الفكرة التي يقدمها المؤلف ثم يتجاوزها ربما لم تكن مفهومة من قبل القارئ، أو تحتاج إلى مزيد من الشرح أو التطوير. وهكذا ولدت في ذهني فكرة هذا الكتاب، وعرضتها على السيد غزوان فأيدني بقوة ، وكانت أراؤه كقارئ عونا لي على رسم المخطط العام للكتاب وتحديد محاوره. ولقد كانت متعتي في العمل حافزا لي على المثابرة، فأنجزته خلال أشهر شتاء 2014-2015م.
فراس السواح
بكين، حزيران (يونيو)، 2015م
المحور الأول
الدين والفلسفة
(س):
هنالك سؤال يطرح نفسه على من رافق مسيرة فراس السواح الفكرية خلال الأربعين سنة الماضية، وهو: لماذا اخترت موضوع الدين وتاريخ الأديان من بين جميع المنظومات المعرفية في الثقافة الإنسانية، وعكفت على دراسته والبحث في تفاصيله وجذوره العميقة منذ صدور كتابك الأول في العام 1976م؟ (ج):
أنا أومن بأن الكاتب لا يختار موضوعه، بل على العكس؛ فالموضوع هو من يختار كاتبه. وما أعنيه هنا هو أن الموضوع الذي يجد الكاتب نفسه مدفوعا للبحث فيه، لا ينبثق في عقله الواعي فجأة ومن دون أسباب ومقدمات، وإنما يكمن في لاشعوره لفترة طويلة، قبل أن يقتحم ساحة الشعور، ليجد الكاتب نفسه مدفوعا ودونما إرادة منه لإيلائه عنايته وتفكيره المنظم، ولا أدل على ذلك من أنني طالما اشتريت كتبا لم أكن مهتما حينها بموضوعاتها، ووضعتها في مكتبتي دون أن أقرأها، إلى أن انبثق موضوعها الهاجع في اللاشعور، فاستخرجتها بلهفة من عثر على كنز ثمين. (س):
ولكن لا بد من وجود أسباب شعورية أو لا شعورية خلقت في النفس موضوعا «هاجعا» كما سميته، ثم ساعدت فيما بعد على اقتحامه ساحة الشعور، والإلحاح على عقل صاحبه، فهل وعيت تلك الأسباب؟ وهل لنا في نبذة عنها؟ (ج):
أعتقد بأن البداية انطلقت عندي من التساؤل؛ فالإنسان يولد ومعه دافع طبيعي إلى التساؤل، وما إن يتفتح وعي الطفل حتى يأخذ بطرح الأسئلة حول أصل العالم، ووجود الله، والروح والحياة الثانية، والغاية من الوجود وحياة الإنسان، وما إلى ذلك. وفي الواقع فإن أسئلة الطفولة على بساطة طرحها، هي التي شغلت البشرية عبر تاريخها، وتصدت للإجابة عنها كل أشكال الحكمة والفلسفة والدين، وكذلك العلم في العصر الحديث. ولكن الدافع إلى التساؤل يخفت تدريجيا لدى معظم الأفراد، وذلك بمرور الوقت وضغط الشروط المادية للحياة اليومية، فيلجئون عندها إلى دين آبائهم ليجدوا فيه عقيدة ناجزة وأجوبة جاهزة، تعفيهم من حيرة السؤال وتضعهم في طمأنينة الأيديولوجيا، ولكن هناك قلة من الناس تبقى أمينة للسؤال ولأرق الحيرة الذي يهبنا الإحساس بالحرية وبحرارة الحياة، ويبدو أنني كنت من هذه القلة التي لم تقنع بالجاهز والموروث، وأعطت لنفسها حرية البحث والتفكير. (س):
ولكن لماذا اخترت البحث عن الأجوبة في ثنايا أديان الإنسان لا في غيرها؟ الفلسفة مثلا. (ج):
لقد كانت الفلسفة أول ما فتنني من المنظومات المعرفية، فانكببت على دراستها منذ أن كنت في مرحلة الدراسة الثانوية، وقرأت ما وصلت إليه يداي من الكتب التي تبحث في تاريخ الفلسفة الأوروبية من سقراط إلى هيجل، ثم سارتر وصحبه من الوجوديين الذين افتتنت بهم زمنا لا بأس به. أما الفلسفة العربية فلم ترق لي لأن همها الرئيسي كان يتمثل في التوفيق بين الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي؛ أي إن العقل الفلسفي العربي كان مقيدا ومشترطا بالدين، في الوقت الذي ينبغي فيه على الفلسفة أن تنطلق من الشك وعدم اليقين، لا من اليقين الذي يقوم عليه الدين، ولا بأس بعد ذلك إذا أعادت إلي اليقين. (س):
ولكنك تركت الفلسفة بعد ذلك وتوجهت إلى دراسة الدين. لماذا؟ (ج):
عندما بدأت بدراسة الفلسفة كنت أعتقد بأنني سأتوصل في النهاية إلى رؤية لوحة فسيفسائية جميلة تتخذ فيها كل فلسلفة مكانها المحدد الذي يساعد على إبراز المشهد العام، ولكن ما وجدته بعد أن سرت شوطا في دروب الفلسفة المتعرجة، هو أن كل فلسفة كانت تنقض ما قبلها لتبني من جديد؛ ومن ثم تأتي بعدها أخرى لتنقضها وتبني على أنقاضها. وما تحصل لدينا بعد مرور 2500 سنة على نضوج الفلسفة لم يكن لوحة فسيفسائية متكاملة، وإنما ركاما من الفلسفات التي ترسم مشهدا لمتاهة لا سبيل إلى الخروج منها. يضاف إلى ذلك أن الفلسفة لم تستطع تقديم عزاء لعامة الناس، وخارج الصين حيث لعبت الكونفوشية دور الدين، لم أعثر على فلسفة اكتسبت إليها حشدا من البشر الذين آمنوا بها وعاشوا وفقا لتعاليمها، وإنما بقيت لعبة ذهنية تمارسها النخبة. ولا أستثني من ذلك الماركسية؛ لأن الشرائح الاجتماعية التي قامت بالثورات الشيوعية لم تفعل ذلك لأنها فهمت الماركسية، ولكن لأنها كانت محرومة وجائعة. (س):
ولكن هل نجحت الأديان برأيك في تحقيق ما عجزت عنه الفلسفة؟ (ج):
الفلسفة هي حكمة شخص بعينه، أما الدين فهو حكمة شعب. وبينما تبقى الفلسفة محصورة في الأكاديميات، ينجح الدين في التمكن من قلوب وعقول شعب بأكمله؛ ولذلك أقول بأننا إذا ما أردنا البحث عن حكمة البشرية، فإننا سنجدها في تاريخ أديانها لا في تاريخ فلسفاتها. (س):
أنت تقول بأن الفلسفة هي حكمة شخص بعينه، ولكن أليس الدين حكمة شخص بعينه أيضا، وهو مؤسس ذلك الدين، نبيا كان أم شخصية روحية متميزة؟ (ج):
إن ظاهرة مؤسسي الديانات في تاريخ الدين هي ظاهرة حديثة نسبيا، ولا يمكننا متابعتها إلى ما وراء أواسط الألف الأول قبل الميلاد، عندما ظهر زرادشت نبي الديانة الزرادشتية، وبوذا مؤسس الديانة البوذية. وقبل زرادشت كانت الديانة الإيرانية التقليدية تضرب في عمق التاريخ دون أن يلمح لها بداية محددة أو شخصية متفوقة عملت على تأسيسها. وكذلك الأمر في الهندوسية التي كانت ديانة البوذا قبل أن يتنور وينشق عن دين آبائه، ومثلها ديانات مصر وبقية حضارات الشرق القديم التي تضيع بداياتها في ضباب التاريخ. هذا الطابع اللاتاريخي للدين هو الذي يجعل منه حكمة شعب لا حكمة فرد؛ لأنه ليس نتاجا لعقل واحد، وإنما نتاج تعاون عقول أجيال متتابعة عملت على صياغته وتطويره في حركة دائبة لا تهدأ. (س):
هذه الأديان التي ابتدرها مؤسسون تاريخيون، ألا تحمل طابع التجربة الروحية لشخص بعينه عمل على نشرها وتعميمها؟ فكيف يمكن أن نصفها بأنها حكمة شعب؟ (ج):
لا أستثني هذه الأديان من صفة حكمة الشعب؛ فنحن نستطيع أن نشبه فكر مؤسس الديانة ببذرة زرعت في أرض خصبة، ونشبه ديانته التي نمت بعد وفاته بالشجرة التي نشأت عنها تلك البذرة؛ فالزرادشتية في حياة مؤسسها وخلال فترة لا بأس بها بعد وفاته، كانت تقوم على أساس مجموعة من الأناشيد الدينية التي وضعها النبي ولخص فيها عقيدته، ثم قام الكهنة بعد ذلك بصياغة شروح على هذه الأناشيد تعبر عن كيفية فهمهم لها، أو حتى عن رغبة في الإضافة إليها والتعبير عن رؤى خاصة بهم، فظهرت مجموعة الأفيستا والأفيستا الصغرى التي صارت مرجعا آخر للدين. وبعد ذلك جاءت أجيال أخرى من المفكرين الذين رأوا وجوب تقديم شروحات على الأفيستا، فظهرت مجموعة الزند أفيستا. وعندما انتشر الإسلام في إيران بعد أكثر من ألف عام على وفاة المؤسس، لم تكن الزرادشتية تشبه كثيرا ديانة مؤسسها. والشيء نفسه يمكن قوله عن البوذية التي أخذت تتبدل وتبتعد عن تعاليم المؤسس في الهند خلال القرون الثلاثة التي أعقبت وفاته، وعندما وصلت إلى الشرق الأقصى لم تعد تشبه في شيء بوذية البوذا. (س):
وماذا عن الأديان التي نصفها بالتوحيدية، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام؟ هل خضعت أيضا للتطور على الرغم من أن عقائدها ترسخت في كتب مقدسة تم تدوينها خلال حياة مؤسسيها أو بعد فترة قصيرة من وفاتهم؟ (ج):
أولا، أريد أن أحذف اليهودية من قائمة الأديان التوحيدية لأسباب ربما نتطرق إليها لاحقا. وثانيا، إن قائمة الأديان التوحيدية لا تقتصر على الأديان الثلاثة التي ذكرت، بل يمكن أن نضيف إليها الزرادشتية والمانوية، وديانتين من بقايا ديانات الشرق القديم هما: المندائية والإيزيدية، واللتان لم يبق من أتباعهما سوى قلة قليلة تتوزع اليوم في العراق وسورية. ولقد خضعت الأديان التوحيدية للتطور والتبدل مثل غيرها من الأديان، على الرغم من تثبيت عقائدها في كتب مقدسة حفظت نصوصها من التغيير والتبديل؛ فمسيحية الأناجيل وبقية أسفار العهد الجديد لا تشبه مسيحية بولس الرسول الذي يحمل لقب مؤسس المسيحية، ومسيحية بولس لا تشبه كثيرا مسيحية قانون الإيمان الذي صاغه مجمع نيقية الذي انعقد في العام 325م، وبعد مجمع نيقية تابعت المسيحية تطورها، وترسخ مفهوم الثالوث الذي لم يقل به أصحاب الأناجيل ولا بولس الرسول ولا حتى مجمع نيقية، كما ترسخت عبادة السيدة مريم التي أعطاها أحد المجامع المتأخرة لقب «أم الله».
وفي الإسلام حصل التطور على ثلاثة محاور وهي: (1) الحديث؛ أي ما وصل المسلمين من أقوال الرسول أو أفعاله. (2) علم التفسير؛ أي تفسير ألفاظ ومعاني القرآن الكريم. (3) علم الكلام، وهو علم العقائد الإسلامية الذي يقابل اللاهوت في الديانة المسيحية. ومن خلال هذه العلوم أحدث العقل الإسلامي ما يشاء على الإسلام من تطوير وتغيير، وتعددت الطوائف الإسلامية، وكل طائفة تدعي بأنها الصيغة الحقيقية للإسلام في مقابل بقية الطوائف، وكلها تدعي أيضا بأنها تستند إلى القرآن وإلى الحديث الشريف. (س):
إذن أين ذهبت سلطة النص المقدس؟ (ج):
إن سلطة النص الديني المقدس في رأيي خرافة؛ فالسلطة الحقيقة هي للعقل الإنساني وكيفية فهمه للنص، النص المقدس بطبيعته نص إشكالي لأسباب لا أستطيع التوسع بها هنا، وهذه الإشكالية هي التي تستدعي تدخل عقل المفسر من أجل البحث عن المعاني الكامنة خلف مواضع الإشكال وهي كثيرة. (س):
لماذا تعتبر النص المقدس نصا إشكاليا؟ (ج):
يمكنك أن تتوجه بهذا السؤال إلى مفسري القرآن الكريم مثلا. لولا احتواء النص القرآني على الكثير من مواضع الإشكال في اللفظ والنحو والمعاني، هل كان من الضروري ظهور أكثر من 20 تفسيرا له في الماضي، أو ظهور تفاسير حديثة مثل تفسير سيد قطب، وتفسير الشعراوي وغيرهما؟ لست أنا القائل بأن النص المقدس نص إشكالي. (س):
نعود إلى قولك بأن التساؤل الطفولي المستمر قد قادك إلى دراسة الفلسفة أولا، قبل أن تفضل عليها دراسة الأديان، فهل من سبب شخصي إلى جانب ما ذكرت أثر على خياراتك؟ (ج):
نعم؛ فلقد مررت بفترة قلق ديني في فترة المراهقة ناجم عن إحساسي بوجود بعد ماورائي كامن خلف كل ما يتبدى لنا من مظاهر الوجود، لا يمكن اختصاره إلى مجموعة من الشخصيات الإلهية، ولا حتى إلى إله واحد يتحكم بالعالم من موقع مفارق، وهذا البعد الماورائي لا يمكن وصفه باللغة المعتادة بقدر ما يمكننا الإحساس به في أعماق النفس. وعلى حد قول الحكيم الصيني لاو-تسو:
في قلة الكلام تناغم مع الطبيعة.
الطبيعة لا تعبر عن نفسها بالكلمات. (س):
إذن فالله لا يعبر عن نفسه بالكلمات؟ هل هذا ما تقصد أن تقوله؟ (ج):
نعم. (س):
وماذا تقول عن الوحي الذي تلقاه الأنبياء من عند الله؟ (ج):
بوابات الاتصال بين المقدس والدنيوي أو بين الإلهي والإنساني ليست موصدة، وأقصى حالة لهذا التواصل هي حالة النبي الذي يكون في أشد حالات إحساسه بحضور الإلهي في قلبه، راغبا في تلمس ومعرفة المشيئة الإلهية، فتنبثق في أعماق نفسه معان يعبر عنها هو بكلمات، فالوحي والحالة هذه استنارة تحصل في جنبات النبي وهو في أقصى حالات البحث عن الحقيقة. (س):
ولكن الوحي في أديان التوحيد هو كلام يسمعه النبي على لسان ملاك! (ج):
لا شك في أن مفهوم الوحي متلازم مع مفهوم التوحيد؛ فلقد تلقى زرادشت وحيا من السماء عن طريق ملاك، وكذلك ماني، وكذلك محمد نبي الإسلام، ولكن ملاك الوحي ليس في واقع الأمر إلا رمزا لحالة التواصل بين الإلهي والإنساني، يمكن للجميع فهمه. وما أقوله هنا ليس جديدا على الفكر الإسلامي؛ فلقد ناقش علماء الكلام المسلمون مسألة ما إذا كان النبي قد تلقى الوحي بكلمات أو بمعان؛ فلقد قال بعضهم بأنه تلقاه بمعان لا بكلمات، وعلى رأس هؤلاء أبو المعالي الجويني الملقب بإمام الحرمين، وهو واحد من أبرز علماء الدين السنة في القرن الخامس الهجري. (س):
إذن كان لديك من الأسباب الشخصية ما يكفي لدفعك إلى دراسة الدين، وهذه الأسباب كما شرحتها تجعلك متعاطفا مع الظاهرة الدينية. ألا ترى أن من الممكن لهذا التعاطف مع موضوع البحث أن يفقد الباحث شيئا من موضوعيته؟ (ج):
على الرغم من أني أستخدم مصطلح تاريخ الأديان لوصف طبيعة موضوعي، إلا أن الوصف الأدق له هو فينومينولوجيا الدين. وفينومينولوجيا الدين تقع في الوسط بين فلسفة الدين وتاريخ الأديان؛ ففلسفة الدين هي تعبير عن فكر صاحبها وتوجهاته ومواقفه، وهي معنية بالتأمل لا بدراسة الوقائع. وبما أنني لست راغبا في تقديم وجهة نظر شخصية في مسألة الدين، وإنما أهدف إلى وصفه وتحديده موضوعيا ، فقد ابتعدت عن فلسفة الدين وعن إقحام أي رأي شخصي مسبق. أما تاريخ الأديان فيعتمد منهجا يقوم على تحليل الأديان في سياقها التاريخي؛ أي إنه يلجأ إلى الكشف عما حدث فعلا، دون العناية بفهم ما حدث أو تقديم تركيب منظم يجمع الظواهر الدينية التي يدرسها إلى ظاهرة واحدة.
أما المنهج الفينومينولوجي (الظاهراتي) في دراسة الدين فهو تطبيق لطرائق الفينومينولوجيا الفلسفية التي وضع أسسها إدموند هوسرل على دراسة تاريخ الدين. وما يميز فينومينولوجيا الدين بشكل خاص هو نظرتها العمومية الشمولية، وذلك من خلال تقصيها لكل ما هو مشترك وعام بين الأديان. وهي إذ تصف وتنمذج موضوعاتها، فإنها تعمل على استقصاء البنية الجوهرية والمعنى في الظاهرة الدينية. وعلى الرغم من أن الظاهراتي يتحاشى فرض أحكامه وقيمه على موضوع بحثه، إلا أنه ينطلق في الوقت نفسه من موقف متعاطف مع هذا الموضوع، لا سيما مع الجانب الإنساني فيه؛ فهو في وصفه للكيفية التي يعي بها المؤمن إيمانه ويفهمه، يحترم القيمة المطلقة التي يعزوها هذا المؤمن لعقيدته؛ فالفينومينولوجي عندما يتحدث مثلا عن الميلاد العذري في المسيحية، لا يعنى إلا بوجود مثل هذه الفكرة دون التطرق إلى صحتها أو خطئها. وهنا دعني أقول لك بأن أي فكرة تكتسب الطابع الموضوعي عندما تترسخ بإجماع الناس عليها وتغدو فاعلة ومؤثرة، مثل أي فكرة قائمة على التجربة.
إن خلاصة ما أود أن أقوله هو أن التعاطف لا يعني الانحياز، وإذا كان لدى الباحث رأي مسبق فيما يتعلق بموضوع بحثه، فإن عليه أن يضعه على الرف مؤقتا، ويقبل على بحثه بعقل فارغ من الآراء المسبقة، وهذا ما سوف يعينه على توسيع وتعميق معارفه، وربما على تعديل تلك الأفكار المسبقة التي كان يملكها.
وهنا تخطر في بالي قصة من قصص بوذية الزن ذات مغزى بالنسبة لما أسوقه هنا؛ فقد جاء إلى أحد معلمي الزن أستاذ جامعي اشتهر بمؤلفاته الكثيرة في العلوم الإنسانية، وقال له إنه يريد أن يتعلم الزن على يديه، فاستقبله المعلم بترحاب ودعاه إلى تناول الشاي، ثم راح يسكب له الشاي في كأسه، وعندما امتلأت تابع السكب حتى فاض الشاي من حواف الكأس، فقال له الأستاذ: يا معلم، انتبه. فأجابه المعلم: يا سيد، إن الكأس المليئة لا تستوعب المزيد كما ترى، وأنت جئتني مليئا بالأفكار. إن أردت أن تتعلم فأفرغ رأسك. (س):
أنت تتحدث هنا عن قوة الفكرة، وهذا ما يثير في ذهني سؤالا عن دور الأفكار في تاريخ الحضارة. (ج):
الأفكار هي القوة الرئيسية المسيرة للحضارة والتاريخ، لا فرق في ذلك بين فكرة تقوم على التجربة، وفكرة لا نستطيع البرهان على صحتها أو خطئها، لكنها ترسخت بإجماع الناس، وفكرة ثالثة خاطئة. وفي الحقيقة فإن الأفكار الخاطئة ربما تلعب دورا أكثر أهمية من غيرها في بعض الفترات، ومثال على ذلك فكرة تفوق العرق الآري على بقية الأعراق في الأيديولوجيا النازية، وما أدت إليه من كوارث إنسانية. واليوم نرى أن الأفكار الخاطئة عن الإسلام تستولي على عقول كثير من المسلمين، وتكسف الأفكار الصحيحة؛ فالإرهابي الذي يقتل باسم الإسلام دون تمييز لم يقرأ، أو أنه يتجاهل الآية القرآنية القائلة:
من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا (سورة المائدة: 32). والإرهابي الذي يحرق الكنائس المسيحية ويهجر المسيحيين من أراضيهم ومساكنهم يتجاهل الآية القرآنية التي توصي بالصداقة والتراحم بين المسلمين والمسيحيين (= النصارى)، والتي تقول:
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا (= للمسلمين)
الذين قالوا إنا نصارى (سورة المائدة: 82). (س):
أريد العودة إلى ما قلته حول تعاطفك مع الدين واحترامك للقيمة التي يعزوها المؤمن لعقيدته، وأتساءل هنا: لماذا إذن يتهمك البعض بالعداء للدين؟ فلقد سمعنا هذا الرأي مرارا من مسلمين ومسيحيين؟ (ج):
أتهم بالعداء للدين لأن أهل الحرف في المسيحية يتوقعون منك إذا تكلمت في المسيحية أن تلتزم بما تعلموه في مدارس اللاهوت، أو ما يكرره رجال الدين في موعظة يوم الأحد، وأهل الحرف في الإسلام يتوقعون منك إذا تكلمت في الإسلام أن تتكلم مثل شيخ أزهري، أو مثل خطيب مسجد في يوم الجمعة، أن تلغي عقلك وتتماثل مع الموروث هو المطلوب، هذا الموروث الذي ما فتئ يعيد إنتاج نفسه منذ قرون، أو بالأحرى إنتاج صور أكثر رداءة عن نفسه. وأنا هنا لا أدعو إلى نسف الموروث، وإنما أدعو إلى تجاوز مرحلة الجمود التي وصل إليها الفكر الديني، وإلى إعادة فهم النصوص المقدسة بما يتلاءم وروح العصر، أدعو إلى إبقاء باب الاجتهاد مفتوحا بعد أن أغلقه المجتهدون المتأخرون؛ لأنه وكما اجتهد الأولون، فإن باستطاعتنا نحن أن نجتهد، بل وأفضل منهم لأننا صرنا مزودين بمعارف لم يكونوا يحلمون بها، ولن نقبل بابن تيمية ولا بالقديس أوغسطين وصيا على فكرنا. (س):
ولكن نقاد الدين غالبا ما يستشهدون بمؤلفاتك في تقديم حججهم؟ (ج):
دعني أقول لك شيئا. إن من اكتشف الذرة لم يكن في ذهنه أبدا أن يصنع قنبلة ذرية، وإنما صنعها آخرون. أنا امرؤ تجريبي، وما أعنيه بالتجريبية هنا هو أنني أتوصل إلى الأفكار اعتمادا على دراسة واستقراء وقائع موضوعية، لا على تأمل ذهني بحت، وكل نظرية أطرحها تحمل في طياتها براهينها؛ وبالتالي يمكن لمن يود نقدها أن يختبر صحتها عن طريق دراسة هذه البراهين ورفضها أو قبولها على قاعدة تجريبية أيضا، ولكن من يتهمونني بالعداء للدين وإفساد عقول الشباب ينطلقون من أهوائهم ومواقفهم الذاتية، ولم يحفل أحد منهم بأن يرفق بتهمته أي برهان. وبتعبير آخر أنا لا أقدم أفكاري وآرائي الخاصة، وإنما نتائج بحث واستقصاء. (س):
ولا أدل على ذلك من أن معظم مؤلفاتك لا تحتوي على خاتمة. وهذا بالضبط ما يأخذه عليك أيضا بعض القراء الذين يرغبون في معرفة وجهة نظرك. (ج):
وجهة نظري بعد كل شيء تبقى وجهة نظر شخص واحد، كما أن المعرفة لا علاقة لها بوجهات النظر. إن ما أهدف إليه من وراء الكتابة هو تدريب عقل قارئي على التفكير الحر؛ ولذلك أقول لطلاب الدراسات العليا في الجامعة الذين يستمعون إلى محاضراتي في تاريخ الأديان ألا ينظروا إلى المادة المطبوعة التي أوزعها عليهم باعتبارها شيئا للحفظ، وإنما محرضا على التفكير، وأشجعهم على معارضتي ومخالفتي. وأذكر في هذا المجال أنني قلت لهم في إحدى المرات: إنه يسعدني أن أسمع من أحدكم قوله لي: إن ما تقوله في هذا الشأن كلام فارغ. (س):
وبالطبع لم يقل لك أحد ذلك! (ج):
لقد أردت أن أضرب لهم المثل الأقصى في قبولي للمخالفة وتحريضهم على التفكير. وقد بذلت جهدا لنقلهم من وضع المتلقي السلبي إلى المشاركة الفعالة. المعرفة تتطلب طرفين إيجابيين، لا طرفا سلبيا وآخر إيجابيا؛ أي ليس صيغة: أنا أتكلم وأنت تسمع، وإنما صيغة: أنا أتكلم وأنت تتكلم. (س):
أعتقد بأنك تتكلم هنا عن نظم التعليم وعلاقتها بإنشاء المعرفة على مستوى المجتمع. (ج):
هذا صحيح؛ فمن خلال نظم التعليم في العالم العربي ومن بقي مثلنا على هامش خط التطور الحضاري، نحن ننتج صورا عن أنفسنا في طلابنا، بينما يتوجب علينا أن ننتج صورا أفضل منا بكثير. وفي هذا المجال تحضرني حادثة مضحكة ومبكية في آن معا؛ فعندما كان ابني في الصف التحضيري؛ أي في سن الخامسة فقط، عرضت عليهم المعلمة صورا لحيوانات مختلفة لكي تعلمهم أسماءها، وعندما وصلت إلى صورة حيوان اللاما الذي لا يعيش في بلادنا، قالت لهم: هذا جمل. فصاح الطفل: لا يا آنسة، هذا لاما. فما كان من الآنسة إلا أن عاجلته بصفعة قوية بدل أن تثني عليه. والأمر في بقية مراحل الدراسة ليس أفضل من هذا بكثير لجهة تنمية الإبداع وتحرير الفكر. (س):
حسنا، كنت تقول قبل أن يأخذنا الحديث بعيدا، إنك لا ترى فائدة من طرح وجهات نظر شخصية لأنك تهدف إلى تشجيع القارئ على التفكير الحر، فهل يعني ذلك أنك تفضل الأسئلة على تقديم الأجوبة؟ (ج):
عندما سمع سقراط من المحكمة قرار الحكم بإعدامه، قال متعجبا: لماذا؟ لم أفعل سوى طرح الأسئلة.
أنا لست بداعية لمذهب أو مبشر بأيديولوجيا معينة؛ ولذلك أرى أن طرح سؤال جيد خير من إعطاء جواب يعتقد صاحبه بأنه على حق. أنا لا أعرف بعد ما هو الحق، ولكنني في الوقت نفسه أعرف بأنني لا أعرف، على عكس الكثيرين. (س):
ولكن ماذا عن أولئك المعلمين الكبار الذين قالوا لنا إنهم عرفوا كل شيء، وحددوا لنا معالم طريق الخلاص؟ البوذا مثلا. (ج):
لا أدري ما إذا كان البوذا قد عرف أم أنه توهم ذلك، معلمون آخرون قالوا الشيء نفسه، ولكن معالم الطريق لديهم تختلف عن طريق البوذا، فمن نصدق ومن نتبع؟ (س):
المعلمون كثر، وأنا أعيد إليك سؤالك: من نصدق ومن نتبع؟ (ج):
ثق بنفسك. (س):
ماذا تعني؟ (ج):
أعني أن الفلسفة ليست حكرا على الفلاسفة، وأن بمقدور كل شخص صياغة فلسفته الخاصة دون أن يكون ملزما باتباع أحد. (س):
نعود إلى موضوع الدين والفلسفة. ألا ترى معي بأن ما يجمع بين هاتين المنظومتين هو أكثر مما يفرق بينهما؟ (ج):
الدين والفلسفة صنوان من جهة طرحهما للأسئلة ومحاولة الإجابة عليها؛ ففي صميم كل ديانة كبرى فلسفة؛ لأن الفلسفة في أبسط تعريف لها هي التفكير المنهجي في أمور الحياة والكون، ولكن ما يميز الدين هو احتواؤه على بنية فوقية تتكون من الأساطير والعقائد والطقوس والمؤسسات. يضاف إلى ذلك أن الهم الأساسي للفلسفة هو الحياة في هذا العالم، أما الهم الأساسي للدين فهو السبل المثلى لتحقيق حياة في العالم الآخر. (س):
هل من الممكن أن تكون رداءة الحياة في هذا العالم هي ما يدعو البشر إلى التفكير في العالم الآخر؟ فالمتدين عندما ينكر الحياة فإنه لا ينكر سوى الألم والشقاء وما إلى ذلك من عذابات الدنيا. وهذا ما يدعوني إلى التساؤل الآتي: ألا يمكن للفلسفة التي يتركز همها - كما قلت - على الحياة في هذا العالم، أن تحل مكان الدين في تقديم العزاء للبشر؟ (ج):
هذا ممكن، ولكن فقط عندما لا يلعب الدين دورا مهما في حياة أهل إحدى الثقافات، ولدينا مثال على ذلك وهو الصين؛ فالصينيون لم يكونوا عبر تاريخهم شعبا تشغل الأفكار والممارسات الدينية حيزا واسعا من حياتهم، والمكانة التي شغلتها الفلسفة لديهم تعادل مكانة الدين في الثقافات الأخرى، وهي التي زودت الحضارة الصينية بأسس حياتها الروحية، وهذا ما جعلها مختلفة عن الحضارات الكبرى التي لعبت المؤسسة الدينية والكهنوت دورا طاغيا في حياتها؛ فمنذ القدم كانت الفلسفة تدخل في صميم ثقافة الفرد الصيني المتعلم منذ سنوات التعليم المبكرة، عندما كان الأطفال في مدارسهم يقرءون وينسخون نصوصا فلسفية، ولا سيما من الكتب الكونفوشية الأساسية الأربعة. وكان على الصفحة الأولى من الكراس الذين يتعلمون منه مبادئ الكتابة جملة تعبر عن أحد المبادئ الكونفوشية وهي: «إن الطبيعة الأصلية للإنسان خيرة.» وكان من شأن هذه الجملة أن تضع الأطفال في بؤرة التفكير الفلسفي. (س):
نحن هنا أمام فلسفة أخلاقية، أليس كذلك؟ (ج):
دعني أقول بأنها فلسفة حياة تهتم بسبل الحياة القويمة، ولا تلقي بالا إلى المسائل الميتافيزيكية التي أثقلت على جارتها الهند حتى أغرقتها في بحار الوهم؛ فالمزاج الصيني يتصف بالعملية والبعد عن التأمل الصوفي، والفرد الصيني متفائل ومحب للحياة الأرضية التي يجد فيها الغاية المثلى للوجود في هذا العالم؛ ولذلك فإن الحياة الأخرى لم تعن له كثيرا، وكانت فلسفته فلسفة مجتمع وأخلاق وعلاقات إنسانية، لا فلسفة أخرويات من بعث وقيامة وحساب وجنة وجحيم. وهذا ما عناه كونفوشيوس عندما سأله أحد التلاميذ عن معنى الموت، فقال له: «إنك لم تفهم بعد معنى الحياة، فكيف لك أن تفهم معنى الموت؟» وكذلك الأمر عندما سأله عن ماهية الأرواح وكيف نستطيع خدمتها؟ فقال له: «إذا لم يستطع المرء خدمة الأحياء، فكيف له أن يخدم الأموات؟»
وبدوره كان للحكيم لاو-تسو مؤسس التاوية موقف مشابه من مسائل ما قبل الولادة وما بعد الموت، وهذا ما عبر عنه شارحه الرئيسي شوانغ تزو في قوله: «الناس في الأيام الخوالي لم يعرفوا حب الحياة ولا كراهية الموت، الولوج إلى الحياة لم يكن بهجة لهم، والخروج منها لم يكن يثير فيهم جزعا ولا مقاومة. بهدوء كانوا يأتون وبلا ضجيج كانوا يغادرون. لا ينسون ما كانت عليه بدايتهم، ولا يتساءلون عما ستئول إليه نهايتهم، لقد قبلوا الحياة واغتبطوا بها، ثم نسوا وآلوا إلى حالة ما قبل الحياة.» (س ):
أنت تصف الكونفوشية هنا بأنها فلسفة، ولكننا غالبا ما نقرأ أن الأديان التي تخللت حياة الصين بعد الديانة التقليدية القديمة هي: البوذية والكونفوشية والتاوية! (ج):
قد تبدو الكونفوشية التي تخللت لقرون عديدة حياة الصين لأول وهلة بأنها ديانة، ولكنها في واقع الأمر ليست كذلك؛ فهي ليست ديانة أكثر مما هي فلسفة أفلاطون أو فلسفة أرسطو. وعلى الرغم من أن الكتب الكونفوشية الأربعة كانت بالنسبة للصينيين مثلما هو الكتاب المقدس بالنسبة لأهل الغرب، إلا أن هذه الكتب لم تحتو على قصة الخلق والتكوين، كما أنها لم تتطرق إلى مسائل نهاية التاريخ وما يتصل بها من قيامة عامة للموتى وحساب وجنة وجحيم، كما هو الحال في أديان التوحيد، أو إلى عودة الأرواح للاتحاد بمصدرها وهو المطلق الكلي، كما هو الحال في الغنوصية المشرقية ومذهب وحدة الوجود في الهندوسية. أما الميتافيزيكيات التي جاءت بها الكونفوشية الجديدة منذ معلمها الأول مينشيوس، فلم تكن سوى ماورائيات أفلاطون التي أرجعت كل حركة في الكون والطبيعة إلى مبدأ كلي دعاه بالمحرك الساكن (The Immovable Mover) . ولكن هذا «المحرك» لا يشبه الله في شيء. (س):
الفلسفة الصينية إذن هي فلسفة فعل وممارسة، لا فلسفة تأمل مجرد؟ (ج):
هذا صحيح، إن أقصى ما يسعى إليه الكدح الروحي للفرد في الثقافات المشبعة بالدين هو تحقيق القداسة، أما في الثقافة الصينية، فإن ما يكدح الفرد لتحقيقه هو مرتبة الحكيم؛ ففي شخصية هذا الحكيم تتحد المعرفة بالفضيلة، لأنه يعيش وفق قناعاته الفلسفية التي ليست أفكارا معروضة للفهم، بقدر ما هي مبادئ للعيش الصحيح. (س):
وماذا عن التاوية؟ أهي فلسفة أم دين؟ (ج):
هناك تاوية فلسفية أسسها الحكيم لاو-تسو الذي عاش خلال النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد، وعاصر كونفوشيوس الأصغر منه سنا، وقد عاشت هذه التاوية بضعة قرون قبل أن تنشأ عنها التاوية الطقسية التي اتخذت سمات الديانة. وتشترك التاوية الفلسفية مع الكونفوشية في كونها فلسفة حياة، وذلك من خلال التأكيد على ضرورة أن يحيا الإنسان حياة طبيعية خلال الفترة المقدرة له في هذه الدنيا، دون خوف من الموت أو تعلق بالحياة؛ ذلك أن الفرص في البقاء وطول العمر تكون أفضل عندما لا تؤرقنا فكرة الموت ولا يتملكنا هاجس البقاء، وإنما نسبح مع تيار الطبيعة الذي دعاه لاو-تسو ب «التاو». وهذا التاو ليس شخصية إلهية، ولكنه القاع الثابت الذي ينشأ عنه كل متغير ومتحرك، وهو أقرب إلى مفهوم قوانين الطبيعة في العلم الحديث. ولاو-تسو هنا يتفق مع الفيلسوف الهولندي اليهودي اسبينوزا الذي جاء بعده بألفي سنة، وطابق بين الله والقوانين الطبيعية في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة. (س):
وماذا عن البوذية؟ (ج):
البوذية ديانة هندية قامت على تعاليم سيدهارتا غوتاما الملقب بالبوذا، والذي ظهر في زمن قريب نسبيا من ظهور كل من كونفوشيوس ولاو-تسو. فإذا أضفت إلى هؤلاء كلا من زرادشت الإيراني وسقراط اليوناني، لحصلنا على فترة خصيبة من فترات الإبداع الديني والفلسفي لا مثيل لها في تاريخ الحضارة.
لقد تأخر وصول البوذية إلى الصين لأنها بدت غريبة على الطبع والموروث الصيني؛ حيث لا يمكن التوفيق بين الرهبانية البوذية التي تنكر الحياة، وما يتميز به الصينيون من تفاؤل وحب للحياة وإخلاص للأسرة. إلا أن ظروفا قاسية حلت بالصينيين، ومنها تسلل القبائل البدوية التي كانت محجوزة خلف سور الصين إلى الداخل، جعلت الكثيرين يتحولون عن المذهب الكونفوشي التفاؤلي، بعد أن تملكهم ازدراء غير صيني للحياة، ولكن البوذية لم تكسف الكونفوشية ولا التاوية، وإنما فازت بمكان إلى جوارهما، وصارت المذاهب الثلاثة تكمل بعضها بعضا، بحيث يمكن للمرء أن يكون كونفوشيا ينشد الصلاح الداخلي وحياة الأسرة، وتاويا منسجما مع صيرورة الطبيعة، وبوذيا ينشد الأمان بعد الموت. (س):
نفهم من ذلك بأن التعصب الديني بعيد عن الطبع الصيني؟ (ج):
هذا صحيح؛ فقد كان بإمكان أي مذهب أن يتسلل إلى الصين دون مقاومة رسمية أو شعبية، بسبب التسامح الذي تتصف به الثقافة الصينية؛ فبعد البوذية جاء الإسلام الذي فاز بمكان له أيضا بين مذاهب الصين، ولم يقاوم انتشاره أحد. (س):
هل تصارعت هاتان المنظومتان المعرفيتان ، أعني الفلسفة والدين؟ ومتى؟ وماذا عن مآل الصراع؟ (ج):
التفكير الفلسفي المتجرد من الدين هو شأن حديث في تاريخ الحضارة، ولا يمكننا متابعته إلى ما قبل القرن الخامس قبل الميلاد بكثير في موطنيه الرئيسيين الصين واليونان، عندما كانت بقية الثقافات الكبرى لا تزال غارقة في الفكر الديني الأسطوري. أما عن الصراع بين المنظومتين فقد كانت اليونان مسرحه الرئيسي لا الصين؛ وذلك لأسباب شرحتها في إجاباتي السابقة. وقد عبرت الفلسفة اليونانية عن هذا الصراع بأنه مواجهة بين الميتوس
Mythos ؛ أي الأسطورة والفكر الأسطوري، وبين اللوغوس
Logos
وهو العقل والتفكير العقلاني. (س):
من المفترض أن الفلسفة في اليونان كانت الرابحة في هذه المواجهة؛ لأننا غالبا ما نقرأ أن اليونانيين هم الذين حققوا النقلة الحاسمة من الفكر الميثولوجي إلى الفكر الفلسفي العقلاني. (ج):
لقد نجحت الفلسفة في تحديد مهامها وصياغة مفاهيمها الخاصة انطلاقا من نقدها للأسطورة والتفكير الديني بشكل عام، ولكن ذلك لا يعني بأنها حققت نصرا مؤزرا على الأسطورة، وإنما حصلت على حيز لها في الثقافة اليونانية إلى جانب الحيز الذي شغلته الأسطورة؛ فبعد أن حققت الفلسفة ذروة انتصاراتها في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، قام الجانب الأكثر صوفية في الديانة اليونانية بالتعبير عن حضوره واستيلائه على قلوب اليونانيين من خلال عبادات الأسرار المحلية؛ مثل أسرار إيليوسيس التي تدور حول الإلهة ديمتر وابنتها بيرسفوني، وأسرار أورفيوس، وأسرار ديونسيوس. إضافة إلى عبادات أسرار تم استيرادها من الخارج؛ مثل أسرار ميترا الإيراني وسيبيل الفريجية وسيرابيس المصري. وقد انتقلت هذه العبادات بعد ذلك إلى الرومان. وفي هذه الأسرار هناك إله يعد الفرد بالخلاص بعد الموت وخلود الروح في عالم آخر، إذا هو اتحد به من خلال طقوس سرية خاصة لا يعرفها سوى من انتسب إلى عبادة الأسرار وعد في حلقة العباد. (س):
ولكننا غالبا ما نقرأ أن تاريخ الفكر الإنساني قد تتابع عبر أربع مراحل هي: السحر فالدين فالفلسفة فالعلم التجريبي. ونفهم من هذا أن كل مرحلة كسفت ما قبلها ! (ج):
هذا صحيح بشكل عام، وإن كنت لا أفرق بين السحر والدين لأسباب ربما تحدثنا عنها في وقتها، ولكن كل مرحلة من هذه المراحل لم تكن تكسف ما قبلها وإنما كانت تضاف إليها، ولا أدل على ذلك من استمرار الدين قويا وفاعلا في دولة العلم الحديثة. إن نظرة فاحصة على تاريخ الحضارة تظهر لنا أن الفلسفة اليونانية لم تصمد في مواجهة الدين غير قرون قليلة، ثم اندحرت أمام المسيحية التي سادت زمن الإمبراطورية الرومانية شرقا وغربا، وحلت محل عبادات الأسرار بعد أن استعارت أهم رموزها الدينية، وهو رمز الإله المخلص الذي يموت ثم يقهر الموت لكي يهب خلاص الروح لعباده. وعقب تبني الإمبراطور الروماني قسطنطين المسيحية كدين رسمي، أعلنت الكنيسة حربا شعواء على الفلسفة وطاردت أصحابها، وقتلت من بقي منهم أمينا للعقل الفلسفي. (س):
وماذا عن الإسلام هنا؟ هل عمل بدوره على قمع الفلسفة؟ (ج):
الثقافة الإسلامية لم تقمع الفلسفة والفلاسفة، بل سمحت للفكر الفلسفي بالتفتح، وقام علماء الكلام وهم اللاهوتيون المسلمون بتبني الطرائق الفلسفية في الدفاع عن العقائد الإسلامية وإثبات صحتها. وظهر فلاسفة مسلمون كبار ترجموا المؤلفات الفلسفية اليونانية وشرحوها، إضافة إلى إنتاجهم لنصوص فلسفية أصيلة. وقد ترجمت خلال عصر النهضة الأوروبية أعمال بعض هؤلاء إلى اللاتينية فساهمت إلى حد بعيد في نهضة الفلسفة الأوروبية الحديثة، ولكن على الرغم من كل ذلك فإن الفلسفة لم تشغل حيزا واسعا من الثقافة العربية مثلما فعلت في الثقافة اليونانية، ولم تستمل إليها شرائح واسعة من المفكرين الذين شغلتهم علوم الدين؛ مثل: علم الكلام، وعلم الحديث النبوي، وعلم تفسير القرآن، وعلم الشريعة. يضاف إلى ذلك أن الفلسفة العربية شغلت نفسها بمحاولة التوفيق بين الفلسفة والدين الإسلامي؛ أي إنها خضعت لمحددات وقيود لم تعرفها الفلسفة اليونانية. (س):
هذا الصراع بين الدين والفلسفة، هل تحول بعد ذلك إلى صراع بين الدين والعلم، ولا سيما وأن العلم هو الابن الشرعي للفلسفة. (ج):
حصل هذا في المسيحية ولم يحصل في الإسلام؛ فقد أنكرت المسيحية في بداية عهدها كروية الأرض، وعندما اعترفت بها وقفت إلى جانب النظام الفلكي لبطليموس اليوناني الذي أيده ودافع عنه أرسطو أيضا، والقائل بأن الأرض هي مركز الكون وكل شيء يتحرك حولها بما في ذلك الشمس. وقد حاربت الكنيسة كل من يقول عكس ذلك. وعندما قال الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونو بأن الأرض ليست سوى كوكب صغير في كون واسع ولا نهائي يحتوي على أكوان لا حصر لها، عقدت الكنيسة محكمة من رجال الدين لمحاكمته، فحكمت عليه بالموت حرقا في العام 1600م. وبعد ذلك بعدة عقود كاد الفيلسوف والعالم الفلكي الكبير غاليلو غاليلي أن يلقى المصير نفسه لولا أن اعترف بخطئه أمام المحكمة وقال إن الأرض لا تدور. وكان من نتيجة ذلك انتقال النهضة العلمية من إيطاليا إلى المناطق الشمالية. وعلى الرغم من الانتصارات الباهرة التي حققها العلم بعد ذلك، فقد بقيت الكنيسة تقبل ما تشاء من مقولاته وترفض ما تشاء من موقع الوصاية، وعندما نشر داروين كتابه في أصل الأنواع وطبق نظرية التطور على أصل الجنس الإنساني، اتهمته الكنيسة بالتجديف ومحاولة تهديم أسس الدين، على الرغم من أن ذلك كان أبعد ما يكون عن تفكيره. (س):
واليوم نحن في عصر المعلوماتية وانفجار المعرفة. هل ما زال الصراع بين الدين والعلم قائما؟ (ج):
اليوم حصلت مصالحة بين العلم والدين، واتفاقية غير معلنة أعطى الدين بموجبها للعلم كل مجالات الطبيعة التي يمكن إخضاعها للتجربة والبرهان، واحتفظ لنفسه بمجال الحياة الروحية حيث لا ينفع برهان ولا تجربة؛ فنحن في التعامل مع الظواهر الطبيعانية نستطيع أن نتخلى كليا عن أي مفهوم ديني ونلتزم بالبراهين المنطقية والتجريبية، أما عندما ننتقل من مجال الطبيعة إلى مجال النفس، فإن الدين يؤكد حضوره اليوم مثلما أكد حضوره في الماضي. اليوم، وبعد أن رضي كل فريق بحصته من القسمة، فإن الدين يبدأ مهامه من حيث تنتهي مهام العلم؛ لأن الدين يتطلع إلى ما وراء مظاهر العالم، ويبحث في المعنى والغايات. وهذا المعنى ليس شيئا كامنا في بنية المظاهر الطبيعانية، بل هو شأن متعلق بالوعي الإنساني يضاف إلى المظاهر من خارجها. الظواهر تحدث ونحن نعطيها ما نشاء من المعاني، والعالم فقط يحدث، أما معناه فكامن فينا نحن الجنس الحي الوحيد الذي يبحث عن المعنى. (س):
وهل نحن في طريقنا لاكتشاف المعنى؟ (ج):
في السفر، ربما كانت مشاهد الطريق أجمل من الوجهة التي نقصدها، فلماذا نستعجل الوصول؟ ربما كان البحث عن المعنى هو المعنى ذاته.
المحور الثاني
الدين والحضارة
(س):
هل رافق الدين الإنسان منذ نشأة الحضارة، أم أنه اتصل بها في سياقات لاحقة؟ (ج):
علينا أولا أن نبين ما هي الحضارة ثم نقدم تعريفا للدين، وبعد ذلك نكون جاهزين للجواب على هذا السؤال. (س):
أنت على حق؛ فهنالك ثلاثة مصطلحات تختلط في أذهاننا وهي الحضارة والثقافة والمدنية، كيف نميز بينها؟ (ج):
الاختلاط ناجم في اللغة العربية عن ترجمة مصطلح
Culture
أي ثقافة أو حضارة، ومصطلح
Civilization
أي مدنية؛ فالثقافة أو (الحضارة) هي النواتج والإبداعات الفكرية والمادية والجمالية لمجموعة بشرية ما. وبهذا المعنى فإن أي مجموعة بشرية لا تخلو من الثقافة مهما كانت مغرقة في البدائية. أما المدنية فهي ثقافة مجتمع المدينة، وهي ثقافة جديدة نسبيا في تاريخ الإنسان، وتبدأ مع تشكيل المدن الأولى في ثقافة الشرق القديم، وتحديدا بلاد الرافدين وسورية ومصر، ولكن هذا المصطلح لم يعد مستخدما في اللغة العربية، وحل محله مصطلح الحضارة، فصرنا نقول مثلا: «فجر الحضارة في الشرق القديم»، بمعنى البدايات الأولى لثقافة المجتمع المديني، ونقول: «ثقافة العصر الحجري القديم» أو «الثقافات البدائية في أمريكا الشمالية». وهكذا عدنا إلى مصطلحين لا إلى ثلاثة. (س):
هل مضى على الإنسان زمن كان فيه بلا ثقافة؟ (ج):
هذا يتوقف على تعريفنا للإنسان، وعن أي إنسان نتحدث؛ فوفق علم الأنثروبولوجيا البشرية الذي يبحث في أصول الإنسان، لدينا ثلاث مجموعات شبه بشرية ظهرت في أفريقيا تباعا منذ المليون الرابع قبل الميلاد، وكل مجموعة تظهر شبها أكبر ووزن دماغ أكبر من سابقتها، وهكذا وصولا إلى جنس النياندرتال الذي ظهر في أوروبا ويعتبر حلقة وصل بين أشباه الإنسان أو الأناسي
Hominid
وبين الإنسان العاقل (أي نحن) الذي ظهر قبل نحو خمسين ألف سنة. (س):
هل يمكننا إذن تحديد زمن ظهور الثقافة بظهور الإنسان العاقل قبل خمسين ألف سنة؟ (ج):
كلا طبعا؛ فالثقافة الإنسانية أقدم من ذلك بكثير، ولكي نستطيع التعرف على بداياتها الأولى علينا أن نتحرى عن السلوك الثقافي الأول لأشباه الإنسان، وما أعنيه بالسلوك الثقافي هو السلوك الذي لا ينجم عن الغرائز والدوافع الطبيعية. وقد تجلى ذلك السلوك للمرة الأولى في صناعة الأدوات الحجرية واستخدامها لشتى أغراض الحياة. ويبدو من المعلومات الميدانية المتوفرة لدينا (أو لدي على الأقل؛ فلربما كانت معلوماتي قديمة بعض الشيء)، أن الأناسي قد صنعوا الأدوات الأولى في أواسط المليون الثالث قبل الميلاد، وهذه أولى المؤشرات الدالة على بدايات الثقافة الإنسانية، وقيام الإنسان بالتحكم بمحيطه بدل الرضوخ له. (س):
ولكن هل نستطيع اختصار الثقافة إلى هذه التكنولوجيا البدائية، أعني الأدوات الحجرية؟ ماذا عن النواحي غير المادية للثقافة وعلى رأسها الفن والدين؟ (ج):
لم ينتج أشباه البشر من الأناسي فنا بصريا، وكذلك الحال بالنسبة للنياندرتال. لقد كان على الفن أن ينتظر ظهور الإنسان العاقل الذي أحدث نهضة جمالية غير مسبوقة وبشكل فجائي. وقد تجلت هذه النهضة في فن المنحوتات الصغيرة وفي رسوم الكهوف التي يقول نقاد الفن بأنها لم تكن أقل حرفية وقيمة فنية من روائع الفن الحديث. أما الدين فهنالك دلائل غير وافية على وجوده في عصر الإنسان المنتصب
Homo Erectus
الذي عاش قبل النياندرتال، وبدأت آثاره تظهر منذ منتصف المليون الثاني قبل الميلاد في أفريقيا، ثم انتشر في أوروبا وآسيا وصولا إلى الصين، حيث وجد هيكل عظمي لإنسان منتصب في منطقة بكين دعاه علماء الأنثروبولوجيا بإنسان بكين. والدلائل غير الوافية التي ذكرتها جاءتنا من موقع واحد فقط وجدت فيه آثار هذا الإنسي في إسبانيا، وتبين للباحثين من دراستها أنه كان يدفن موتاه بطريقة تعدهم للانتقال إلى عالم آخر. أما الشواهد الكثيرة على وجود حياة دينية فتأتينا منذ أكثر من مائة ألف سنة قبل الميلاد؛ أي من عصر النياندرتال، ولكن لكي نستطيع أن نطلق على هذه الشواهد بثقة صفة الدينية لا بد لنا من صياغة تعريف للدين ينطبق على جميع الأديان من أكثرها بساطة إلى أكثرها تعقيدا وتركيبا. (س):
هذه ليست بالمسألة السهلة، فما الذي يجمع ديانة جزيرة هاييتي القائمة على السحر إلى أديان التوحيد مثلا؟ (ج):
التعريف الذي أقترحه هو تعريف للحد الأدنى المشترك الذي لا بد من توافره في ظاهرة ثقافية ما لكي نطلق عليها صفة الديانة. وهذا الحد الأدنى تقوم كل ديانة بتطويره على طريقتها؛ وبناء على ذلك أقول: إن الدين هو إحساس وإيمان بأن الوجود يتألف من عالمين أو مجالين، الأول هو المجال الدنيوي أو عالم الظواهر المادية الذي نراه ونعيش فيه، والثاني هو المجال القدسي الخفي الذي يقع وراء عالم الظواهر المرئية. وهذان المجالان على استقلالهما من حيث الظاهر إلا أنهما متصلان من خلال قوة تصدر عن المجال القدسي لتفعل في جميع العناصر الحيوية والجامدة للمجال الدنيوي. والإنسان نفسه موزع بين هذين المجالين لأنه يتألف من عنصرين؛ الأول مادي وهو الجسد، والثاني غير مادي وهو الروح. وهذان العنصران ينفصلان عن بعضهما بالموت الذي يفني الجسد ولكنه لا يفني الروح، ثم إن إحساس الإنسان بحضور هذه القوة الغامضة قد دفعه إلى الدخول في علاقة معها من خلال الطقوس، وهي سلسلة مرتبة من الأفعال والإجراءات والصيغ الكلامية. (س):
حسنا، في جوابك على سؤالي حول متى اتصل الدين بالحضارة، عرفنا الحضارة والإنسان والدين، وخلصنا إلى أن الدين قد رافق الإنسان منذ عصر الهومو إريكتوس؛ أي قبل أن يتخذ الأناسي شكل النياندرتال ثم الإنسان العاقل، وهذا يعني أن جنسنا لم يمض عليه زمن كان فيه بلا دين، فهل يمكننا القول بأن الدين شيء متأصل في الطبع الإنساني؟ (ج):
هذا صحيح، وقد وصفته في كتابي «دين الإنسان» بأنه أقرب ما يكون إلى الدوافع والغرائز المتأصلة في السلوك الإنساني. وبعد أكثر من عشر سنوات مرت على صدور كتابي، نشرت مجلة «تايم» الأمريكية دراسة لأحد علماء الوراثة الإنسانية تحت عنوان «جينة الله
God’s Genes »، تقول باكتشاف إحدى الجينات في الخلية مسئولة عن الإحساس الديني عند البشر. وقد ردت هذه الدراسة على من اتهمني بالتطرف في وصفي للإحساس الديني بأنه أقرب ما يكون إلى الدوافع الطبيعية. (س):
تعبير «جينة الله» يقودني إلى سؤال يتعلق بتعريفك للدين وهو: أين مكان الله في هذا التعريف. وبتعبير أعم: أين الآلهة؟ أليس الإيمان بوجود الآلهة والتعبد لها هو الدلالة الأبرز على الظاهرة الدينية؟ (ج):
إن فكرة الله هي مفهوم جديد في تاريخ الدين، ولا يمكننا متابعته إلى ما قبل القرن السادس قبل الميلاد، مع ظهور النبي زرادشت الذي كان أول من قال بأنه تلقى وحيا من الإله الكوني الواحد بواسطة ملاك. وقبل ذلك كان الناس يتعبدون إلى شخصيات إلهية تسكن المجال القدسي وتدير شئون الكون والطبيعة والمجتمعات الإنسانية من خلال امتلاكها لقوى خارقة لا يملكها البشر. ولكن مفهوم الشخصيات الإلهية بدوره لم يكن قديما قدم الثقافة الإنسانية؛ ففي المرحلة الأبكر من تاريخ الدين لم يعتقد الإنسان بوجود آلهة، وإنما بوجود قوة غامضة مقدسة تسري في مظاهر العالم المادي وتبث فيه الحركة والحياة. ويختلف مفهوم «القوة» عن مفهوم «الإله» في أن القوة لا تمتلك شخصية مثل الإله، بل هي أقرب إلى مفهوم الطاقة في العلم الحديث. (س):
وهل كان لدى إنسان العصور الحجرية مقدرة عالية على التجريد لكي يتصور وجود مثل هذه القوة؟ (ج):
لم يكن الإنسان بحاجة إلى التجريد قدر حاجته إلى الملاحظة الموضوعية لما يجري من حوله؛ فالرياح تهب ولا ندري من أين تأتي ولا إلى أين تمضي، والغيوم تنعقد ثم تمطر، والأعاصير تداهم وتخرب، والبراكين تثور والأرض تهزها الزلازل، والأجرام السماوية تتحرك في مساراتها. ولما كان أمام الإنسان في ذلك الوقت آلاف مؤلفة من السنين قبل أن يكتشف القوانين الطبيعية، فقد رأى وراء ذلك كله قوة فائقة غامضة، أو لنقل «حالة فعالية» نلمس آثارها دون أن ندرك ماهيتها. (س):
ولماذا لم ير وراء ذلك كله شخصيات إلهية؟ (ج):
لأن تصور وجود قوة أو حالة فعالية ، منبثة في المظاهر المرئية أقرب إلى المنطق البسيط من تصور شخصيات إلهية تفعل في هذه المظاهر عن بعد. وفي الحقيقة، فإن العلم الحديث الذي كف يد الآلهة عن التصرف في الطبيعة ووضعها في تصرف القوانين الطبيعية، قد عاد بطريقة ما إلى مفهوم القوة السارية التي نلمس آثارها في عمليات الطبيعة دون أن ندرك ماهيتها.
وهنا تحضرني قصة الفلكي والرياضي الفرنسي لابلاس مع الإمبراطور نابليون، عندما مثل أمامه وشرح له نظريته في أصل النظام الشمسي، فقال له نابليون بعد أن استمع إليه: ولكن أين الله في نظريتك؟ فأجابه: يا سيدي، هذه فرضية لا لزوم لها في نظامي. (س):
هل نقول إذن إنك تستبدل قوانين الطبيعة بالله؟ (ج):
أنا لا أقول شيئا، وإنما أعرض نظريات وآراء بعض العلماء. إن نظرية الانفجار البدئي العظيم التي تفسر ولادة الكون، وهي نظرية متفق عليها الآن، تخبرنا بأن القوانين الطبيعية كانت موجودة قبل حصول ذلك الانفجار الذي نشأت عنه المجرات وراحت تتباعد بسرعات خيالية عن مركز الانفجار. وهذا يعني أن تلك القوانين لا زمانية، بمعنى أنها خارج مفهوم الزمن المعروف، والذي ابتدأ في اللحظة صفر لحظة الانفجار. كما أنها لا متغيرة على ما أثبتته التجارب المخبرية على عمليات التخليق النووي البدئي؛ حيث لاحظ العلماء أن القوانين الفاعلة في هذه التجارب هي ذات القوانين التي كانت فاعلة لحظة الانفجار. هذه الصفة اللازمانية واللامتغيرة للقوانين تجعلها مرشحة لأمومة الكون.
وهنا يمكن للنظرية الدينية القول بأن هذه القوانين ليست سوى أداة الله في الخلق ووسيلته للتحكم في العالم المخلوق، وهي كلمته الخالقة على ما ورد في مطلع إنجيل يوحنا: «في البدء كان الكلمة. والكلمة كان عند الله، به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان.» و«الكلمة» في هذا النص هي ترجمة لأصلها اليوناني «لوغوس» التي تعني «العقل» وكذلك الكلمة المنطوقة باعتبارها أبرز مظاهر العقل. وفي الحقيقة فإن إنجيل يوحنا لا يتفرد في النظر إلى الكلمة/العقل باعتبارها وسيط الخلق، فقد قالت بذلك الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، التي ترى بأن العالم المادي فاض عن الله على ثلاث مراتب مثلما يفيض النور عن الشمس أو الماء عن النبع، وكانت أولى المراتب في الصدور عن الواحد هي مرتبة العقل الذي يرى الواحد من خلاله ذاته، وعن العقل فاضت المرتبة الثانية وهي النفس التي صدر عنها العالم المادي. كما نجد فكرة صدور المادة عن الله بتوسط العقل في الفلسفة الإسلامية منذ إخوان الصفا، كما نجدها في فكر الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي. (س):
أنت هنا تعبر بامتياز عن موقف الفينومينولوجي الذي يحجم عن إبداء رأيه! (ج):
هذا صحيح؛ لأن مهمتي هي مساعدتك على تكوين رأيك، وليس عرض آرائي. أنا لا أفكر بالنيابة عن أحد؛ لأني بذلك أحرمه من مسئولية التفكير. (س):
نعود إلى نظريتك في أسبقية مفهوم القوة، أو القوة السارية كما تسميها على مفهوم الآلهة، وأقول إنك بإسباغك الصفة الدينية على معتقد القوة السارية تعارض مرة أخرى النظرة السائدة إلى تاريخ الأفكار بمراحله الأربعة وهي السحر فالدين فالفلسفة فالعلم. أليس كذلك؟ (ج):
هذا صحيح، ولكن لكي أبين اختلافي مع أصحاب هذه النظرة دعني أتحدث باختصار عن منشئها؛ فهي تبدأ من فرضية الفيلسوف الألماني هيجل بأن عصرا ساد فيه السحر قد سبق عصر الدين في تاريخ الحضارة. وبعد ذلك قام رائد الأنثروبولوجيا النظرية البريطاني جيمس فريزر في كتابه «الغصن الذهبي» الذائع الصيت في الثقافة الغربية، وبتأثير من هيجل بصياغة نظريته في أصل الدين وعلاقته بالسحر. وفي هذا الكتاب يفترض فريزر أنه في البداية مر على الإنسان عصر ظن فيه أن بمقدوره التحكم في سير عمليات الطبيعة بواسطة تعاويذه وطقوسه السحرية، وعندما اكتشف بعد فترة طويلة عقم هذه الوسائل وقصورها عن تحقيق غاياتها، تصور بأن الطبيعة التي تأبت على الانصياع له واقعة تحت تأثير شخصيات روحانية فائقة القدرة، فتحول إلى هذه الشخصيات وراح يتعبد لها، وحلت الصلوات والتضرعات محل الطقس السحري، وبذلك ظهر الدين الذي حل الكاهن فيه محل الساحر. (س):
وكيف يبين هذا طبيعة اختلافك مع النظرة السائدة التي تقول بالمراحل الأربعة التي مر بها تاريخ الأفكار؟ (ج ):
لقد أثر كتاب «الغصن الذهبي» الذي صدر في 12 مجلدا عام 1906م، ثم اختصره صاحبه بعد ذلك في مجلد واحد في 1000 صفحة، على أجيال من الباحثين الميدانيين الذين كانوا يبحثون عن الظاهرة الدينية في المجتمعات البدائية التي يعكفون على دراستها؛ فهؤلاء وبدافع تأثرهم بفريزر، لم يكونوا يرون دينا إلا عندما يرون طقوسا تتوسل إلى كائنات روحية ماورائية تتحكم في مظاهر الطبيعة، وفيما عدا ذلك فإن أي ظاهرة شبه دينية كانت تصنف في زمرة الممارسات السحرية. وقد أدى ذلك إلى ترسيخ الرأي القائل بأن الدين لم يظهر في تاريخ الحضارة إلا مع ظهور الآلهة المشخصة.
ولكني أرى أن ما يدعوه هؤلاء بالسحر ليس إلا شكلا أوليا من أشكال الدين؛ فعندما آمن إنسان العصور الحجرية بوجود تلك القوة الغامضة التي هي أقرب إلى الطاقة منها إلى الشخصية العاقلة، دخل معها في علاقة معقدة من خلال نوعين من الطقوس السحرية؛ الأول يهدف إلى رد أذاها عنه، والثاني يهدف إلى توجيهها لصالحه. وهنا فأنا لا أرى فرقا بين الإيحاء لقوة قدسية حيادية من حيث المبدأ بإحداث النتائج المرجوة، وبين استجداء كائن إلهي عاقل ومشخص من أجل إحداث النتائج ذاتها. والفارق هنا كما ترى هو فارق في الشكل لا في المضمون. كما أني لا أرى لماذا يكون الاعتقاد بوجود قوة غفلة سارية في الموجودات اعتقادا بالخرافات والترهات وفق تصنيف أولئك، بينما يكون الاعتقاد بالآلهة المشخصة (التي هي ليست سوى نسخة محسنة عن البشر) اعتقادا حضاريا راقيا. (س):
هل نفهم من ذلك أنك لا تعتقد بوجود أديان بدائية متخلفة وأخرى عليا متطورة؟ (ج):
هذا صحيح؛ لأن القديم ليس بالضرورة هو الأدنى، كما أن الحديث ليس بالضرورة هو الأعلى. وهذا الحكم يتجاوز الظاهرة الدينية إلى بقية نواحي الثقافة في المجتمعات القديمة التي عاشت في بداية أطوار الحضارة الإنسانية، ومثلها أيضا «المجتمعات البدائية» التي عاشت على هامش خط التطور الرئيسي للحضارة الإنسانية وصولا إلى العصور الحديثة، والتي أعتبرها استمرارا لمجتمعات العصور الحجرية. (س):
هل نعتبر كلامك هذا بمثابة الدعوة لإعادة النظر في مفهوم «البدائية»؟ (ج):
نعم، وهذا ما فعله قبلي العديد من الباحثين الذين حاولوا نحت مصطلحات جديدة لوصف المجتمعات البدائية فقالوا «المجتمعات التقليدية» أو «المجتمعات اللاكتابية». (س):
ولكن ماذا عن التطور الذي نلحظه عبر التاريخ في نواتج الثقافة الإنسانية، وعن الطريق الطويل الذي قطعته الأداة الحجرية قبل أن تتحول إلى مفاعل ذري؟ (ج):
لقد راكم الإنسان عبر السنين معارف تكنولوجية أوصلته إلى ما هو عليه الآن، ولكن هذا التطور التكنولوجي لا يحمل معه بالضرورة تطورا في النواحي غير المادية للحضارة؛ مثل الفن، والأخلاق، والدين، والعلاقات الإنسانية، والسياسة، بل العكس هو الصحيح أحيانا؛ فلقد أخلى على سبيل المثال النظام الاجتماعي البدائي القائم على الحرية والمساواة مكانه لنظام الطبقات، وأخلى النظام السياسي البدائي القائم على الشورى مكانه للحكم الاستبدادي، وأخلى التسامح الديني البدائي مكانه للتعصب والحروب الدينية، كما أخلت العلاقات الإنسانية البدائية القائمة على التعاون والمشاركة مكانها للتنافس والتطاحن بين الأفراد، فهل نتحدث هنا عن تطور أم عن تراجع؟ (س):
هل نظريتك في أسبقية القوة السارية على الآلهة جديدة تماما على مبحث تاريخ الأديان؟ وكيف توصلت إليها؟ (ج):
في مجال البحث العلمي سواء أكان في العلوم الإنسانية أم في العلوم الدقيقة
Exact Sciences
لا يوجد شيء جديد تماما، وإنما إضافة على القديم الذي جاء به السابقون، والجديد الذي قدمته هو انطلاقي من النتائج التي توصل إليها الأنثروبولوجيون من دراستهم للمجتمعات البدائية المعاصرة لنا وتطبيقها على ثقافات العصور الحجرية؛ حيث كانت النتائج مذهلة. وإني مدين بشكل خاص إلى عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم في كتابه
The Early Forms Of Religious Experience ، الذي درس فيه الحياة الاجتماعية والدينية لسكان أستراليا الأصليين؛ فبعد أن قام بتحليل المعلومات التي تم جمعها عن حياة المجتمعات الأسترالية التي تعتبر أكثر الشعوب الأصلية بدائية، وجد دوركهايم أن مركز الحياة الدينية عند هؤلاء هو قوة غفلة، بلا اسم أو شخصية، وهذه القوة تسري في مظاهر الكون والطبيعة. وقد عبروا عن حضور هذه القوة من خلال صورة حيوانية يرسمونها على الأدوات الطقسية، فكانت كل عشيرة مثلا تختار حيوانا ما تحمل اسمه، ولا تشاركهم فيه عشيرة أخرى، فهنالك عشيرة الكنغر، وعشيرة الأفعى، وعشيرة النسر، وما إلى ذلك من الحيوانات المعروفة في تلك القارة الواسعة. وتعتبر صور هذا الحيوان بمثابة شارة القداسة التي تدور حولها طقوسهم الدينية. وقد دعا الباحثون هذا الحيوان بالطوطم
Totem ، وهي كلمة مستمدة من إحدى لغات الهنود الحمر في أمريكا الشمالية. (س):
ولكن الرأي الشائع عن الطوطمية هو أنها نوع من عبادة الحيوان؟ (ج):
لا يوجد في تاريخ الإنسان شيء اسمه عبادة الحيوان، والإنسان لم يرفع قط حيوانا ما إلى مرتبة الألوهة، فما معنى أن يعبد الإنسان حيوانا يستطيع صيده وأكله؟ (س):
هل يستقيم المعنى إذا استعملنا كلمة تقديس بدلا من كلمة عبادة؟ (ج):
العشيرة الطوطمية لم تكن تقدس الحيوان الطوطمي، وإنما شارة القداسة المستمدة من صورته. وهم عندما يقومون بطقوسهم لا يفعلون ذلك في البرية أمام الحيوان الطوطمي، بل في المكان الذي يحتفظون فيه بصورة الطوطم. ولكن لنقل إن الحيوان الطوطمي يتمتع بنوع من الاحترام لدى العشيرة؛ فصيده محرم على أفرادها إلا في حال التعرض للمجاعة أو حال الدفاع عن النفس إذا كان من الحيوانات المفترسة، ولكن بقية العشائر تستطيع صيده وأكله بحرية. إن الاعتقاد الساذج بأن الطوطمية هي نوع من عبادة الحيوانات هو اعتقاد لا أساس له، وقد ترسخ نتيجة للكتابات المبكرة المتعجلة التي قدمت للجمهور من أجل تعريفه بالطوطمية. (س):
حسنا، إذا كانت هذه النتائج المستمدة من دراسة سكان أستراليا الأصليين صحيحة، فينبغي لها أن تنطبق على الشعوب البدائية الأخرى. أليس كذلك؟ (ج):
هذا صحيح؛ فبعد قراءتي لكتاب دوركهايم اتجهت لدراسة معتقدات الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، وسكان جزر المحيط الهادي (ميلانيزيا وبولونيزيا)، وأفريقيا السوداء. ووجدت فيها ما كنت أتوقعه؛ فلدى الميلانيزيين على سبيل المثال اعتقاد بوجود قوة تتخلل المظاهر المادية أطلقوا عليها اسم «مانا»، وهذه القوة غير مادية وفوق طبيعانية، إلا أنها تتبدى بشكل مادي وتحدث آثارا مادية. وتقوم ديانة ميلانيزيا على طريقة التعامل مع تلك القوة التي تتبدى في وجهين؛ الأول إيجابي يتمثل بفعاليتها في مظاهر الطبيعة الحية والجامدة، والثاني سلبي ويتمثل في احتمالات الأذى الكامنة فيها وضرورة مراقبتها بحذر. (س):
وكيف طبقت هذه النتائج على مجتمعات العصور الحجرية المنقطعة عنا زمنيا؟ (ج):
إن دراسة عقائد إنسان ما قبل التاريخ ليست بالمهمة السهلة؛ لأن الباحث هنا لا يستطيع القيام بزيارات ميدانية لتلك الجماعات ليتفقد أحوالها ويراقب طقوسها الدينية، كما يفعل علماء الأنثروبولوجيا الثقافية في دراستهم لأحوال الشعوب البدائية المعاصرة، ولكن لحسن الحظ فقد تركت لنا جماعات العصور الحجرية بقايا مادية تساعدنا على الولوج إلى وسطها الفكري؛ مثل الرسوم والمنحوتات الصغيرة، وتشكيلات يدوية لا تنبئ عن قيمة استعمالية ما، وبقايا دفن تدل على طقوس جنائزية معينة، وهذه الشواهد تبدأ بالتوضح في عصر النياندرتال الذي ترك لنا بقايا دفن تدل على إيمانه بأن روح المتوفى سوف تتابع حياتها في عالم آخر، وبقايا أخرى تدل على إيمانه بوجود قوة قدسية منبثة في هذا العالم. وقد عبر عن حضور تلك القوة من خلال شارة القداسة المستمدة من وسطه الطبيعي، وهي جمجمة الدب الذي كان أقوى الحيوانات في ذلك الوسط الجليدي الذي عاش فيه النياندرتال، قبل أن ينحسر الجليد عن نصف الكرة الشمالي. وقد وجدت جمجمة الدب هذه معروضة بشكل مقصود في عدد من كهوف ذلك العصر، وبشكل يدل على أنها كانت مركزا لطقوس دينية معينة.
فإذا جئنا إلى عصر الإنسان العاقل، نجد أنه قد عبر عن حضور القوة السارية من خلال عدد لا يحصى من الرسوم التي نفذها على جدران كهوف مظلمة لا يمكن الوصول إليها إلا عبر دهاليز ضيقة وطويلة. وقد تم حتى الآن الكشف عن مائة من هذه الكهوف في المنطقة الأوروبية، وجميعها لم تكن مخصصة للسكن، وإنما لأداء طقوس دينية أمام شارة القداسة التي تعبر عنها صور الثور البري والثور الأمريكي (البيسون) والحصان والوعل. ولقد نفذ الإنسان العاقل هذه الرسوم لا باعتبارها حيوانات تنتمي إلى فصائل معينة، وإنما باعتبارها مفردات في لغة رمزية، ورداء لقوة ماورائية وجدت تعبيرها الأمثل في طاقة الحيوان على المستوى الطبيعاني. وهذا يعني أن ديانة العصر الحجري القديم سواء عند النياندرتال أو الإنسان العاقل كانت نوعا من الطوطمية المبكرة كما شرحتها آنفا. (س):
ولكن نظريتك هذه في ديانة العصر الحجري، والتي بسطتها بشكل رئيسي في كتابك «دين الإنسان» على ما أذكر لا تتفق مع ما أوردته في كتابك السابق «لغز عشتار، الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة»؛ ففي لغز عشتار لا نجد أثرا لفكرة القوة السارية وأسبقيتها على الآلهة، ولا لشارة القداسة الحيوانية. وفي المقابل فقد ركزت على المنحوتات الصغيرة التي تمثل هيئة أنثوية عارية دعوتها بالأم الكبرى للعصر الحجري، واعتبرتها أول معبودات الإنسان. (ج):
هذا صحيح إلى حد ما؛ فقد كنت حينها واقعا تحت تأثير الأفكار السائدة التي لا ترى دينا إلا عندما ترى آلهة، ولكن الفارق بين ما أوردته في الكتابين ليس على درجة واسعة من الاختلاف؛ ذلك أن إنسان العصر الحجري القديم الذي عبر عن حضور القوة من خلال شارة القداسة الحيوانية، قد رأى أن هذه القوة ذات طبيعة أنثوية، وعبر عن ذلك من خلال المنحوتات الصغيرة التي يدعوها الباحثون الغربيون ب «فينوسات العصر الحجري»، وأدعوها أنا ب «الدمى العشتارية»؛ فإلى جانب رسوم الكهوف فقد عبر الإنسان العاقل عن أفكاره الدينية من خلال دمى مصنوعة من مواد طبيعية متنوعة تمثل هيئة أنثوية عارية، لا يزيد طول أكبرها عن 20 سم. وقد ساد هذا الفن في أوروبا على طول محور أفقي يمتد من جنوب روسيا إلى أطراف جبال البيرينيه، وأنتج لنا دمى متماثلة إلى حد بعيد؛ فالرأس يتخذ شكل كتلة غير متمايزة مع غياب تام لملامح الوجه، والجسد يتخذ شكلا مغزليا مستدق الطرفين مع مبالغة في تضخيم مناطق الخصوبة (الثديين والبطن والوركين)، والقدمان غائبتان تماما، والذراعان نحيلتان جدا في وضعية الاستناد إلى الثديين. هذه السمات تدل على أن الفنان لم يكن يمثل جسدا أنثويا واقعيا، وإنما كان يعبر عن فكرة، وأن الدمية لم تكن سوى رسالة بصرية تشبه من حيث المضمون رسالة فن الكهوف. إنها شارة مقدسة تستحضر قوة ماورائية فاعلة في الطبيعة وذات خصائص أنثوية، وليست صورة لإلهة بعينها. (س):
إلى متى استمر دين الإنسان يقوم على مبدأ القوة السارية؟ (ج):
حتى أواخر العصر الحجري الحديث وقسم لا بأس به من عصر النحاس؛ فمن العصر النيوليتي (العصر الحجري الحديث) الذي ابتدأ في الألف التاسع قبل الميلاد، وذلك عندما اكتشف الإنسان الزراعة وبنى القرى الأولى في بلاد الشام، تأتينا أوضح الشواهد على مبدأ القوة السارية وشارتها المقدسة التي اتخذت هنا شكل رأس الثور البري؛ ففي موقع تل المريبط على نهر الفرات، اكتشف المنقبون بيوتا تختلف في نمطها المعماري عن بيوت السكن العادية؛ فقد احتوت على مصاطب طينية عرضت فوقها وبترتيب مقصود جماجم ثيران برية، وغرست إلى جانبها عظام كتف الثور وقرونه. وهذه الترتيبات المقصودة التي لا تفصح عن قيمة نفعية أو استعمالية، تدل على أن رأس الثور قد صار شارة مقدسة ورمزا للقوة السارية في الطبيعة، وأن هذه البنى المعمارية كانت مقامات دينية تقام فيها طقوس دينية تهدف إلى إقامة صلة مع القوة.
كما قدم لنا هذا الموقع أيضا النماذج الأولى من الدمى العشتارية في العصر النيوليتي؛ حيث تابع الفنان اعتماد أسلوب الباليوليت في تضخيم مواطن الخصوبة في الهيئة الأنثوية، ولكنه أضاف وظيفة جديدة للذراعين اللتين صارتا تسندان الثديين في إشارة إلى تقديمهما للإرضاع. وفي موقع شتال حيوك بسهل قونية جنوب الأناضول الذي يعتبر امتدادا للثقافة النيوليتية السورية، تم اكتشاف قرية نيوليتية كبيرة ازدهرت بعد تل المريبط بألفي سنة، وفيها عدد كبير من المقامات الدينية الكبيرة الأقرب في بنيتها إلى المعابد، وفيها تابع الإنسان اعتماد رأس الثور كشارة مقدسة، ولكنه استبدل رأس ثور منحوت من مادة الجص مع المبالغة في حجم وطول القرون بالجمجمة الطبيعية، وقام بتثبيت رأس الثور على الجدار إما مفردا أو في مجموعة. وقد تم التعبير عن الطبيعة الأنثوية للقوة بوضع شكل أنثوي نمطي فوق رأس الثور، أو بوضع صف من الأثداء الأنثوية تحته. ولربما أراد إنسان ذلك العصر من تلك الإشارات الأنثوية التعبير عن نظرته إلى القوة على أنها ذات طبيعة سالبة وأخرى موجبة. (س):
هل اقتصرت الشارة المقدسة على رأس الثور والهيئة الأنثوية المرمزة؟ (ج):
نحن نتحدث عن عصر لم تكن فيه الأيديولوجيات الدينية قد ظهرت بعد، كما أن الفكر الديني للإنسان وقتها كان مرنا إلى حد بعيد، وبإمكانه التعبير عن الفكرة نفسها بطرق متعددة؛ ولذلك فقد تعددت وتنوعت شاراته المقدسة؛ فخلال العصر النيوليتي في مصر كانت الشارة المقدسة عبارة عن هيئة الفأس الحجرية التي تتألف من مقبض خشبي ورأس حجري حاد يثبت على المقبض بواسطة أربطة جلدية. وقد استمر هذا الرمز إلى عصر الكتابة حيث صار رمزا كتابيا في الهيروغليفية المصرية يدل على الألوهة المجردة ويلفظ نتر
Netre ، وهي كلمة تتضمن معنى القوة أو الشدة. وخلال عصر النحاس في سورية نشأت ثقافة معروفة لدى الآثاريين بثقافة تل حلف، اكتشفت أهم آثارها في الموقع المعروف بهذا الاسم، ومنها نعرف أن شارة القداسة كانت على شكل هيئة الفأس المزدوج الذي كان له مقبض خشبي ورأسان حادان متناظران يعطيان شكلا شبيها بشكل الفراشة، وقد انتقل هذا الرمز إلى ثقافة كريت وجزر بحر إيجه المعروفة تاريخيا باسم الثقافة المينوية. وعندما دخلت هذه الثقافة في العصور التاريخية وصارت مقدمة للثقافة اليونانية، تحولت الفأس المزدوجة من شارة للقداسة إلى رمز للإلهة الكبرى للثقافة المينوية المدعوة «رحيا»، التي تصورها الرسوم الجدارية في وضعية الوقوف، وهي تحمل بيدها الفأس المزدوجة وأمامها المتعبدون ينحنون في خشوع. ومن الجدير بالذكر هنا أن ما حصل لشارة الفأس المزدوجة في الثقافة المينوية حصل أيضا لشارة رأس الثور في ثقافة الشرق القديم عندما دخلت في العصور التاريخية، حيث تحولت قرون الثور أيضا من شارة للقداسة إلى رمز للألوهة المشخصة، وراح الفنانون في منحوتاتهم يميزون كبار الآلهة والإلهات بغطاء رأس يحمل قرني ثور.
وهنالك شارة قداسة أخرى لا بد من التوقف عندها قليلا، وهي النصب الحجري؛ فقد أعطتنا تنقيبات موقع أريحا النيوليتي أول شاهد على ما يدعى في تاريخ الدين بعبادة الأنصاب الحجرية عند الساميين، وهذا الشاهد عبارة عن مقام ديني متواضع من الألف الثامن قبل الميلاد حفرت في أحد جدرانه كوة عمودية على شكل محراب وجدت في أسفله قاعدة حجرية كانت تحمل نصبا حجريا مقدسا. وقد قيض لهذه الشارة أن تكون الأطول عمرا بين الشارات الأخرى في العصور التاريخية، عندما صارت رمزا لآلهة الكنعانيين السوريين (الساميين الغربيين)؛ فالكنعانيون تابعوا في عصر الآلهة نصب الحجر المقدس في محاريب معابدهم، وكرهوا نحت تماثيل لآلهتهم. ولدينا أمثلة على ذلك منذ عصر إيبلا في أواسط الألف الثالث قبل الميلاد مرورا بمملكة ماري على نهر الفرات، والمدن الفينيقية على الساحل السوري وفي المستوطنات الفينيقية البعيدة عن الوطن الأم، ومعبد الشمس في مدينة حمص المشهور بحجره المخروطي الأسود. ومن الطريف أن نذكر هنا أن المعبد الوحيد الذي اكتشف في فلسطين مكرسا للإله التوراتي يهوه قبل العصر الروماني، كان يحتوي في محرابه على نصب حجري. (س):
وكان للعرب قبل الإسلام أحجارهم المقدسة أيضا. أليس كذلك؟ (ج):
كل العبادات الصحراوية كانت تدور حول النصب الحجرية. وهنالك عالم آثار بارز كرس حياته المهنية لدراسة هذه العبادات يدعى عوزي آفنر، شملت تنقيباته صحراء النقب في جنوب فلسطين وشبه جزيرة سيناء، حيث عثر على مقامات دينية صحراوية وأحجار مقدسة على مدى الفترة الممتدة من الألف العاشر قبل الميلاد إلى بداية العصر الإسلامي. وقد قرأت لهذا الباحث اللامع دراسات في المجلات المتخصصة عندما شرعت بتأليف كتاب عن عبادة الأحجار عند الساميين عام 2011م، ثم راسلته على الإنترنت فزودني بمزيد من دراساته وتبادلنا الأفكار على مدى ذلك العام. ثم توقف مشروعي بسبب الأحداث السورية وسفري إلى الصين.
التنقيبات في جزيرة العرب ما زالت في بدايتها؛ ولذلك لا نستطيع اقتفاء أثر العبادات الصحراوية فيها إلا اعتمادا على ما أورده الإخباريون العرب، لا سيما ابن الكلبي في مؤلفه الشهير «كتاب الأصنام»، ومنه نعرف بأن العرب لم يعرفوا الأصنام قبل القرن الثالث الميلادي، وأن عباداتهم كانت تدور حول الأنصاب الحجرية حتى بعد دخول الأصنام إلى مقاماتهم الدينية. وقد بقي من تلك الأنصاب حجر واحد حتى الآن وهو الحجر الأسود المقدس في الكعبة. (س):
الحجر عند الساميين - كما أفهم مما أوردته - كان مثل أي شارة مقدسة أخرى، رمزا مرئيا للألوهة الخافية التي كرهوا تصويرها في هيئة بشرية، فإلى أي ألوهة رمز حجر الكعبة؟ وما سر القداسة التي لازمته على الرغم من تغير المعتقدات؟ (ج):
حسنا، سأبدأ من التذكير بمعلومة مفادها أن الألوهة التي أطلق عليها نبي الإسلام اسم «الله» لم تكن جديدة تماما على عرب الجزيرة؛ فهؤلاء على تنوع آلهتهم المحلية التي كانوا يعبدونها كانوا يؤمنون بالله كإله أعلى خالق للسماء والأرض ولكل ما يرى وما لا يرى، ويرون في كعبة مكة بيتا لله، وفي حجر الكعبة الأسود رمزا مرئيا له؛ ولذلك فقد كانوا يحجون إلى الكعبة مرة في كل سنة لزيارة بيت الله وأداء طقوس الحج. وقد أورد القرآن الكريم أكثر من آية تدل على عقيدة العرب هذه، ومنها:
ولئن سألتهم (أي المشركين)
من خلق السموات والأرض ليقولن الله
وهنا يجب أن أذكر بأن القرآن وصف عرب الجزيرة بالمشركين أي الذين جعلوا لله شركاء في الألوهية، ولم يدعهم بالكفار، فإذا كان الحجر الأسود رمزا لله في الجاهلية، فلماذا لا يحافظ على قداسته في الإسلام؟ (س):
ولكن البعض يرى بأن في هذا نوعا من الوثنية! (ج):
أعتقد أن مفهوم الوثنية كما يفهمه الكثيرون بحاجة إلى مراجعة؛ فكما أن إنسان عصور ما قبل التاريخ لم يعبد الشارة المقدسة ولا الحيوان الذي استمدت منه تلك الشارة، فإن إنسان العصور التاريخية لم ير في تمثال الإله أو في الحجر الذي يمثله سوى رمز مادي يدل على شيء يتجاوزه. إنه بمثابة النافذة التي إذا فتحتها ترى الشمس، ومع ذلك فإن النافذة تبقى نافذة والشمس تبقى شمسا.
إن أي إنسان تربى في ثقافة غير إسلامية أو غير يهودية لا يرى ضيرا في تقديس الصور الدينية؛ فالمسيحي يركع أمام صورة المسيح أو العذراء في الكنيسة، والبوذي يسجد على وجهه أمام تمثال البوذا؛ لأنهما يعرفان أن ما يقدسانه ليس الصورة وإنما ما وراء الصورة. أما المسلم فإنه يصاب بالذعر لرؤية إنسان راكع أمام صورة. وهنا أود أن أروي حادثة جرت معي بعد أسابيع قليلة من وصولي إلى بكين؛ فقد نظمت لي إدارة الكلية التي أقوم بالتدريس فيها جولة سياحية للتعرف على بعض معالم المدينة، وكلفت اثنين من طلابي في قسم الدراسات العليا بمرافقتي في هذه الجولة، وكان البرنامج يتضمن في إحدى فقراته زيارة لمعبد اللاما البوذي. عندما اجتزنا الباب الخارجي وولجنا إلى فناء المعبد وجدت الكثير من الزوار يشعلون البخور في مجمرة ضخمة في الوسط ثم يتجهون إلى مدخل القاعة الأولى فمشيت معهم، وهناك وجدتهم ينطرحون أرضا على جباههم أمام تمثال هائل للبوذا مصنوع من النحاس. وهنا طفت ثقافتي الإسلامية الهاجعة في اللاشعور، ووجدتني أنتفض بشدة وأقول لمرافقي بلهجة مستنكرة: «إنهم يسجدون لصورة.» لقد اجتازت هذه الجملة عقلي الواعي الذي يعرف تماما معنى السجود أمام صورة، ونطق بها لساني كأن من ينطق بها شخص آخر لا أعرفه. (س):
هنالك صنم داخل الكعبة أيام الجاهلية يدعى «هبل»، كان أكبر الأصنام، وكانت قريش تعظمه وتفضله على بقية الأصنام الأخرى؛ الأمر الذي خلق انطباعا لدى الكثيرين بأن «هبل» هو رب الكعبة، فماذا تقول في ذلك؟ (ج): «هبل» هو تمثال مستورد من بلاد الشام، شأنه شأن بقية أصنام العرب الذين لم يكونوا يجيدون فن النحت، أو أنهم اعتبروه في عداد المهن والحرف اليدوية التي لم تكن تليق بالعرب. ويذكر ابن الكلبي في كتاب الأصنام أن «هبل» كان صنما على شكل إنسان، وصل إلى مكة بعد أن كسرت ذراعه في الطريق فصنعوا له ذراعا من ذهب. أما في تفسير الاسم فإن أهل الأخبار العرب ذهبوا في ذلك مذاهب شتى، والسبب هو أن الصنم حافظ على اسمه السوري الأصلي هبعل، وهو لقب لإله العاصفة حدد ويعني الرب أو السيد. وهو يتألف من مقطعين؛ الأول هو الهاء أداة التعريف في بعض اللهجات السورية، والثاني بعل الذي يلفظ أيضا بصيغة بعلو وبل. وبما أن قبيلة قريش كانت من أصل سوري ، ولم تهاجر إلى الحجاز إلا قبل بضعة أجيال من ميلاد الرسول، فقد كانت لغتها تحتوي على الكثير من المفردات الآرامية، وبالتالي كانت تعرف معنى كلمة هبعل أو هبل. وقد أرادت من وراء استيراد هذا الصنم أن تنصب تمثالا في الكعبة لله بصيغته الجاهلية تحت لقب الرب أو السيد.
وهنا تحضرني فكرة كنت قد أوردتها في دراسة قديمة لي عن الأصول السورية للآلهة اليونانية؛ حيث تابعت اسم الإله أبوللو إلى أصله السوري هبعلو، وقلت إن دارسي الميثولوجيا اليونانية لم يتوصلوا إلى اتفاق بشأن جذر الاسم؛ لأنه لم يكن يونانيا وإنما كان سوريا. (س):
نأتي الآن إلى السؤال الهام وهو: متى، وكيف، ولماذا حلت فكرة الإله في تاريخ الدين محل فكرة القوة؟ (ج):
حصل هذا الانتقال بشكل تدريجي خلال عصر النحاس، عندما أخذت القوة تكتسي برداء شخصي على مهل، واكتملت هذه العملية خلال الفترة الانتقالية من الألف الرابع إلى الألف الثالث قبل الميلاد، عندما دخلت الحضارة في عصر البرونز؛ فخلال عصر النحاس أخذت كبرى القرى الزراعية تتحول إلى أشباه مدن، وخلال الفترة الانتقالية من عصر النحاس إلى عصر البرونز تحولت أشباه المدن إلى مدن حقيقية، وذلك في وادي الرافدين الأدنى أولا، ثم في مصر وسوريا بعد ذلك بقليل. وترافقت هذه النقلة مع اختراع الكتابة ودخول الحضارة في العصور التاريخية، وبذلك اكتملت الثورة الثانية في تاريخ الحضارة الإنسانية وهي الثورة المدينية
Urban Revolution . (س):
وماذا حصل خلال ذلك مما له علاقة بموضوعنا؟ (ج):
عندما كانت أشباه المدن تتحول إلى مدن وتتشكل مؤسساتها المدنية، ترافق هذا التحول مع حصول تغيرات عميقة في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وبشكل خاص فإننا نعزو إلى التحولات النوعية التي طرأت على مفهوم السلطة السياسية وأساليب ممارساتها دورا مهما في تكوين مفهوم جديد للسلطة على مستوى الكون، وظهور الآلهة التي تدير الكون كما يدير الحاكم المدينة.
لقد كانت جماعة الصيادين في العصور القديمة تعيش في مشاعية اقتصادية لا يملك الفرد فيها سوى أدواته الحجرية، أما نظامها السياسي فكان يقوم على اختيار زعيم غير متفرغ لمهام الرئاسة يمكن عزله واختيار غيره في أي وقت. وفي العصر الحجري الحديث كانت الأراضي الزراعية ملكا لجميع أسر القرية، وكان رجال القرية يشتركون في الزراعة والحصاد وتربية الماشية ثم يوزعون ناتج عملهم على الجميع بالتساوي. أما زعيم القرية فلم تختلف صلاحياته كثيرا عن صلاحيات زعيم جماعة الصيادين، وربما كانت شئون القرية تدار من قبل مجلس للشيوخ. أما الحياة الدينية فكان يشرف عليها ساحر القرية أو الشامان بمصطلحات الأنثروبولوجيا الحديثة، والذي كان يقود الطقوس الدينية لا سيما تلك الطقوس الخاصة بالتأثير في القوة من أجل إنزال المطر. هذا ونستنتج مما كشفت عنه التنقيبات الأثرية في مواقع العصر النيوليتي من بيوت ومقابر، عدم وجود تفاوت في الثروة أو المكانة الاجتماعية بين الأفراد.
ولكن الأمور أخذت بالتغير مع الاقتراب من فجر المدنية في منطقة الشرق القديم؛ فقد تحول المقام الديني البسيط إلى معبد كبير، وتحول الشامان إلى كاهن أعلى يساعده كهنة أدنى منه مرتبة، وبني قصر واسع للرئيس الذي تحول إلى ملك مطلق الصلاحيات يفرض سلطته على الجماعة بعد أن كان يستمدها منها، وظهر التملك الخاص للأرض ووسائل الإنتاج، وتنوعت الحرف اليدوية والاختصاصات. وهكذا نجد أن الفرد الذي لم يكن يشعر بالسلطة تمارس عليه من قبل أي جهة كانت عندما كان الجميع أحرارا ومتساوين، صار ينظر إلى الكون وكأنه نموذج عن المدينة ومحكوم ومسير بسلطة الحاكم، وتحولت القوة التلقائية التي كانت تتخلل العالم إلى سلطة ونظام سلطوي، وظهرت الآلهة كشخصيات ذات قوة حلت محل القوة البدئية. (س):
ولكن هل خرج الآلهة من خيال الإنسان بداعي هذه التحولات المادية فقط؟ ألم يكن لفكرة الإله المشخص من مرتكز موضوعي ساعد على ترسيخها إلى جانب تلك التغيرات الحاصلة في المجتمع؟ (ج):
لم يخرج الآلهة من خيال الإنسان فجأة، وفكرة الإله المشخص كانت تختمر فيما ندعوه في تاريخ الدين بمؤسسة عبادة الأسلاف، والجيل الأول من الآلهة كانوا أسلافا مقدسين جرت ترقيتهم إلى رتبة الآلهة . وتقوم مؤسسة عبادة الأسلاف على فكرة قديمة آمن بها الإنسان البدائي، وهي أن روح الميت بعد انتقالها من المستوى الدنيوي إلى المجال الماورائي المقدس، تكتسب قوة إضافية فوق ما لدى البشر، تجعلها قادرة على التأثير في حياتهم وعالمهم إما خيرا أو شرا. ومن هنا نشأت لدى المجتمعات البدائية طقوس تهدف إلى دفع شر الأرواح أو استجلاب رضاها. ولكن هذه الفكرة لم تتحول إلى مؤسسة فاعلة في الحياة الاجتماعية إلا مع بدايات العصر الحجري الحديث؛ ففي موقع تل المريبط على نهر الفرات عثر المنقبون على بقايا دفن تعود إلى الألف الثامن قبل الميلاد، تدل على شواهد مبكرة لتقديس الأسلاف؛ فقد وجدت تحت أرضيات البيوت السكنية هياكل عظمية مدفونة دون جماجمها، أما الجماجم فقد فصلت وعرضت في الأعلى داخل المسكن على قواعد طينية كنوع من الأثاث الجنائزي المعروض باستمرار أمام أنظار الأحياء. وهذا يعني أن الإنسان النيوليتي كان يعتقد بأن جماجم بعض أسلافه المميزين كانت مستودعا لقوة ماورائية، وأن هؤلاء كان باستطاعتهم منح الخير والبركة للأحياء بعد مماتهم مثلما فعلوا خلال حياتهم.
خلال النصف الثاني من العصر النيوليتي حصل تطور لافت للنظر في طريقة عرض الجماجم داخل البيوت؛ ففي موقع أريحا عمد الإنسان إلى إعطاء ملامح للجماجم المعروضة في البيوت مستخدما في ذلك عجينة من كلس وطين، وملأ محاجر العينين بأصداف تعطي شكل البؤبؤ، ثم طلى الوجه بلون يماثل لون البشرة الحية، وأخيرا وضع الجمجمة على قاعدة طينية تشبه الجذع الإنساني، فبدا التكوين وكأنه تمثال نصفي للسلف، وكانت هذه الجماجم معروضة في مجموعات تتألف كل منها من جمجمتين أو أكثر، وقد وجدت هذه الشعائر الجنائزية في عدة مواقع نيوليتية أخرى لا سيما في موقع تل الرماد قرب دمشق.
وفي موقع شتال حيوك بسهل قونية الذي ازدهر في أواخر العصر النيوليتي، حصلت نقلة أدخلت جمجمة السلف إلى نطاق الحياة الدينية؛ حيث صرنا نرى الجماجم البشرية معروضة أسفل الحائط الذي علقت عليه رءوس الثيران كشارة مقدسة. ولكن كان على هؤلاء الأسلاف الذين دخلوا الحياة الدينية كعنصر ثانوي أن ينتظروا حتى أواخر العصر النحاسي لكي يتحولوا إلى آلهة ويحلوا محل الشارة المقدسة. (س):
حسنا، بعد ظهور الآلهة كيف قام هؤلاء بترتيب أمورهم وتوزيع الصلاحيات فيما بينهم؟ لا شك في أن مجمع الآلهة الذي يرأسه كبيرهم كان الخطوة الأولى في هذه العملية؟ (ج):
مجمع الآلهة هو ناتج سياسي متأخر قليلا؛ ففي مطلع عصر الآلهة كان الأصل في الحياة الدينية هو معتقد بسيط خاص ببلدة ما أو مدينة وما يتصل به من طقوس وأساطير، ومثل هذا الشكل ندعوه عبادة
Cult ، وغالبا ما تتركز الحياة الدينية في مؤسسة العبادة حول إله واحد أو حول ثنائي إلهي يتألف من ذكر وأنثى، فإذا حصل تقارب وتفاعل وتمازج بين مجموعة من البلدات والمدن والقرى التي تدور في فلكها، والتي تتشارك العيش في منطقة جغرافية معينة، وشكلت فيما بينها إثنية متميزة، تداخلت عباداتها وتمازجت، نجم عن ذلك ما ندعوه بدين الشعب، وصار أهل العبادة الواحدة يوقرون آلهة العبادات الأخرى مع تركيزهم على عبادة إلههم الخاص، ثم إن دين الشعب أخذ شكله الأخير الثابت عندما نشأ كيان سياسي وحد بين هذه الجماعات وجمع آلهتها في هيئة عليا تدعى مجمع الآلهة الذي يرأسه كبير الآلهة، والذي غالبا ما كان إله السماء. ولغرض التوضيح أسوق فيما يأتي مثالا مستمدا من الثقافة السومرية.
ففي وادي الرافدين الجنوبي خلال العصر السومري الذي ابتدأ في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، نشأت اثنتا عشرة بلدة تحولت تدريجيا إلى مدن، وكان لكل مدينة إلهها الخاص؛ فقد عبد الإله شمش في مدينة سيبار، وعبد الإله سن في مدينة أور، وعبدت إنانا في مدينة أوروك، وعبد إنليل في مدينة نيبور ... إلخ، ثم إن هذه العبادات أخذت بالتقارب والتداخل إلى أن قامت في مدينة أور أسرة ملكية عملت على توحيد المدن السومرية في كيان سياسي واحد، وهي الوحدة التي رسخت الملامح الثابتة لمجمع الآلهة السومري الذي يرأسه إله السماء «آن»، ويبرز فيه الثالوث الأقدس «آن وإنليل وإنكي». (س):
لماذا نجد لإله السماء هذه المكانة العالية التي تخوله رئاسة مجمع الآلهة؟ وهل نجد ذلك في بقية ميثولوجيات الشرق القديم؟ (ج):
إن قبة السماء الزرقاء باتساعها وعمقها وعلوها أثارت منذ القديم عواطف دينية غامضة. ونظرا لأنها تغطي الأرض من جميع جهاتها وترتفع فوق كل ما يجري في الأسفل، فقد شعر الإنسان بأنها تمارس سلطة وقوة على كل ما يقع تحتها، وكان إلهها هو الإله الأعلى شأنا ومرتبة. هكذا كان الحال في الميثولوجيا السومرية والبابلية من بعدها، وكذلك في الميثولوجيا الكنعانية حيث نجد «إيل» إله السماء هو رئيس مجمع الآلهة. وفي جزيرة العرب حيث لم ينتج الفكر الديني مجمعا للآلهة، كان الله إله السماء الأعلى شأنا بين جميع الآلهة، ولكن الأمور لا تدوم على هذه الحال بالنسبة إلى إله السماء، ففي الميثولوجيا السومرية نجد الإله إنليل يقوم بالاستيلاء على معظم صلاحيات إله السماء آن، وهو الذي يقوم بفعل الخلق عندما فصل السماء عن الأرض وأظهر معالم الكون، ولم يبق للإله آن سوى الرئاسة الاسمية. وفي بابل لم يكن إله السماء آنو هو رئيس المجمع خلال العصر الإمبراطوري، وإنما مردوخ الذي أوكلت إليه مهمة خلق العالم. فإذا انتقلنا لغرض المقارنة إلى الثقافة اليونانية، نجد أنه في البدء لم يكن سوى العماء أو الشواش البدئي، ظلمة وامتداد بلا نهاية، وكان أول الآلهة ظهورا من هذا العماء هي الأرض/الأم المدعوة جايا، وبعدها إيروس الحب الجنسي، ثم إن جايا أنجبت دون زوج بكرها السماء أورانوس وتزوجته، وأنجبت منه الجيل الأول من الآلهة وهم التيتان، ومنهم كرونوس الذي انقلب على أبيه وخصاه وحل محله، ولكنه ما لبث حتى وقع في شر أفعاله عندما ثار عليه ابنه زيوس وحل محله. (س):
هذه النقلة من مبدأ القوة إلى قوة الآلهة المشخصة، هل حصلت في جميع الثقافات؟ ألم يبق من مبدأ القوة أي أثر في عصر الآلهة؟ (ج):
هذا السؤال يعيدنا إلى الثقافة الصينية التي بقي فيها مبدأ القوة متعايشا مع الآلهة المشخصة؛ فالآلهة الصينية في المعتقدات التقليدية لم تقطع صلتها تماما بماضيها كأسلاف مقدسة، ولم تكتسب تماما خصائص الآلهة المتعالية على البشر وعلى الطبيعة. وتظهر السير الأسطورية لهؤلاء الأسلاف كيف ابتدأ أمرهم كرجال صالحين على الأرض، ثم جرى تأليههم وعبادتهم فيما بعد؛ ولهذا فإن الآلهة الصينية على كثرتها لا تبدو لنا كشخصيات ذات ملامح واضحة ووظائف دائمة، وإنما ككيانات شبحية لا تتمتع بخصائص ذاتية، وتكتسب قوتها من قوة المنصب الذي تشغله؛ ذلك أن المنصب الإلهي هو الثابت، أما شاغلوه فمتغيرون. ولغرض إيضاح هذه النقطة أقول بأن الإله «سن» أو «نانا» بقي إلها للقمر في الثقافة الرافدينية طيلة تاريخ الشرق القديم (ثلاثة آلاف عام)، وشمش بقي إلها للشمس، وإنليل بقي إلها للهواء، وقس على ذلك بخصوص بقية الآلهة في ثقافات الشرق القديم، وفي الثقافة اليونانية-الرومانية. أما في الثقافة الصينية فنجد أنه في كل إقليم من الأقاليم الصينية العديدة يجري توزيع الوظائف والاختصاصات بين الآلهة؛ مثل تصريف الرياح وقدح البرق وإنزال المطر بشكل مختلف عن الإقليم الآخر، وقد يتم في إقليم ما ترقية أحد الآلهة إلى مقام أعلى، أو تخفيض مرتبته أو حتى صرفه من الخدمة نهائيا. أما المصدر الحقيقي لقدرة الآلهة الصينية فهو مفهوم مجرد عن الألوهة يتمثل في قوة السماء التي عبدت منذ مطلع العصور التاريخية الصينية تحت اسم شانغ-تي/
Shang Ti
خلال عصر أسرة شانغ، ثم تحت اسم تي يين/
Ti’ien
خلال حكم أسرة شو
Chou ، حيث جرى تصورها كقوة تشغل الجهة العليا من قبة السماء، ولا تشبه في شيء إلها أعلى مسيرا للكون. وإلى جانب تمجيد قوة السماء، فقد استمرت طقوس عبادة الأرواح لا سيما أرواح الأسلاف الأسطوريين بنفس الزخم السابق.
وفي أواسط الألف الأول قبل الميلاد عندما ظهرت المدارس الفلسفية، تابع الفلاسفة تمجيد قوة السماء، ولم يدخلوا تعديلا على مؤسسة عبادة الأسلاف، لا سيما كونفوشيوس الذي اعتبر قوة السماء بمثابة الحضور الروحي الجليل، والقوة الأخلاقية الأعظم، ومصدر كل شيء. وقد رأى أن إرادة السماء تفعل من خلال عناية متضمنة في صلب النظام الطبيعي الذي يقابله على المستوى الإنساني الاجتماعي نظام آخر هو القانون الأخلاقي؛ ولذلك فإن انسجام الفرد مع إرادة السماء الفاعلة في الطبيعة يتحقق بمراعاة النظام الأخلاقي الذي يشكل انتهاكه خطيئة بحق السماء. وعلى الرغم من أن المدارس الفلسفية الكونفوشية الكثيرة التي تتابعت بعد المعلم الأول حتى مطلع العصور الحديثة، اختلفت فيما بينها اختلافا كبيرا، إلا أن نظرتها إلى قوة السماء بقيت على حالها عدا خلاف بعض المفكرين بخصوص الطبيعة الأخلاقية للسماء؛ فقد رأى بعضهم أن السماء تقف إلى جانب الإنسان الطيب وتدعم الحاكم الفاضل، وتمنحه تفويضها ليحكم، وتسحب تفويضها من الحاكم السيئ الذي يفقد دعمها، بينما رأى آخرون أن قوة السماء هي حيادية أخلاقيا وميكانيكية في عملها. وكما ترى فإن أصحاب الرأي الثاني يقتربون كثيرا من مفهوم القوة السارية في الطبيعة لدى الشعوب البدائية. (س):
وهل السماء هي من اضطلع بفعل الخلق والتكوين في الثقافة الصينية؟ (ج):
نظرية الخلق والتكوين الصينية تقوم على تصورات أقرب ما تكون إلى تصورات الفيزياء الكونية الحديثة؛ أي إنها نظرية غير دينية، بمعنى أن الكون لم يظهر بواسطة قدرة إلهية متعالية، وإنما نتيجة لما أسميته سابقا ب «حالة فعالية» تلقائية موجودة في صميم عمليات الطبيعة؛ فهي والحالة هذه نظرية مادية إلى حد بعيد. وهذه النظرية مبسوطة في واحد من المؤلفات الكلاسيكية الستة السابقة على عصر كونفوشيوس، والتي كانت أساس كل تعليم يجري في الصين. ويدعى هذا المؤلف بالصينية إي كينغ؛ أي كتاب التغيرات، وفي اللغات الأوروبية آي تشينغ/
I.ching .
تقوم حكمة التغيرات على فكرة أن التغير هو سمة الوجود؛ فكل شيء يجري دون توقف مثل ماء النهر، ولكن هذا التغير الدائم ينبغي أن يتم على أرضية ثابتة وإلا آل النظام الكوني إلى فوضى مطلقة، وهذه الأرضية الثابتة هي المبدأ الأول المدعو بالتاو، أو الواحد غير المتكثر الذي نشأت عنه الكثرة. ويرمز للمبدأ الأول بدائرة فارغة تعبر عن الحالة السابقة على توليده للموجودات، وبدائرة يقسمها خط ملتو على شكل حرف
S
إلى مساحتين إحداهما بيضاء والأخرى سوداء، ترمزان إلى القوة الموجبة يانغ والقوة السالبة ين، اللتين تولدتا داخل فراغ التاو، وراحتا تدوران على بعضهما، وعن دورانهما نشأت الآلاف المؤلفة من مظاهر الكون والطبيعة والحياة، والتي تحمل كميات متفاوتة من هاتين القوتين. فإذا غلب اليانغ في هذا المظهر أو ذاك كان ذا طبيعة موجبة (الشمس، النار، السماء، الذكر ... إلخ)، وإذا غلب الين كان ذا طبيعة سالبة (القمر، الماء، الأرض، الأنثى ... إلخ)، فلا اليانغ يتجلى في طبيعته الصرفة ولا الين كذلك؛ لأن في كل سلب بعض الإيجاب، وفي كل إيجاب بعض السلب؛ ولذلك فقد صور القسم الأبيض داخل دائرة التاو وفيه بؤرة صغيرة سوداء، والقسم الأسود وفيه بؤرة صغيرة بيضاء. (س):
أعتقد أن العلاج الصيني بالإبر يرتكز على وجود هاتين القوتين! (ج):
هذا صحيح؛ ففي جسم كل كائن حي طاقة موجبة وطاقة سالبة متوازنتان بدقة، وتتحركان في قنوات غير مرئية، فإذا اختل هذا التوازن حصل المرض، ولكن غرز الإبر في هذه القنوات من شأنه أن يعيد التوازن إلى ما كان عليه. (س):
نأتي الآن إلى سؤال مركزي في موضوع الدين والحضارة وهو: هل الدين قوة دافعة للحضارة أم كابحة؟ (ج):
هذا يتوقف على أي دين نتحدث وعن المكان والزمان. ولكن دعني أقول إن الدين كان من حيث المبدأ قوة دافعة للحضارة؛ ففي العصور الحجرية كانت الأغنية الأولى دينية، وكذلك الإيقاع الأول والرقصة الأولى، وكان رجل الدين هو المفكر الأول والفيلسوف الأول، وهو الذي أنتج رسوم الكهوف والدمى العشتارية. وعندما استقر الإنسان في الأرض وخرج من كهوفه، كان رجل الدين هو من وضع التصميم المعماري للبيت الأول. لقد كانت هذه المؤسسة الدينية البدائية هي الأمينة على تراث الجماعة، وهي التي تضمن انتقاله من جيل إلى جيل. (س):
ولماذا تمتع رجل الدين بهذه المكانة المميزة؟ (ج):
لأنه كان بلا عمل، كل فرد في الجماعة كان يعمل من أجل تحصيل الرزق، صيدا كان أم زراعة وعناية بالماشية، أما هو فقد كان متفرغا للشأن الديني، والشأن الديني بطبيعته نشاط غير نفعي فيه علو على إيقاع الحياة اليومية. (س):
وهل استمرت الأمور على هذه الحال في العصور التاريخية؟ (ج):
وأكثر؛ فمع فجر المدنية في الشرق القديم ازدادت الثروة، وصار بمقدور اقتصاد الجماعة تفريغ عدد كبير من الكهنة لرعاية الشئون الدينية، فبنيت المعابد الضخمة التي صارت مراكز لإنتاج الثقافة. ومع اختراع الكتابة في وادي الرافدين الجنوبي جرى استخدامها لأغراض عملية، ثم في تدوين الأساطير، وهي الشكل الأول للأدب الإنساني الذي اتخذ منذ البداية الصيغة الشعرية. وبإمكاننا القول إن المراكز الدينية الضخمة التي تعطي الناظر إليها إحساسا بالجلال والجمال، والداخل إليها إحساسا بالرهبة الدينية وبالحضور الإلهي؛ مثل: معبد الكرنك ومعبد الأقصر في مصر، والمعابد ذات الأبراج المدرجة في سومر وبابل، كانت من تصميم الكهنة لأنهم هم الذين يعرفون تلك الصلة الحميمة بين فضاء العمارة وفضاءات الروح. وفي هذه المعابد جرى إنتاج الفنون البصرية؛ مثل المنحوتات البارزة، والتماثيل، والأختام الأسطوانية. وقد كانت الآلهة هي الموضوعات التي تناولتها فنون النحت، وعندما كان الملك موضوعا لها كان ذلك بصفته الدينية لا بصفته الدنيوية؛ فالفرعون المصري كان ابنا للإله رع، والملك السومري كان تجسيدا للإله دوموزي روح النبات، وكان يتزوج رمزيا من إنانا، إلهة خصب الأرض والكائنات الحية، في عيد رأس السنة. أما الأختام الأسطوانية فكانت موضوعاتها مستمدة من الأساطير الدينية؛ هذا الدور الرائد للدين في مجال النتاج الثقافي المادي وغير المادي، نستطيع التعرف عليه في بقية الثقافات بعيدا عن الشرق القديم، وإلى درجة يمكننا معها القول بأن 90 بالمائة من ميراث الإنسانية هو نتاج ذو صلة بالدين. (س):
لم تذكر شيئا عن المسرح، هناك من يقول بأنه ذو أصل ديني؟ (ج):
هذا صحيح؛ فقد ولدت الدراما من رحم الطقس الديني. لا سيما من الطقوس الدورية الكبرى التي كانت تقام مرة في كل عام في عيد الربيع الذي يؤشر إلى الدخول في سنة جديدة. وقد حفظت لنا نصوص بلاد الرافدين تفاصيل نسختين من هذه الطقوس، وهما النسخة السومرية وهي الأقدم، والنسخة البابلية وهي الأحدث؛ ففي أعياد الربيع السومرية كان الطقس يهدف إلى تجديد حياة الطبيعة من خلال إنشاد وتمثيل دورة حياة الإله دوموزي روح النبات وما جرى له مع حبيبته إنانا؛ فدوموزي يقع في حب إنانا ثم يتزوج الإلهان، ومن اتحادهما الجسدي تتجدد حياة الطبيعة والإنسان والحيوان، ولكن الموت صنو للحياة ووجهها الآخر، والطبيعة يجب أن تجدد نفسها بالموت والانبعاث إلى حياة غضة جديدة؛ ولذلك فإن العريس الإلهي يجب أن يموت، وعفاريت العالم الأسفل تنطلق في إثره وهو يهرب ويختبئ منها إلى أن تمسك به وتسومه أنواعا من العذاب قبل أن تقوده إلى عالم الموتى. وهنا يأخذ المحتفلون بإنشاد سلسلة من البكائيات على الإله الغائب تنتهي بانبعاثه من العالم الأسفل، وعودته إلى الحياة لتبدأ الطبيعة دورة جديدة.
أما في النسخة البابلية من الطقس، فقد كان المحتفلون ينشدون ويمثلون أسطورة التكوين البابلية التي تقص عن ولادة الإله مردوخ واستلامه رئاسة مجمع الآلهة، وقتله للتنين المائي البدئي وصنع الكون من أجزائه، وكان الهدف من هذا الطقس هو إعادة خلق العالم وتجديده. وفي الميثولوجيا الكنعانية لدينا نص طويل من موقع مدينة أوغاريت يروي عن موت إله الطبيعة بعل وبعثه أيضا، وقد لاحظ قارئو هذا النص ومفسروه وجود جمل فيه خارجة عن السياق، فهموا منها أنها عبارة عن توجيهات للممثلين الذين يقومون بالأداء الدرامي له. على أن هذه الحالة الجنينية للدراما لم تنفصل عن أصولها الدينية في بلدان الشرق القديم لينشأ عنها المسرح الذي نعرفه، وإنما تم ذلك في بلاد اليونان، حيث نشأت التراجيديا عن الطقس الديني المعروف باسم الديثيرامب/
Dithyramb
الذي يقص أيضا عن ميلاد الإله ديونيسيوس وحياته وموته الفاجع ثم بعثه. (س):
لماذا ارتبطت دورة حياة الطبيعة بدورة حياة إله يموت ويبعث من جديد؟ (ج):
لأن الفكر الديني يقوم على مبدأ أن كل ما يحدث في العالم المادي هو نسخة لاحقة عما يحدث في العالم الماورائي؛ ولذلك فإن موت الطبيعة في الخريف وانتعاشها في الربيع لا بد أن يكون انعكاسا لحدث آخر هو أصل له. (س):
وكيف يساعد الطقس الدرامي على الربط بين الحدثين؟ (ج):
هنا يجب أن أعود إلى التذكير بما أوردته سابقا عن الفرق في الطبيعة والمضمون بين طقوس عهد القوة وطقوس عهد الآلهة؛ فالأولى كانت طقوسا سحرية اعتقد الإنسان بقدرتها على التأثير في القوة من أجل إحداث النتائج المطلوبة، والثانية كانت طقوسا تعبدية تهدف إلى التوسل لكائنات روحانية عاقلة لكي تمن عليه بالنتائج المطلوبة؛ أي إن إنسان العصور الحجرية والقبال البدائية كان يعتقد بالقدرة الهائلة لطقوسه، أما إنسان العصور التاريخية فكان يعتقد بالقدرة الهائلة للآلهة. غير أن التحول من طقوس التأثير في القوة وما يترتب عليها من معتقدات إلى طقوس التضرع والصلوات وتقديم القرابين، لم يتم بشكل كامل؛ حيث بقي الإنسان يعتقد بقدرة طقوسه على إجبار الآلهة على الوقوف إلى جانبه أو حتى مساعدتها على إتمام مهامها؛ ففي مصر القديمة على سبيل المثال كان إله الشمس رع يدخل كل صباح في صراع مع التنين الشرير آبيب الذي يحاول ابتلاع قرص الشمس ومنعه من الشروق، ولكن انتصار رع على خصمه لم يكن ليتم دون معونة الكهنة الذين كانوا يتلون تعاويذ معينة خلال الليل من شأنها إظهار الإله الأعلى على خصمه؛ ولهذا فعندما كان البابلي يقوم بأداء دراما انتصار الإله مردوخ على تنين العماء البدئي، لم يكن يؤدي دراما احتفالية دنيوية، وإنما طقسا سحريا من شأنه عون الإله على مهمته في إعادة خلق العام لسنة قادمة، والسومري عندما كان يعيد تمثيل دورة حياة دوموزي إنما كان يساعد الطبيعة على إتمام دورتها السنوية. (س):
نعود للحديث عن مسألة ما إذا كان الدين قوة دافعة أم كابحة. متى يتحول الدين من قوة دافعة إلى قوة كابحة؟ (ج):
من أجمل أقوال يسوع المسيح قوله لليهود الذين احتجوا عليه لأنه يشفي الأمراض في يوم السبت الذي يحرم فيه العمل: «السبت جعل لخدمة الإنسان وليس الإنسان لخدمة السبت.» ومؤدى هذا القول هو أن الدين وجد لخدمة الإنسان ولم يوجد الإنسان لخدمة الدين؛ فالدين يبقى في خدمة الإنسان طالما حافظ على بنية حيوية متطورة، وطالما حافظت رموزه على طاقتها الإيحائية، ثم يغدو الإنسان في خدمة الدين عندما يتحول الدين إلى بنية حجرية جامدة. ويبدأ هذا التحول مع ظهور الأيديولوجيات واختزال الدين إلى كتب مقدسة، ثم يتكرس عندما يتحول الكتاب المقدس من مرشد إلى معبود في حد ذاته؛ الأمر الذي يحرم الدين من حيويته وطاقاته الإبداعية، ويحوله إلى قوة كابحة. (س):
هل ينطبق هذا على الإسلام، مع أن ظهوره ترافق مع صعود حضارة إسلامية تفوقت في شتى ميادين المعارف والفنون والعلوم؟ (ج):
خلال القرون الأولى الهجرية عاش الإسلام فترة إبداعية قل نظيرها؛ فقد نشأ علم الحديث عندما قام بحاثة متخصصون منذ القرن الثاني بجمع أقوال الرسول وأحاديثه وفق أساليب دقيقة في التقصي، فظهرت تباعا تصنيفات في الحديث بلغ عددها نحو 23 مصنفا. وظهر علم الشريعة على يد فقهاء متخصصين، وتأسست نحو 11 مدرسة فقهية كان أهمها: الفقه الحنفي، والفقه الشافعي، والفقه المالكي، والفقه الحنبلي. وظهر علم الكلام وهو علم العقائد الإسلامية الذي تعددت مدارسه، وقام علماء الكلام باستخدام أساليب المنطق والبرهان الفلسفي في إثبات صحة العقائد الإسلامية. وظهر علم تفسير القرآن الكريم وتعددت كتبه. ونظرا لغياب المؤسسة الدينية في الإسلام، والتي تعطي لنفسها الحق في قبول هذا المصنف في الحديث أو ذاك، ورفض هذا الفقه أو ذاك، فقد تعايشت هذه النتاجات الفكرية إلى جانب بعضها بعضا، ورفدت بعضها بعضا.
كما أن الإسلام لم يحارب الفلسفة، وظهرت الفلسفة الإسلامية في القرن الثاني الهجري على يد الفيلسوف العربي الكبير أبو يوسف الكندي، وبلغت ذروة نضجها بعد عدة قرون على يد ابن رشد. كما أن الإسلام لم يحارب العلم وإنما أعطاه قوة دافعة كبيرة، ولم يتدخل في قبول أو رفض أي فكرة أو نظرية علمية كما فعلت الكنيسة المسيحية. على أن هذه الحيوية التي أبداها الإسلام أخذت بالاختفاء حتى وصلنا إلى عصر ابن تيمية وتلاميذه عندما أغلق باب الاجتهاد والتفكير، وحل النقل مكان العقل، وتحول الإبداع إلى عبادة للماضي. (س):
لفت نظري في حديثك ما قلته عن عدم وجود مؤسسة دينية في الإسلام. هل لنا ببعض الإيضاح حول هذا؟ (ج):
بعد وفاة الرسول خلفه صاحبه أبو بكر الذي حمل لقب خليفة رسول الله، ولكن خلافة أبي بكر لم تكن خلافة دينية وإنما خلافة سياسية، بمعنى أنه لم يكن له مركز ديني أو سلطة دينية رسمية، وكان الناس يستفتونه في مسائل دينية لكونه من صحابة الرسول مثلما كانوا يستفتون بقية الصحابة. وبقيت الأمور على هذه الحال خلال خلافة عمر وعثمان وعلي. وعندما آلت الخلافة إلى بني أمية، لم يعد من الضروري أن يكون الخليفة من صحابة الرسول، وفقد منصب الخلافة أي صلة له بالصفة الدينية لشاغل المنصب، فكان الخليفة هو ملك العرب تحت مسمى إسلامي شكلي. وبهذه الطريقة لم تتحول الدولة العربية إلى دولة إسلامية في أي عصر من عصورها حتى في عصر الخلافة الفاطمية بمصر؛ حيث كان الإمام الإسماعيلي هو الخليفة؛ ولذلك لم يكن للمسلمين مؤسسة دينية تحكم شئونهم الدينية مثل الفاتيكان، ولا رئيس ديني مثل بابا الكاثوليك أو بطريرك القسطنطينية. ولم يكن لديهم أيضا رجال دين متفرغون ينتظمون في مراتب وظيفية كما هو الحال عند الخوارنة والقساوسة والمطارنة وغيرهم من أصحاب الرتب الكهنوتية في الكنيسة المسيحية. (س):
وماذا عن المرجعيات الدينية، وكيف نشأت إذن؟ (ج):
إن غياب السلطة الدينية عند المسلمين لم يكن يعني غياب المرجعيات الدينية؛ فلقد كان هناك على الدوام رجال وثق الناس بعلمهم وراحوا يستفتونهم في مسائل العقائد والعبادات والأحكام الشرعية، وكان من واجب هؤلاء العلماء الاستجابة لطالب الفتوى وإعطاؤه الجواب على سؤاله، ولكن هذه الفتوى ليست ملزمة، وبإمكان السائل أن يأخذ بها أو أن يلجأ إلى مرجعية أخرى. (س):
وماذا عن الجامع الأزهر وأمثاله من المؤسسات؟ أليست سلطات دينية؟ (ج):
الجامع الأزهر مؤسسة تعليمية، ولم يكن في وقت من الأوقات سلطة دينية. ومنذ القدم كان التعليم الديني يجري في حلقات المساجد؛ حيث كان علماء الدين يلتقون بتلاميذهم ويعطون علومهم لمن شاء من الرجال والنساء، ويمكن لمن اعتقد أنه أكمل تعليمه الديني أن يلبس الزي الديني، وهو العمامة والقفطان، دون تفويض من أحد أو حصوله على الإذن بذلك من أي جهة. ولا تختلف مؤسسات التعليم الديني الكبرى مثل الجامع الأزهر عن حلقات التعليم الحر إلا في أن من أكمل تعليمه فيها يحوز على ثقة أكبر من الناس باعتباره حاصلا على شهادة من مؤسسة تتمتع بسمعة عالية؛ أي إن السلطة الدينية لهؤلاء تأتي من الناس، من الأسفل لا من الأعلى. (س):
وماذا عن وزارة الشئون الدينية التي تدعى في بعض الدول العربية بوزارة الأوقاف؟ ماذا عن منصب مفتي الجمهورية؟ (ج):
وزارة الأوقاف هيئة إدارية بحتة تهتم بالمسائل الوقفية، وإدارة شئون المساجد، وتعيين الأئمة الذين يقودون الصلوات، والخطباء الذين يلقون خطبة أو موعظة يوم الجمعة، وتدفع لهم رواتب. أما مفتي الجمهورية فهو مرجعية دينية بلا سلطة على أحد، ومنصبه ذو طابع استشاري، ويمكن للسلطة السياسية عزله في أي وقت واستبدال آخر به. (س):
هذا عن الإسلام. فماذا عن المسيحية من حيث كونها قوة دافعة؟ (ج):
لقد شهدت المسيحية فترة قصيرة من الإبداع والحيوية؛ فخلال القرن الأول الميلادي دونت الأناجيل تباعا، ولم تكن تقتصر على الأناجيل الأربعة المعروفة، كما قام بولس الرسول بكتابة رسائله الأربع عشرة وبثها في الكنائس حديثة الولادة، ودونت رسائل أخرى عزيت إلى بعض تلاميذ يسوع؛ مثل يوحنا، وبطرس، ويعقوب. وقد أنجز هؤلاء مؤلفاتهم بمبادرات شخصية ومن دون تكليف من أحد أو وصاية من مؤسسة دينية. ويظهر الطابع الحر والتلقائي لهذه المؤلفات من اختلاف وجهات نظر مؤلفيها بخصوص سيرة يسوع وتعاليمه، والتي تعزى إلى أن كل مؤلف كان يعمل في استقلال عن الآخر ودون مرجعية توجه عمله، وربما لم يكن على دراية بما أنجزه الآخرون، ولكن في آخر القرن الثاني الميلادي قامت كنيسة روما التي صارت أم الكنائس جميعا باختيار مجموعة من النصوص التي تم إنتاجها في فترة الإبداع، واعتبرتها وحدها أصلية وقانونية، وجمعتها في كتاب واحد، أما بقية النصوص فقد اعتبرت زائفة ومنحولة. وبذلك ظهر الكتاب المقدس المسيحي لأول مرة تحت اسم العهد الجديد. هذه العملية كانت بداية للانتقال من مرحلة الحيوية والانفتاح إلى مرحلة الجمود والأيديولوجيا. وقد تكرست هذه المرحلة في مطلع القرن الثالث الميلادي، عندما أقر مجمع نيقية الذي انعقد في مدينة بهذا الاسم في آسيا الصغرى قانون الإيمان المسيحي، الذي حسم كثيرا من الخلافات بين رجال الدين وعلى رأسها مسألة طبيعة المسيح. وبذلك دخلت المسيحية في نفق الجمود والتحجر، وتمت مصادرة العقل لصالح أيديولوجيا، كانت مناقشة أي بند من بنودها هرطقة تستوجب المحاكمة. وقد تجلى هذا الجمود بأوضح أشكاله في الموقف العدائي الذي اتخذته الكنيسة من العلم والفلسفة. (س):
هل نستطيع القول إذن بأن المسيحية كانت وراء أفول روما ودخول أوروبا في العصور الوسطى؟ (ج):
عندما صارت المسيحية دينا رسميا للإمبراطورية الرومانية نحو عام 317م، كانت عوامل الضعف والانحلال بادية على الإمبراطورية، وما لبثت طويلا حتى انقسمت إلى إمبراطورية شرقية وأخرى غربية. ومنذ مطلع القرن الخامس الميلادي تعرضت الإمبراطورية الغربية لغزوات البرابرة القادمين من آسيا الوسطى؛ فعوامل الانحلال كانت عديدة، ولكن بعض المؤرخين يعزون إلى المسيحية الدور الرئيسي في توقف النبض الحضاري في أوروبا؛ ولهذا فقد ختم المؤرخ جيبون كتابه الشهير «انحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية» بقوله: «لقد وصفت انتصار البربرية والدين.» (س):
هل يمكننا القول بأنه كان من الأفضل للحضارة لو أنها بقيت على الوثنية؟ (ج):
لو قلت نعم لكنت مجحفا بعض الشيء. كل ما يمكنني قوله هو أن الوثنية كانت حاضنة ملائمة لنمو وتفتح الحضارة. (س):
ما هو السبب وراء وجود زمرة من الأديان يتشابه فيها شكل الخطاب الديني كما تتشابه أساطيرها أيضا؟ (ج):
هناك نوعان من التشابه بين أساطير الشعوب؛ النوع الأول ذو طابع عالمي ويعزى إلى وحدة اللاشعور الجمعي الإنساني من جهة، وإلى الآلية الواحدة التي يعمل بها عقل البشر من حيث انتماؤهم إلى جنس الإنسان العاقل. ولدينا أمثلة عديدة على هذا النوع من التشابه؛ مثل دمار العالم بطوفان كبير أو نار سماوية ثم عودته سيرته الأولى، ومثل خلق العالم من أشلاء إله قتيل، وموت إله آخر من أجل تجديد الطبيعة. أما النوع الثاني فيحصل بين أديان نشأت في حاضنة ثقافية واحدة؛ فالدين ظاهرة ثقافية ، وهو ينشأ في بيئة ثقافية معينة تطبعه بطابعها؛ فالبوذية التي تنكر العالم ويتركز سعي الفرد فيها على الخلاص منه، قد نشأت في الهند التي تتسم عقائدها بإنكار العالم، ولم تنشأ في الصين أو اليونان حيث تتسم العقائد بالتوكيد على الحياة في هذا العالم، وعدم نشدان حياة أخرى بعد الموت.
ولعل المثال الأوضح على النوع الثاني من التشابه هو تلك العروة الوثقى التي تجمع أديان الشرق الأوسط المتأخرة في زمرة متميزة ولا شبيه لها في تاريخ الدين، وأعني بها الزرادشتية والمانوية والمسيحية واليهودية والإسلام؛ فلقد كانت الزرادشتية الأبكر في الظهور، وهي التي قدمت عددا من الأفكار الجديدة على تاريخ الأديان، دخلت بعد ذلك في صلب عقائد وطقوس الأديان اللاحقة. ومن أهم تلك الأفكار: التوحيد، والمبدأ الكوني للشر (= الشيطان)، ونهاية التاريخ، والقيامة العامة للموتى، وصراع ملائكة الخير مع جند الشر.
ويطرح الإسلام نفسه كنموذج لانتماء الدين إلى حاضنة ثقافية بعينها؛ لأنه صهر هذه الديانات الشرق أوسطية في بوتقة واحدة، وخرج بتركيب جديد كل الجدة لا يشبه أيا منها. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه السمة الفريدة للإسلام في أكثر من موضع، فقد خاطب بني إسرائيل بقوله:
وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم (البقرة: 41). وأيضا قوله:
وهو (أي القرآن)
الحق مصدقا لما معهم (البقرة: 91). وخاطب اليهود والمسيحيين بقوله:
يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم (النساء: 47). وقال في خطابه للمسلمين:
شرع (الله)
لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى (الشورى: 13). (س):
ولكن في هذه الشواهد القرآنية وفي غيرها لم ترد إشارة إلى الزرادشتية والمانوية؟ (ج):
كان زرادشت أول من قال بأنه تلقى وحيا من الإله الواحد، ورسالة لينقلها إلى بني الإنسان، ثم تبعه في ذلك ماني. ونظرا لما تميزت به تعاليم هاتين الشخصيتين من رفعة وسمو، فإننا لا نملك إلا أن نضعهما في زمرة الأنبياء. وقد ورد في القرآن الكريم إشارة إلى وجود أنبياء لم يرد ذكرهم في الكتاب:
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ... ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك (النساء: 163-164). (س):
أريد أن أختم هذا المحور بسؤال عما أسميته في كتابك «لغز عشتار» بالبؤرة الحضارية الأولى؛ حيث افترضت بأن الحضارة الكونية السائدة اليوم إنما ترجع في أصولها إلى بؤرة حضارية أولى تشكلت في منطقة الهلال الخصيب، وساهم في تشكيلها ثورتان حضاريتان هما الثورة النيوليتية الزراعية التي انطلقت في أواسط الألف التاسع قبل الميلاد في قرن الهلال الخصيب الغربي؛ أي سورية، ثم الثورة المدينية التي انطلقت في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، في قرنه الشرقي؛ أي في وادي الرافدين الأدنى. هل ما زلت عند رأيك هذا أم صرت أكثر ميلا إلى نظرية البؤر الحضارية المتعددة والمستقلة عن بعضها بعضا؟ (ج):
هذه مسألة لا يمكن البرهنة عليها بشكل قاطع، ولكن الشواهد الآركيولوجية التي تحصلت لدينا من مناطق شتى من العالم ترجحها. وأنا ما زلت عند رأيي مع بعض التعديلات. إن أكثر ما يؤيد هذه النظرية هو أننا كلما هبطنا في الزمن عن تاريخ انطلاق الثورة النيوليتية في سورية وجدنا أن هذه الثورة تصل إلى مناطق أبعد عن مركز انطلاقها؛ فباتجاه الشمال اجتازت الأناضول نحو البحر الأسود وقزوين، وباتجاه الغرب وصلت إلى شبه جزيرة البلقان وبعض مناطق أوروبا الشرقية القريبة منذ مطلع الألف السادس قبل الميلاد، ولكنها لم تكتسب بقية مناطق أوروبا قبل عام 4000ق.م. ونحو الشرق وصلت إلى إيران في الألف السادس قبل الميلاد، وإلى الهند ثم إلى الصين خلال الألف الخامس قبل الميلاد. أما في العالم الجديد فيبدو أن الحياة الزراعية قد مرت بفترة تجارب ابتدائية قبل أن تتوطد وتغدو نمطا في الحياة نحو أواسط الألف الثالث قبل الميلاد.
هذا عن الثورة النيوليتية. أما عن الثورة المدينية فإني أعتقد الآن أنه لم يكن من الضروري لها أن تنتقل من بؤرة واحدة؛ لأن القرية الزراعية عندما تتأسس فإنها تحتوي في تركيبها على بذرة المدينة، وطريق التحول من القرية إلى شبه مدينة ثم إلى مدينة هو طريق مفتوح، وهو مؤكد حتى من دون مؤثرات خارجية. ومع أنه لا يمكن إنكار أثر البؤرة المدينية الأولى على المناطق القريبة منها، إلا أنني أعتقد بأن المناطق البعيدة قد طورت نظامها المديني بشكل مستقل، لا سيما الصين التي كانت أول بلد متمدن في الشرق الأقصى في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، وهذا ما يجعل منها بؤرة أخرى لحضارة المدينة التي انتقلت منها إلى بقية أنحاء الشرق الأقصى. (س):
هنالك فكرة أخرى سقتها في حديثك عن البؤرة الحضارية الأولى، حيث قلت بأن تلك البؤرة التي قدمت الأسس المادية التي قامت عليها الثورة الزراعية، كانت في الوقت نفسه الرقعة التي تشكلت فيها تصورات دينية مرتبطة بالاقتصاد الزراعي، وأسطورة أولى قلت إنها انتقلت مع الثقافة الزراعية إلى كل مكان وصلت إليه. هل ما زلت عند رأيك في ذلك؟ (ج):
كلا، لقد قلت منذ قليل إن العقل الإنساني يعمل وفق ميكانيكية واحدة؛ وبالتالي فمن الممكن لأسطورة واحدة أن تنشأ في أمكنة متباعدة، وربما منقطعة عن بعضها، وأعطيت لفعالية اللاشعور الجمعي دورا في هذه العملية. وفيما يتعلق بالتصورات الدينية والأسطورية الزراعية، فإن كل ثقافة زراعية يمكن أن تطور تصوراتها وأساطيرها الزراعية الخاصة دون الحاجة إلى مؤثر خارجي. الهم الأساسي للمزارع هو المطر وخصب الأرض ودورة الطبيعة، وتصوراته الدينية تكاد أن تكون محصورة في هذه المسائل دون غيرها؛ ولذلك ترى أن الفلاحين عبر تاريخ الحضارة لم يكونوا يأبهون كثيرا للآلهة البعيدة التي كانت تقيم في السماء ولا لمجمع آلهة المدن، بقدر ما كانوا يأبهون للقوى الفاعلة في الطبيعة، والتي من شأنها ضمان محاصيلهم، ودفع غائلة الجوع عنهم؛ ولذلك فقد تأخر دخول الشرائح الاجتماعية الفلاحية في أديان التوحيد عن سكان المدن، وعندما دخلوا حولوا آلهة الخصب القديمة إلى قديسين في المسيحية، وإلى أولياء في الإسلام، وجعلوهم شفعاء خصب. ومن هؤلاء القديس جورج أو جاورجيوس كما يدعى في اللغة اليونانية القديمة ومعناه الفلاح، ويلقب في أوروبا بجورج الأخضر؛ حيث يحتفلون بيومه في الثالث والعشرين من شهر نيسان/أبريل، وهو التاريخ نفسه تقريبا الذي كانت تقام فيه أعياد الخصب القديمة، وفي هذا اليوم كانوا يمارسون طقوسا بهيجة معينة اعتقدوا أنها تكثر محاصيلهم وتباركها. وفي بلاد الشام يدعى القديس جورج مارجاورجيوس، وتصوره الأيقونات الدينية على هيئة فارس يصارع تنينا خرافيا، وهو مشهد مألوف في الميثولوجيا السورية القديمة؛ حيث نجد الإله الزراعي بعل يقتل الحية الجبارة ذات الرءوس السبعة.
وقد انتقلت هذه الشخصية إلى المعتقدات الشعبية الإسلامية تحت اسم الخضر؛ أي الرجل الأخضر، وهو نبي حي محجوب عن الأنظار إلى يوم القيامة، ولكنه يظهر في بعض الأحيان لكي يمد يد العون للبشر، وفي المكان الذي يظهر فيه يبنى له مزار يؤمه الفلاحون من أجل الحصول على البركة والشفاء، ويصوره القصص الشعبي وروايات الإخباريين جالسا على طنفسة خضراء فوق سطح الماء متشحا بثوب أخضر، فإذا مشى نبت العشب تحت قدميه. وفي فلسطين كان الفلاحون إلى عهد قريب ينادونه إذا تأخر المطر قائلين: «يا سيدي خضر الأخضر اسق الزرع الأخضر، يا سيدي خضر إلياس اسق الزرع اليباس.» وهنالك شخصية ميثولوجية زراعية أخرى اختلطت بالخضر، وهي شخصية النبي التوراتي إلياس الذي أنزل المطر بعد احتباسه ثلاث سنوات، وبذلك دخل في زمرة القديسين الزراعيين. وبما أنه لم يمت بل رفعه الله إليه على ظهر مركبة نارية هبطت من السماء، فقد صار شبيها بالخضر النبي الحي الذي لا يموت. وهناك عادة متبعة في جميع أنحاء بلاد الشام، وهي غرس نبات دائم الخضرة طيب الرائحة يدعى «الآس» فوق قبور الموتى، واسم هذا النبات مشتق من اسم إلياس. ومن الجدير بالذكر أن شخصيات هؤلاء القديسين الزراعيين الثلاثة قد تمازجت في خيال الفلاحين مسيحيين ومسلمين؛ ولذلك فقد نجد المسيحيين يزورون مقاما للخضر على أنه مارجاورجيوس، ومسلمين يزورون مقاما لمارجاورجيوس على أنه الخضر.
المحور الثالث
الدين والأسطورة
(س):
فيما مضى من حديثك كنت تذكر أحيانا تعبير «أسطورة» أو «أساطير» وأحيانا ميثولوجيا، ما الفرق بين التعبيرين؟ (ج):
هما شيء واحد، ولكن تعبير ميثولوجيا له دلالتان؛ فهو من ناحية أولى يدل على مجمل أساطير ثقافة ما، كأن نقول الميثولوجيا المصرية أو الميثولوجيا اليونانية. ومن ناحية ثانية يدل على العلم الخاص بدراسة الأساطير. وكما نلاحظ من صيغته الإنكليزية
Mythology
فإنه مشتق من كلمة
Myth
وأصلها اليوناني هو
Mytos
وفق ما ذكرته في جواب سابق لي. (س):
وما هو أصل كلمة أسطورة أو أساطير في اللغة العربية؟ (ج):
هي من السطر وهو الصف من الكلمات، وجمعها أسطر وسطور، وجمع الجمع أساطير؛ فهي والحالة هذه الخط والكتابة؛ ولذلك نقول سطر بمعنى كتب. وقد وردت كلمة أساطير الأولين في القرآن الكريم بمعنى أحاديث وحكايا الأولين:
وقالوا أساطير الأولين اكتتبها (أي محمد)
فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (الفرقان: 5)؛ ولذلك فقد استنبط المترجمون المحدثون مفردة أسطورة كمعادل ل
Myth
في اللغات الأوروبية. (س):
هل يمكننا القول إذن بأن الأسطورة هي من حيث المبدأ حكاية أو قصة؟ (ج):
هذا صحيح. (س):
ولكن كلما ذكرت الأسطورة كان ذكرك لها مترافقا مع الدين، فهل هما من طبيعة واحدة؟ (ج):
هذا يقودنا إلى الحديث عن بنية الدين ومكوناته. إن النظرة الفاحصة على تاريخ الدين وجغرافيته تكشف لنا عن بنية موحدة للدين في أي مكان أو زمان. وهذه البنية تتألف من عدد المكونات الرئيسية هي: (1) المعتقد. (2) الطقس. (3) الأسطورة. فالمعتقد هو مجموعة من الأفكار التي نكونها عن المجال القدسي بعد أن أحسسنا بوجوده ولمسنا آثاره من حولنا. وبينما تتصف عقائد الديانات البدائية بالبساطة وقلة ما تحتويه من أفكار، فإن عقائد الديانات العليا تتصف بالتعقيد والتركيب وكثرة ما تحتويه من أفكار، كما هو الحال في الأديان الواسعة الانتشار في العالم؛ مثل البوذية، والمسيحية، والإسلامية.
ولكن الأفكار التي نصوغها عن المجال القدسي لا تصنع دينا إلا عندما تدفعنا إلى سلوك وإلى فعل، فننتقل من التفكير في المجال القدسي إلى اتخاذ مواقف عملية منه، وهذا ما يفعله الطقس. والطقس هو سلسلة مرتبة من الأفعال والصيغ الكلامية المصحوبة أحيانا بالرقص والموسيقى، تؤدى بشكل جماعي في أوقات معينة، أو كلما دعت إليها الحاجة. وفي عصر الآلهة أضيفت إليها الأدعية والصلوات والقرابين أو حلت محلها. هذا الطابع الجمعي للطقس هو الذي يرسخ المعتقد عند الجماعة، ويعطيها الإحساس بالوحدة والانسجام. وفي الحقيقة فإن العقيدة التي لا تزود بالطقوس والشعائر تبقى في نطاق الفلسفة بسبب افتقارها إلى نظام طقسي يحدث صلة مع القوى التي آمن العقل بوجودها.
أما الأسطورة فإنها نوع من الأدب، وربما كانت أقدم أنواع الأدب. إنها قصة تحكمها مبادئ السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات وما إليها، ولكنها ليست قصة دنيوية مما يتداوله أفراد الجماعة في مجالسهم، بل قصة مقدسة لا تتلى إلا في مناسبات دينية معينة. أما شخصياتها فتنتمي إلى المجال القدسي، وهي لا تتطرق إلى الإنسان إلا في علاقته بالشخصيات الماورائية؛ وبالتالي فإن موضوعاتها تقتصر على المسائل الكبرى؛ مثل: خلق العالم، وأصل الإنسان، والموت، والحياة، والعالم الآخر وما إليها. من هنا فإن الفرد إذا كان حرا في تصديق أو عدم تصديق أي قصة تروى له، فإنه يشعر وهو يستمع إلى الأسطورة برهبة تدفعه إلى تصديق كل ما ترويه له. (س):
هل نستطيع القول إذن بأن الطبيعة القدسية للأسطورة هي المعيار الرئيسي في التعرف على النص الأسطوري؟ (ج):
هذا صحيح؛ فعلى النص الذي تنطبق عليه الصفة الأسطورية أن ينتمي إلى منظومة دينية بعينها، أما النص الذي ينشأ ويعيش خارج أي منظومة دينية فهو نص دنيوي ينتمي إلى أحد الأجناس الشبيهة بالأسطورة؛ مثل: الحكاية الخرافية، والحكاية البطولية، والقصة الشعبية. (س):
حسنا، لقد وصفنا النص الأسطوري، ولكن دعنا نتحدث عن آليات عمله وأبرز وظائفه. (ج):
تعمل الأسطورة على اختزال تجربتنا مع العالم الموضوعي، ثم إعادة تقديمه إلى الوعي بعد أن تم تفسيره وترتيبه. وفي الحقيقة فإن كلا من الفلسفة والعلم يقوم بالمهمة ذاتها، ولكن بينما يلجأ هذان إلى العقل التحليلي الذي يجزئ العالم ثم يعيد تركيبه من أجل فهمه، معتمدا في ذلك على البرهان العقلي بالنسبة للفلسفة، والبرهان التجريبي بالنسبة للعلم؛ فإن الأسطورة تضع الإنسان بكليته في مواجهة العالم وبجميع ملكاته العقلية والحدسية، الشعورية واللاشعورية، وتستخدم كل المجازات الممكنة من أجل صياغة رؤية متكاملة لهذا العالم ذات طابع كلاني يعادل تجربة الإنسان الكلانية وغير المتجزئة معه. (س):
أعتقد أنني بدأت لا أفهم! (ج):
حسنا، إن كلا من العلم والفلسفة والأسطورة يستجيب على طريقته لمطلب النظام؛ أي لمطلب أن يعيش الإنسان ضمن عالم مفهوم ومرتب، وأن يتغلب على حالة الفوضى الخارجية التي تتبدى للوعي في مواجهته مع الطبيعة؛ فالفلسفة تنتج نظاما من المفاهيم التجريدية المترابطة يدعي تفسير العالم، والعلم بدوره ينتج نظاما من المبادئ والقوانين التي يعتمد بعضها على بعض، وتنتهي بترميز العالم في بنى رياضية. وفي مقابل هرم نظام المفاهيم الفلسفية وهرم نظام القوانين الرياضية، فإن الأسطورة تعتمد من جانبها على خلق نظام قوامه الآلهة والقوى الماورائية التي يعتمد بعضها على بعض في هرمية للأسباب والنتائج؛ فهي تؤنسن الكون حين تبث فيه عنصر الإرادات الإلهية الفاعلة، وترى في كل ظاهرة موضوعية نتاجا لإرادة ما؛ أي إنها تصنع صورة لكون حي لا يقوم على ميكانيكيات متبادلة التأثير، بل على إرادات وعواطف تتبدى في شكل حركي. وهي في سعيها لخلق هذه الصورة تعتمد على خزان لا ينضب معينه من وسائل الترميز، وتفتح البوابات بين الوعي واللاوعي؛ ولذلك فإن متلقي الأسطورة لا يشعر بأنه أضاف إلى معارفه شيئا جديدا، وإنما غدا أكثر توافقا مع نفسه ومع العالم؛ لأن ما تنقله الأسطورة من معان لا يشبه الوقائع والمعلومات، إنه إيحاء لا إملاء وإشارات لا تعليم وتلقين. وهي في سعيها هذا تلجأ إلى استخدام الظلال السحرية للكلمات أكثر من مدلولاتها المباشرة. (س):
فيما يتعلق بهذه الخصيصة الأخيرة، أرى أن الأسطورة تقف إلى جانب الشعر! (ج):
وأكثر من ذلك؛ فالشعر هو وليد الأسطورة، وقد شق لنفسه طريقا مستقلة بعد أن أتقن عن الأسطورة ذلك التناوب بين التصريح والتلميح، وبين الدلالة والإشارة، وبعد أن تعلم منها كيف يمكن للغة السحرية أن تقول من دون أن تقول، وأن تشبعك بالمعنى دون أن تقدم لك معنى دقيقا ومحددا، وذلك من خلال رسالة كلانية غير تفصيلية؛ ولهذا السبب يرى أفلاطون في كتابه «الجمهورية» ضرورة استبعاد الشعراء من المدينة الفاضلة؛ لأن السماح بالشعر يعني إفساح المجال وفتح الطريق أمام الأسطورة. (س):
دعنا الآن نختبر معاييرك التي وضعتها من أجل التعرف على النص الأسطوري. إلى أي حد تنطبق تلك المعايير على أسطورة مثل أسطورة أوديب اليونانية المعروفة على نطاق واسع بسبب ما أعطتها مدرسة التحليل النفسي من تفسيرات؟ وما هي الفكرة الدينية الكامنة وراءها؟ (ج):
على الرغم من أن أسطورة أوديب تنتمي إلى الموروث الثقافي اليوناني، إلا أنها تقوم على فكرة دينية موجودة في الثقافة اليونانية وفي أكثر من منظومة دينية، وهي فكرة القضاء والقدر؛ فأوديب كان محكوما عليه بأن يقتل أباه ويتزوج من أمه، وعندما علم بهذا القدر حاول الهرب منه دون جدوى إلى أن قتل أباه وهو لا يعرفه، وتزوج من أمه وهو لا يعرف أنها أمه.
وفكرة القضاء والقدر موجودة في الإسلام أيضا، وهي من أركان الإيمان؛ حيث على المسلم أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى. وفي القرآن الكريم أكثر من آية في موضوع القدر ومنها:
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا (التوبة: 51). و:
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب (الحديد: 22).
وفي الثقافة الصينية نجد مثل هذه الفكرة في كتاب التغيرات (آي تشينغ)؛ فإضافة إلى مفهوم التغير الدائم الذي يجري على خلفية ثابتة، هنالك مفهوم شبيه بمفهوم عالم المثل عند أفلاطون؛ فكل حادث في المستوى المرئي للعالم يحصل بتأثير صورة أو فكرة في المستوى غير المرئي؛ وعليه فإن كل ما يجري على الأرض هو نسخة لاحقة زمنيا عن أمر جرى في مستوى يقع خارج إدراكنا الحسي. والحكيم الذي يكون متواصلا مع المستوى الخفي للوجود يتاح له الاطلاع على تلك الصور والأفكار من خلال حدسه المباشر، ويصبح في وضع يسمح له بالتدخل في الأحداث الجارية في العالم.
ومن ناحية أخرى، فقد اعتقد الفلاسفة الصينيون بالقدر الذي عبرت عنه اللغة الصينية بكلمة «مينغ» وهو الشيء الذي لا يستطيع الإنسان السيطرة عليه أو تغييره. وقد عالج كونفوشيوس موضوع القدر ولا سيما في كتاب «المحاورات» وأشار إليه بصيغة «تيان مينغ» أي القضاء السماوي. ومن أقواله فيه: «إن الحياة والموت يعتمدان على السماء؛ ولذلك ما علينا سوى أن نعمد إلى تقويم أنفسنا ونترك القدر يأخذ مجراه.»
هذا جوابي على سؤالك المتعلق بأسطورة أوديب اليونانية، ولكن يتوجب علي القول طالما أنك أثرت مسألة الميثولوجيا اليونانية، بأن كثيرا من القصص المتوارثة عن الثقافة اليونانية والتي يضعها الباحثون في الميثولوجيا اليوم في زمرة الأساطير ليست في واقع الحال كذلك. (س):
هل في ذهنك بعض الأمثلة على مثل هذه القصص؟ (ج):
تلك الحكايا التي تدور حول الأبطال الخرافيين؛ مثل: بيرسيوس، وجيسون، وتيسيوس؛ فلقد قام بيرسيوس مثلا بقتل المرأة الأفعى ميدوزا التي تحول الرجال بنظرتها إلى حجارة، ثم قام برحلة إلى إثيوبيا حيث أنقذ العذراء إندروميدا المقيدة أمام تنين هائل قربانا له، وأعمال بطولية أخرى من هذا القبيل. مثل هذه القصص ينبغي لنا تصنيفها في زمرة الحكايات الخرافية، ونموذجها في الأدب الشعبي العربي قصة سيف بن ذي يزن والأميرة ذات الهمة. (س):
لنكن الآن أكثر تخصيصا وتحديدا فيما يتعلق بالطريقة التي تعمل بها الأسطورة على خدمة الدين. (ج):
تنشأ الأسطورة عن المعتقد الديني وتكون بمثابة امتداد طبيعي له؛ فهي تعمل على توضيحه وإغنائه، وتزوده بذلك الجانب الخيالي الذي يربطه إلى العواطف والانفعالات الإنسانية، كما تعمل على تزويد فكرة الألوهة بألوان وظلال حية؛ لأنها ترسم للآلهة صورهم وشخصياتهم، وتعطيهم الصفات والأسماء والألقاب، وتكتب لكل منهم تاريخه وسيرته الذاتية، وتحدد علاقات بعضهم ببعض.
إن الخبرة الدينية ليست من حيث الأساس خبرة عقلية بقدر ما هي خبرة عاطفية انفعالية؛ ولذلك فإنها لا تتطلب البرهان ولا تتطلع إليه، وإنما تتطلب معادلا موضوعيا يعكسها إلى الخارج من خلال ميثولوجيا تجعل التجربة الدينية مشتركة مع الآخرين. وهنا تعمد الأسطورة إلى استنفاد القوى السحرية للغة من أجل التعبير عن خبرة كلانية بالقدسي لا تنفع في توصيلها مفردات اللغة المستمدة من التجربة اليومية. وهذا ما يفسر لنا لماذا لم يعمد كهان الديانات القديمة وأصحاب الرسالات الدينية إلى مخاطبة الناس بصيغة البرهان وإنما بصيغة البيان. إن الاستماع إلى بضع آيات من كتاب مقدس تغني المؤمن عن قراءة مئات الصفحات التي تخاطب عقله بالمنطق والبرهان، ومن هنا تأتي تلك المناعة التي أظهرها الدين حتى الآن أمام النقد رغم لامعقولية تعبيراته الرمزية. (س):
هل تلعب الأسطورة الدور نفسه في الأديان التوحيدية؟ (ج):
لا يوجد دين بدون أساطير تعمل على توضيح المعتقد وإغنائه، فإذا وجد مثل هذا الدين فإن أتباعه سوف يبحثون عاجلا أم آجلا عن أساطير تروي عندهم تلك الحاجة المتأصلة في النفس الإنسانية إلى الأسطورة. ومثالنا الحي على ذلك البوذية؛ فالبوذية في حلتها الأصلية التي صاغها سيدهارتا غوتاما كانت مجردة من الأساطير لأنها كانت ديانة بدون آلهة، وكان البوذا يصرف أذهان تلاميذه عن المسائل الميتافيزيكية التي كانوا يسألونه بشأنها، ويركز لهم على الهم الأساسي للبوذي، ألا وهو التحرر من هذا العالم المادي، ومن إسار دورة الميلاد والموت بقوى الإنسان الشخصية؛ لأن الآلهة إذا وجدت فلن تستطيع مد يد المساعدة إليه، ولكن هذه الصيغة من البوذية لم تبق على حالها، وجاء معلمون بوذيون فقالوا إن البوذا كان يعلم سرا أنه ليس على الإنسان أن يخلص نفسه، وإنما يمكن له الحصول على المساعدة. وهكذا بدأت بالظهور بوذية جديدة هي بوذية سميت بالماهايانا؛ أي المركبة الكبرى؛ لأنها صارت قادرة على تخليص أعداد كبيرة من الأرواح، أما البوذية الأصلية فقد دعيت بالهينايانا؛ أي المركبة الصغرى؛ لأنها لم تكن تصلح إلا لتخليص نخبة من الناس. وهكذا صار الكون حتى حدوده الخارجية مشبعا بالكائنات الماورائية الحانية التي تستطيع مد يد العون إلى البشر، وعادت الأدعية والصلوات إلى البوذية بعد أن كانت بلا فائدة، وجرى إمداد الأتقياء بالرسوم الجدارية والمنحوتات لكي يسجدوا أمامها ويتضرعوا إليها، ولم يعد الخلاص أمرا يمكن تحقيقه بالجهد الذاتي فقط. (س):
ما نوع الأساطير التي نجدها في الديانات التوحيدية؟ (ج):
لدينا أساطير رئيسية وأخرى ثانوية ؛ فمن الأساطير الرئيسية هنالك أسطورة الخلق والتكوين، وجنة عدن، وعصيان الإنسان الأول وسقوطه، وتمرد الملاك إبليس وتحوله إلى شيطان، ويمكن اعتبار مشاهد اليوم الأخير والجنة والنار بمثابة أساطير تعليمية تهدف إلى تزويد المعتقد بصورة حية نابضة. ومن الأساطير الثانوية التي تروى عن مسيرة التاريخ البشري لدينا أسطورة الطوفان الكبير، وقصص الأنبياء، وما جرى لهم مع أقوامهم، وتدمير المدن العاصية التي لم تستجب لرسالة الأنبياء. (س):
هل هنالك من أسطورة مركزية بين ما ذكرت؟ (ج):
بالتأكيد؛ فأسطورة التكوين في كل المنظومات الميثولوجية هي أم الأساطير. (س):
لماذا؟ ومن أين تأتي أهميتها؟ (ج):
لأنه مع فعل الخلق يبدأ تاريخ الألوهة وتاريخ الإنسان، أما ما سبق ذلك فقد كانت الألوهة في حالة أشبه بالعدم لأنها لم تكن تفعل شيئا؛ ولهذا سئل نبي الإسلام من قبل أحد صحابته: «أين كان الله قبل أن يخلق خلقه؟» فأجاب: «كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، وخلق عرشه على الماء.» ولدينا حديث قدسي (أي المتكلم فيه هو الله) يتداوله الصوفية بشكل خاص يقول: «كنت كنزا مخفيا لا أعرف، فخلقت الخلق، فبه عرفوني.» أي إن الألوهة المتسربلة بالأبدية لا تعلن عن نفسها إلا عند دخولها في الزمن وفي تاريخ الكون والإنسان، وذلك مع قيامها بفعل الخلق الذي مد المكان وأطلق الزمان. إن فعل التكوين الذي أظهرت الألوهة من خلاله كل ما عداها، هو الذي أخرجها من حالة الكمون في الأزلية الساكنة إلى حالة الوجود والفعالية. وهي بإظهارها ما عداها قد أظهرت نفسها بالمقابل؛ ولهذا يضع الصوفي عبد الكريم الجيلي على لسان الحق قوله لوليه: «لا تتقيد باسم العبد؛ فلولا العبد ما كان الرب. أنت أظهرتني كما أنا أظهرتك». كتاب الإنسان الكامل. (س):
وهل هذا يعني أن الإله الخالق كان قبل الخلق وجودا افتراضيا؟ (ج):
هذا إذا فسرنا الوجود الافتراضي بأنه حالة من عدم الفعالية؛ فالإله الأزلي القابع وراء الزمن الجاري موجود في ذاته ولذاته، وهو لا يباشر وجوده الفعلي إلا عندما يبتدر الزمن ويعلن عن فعاليته فيه؛ ولهذا يمكن أن نقول بأن الأسطورة لا تتشكل عندما يكون الإنسان في ذهنه صورا للآلهة، بل عندما يعزو إلى هذه الآلهة بداية محددة في الزمن، وعندما تباشر فعاليتها في سياق زمني. وهنا يتحول الوعي الإنساني من فكرة الألوهة إلى تاريخها. (س):
الدخول في التاريخ يعني أن الميثولوجيا سوف تتابع سرد تاريخ الألوهة وتشابكه مع تاريخ الإنسان. (ج):
وهذا ما يقوم به التاريخ الميثولوجي، أو التاريخ المقدس كما أدعوه، عندما يكشف عن فعاليات الكائنات الماورائية في الأزمان الميثولوجية الأولى، وما نجم عنها في عالم الطبيعة والإنسان. إن كل ما يجري في العالم المنظور ينشأ عن بوادر أولى متجذرة في الزمن الأسطوري، زمن الأصول؛ فالجنس البشري محكوم عليه بالكد والمشقة في تحصيل معاشه؛ لأن الآلهة خلقته لكي يحمل عنها عبء ما كانت تقوم به من أعمال لتحصيل قوتها، على ما تقوله لنا أسطورة أتراحاسيس ونصوص بابلية أخرى. أو لأن الله قال لآدم: «ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك.» على ما يقوله لنا سفر التكوين في التوراة، والمؤسسات الاجتماعية المختلفة مثل الملوكية الوراثية والكهنوت موجودة لأنها نزلت من السماء على ما نعرفه من أسطورة آدابا وأسطورة إيتانا والنسر البابليتين، والمرض حل بجسم الإنسان بسبب خطيئة الإله إنكي، على ما نعرف من أسطورة إنكي وننخرساج، وصار الموت محتما على الإنسان بسبب خطيئة ارتكبها الإنسان الأول، على ما نعرف من أسطورة آدابا البابلية وأسطورة آدم وحواء، والشر دخل في نسيج خلق الله الحسن بسبب تمرد ملاك في السماء على خالقه وتحوله إلى شيطان ... إلى آخر ما هنالك من أفعال وأحداث قادت إلى تكوين الصورة الحالية لعالم الإنسان. (س):
وهل يعني هذا أن الأسطورة هي نوع من التاريخ، من حيث إنها تشبع عند الإنسان ذلك التوق إلى معرفة أصول وجذور الأوضاع الراهنة؟ (ج):
إن الأسطورة والتاريخ هما بمثابة وسيلة يفهم منها الإنسان نفسه ويعي شرطه، وتوقنا الآن إلى قراءة وفهم التاريخ يصدر عن الدافع نفسه الذي كان يدفع أسلافنا إلى الاستماع إلى الأساطير، ولكن ما يميز هاتين المنظومتين عن بعضهما هو أن الفكر الحديث أحل أفعال الإنسان وقوانين التطور محل مشيئة وأفعال الآلهة كمحرك للتاريخ؛ أي إنه استبدل التاريخ المقدس بالتاريخ الدنيوي. (س):
نحن نعرف ما هو التاريخ الدنيوي وكيف نشأ، ونعرف عن آلياته، ولكن ما هي آليات التاريخ المقدس؟ (ج):
كان لدى الإنسان القديم، كما لدى الإنسان الحديث، رغبة في الاحتفاظ بنوع من الذاكرة الجمعية التي تعطي وجوده في هذا العالم معنى ومغزى. وبدون هذه الذاكرة التي نسجتها له الميثولوجيا يصير إلى حالة أشبه بالموت؛ لأن نسيان الماضي هو نوع من الموت؛ فالموت نسيان، والموتى الهابطون إلى العالم الأسفل في الميثولوجيا اليونانية يشربون في طريقهم من نبع يدعى نبع النسيان لكي يقضوا الحياة الأخرى بدون ذاكرة؛ أي بدون تاريخ. غير أن ما يفرق الذاكرة الجمعية الأسطورية عن الذاكرة الجمعية التي يصنعها علم التاريخ هو محتوى كل منهما؛ فالتاريخ الأسطوري لا يحفل بغير الأحداث الناجمة عن عمل الآلهة، أو عن تداخل عالم الآلهة بعالم البشر. أما الأحداث الدنيوية، وأما أعمال الإنسان، فلا قيمة لها ولا تستحق الجمع والحفظ، فإذا قيض لحادثة أو شخصية ما أن تخلد في الذاكرة فإن ذلك لن يأتي إلا عن طريق أسطرتها وارتفاعها من مستوى الواقع إلى مستوى الحدث الميثولوجي؛ فملوك اليونان القدماء مثل يوليسيس وأغاممنون ومينيلاوس، لم تصل أخبارهم أسماع الإغريق إلا بعد أن ألبستهم الإلياذة حلة ميثولوجية أصيلة. والشيء نفسه ينطبق على جلجامش السومري والملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة لدى الأنكلوساكسون. (س):
هل تعني أن الإنسان كان غافلا عن دوره في تاريخ الحضارة؟ (ج):
هذا شيء غريب بالفعل ولكنه صحيح. لقد عزا الإنسان إلى الآلهة في الميثولوجيا الرافدينية كل منجزاته الحضارية وابتكاراته التكنولوجية التي قادت عملية الارتقاء والتقدم؛ فالإله، لا الإنسان، كان أول راع وأول فلاح، وأول من دجن الحيوان وحلب البقر وصنع الزبدة والجبن، وأول من طحن القمح وخبز الخبز، وأول من صنع المحراث والمعول. ولقد مضى دهر على الآلهة وهم يقومون بكل الأعمال اللازمة لتأمين قوتهم إلى أن جاء وقت قرروا فيه خلق الإنسان لكي يحمل عبء العمل عنهم ويخلدوا هم للراحة. (س):
هل يعقل أن ذلك الإنسان الذي صنع الثورة النيوليتية، أول ثورة حضارية شاملة في التاريخ، كان جاهلا بما فعل؟ (ج):
وأكثر من ذلك؛ فقد كان جاهلا بأنه صنع الثورة الثانية، وأعني بها الثورة المدينية، ولم يكن يعرف الكثير عن أصل وتطور ونمو المدن التي بناها أسلافه في ماض قريب إليه، واعتقد بأن مدنه التي يسكنها قد بنتها الآلهة في سالف الأزمان. والإشارات الموجودة في النصوص المشرقية حول هذا الموضوع عديدة؛ فمدينة نيبور السومرية بناها الإله إنليل، ومثلها أوروك التي يصفها مطلع ملحمة جلجامش بأنها صنعة يد الآلهة، ومثلها أيضا إيريدو التي بناها الإله إنكي، وبابل العظيمة التي بناها الإله مرودخ. (س):
وماذا عن الأعمال التي كان الإنسان ينجزها في زمنه لا في أزمان الأصول الأولى؟ (ج):
إذا كان للإنسان بعد ذلك أن يباشر بنفسه أي عمل إبداعي مهم، فإن الآلهة هي التي تأخذ بيده وترشده إلى كيفية تحقيقه؛ فالملك السومري غوديا بنى في مدينته لجش معبدا وفق تصميم أطلعته عليه الإلهة نيدابا في الحلم، والملك الآشوري بنى مدينة نينوى وفق هيئة مرسومة في القبة السماوية منذ الأزمنة الأولى، والملك داود تلقى من الرب تصميم هيكل أورشليم (سفر أخبار الأيام الأول)، وعلى هذا التصميم اعتمد ابنه سليمان في تنفيذ المشروع. يضاف إلى ذلك أن الآلهة السومرية كانت تحتفظ بمجموعة من الألواح الفخارية أو الرقم تدعى مي/
Me
دونت عليها نواميس الحضارة، وهذه النواميس عبارة عن النماذج السماوية التي تجعل كل إنجاز حضاري على الأرض ممكنا. وقد كانت هذه الألواح موجودة في حوزة إنكي إله مدينة إيريدو، أول مكان متحضر في سومر، وعندما أرادت إنانا إلهة مدينة أوروك أن تنقل تقاليد الحضارة إلى مدينتها سافرت إلى إيريدو حيث استقبلها إنكي وصنع لها وليمة وراح الاثنان يشربان البيرة، وعندما لعبت الخمرة برأس إنكي راحت إنانا تطلب منه إعطاءها نواميس الحضارة واحدا بعد آخر وهو يلبي لها ما تطلب، إلى أن حازتها جميعا وسافرت بها إلى أوروك، قبل أن يصحو إنكي من سكرته. ومن هذه النواميس وعددها أربعون نذكر الآتية: الكهنوت الأعلى، التاج النبيل، الملوكية، قضيب وحبل قياس المسافة، الخنجر والسيف، فن الجيش، أدوات الموسيقى، الغناء، بيوت السكن، حرفة الخشب، حرفة النحاس. (س):
إن هذا المصدر السماوي لكل إبداع يذكرني بأننا ما زلنا ننسب كل فكرة إبداعية إلى إلهام خارجي. (ج):
ولهذا كان الإغريق ينسبون كل إبداع أدبي أو فني يصدر عن الإنسان إلى ربات الفنون والموسيقى اللواتي كن يلهمن الشعراء والرسامين والنحاتين، وكان العرب أيضا ينسبون كل إبداع شعري إلى جنيات وادي عبقر اللواتي كن يلهمن الشعراء، ومن هنا جاء تعبير العبقري الذي يدل على الشخص الفائق للإبداع والمتواصل مع منبع الحكمة الخفي. هذه الحكمة أوجدها الله قبل أن يكون هناك سماء وأرض وكانت له بمثابة وسيط للخلق، على ما نقرأ في كتاب التوراة: «ومنذ ذلك الحين هي موجودة في حضرته واقفة قدامه» (سفر الأمثال: 8). والله يمن بالحكمة على من يشاء؛ ولذلك عندما قال للملك سليمان أن يطلب منه شيئا لم يطلب سليمان إلا أن يعطيه ربه الحكمة: «ففاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر» على حد تعبير سفر الملوك الأول (3). وفي القرآن الكريم نجد أن الحكمة هي هبة من عند الله يزود بها أنبياءه والصالحين من عباده:
وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء (البقرة: 251). وأيضا:
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم (النساء: 113). وأيضا:
ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة (الإسراء: 39). وهذه الحكمة التي تلقاها الرسول سوف ينقلها بدوره إلى الناس:
كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (البقرة: 151). (س):
هذا التركيز على التاريخ المقدس هل جعل الإنسان القديم بدون ذاكرة دنيوية من أي نوع؟ (ج):
إن تجاهل الإنسان لحقيقة ما جرى في الماضي لا يعني أن المجتمعات القديمة لم تحتفظ أبدا بذاكرة دنيوية، ولكن هذه الذاكرة الدنيوية في حال وجودها لم تلعب دورا في مساعدة الإنسان على فهم حاضره باعتباره نتاجا لأفعاله ومنجزاته الماضية؛ فالعبرة ليس بما نحفظه عن الماضي، بل في المعنى الذي نسبغه على ذلك الماضي، وفي القيمة التي نعطيها له، وفي أثر ما نتذكره من أفعال على حركة التاريخ. (س):
متى استقل التاريخ عن الأسطورة؟ (ج):
جاء استقلال التاريخ عن الأسطورة في غمرة الصراع الذي حصل في الثقافة اليونانية بين الفلسفة والأسطورة. ونجم عن ذلك ظهور المؤرخين الأوائل من أمثال هيرودوتس وتوسيديد، ولكن هذا الاستقلال لم يحدث دفعة واحدة؛ لأن المؤلفات التاريخية الأولى بقيت إلى هذا الحد أو ذاك متأثرة بأسلوب القص الميثولوجي، لا سيما عند هيرودوتس الذي اعتمد أسلوبه في الكتابة التاريخية على ما يسمعه من قصص يوردها دون تدقيق أو تمحيص. وبعد ذلك ظهر في ثقافة الشرق القديم مؤرخون باشروا نوعا من الكتابة التاريخية المستقلة عن الأسطورة؛ مثل بيروسوس (برغوشا) البابلي الذي أنجز مؤلفا عن تاريخ بابل، وفيلو الجبيلي الذي أنجز مؤلفا عن تاريخ الفينيقيين، ومانيتو المصري. (س):
واليوم وبعد هذه المسيرة التي قطعها جنس الكتابة التاريخية، هل يمكننا القول بأن التاريخ قد حقق استقلاله تماما عن الأسطورة؟ (ج):
ما زال بينهما ما يشبه «شعرة معاوية» التي لم تنقطع؛ فحتى أواسط القرن العشرين كان المنقبون الآثاريون (مسيحيين كانوا أم يهودا) يأتون إلى فلسطين وهم يحملون معول التنقيب بيد، وكتاب التوراة (أو العهد القديم المسيحي) باليد الأخرى، ولم يكن جهدهم منصبا على الكشف عن معلومات آثارية جديدة، وإنما على إثبات المرويات التوراتية. وعندما تم اكتشاف مدينة إيبلا التي ازدهرت في الشمال السوري أوساط الألف الثالث قبل الميلاد، وأحيلت رقمها الكتابية إلى عالم اللغات القديمة الإيطالي بيتيناتو، خرج هذا العالم من قراءاته الأولى بنظرية تعقد صلة بين رقم إيبلا وكتاب التوراة. الحالة اليوم أفضل بكثير؛ فالآثاريون التوراتيون لم يعثروا على أثر لداود وسليمان أو مملكة كل إسرائيل التوراتية، كما لم يعثروا على حجر واحد من هيكل سليمان المزعوم، وهناك من علماء الآثار الإسرائيليين من يطالب اليوم بوضع التوراة على الرف عند كتابة تاريخ فلسطين أو التنقيب في أرضها. أما بيتيناتو فقد خسر سمعته الأكاديمية واضطر إلى الاعتذار بعد سنوات عن آرائه المتعجلة الأولى، ولكننا ينبغي أن نبقى دائما على حذر؛ لأن نوعا من النزوع الأسطوري يبقى كامنا وراء عمل المؤرخين من جهة، ووراء فهم قراء التاريخ لما يقدم إليهم من مادة؛ لأن «شعرة معاوية» لم تنقطع بعد. (س):
وماذا عنا نحن العرب؟ هل توصلنا إلى نزع الأسطرة عن التاريخ؟ (ج):
ليس بعد؛ فمن ناحية أولى نحن ننتمي إلى زمرة الأمم المستضعفة التي لم تشارك حتى الآن في صنع العالم الذي نعيشه، وفي محاولتها لتعويض شعورها العارم بالنقص فإنها تلجأ إلى استعادة استيهامية لعصورها الذهبية الماضية. ومن ناحية ثانية، وعلى غرار الحركات القومية الأوروبية في القرن العشرين، فقد نشأ لدينا مشروعان قوميان هما المشروع القومي العربي والمشروع القومي السوري، وقد شارك هذان المشروعان المشاريع الأوروبية في هوسها التاريخي، وتحول التاريخ من عملية استقصاء موضوعي للماضي إلى سردية رومانسية عن ذلك الماضي، ورحنا نقرأ التاريخ على ضوء الحاضر وليس العكس. (س):
ما الفرق بين الهوس التاريخي والعناية الجدية بالتاريخ؟ (ج):
في الهوس التاريخي نحن نعيد بناء التاريخ وفقا لأيديولوجيا مسبقة، في الوقت الذي ينبغي فيه على الأيديولوجيا أن تبنى على أساس معرفة علمية موضوعية بالتاريخ. (س):
في حديثك السابق عن نشوء المسرح عن الطقس، وجدنا كيف تحول الطقس إلى أداء درامي لأسطورة معينة، فهل هناك من علاقة وثيقة بين الطقس والأسطورة؟ (ج):
إن الطقس والأسطورة ينشآن عن أفكار دينية مبدئية تتشكل لدى الإنسان من إحساسه بوجود بعد ماورائي للوجود، وهو يعبر عن هذا الإحساس بطريقتين؛ الأولى سلوكية تتبدى في الطقس، والأخرى ذهنية تتبدى في الأسطورة. وعلى الرغم من العروة الوثقى التي تجمع بين الطقس والأسطورة، فإن كلا منهما ينشأ في معزل عن الآخر من حيث الأصل، وبعد ذلك قد يلتقيان وقد لا يلتقيان؛ فقد نجد طقوسا تمارس دون مرجعية ميثولوجية وأساطير يجري تداولها دون طقس. وقد نجد طقسا ينشأ عن أسطورة مثلما هو الحال في الطقوس الدورية الكبرى، أو أسطورة تنشأ عن طقس. وتنشأ الأسطورة عن الطقس عندما يفقد طقس ما معناه وغاياته بمرور الأيام، ويتحول إلى إجراءات غامضة لا يعرف ممارسوها مدلولاتها ومضامينها. ويمكن أن أسوق شواهد عديدة عن نشوء الأسطورة عن الطقس ولكني سوف أكتفي هنا بمثال من الثقافة الإسلامية، وهو تفسير شعيرة السعي بين الصفا والمروة وهي من شعائر الحج في الإسلام.
فلقد ورث الإسلام عن الوثنية القديمة طقوس الحج، وأبرزها الطواف حول الكعبة سبع مرات، والسعي بين الصفا والمروة، وهما مرتفعان قريبان من الكعبة، سبع مرات، وأخيرا الوقوف على جبل عرفة من أجل الدعاء والابتهال إلى الله. ومن بين هذه الطقوس كان طقس السعي بين الصفا والمروة أكثرها غموضا لدى المسلمين بعد أن مارسوه طويلا، ولكن معناه كان واضحا لدى عرب ما قبل الإسلام؛ فعلى مرتفع الصفا كان هنالك حجر مقدس على ما يبدو لنا من مراجعة معنى كلمة صفا في القواميس العربية والتي تعني الحجر الضخم الأملس، ومثلها كلمة صفوان. ويبدو أيضا أن على مرتفع المروة كان هناك حجر مقدس آخر؛ لأن القواميس العربية تفيدنا بأن المرو هو حجر الصوان ومفردها مروة، وبذلك يكون معنى السعي بين الصفا والمروة لدى الجاهليين هو تبجيل حجر الصفا، ثم الانتقال بعد ذلك لتبجيل حجر المروة، وإعادة هذه الشعيرة سبع مرات لأن الرقم سبعة كان رقما مقدسا عند العرب، مثلما هو كذلك عند بقية الشعوب السامية.
ولكي يزيل المسلمون هذا الغموض عن طقس الصفا والمروة فقد شاعت لديهم أسطورة تتعلق بهاجر زوجة إبراهيم وابنها إسماعيل؛ فقد كانت زوجة إبراهيم الأولى سارة عاقرا ولم تنجب له ولدا مدة طويلة، وعندما دخل على زوجته الثانية هاجر (في الرواية التوراتية لقصص إبراهيم كانت هاجر جارية لا زوجة) أنجبت له ابنه الأكبر إسماعيل. وبعد خمس سنوات أنعم الله على إبراهيم بولد من سارة دعاه إسحاق، وعندما بدأ إسحاق يكبر خافت سارة على ميراث زوجها من أن يذهب إلى إسماعيل بدلا من ابنها إسحاق، فطلبت من إبراهيم أن يطرد هاجر وابنها، فحزن إبراهيم وتردد، ولكن وحيا جاء من السماء يطلب منه الرضوخ لرغبة زوجته، فأخذ هاجر وابنها وتوجه إلى البرية يبحث عن مكان يتركهما فيه، وسار إلى جانبه ملاك لكي يدله على هذا المكان. وكان إبراهيم كلما رأى مكانا فيه ماء وزرع عرض على الملاك أن يترك هاجر وإسماعيل فيه، ولكن الملاك كان يرفض ذلك. وهكذا إلى أن وصل بهم إلى موقع مكة، وكانت مكانا قفرا ليس فيه بشر ولا زرع ولا ماء، وقال لإبراهيم إن هذا هو المكان. رضخ إبراهيم لمشيئة الله وودع هاجر وإسماعيل وهو يقول على ما ورد في القرآن:
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات (إبراهيم: 37). لم يكن مع هاجر سوى بقية من تمر وقليل من الماء في قربتها، وعندما نفد الماء عطشت وعطش الصبي حتى أوشك على الهلاك، فراحت تبحث عن ماء هنا وهناك، وصعدت إلى مرتفع الصفا لكي تلقي نظرة إلى ما حولها، فتراءى لها سراب على المروة ظنته ماء، فانطلقت مسرعة وارتقت إلى هناك ولكنها لم تجد ماء، ثم إن سرابا تراءى لها على الصفا فظنته ماء فانطلقت مسرعة وارتقت إلى هناك، ولكنها لم تجد ماء، ثم تكرر معها هذا الوهم سبع مرات وهي تروح وتجيء بين الصفا والمروة، وعندما يئست عادت إلى الطفل فرأت الماء ينبجس من تحت قدميه، فراحت تجمعه بكفيها وهي تقول زم زم؛ أي ضيق فوهتك، وشربت وسقت ابنها؛ ولذلك دعي بئر مكة بزمزم. هذه هي الأسطورة الإسلامية التي نشأت عن طقس قديم نسيت أصوله. (س):
عندي هنا ملاحظة أود التوقف عندها، وهي أننا في السورة التي أوردتها نجد أن البيت الحرام (أو الكعبة) كان قائما عندما استقرت عنده هاجر وابنها إسماعيل الصغير. وذلك من قول إبراهيم: «إني تركت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم.» ولكن الشائع عند المسلمين أن إبراهيم وابنه إسماعيل هما اللذان بنيا البيت الحرام ، وبذلك يكون بناؤه قد تم بعد وصول هاجر لا قبله. (ج):
هذه المعلومة عند المسلمين مستمدة من آية وردت في موضع آخر:
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ... (سورة البقرة: 127). (س):
ألا يوجد هنا تناقض بين سورة إبراهيم وسورة البقرة؟ (ج):
النص الديني لا يهتم بتقديم معلومة دقيقة وموثقة، ولكنه يقدم فكرة يمكن التعبير عنها بأكثر من طريقة. والفكرة التي قصدت الآيتان إلى التعبير عنها هي قدسية هذا المكان بصرف النظر عن تاريخ بنائه ومتى بني. إن ما يبدو لنا من تناقض أحيانا في النص الديني نابع من اختلاف منطقنا الحديث عن «منطق» القص الأسطوري. (س):
هذا الاختلاف بين المنطق الأسطوري وبين منطقنا الحديث، هو الذي يقف حائلا بيننا وبين فهم الرسائل المتضمنة في العديد من الأساطير. أليس كذلك؟ (ج):
هذا صحيح. لقد قلت سابقا إن النص الديني المتسلح بالأسطورة لا يتوجه بخطابه إلى عقل السامع أو القارئ بقدر ما يتوجه إلى عواطفه وملكاته النفسية؛ ولذلك فإنه لا يحفل بالبرهان ولا يتطلع إليه، ولا يقدم لك وسائل تسمح لك بإثباته أو دحضه. لننظر على سبيل المثال إلى ما ورد في مطلع أسطورة التكوين التوراتية: «في البدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر (أي المحيط المائي البدئي) ظلمة، وروح الله يرفرف فوق المياه. وقال الله ليكن نور فكان نور، ورأى الله النور أنه حسن، وفصل الله بين النور والظلمة، ودعا الله النور نهارا والظلمة دعاها ليلا. وكان مساء وكان صباح يوما واحدا.» والآن، إذا نحن تلقينا هذا النص الأسطوري النموذجي وفق المنطق الفلسفي أو المنطق العلمي لرفضناه جملة وتفصيلا، فكيف يكون هناك نور قبل أن يكون هناك مصدر للنور وقبل خلق الأجرام السماوية؟ وكيف يمكن الفصل بين النور والظلام وولادة اليوم الأول إذا لم يكن هناك شمس تشرق وتغيب؟ ولكن الأسطورة تصدر عن عقل قبل فلسفي، إنها حدس بالكليات يموضع معرفته الكلية غير المجزأة في صور ومشاهد وشخصيات مفعمة برموز ذات دلالات بعضها يتصل بعالم الشعور وبعضها يتصل باللاشعور؛ ومن هنا فإنها لا تشكل معرفة بالمعنى الدقيق للكلمة؛ ولذلك فنحن إذا ما تلقينا هذه الأسطورة بعد إزاحة عقلنا التحليلي، كما كان القدماء يفعلون، لشعرنا بقوتها وسطوتها، وبما تحاول أن تودعه فينا.
ومن ناحية أخرى فإن المنطق الأسطوري ينظر إلى البرهان كشأن متضمن في عملية البيان؛ ولذلك فهو يستخدم لغة شعرية تستفيد من الظلال السحرية للكلمات أكثر من دلالاتها المباشرة، على ما قلته سابقا. لننظر على سبيل المثال إلى مطلع سورة العاديات في القرآن الكريم الذي يعبر أفضل تعبير عما أقوله هنا:
والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا * فأثرن به نقعا * فوسطن به جمعا * إن الإنسان لربه لكنود (العاديات: 1-6). إن قارئ هذه السورة في رأيي لا يحتاج إلى كتب التفسير ولا إلى القواميس لكي يعرف معنى الكلمات الواردة فيها، لأن هذه الكلمات لم تكن مقصودة لدلالاتها المباشرة، وإنما لظلالها السحرية. وفي الحقيقة لو أنك وجدت المعاني في القواميس، ثم قرأت هذه السورة لغمض عليك المعنى، وإذا أهملت المعاني وتركت النص يتسلسل إليك دون واسطة لأدركت الرسالة. (س):
هل بقي للأسطورة دور تلعبه في حضارة اليوم، أم أن زمنها قد ولى إلى غير رجعة؟ (ج):
لم يعد للأسطورة كما حددتها وعرفتها دور تلعبه في حياة المجتمعات الحديثة، وذلك لأكثر من سبب؛ فأولا: لقد نجحت الفلسفة ثم العلوم الطبيعية والإنسانية بالاستيلاء على معظم ميادينها. وثانيا: لأن نبع الأساطير القديمة قد نضب بعد أن استولت الأديان الكبرى على 90٪ من مساحة الكرة الأرضية، وحالت دون استمرار ذلك التوالد التلقائي القديم للأساطير، بعد أن اكتفى كل منها بعدد محدود منها لم يتغير ولم يتبدل على مر القرون؛ الأمر الذي أفقد الأسطورة الكثير من قوتها الإيحائية. وثالثا: لأن الفلسفة والعلم قد غيرا من آلية تفكير الإنسان الحديث وحولاه من تفكير حدسي إلى تفكير خطي ينطلق من المقدمات إلى نتائجها خلو من قفزات الخيال وفعاليات الحواس الخفية، ولكن غياب الأسطورة لا يعني اختفاء ذلك النزوع الأسطوري المتجذر في السيكولوجيا الفردية والجمعية، والذي جعل الأسطورة ممكنة من حيث المبدأ، فهذا النزوع باق في أعماق النفس ويعمل خلف آليات التفكير الحديث. (س):
وما هي آليات عمل هذا النزوع الأسطوري؟ (ج):
يعمل النزوع الأسطوري على خلق بدائل للأسطورة تقوم ببعض أدوارها؛ مثل الشعر والفن التشكيلي، اللذين يعيدان إلينا ذلك الحدس الخلاق والإدراك الباطني للمدهش والرائع والفائق و... والقدسي. وهناك الرواية التي ورثت عن الأسطورة فن القص وراحت تقدم لقرائها فرصا لاختبار حياة جديدة تفوق حياتهم اليومية العادية جمالا ومعنى. وهناك الدراما التي ترافقت نهضتها في أوروبا مع الثورتين العلمية والصناعية، وما أحدثتاه من فراغ ميثولوجي داخلي وجد بديله على خشبة المسرح. أما السينما فلعلها أكثر الفنون صدورا عن النزوع الأسطوري في النفس الإنسانية، حتى يمكننا اعتبارها الصانع الرئيسي لأساطير العصر الحديث. إن فيلم حرب النجوم الذي اختتم القرن العشرين، قرن السينما، بأسطورة فضائية رائعة، شوهد على مدى عدة سنوات في كل صالة سينما حول العالم، ومن قبل كل كبير وصغير، وكل عالم وجاهل، حتى إن الرئيس الأمريكي رونالد ريغان دعا مشروع الدرع الصاروخي الذي يحمي الولايات المتحدة من أي هجوم نووي، دعاه باسم حرب النجوم.
ولكن هذا النزوع الأسطوري يجعل في الوقت نفسه جماهير دولة العلم سواء في الشرق أم في الغرب أكثر انقيادا للخرافات. ولا أدل على ذلك من أن أي خبر ينتشر عن ظهور طيف السيدة العذراء في مكان ما، يدفع حتى العلماء إلى ترك مخابرهم والتوجه إلى ذلك المكان. لقد زالت الأسطورة حقا ولكنها تعمل في السر، وتتخفى خلف هذا القناع أو ذاك، ونحن نستطيع الركون إليها كميل ونزوع يعمل كخميرة لأشكال التعبير الفني، ويزودنا بمنظار ملون يعيد البهجة والمعنى للحياة، ولكن علينا في الوقت نفسه أن نحذر مما تقود إليه الطبيعة غير العقلانية لهذا النزوع.
المحور الرابع
الديانات التوحيدية
(س):
هل كان ظهور فكرة التوحيد ضرورة تاريخية؟ بمعنى هل كان على تاريخ الدين أن يتوصل منطقيا إلى هذه الفكرة؟ (ج ):
لا يوجد في تاريخ الدين ما ينبئ بأنه كان يسير في طريق التوصل إلى مفهوم التوحيد؛ فلقد توصلت تعددية الآلهة، التي نطلق عليها صفة الوثنية، إلى صياغة صورة عن كون مستقر يديره مجمع الآلهة ويرأسه الإله الأكبر، وتوزع فيه الاختصاصات بشكل دقيق لا يسمح بظهور الاختلافات وتنازع الأهواء، وكان كل إله على رضا وقناعة بما قسم، ولا يطمع إلى ما فوق ذلك، أما الناس فكانوا سعداء بالحرية التي تتيحها لهم تعددية الآلهة، والكل مؤمن على طريقته، ولا وجود لمصطلحات مثل الكفر والزندقة والهرطقة. لقد كانت هناك صراعات بدئية بين الآلهة في بعض الأساطير، ونموذجها الكلاسيكي أسطورة التكوين البابلية، وأسطورة التكوين الإغريقية، ولكن هذه الصراعات هي التي قادت إلى استقرار الكون واستقرار هرمية السلطة فيه بعد الدخول في الزمن التاريخي، وبتعبير آخر كانت جزءا من الفعاليات الأولى التي ولد منها النظام من رحم الشواش أو العماء الأعظم. (س):
وما رأيك بالحجج التي يطرحها القرآن الكريم، والتي تفترض حدوث الفوضى في كون متعدد الآلهة؟ (ج):
أكثر هذه الحجج تعبيرا ما ورد في سورة المؤمنين:
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض . وهذه كما ترى حجة افتراضية لأن القرآن ينفي وجود آلهة غير الله؛ وبالتالي فلا مجال هنالك للتنازع بينهم. (س):
لماذا لم يكن لمصطلح الهرطقة وأشباهه وجود في العصر الوثني؟ (ج):
لأن الهرطقة هي الخروج عن الإيمان القويم، وفي الوثنية لم يكن هناك إيمان قويم وإيمان غير قويم. والخروج عن الإيمان القويم هو المجادلة في أحد بنود عقيدة ناجزة، ولا يفترض بك مناقشتها؛ ولذلك فقد حرم من الكنيسة في قرونها الأولى أكثر من أسقف وحكم عليه باللعنة الأبدية، ونال من هم في حكمهم من الأشخاص العاديين جزاء وصل حد الموت حرقا. أما في الوثنية التي لم تجعل من عقائدها أيديولوجيا ثابتة إلى أبد الدهور فلا يوجد كفر أو هرطقة، الكل مؤمن على طريقته، كما قلت، ولا يحاسبه أحد على ذلك. (س):
أنت تقول الآن إنه لم يكن يوجد في تاريخ الدين ما ينبئ بأنه سائر حتما في طريق التوحيد. ولكنك في كتابك «الأسطورة والمعنى»، وفي الفصل الذي يحمل عنوان «ديانات الشرق القديم ... وثنية أم توحيد؟» تلمست مقدمات التوحيد في العقائد البابلية والمصرية! (ج):
هنالك صلوات في الأدبيات البابلية والمصرية توحي للوهلة الأولى بإرهاصات توحيدية، ويخيل للمرة أنها خطوات أولى نحو التوحيد، لكنها لم تكن في واقع الأمر غير إبراز لدور هذا الإله أو ذاك ضمن هذه العبادة أو تلك. (س):
ولكن الصلوات التي ذكرتها استعملت مرارا صفة «الواحد»؟ (ج):
صحيح، ولكن المقصود بهذا التعبير هو الواحد الجدير بالعبادة دون غيره، وليس الإله الوحيد الموجود ولا أحد سواه. على كل حال، دعنا نفتح الكتاب معا ونتصفح تلك النصوص لكي أوضح لك ما أعنيه.
هذه ترتيلة مصرية تبدأ بالمطلع الآتي: «واحد ولا ثاني له، واحد خالق كل شيء، والموجودات خلقها بعدما أظهر نفسه إلى الوجود.» ولكن مؤلف الترتيلة يقول لنا بعد عدة أسطر: «خالق الكون وصانع ما كان وما هو كائن والذي سيكون أبو الآلهة، رحيم بعباده، يسمع دعوة الداعي.» فالإله رع المقصود بهذه الترتيلة هو واحد كخالق ولا ثاني له، وبعد أن أظهر نفسه للوجود (أي انتقل من حال الكمون التي كان عليها إلى حال الظهور وذلك بخلقه للموجودات) خلق الآلهة، فلا وحدانية هنا ولا توحيد، بل إله أكبر خلق نفسه بنفسه، ثم خلق الكون وبقية الآلهة، وفكرة الأسبقية في الظهور ليست توحيدا.
وفي هذه الترتيلة المرفوعة إلى الإلهة إيزيس نقرأ في المطلع: «هي ذات الأسماء الكثيرة، الواحدة القائمة منذ البدء.» وبعد ذلك نقرأ: «وهي القدوسة الواحدة، أعظم الآلهة والإلهات، ملكة الآلهة جميعا ومحبوبتهم الأثيرة.» وكما نرى فإن صفة الواحدة هنا لا تعني الوحدانية في الألوهة، ولكنها تعني الواحدة الجديرة بأحق العبادة.
ثم لنتأمل هذه الترتيلة المرفوعة إلى الإله آمون، والتي أوحت خاتمتها لكثير من الباحثين بوجود جذور التوحيد في ديانة مصر القديمة؛ حيث نقرأ:
واحد هو آمون وخاف على الآلهة.
إنه محجوب عنهم ولا يعرفون لونه.
إنه بعيد عن السماء ولا يرى في العالم الأسفل.
لا يعرف أحد من الآلهة شكله الحقيقي،
وصورة اسمه لا ترسمها الكتابة وما له من شهود.
من تلفظ باسمه سهوا أو عمدا مات لتوه،
ولا يعرف إله كيف يتوجه إليه باسمه.
جمع الآلهة ثلاث؛ آمون ورع وبتاح،
ولا ثاني لهم.
هو الخفي باسمه آمون،
وهو الظاهر باسمه رع،
وهو المتجسد باسمه بتاح.
ولكي نفهم مدلولات هذه الترتيلة ينبغي لنا أن نلقي نظرة سريعة على تاريخ الإله آمون والظروف التي أحاطت بارتقائه إلى سدة الإله الأعلى؛ فقد كان آمون إلها لمدينة طيبة عندما كانت مدينة مغمورة، ثم أخذت بالتوسع مع صعود الأسرة الحادية عشرة حتى تحولت إلى عاصمة في عهد الأسرة السابعة عشرة التي طردت الهكسوس من مصر، ثم إلى عاصمة للإمبراطورية التي أسستها الأسرة الثامنة عشرة؛ ولذلك كان على آمون أن يرتقي من إله لمدينة طيبة إلى كبير للآلهة، ويشغل المنصب الذي كان يحتله الإله رع منذ أقدم الأزمنة. ولتحقيق هذه النقلة توجب على كهنته أن يطابقوا بينه وبين رع من جهة، والإله الكبير بتاح من جهة ثانية. وصار إلها واحدا في القوة، وفي الوقت نفسه يحمل ثلاثة أسماء؛ وبالتالي فإن هذه الترتيلة ليست توحيدية وإنما تسويغية تهدف إلى إحلال آمون في منصب رع دون إزاحة رع عن منصبه. وكما ترى فإن مرونة الفكر الأسطوري تجعل أعقد الأمور ممكنة.
على كل، أنا لم أجزم بوجود مقدمات توحيدية في ذلك الفصل، وإنما عرضت بعض آراء الباحثين من ذوي الفكر التوحيدي، وأبقيت المسألة مفتوحة عندما كتبت عنوان الفصل بصيغة الاستفهام. (س):
إذا قلنا بأن التوحيد لم يكن ضرورة تاريخية، فمن أين جاء إذن؟ (ج):
توصلت إليه عقول أفراد متميزين خارج أي ضرورة. (س):
عقل زرادشت مثلا؟ (ج):
زرادشت كان الأسبق تاريخيا، وقد عاش على الأرجح في القرن السادس قبل الميلاد. (س):
وماذا عن الفرعون أخناتون الذي يعزى إليه قصب السبق في التوحيد؟ (ج):
عاش الفرعون أخناتون في أواسط القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وقام بثورة دينية ركزت على عبادة إله لم يكن عضوا في البانثيون المصري واسمه آتون، وهذه الثورة الدينية منعت عبادة الآلهة الأخرى التي أغلقت معابدها وجرى تسريح كهنتها، ولكن الانتقام الشامل الذي طال كل آثار هذا الفرعون بعد تنازله عن العرش وإخفاق حركته الدينية، لم يترك لنا إلا القليل من المعلومات عن هذه الحركة؛ ولذلك لا أستطيع الجزم عما إذا ما كانت الآتونية عقيدة توحيدية حقا أم وحدانية عبادة. (س):
ما الفرق بين التوحيد وبين وحدانية العبادة؟ (ج):
التوحيد عقيدة تؤمن بوجود إله واحد فقط، وهذا الإله هو الذي أظهر الكون من العدم، وهو الذي يحفظه ويدير شئونه إلى نهاية الدهر. أما وحدانية العبادة فعقيدة مرتكزة على عبادة إله واحد فقط دون إنكار وجود آلهة أخرى. (س):
وماذا عن موسى واليهودية؟ ألم يأت موسى زمنيا قبل زرادشت؟ ولماذا تنكر على اليهودية صفة التوحيد؟ (ج):
موسى شخصية غير تاريخية، بمعنى أنه لم يتوافر لدينا أي دليل على أنه وجد في زمن ما، كما أننا لا نستطيع أن نجزم بأنه لم يوجد. كل ما يمكننا القول بشأنه هو أنه شخصية ملحمية، والشخصيات الملحمية ربما كانت ذات أصل تاريخي، ولكن هذا الأصل يبقى غائبا وراء غلالات ميثولوجية كثيفة. أما عن العقيدة التي أتى بها موسى فقد بقيت في حيز وحدانية العبادة حتى اختتام الأسفار التوراتية؛ لأن إله موسى كان إلها لشعب بعينه ولم يكن إلها لجميع البشر، بل إنه يظهر عداوة للأمم جميعها عدا «الشعب الذي اختاره لنفسه أمة كهنة» على حد التعبير التوراتي. (س):
وما هي دلائل وحدانية العبادة فيما جاء به موسى؟ (ج):
سوف أبدأ بالخطاب الأول الذي وجهه الإله التوراتي يهوه إلى موسى عندما تجلى له في نار شجرة شوكية تتقد بالنار في الصحراء دون أن تحترق: «فلما رأى الرب أنه مال لينظر، ناداه من وسط شجرة العليق وقال: موسى، موسى. فقال: ها أنا ذا. فقال: لا تقترب إلى ها هنا، اخلع حذاءك من رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. ثم قال : أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله» (الخروج: 3). وكما نلاحظ بوضوح فإن إله موسى في هذا الوحي الأول لنبيه لم يدع الوحدانية، وإنما قال إنه إله الآباء الأقدمين.
والآن فلنقارن بين هذا الوحي الأول في التوراة، والوحي الأول الذي نزل على موسى في القرآن الكريم:
وهل أتاك حديث موسى * إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى * فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري (طه: 9-14).
فإذا جئنا بعد ذلك إلى الوصايا العشر التي نزلت على موسى بعد هذه المواجهة الأولى مع إلهه، نجد أن الوصية الأولى التي تقرر شكل ومضمون العقيدة تؤسس لوحدانية العبادة لا للتوحيد الصافي: «ثم تكلم الله بهذه الكلمات جميعها قائلا: أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي» (الخروج: 20). أي إن إله موسى يأمره هنا بألا يعبد إلى جانبه إلها آخر دون أن يقر لنفسه بصفة الوحدانية. وبعد ذلك وفي الوصية الثانية يصف نفسه بالغيور: «لأني أنا الرب إلهك إله غيور.» فهو يغار من وجود آلهة أخرى ولو أنه أقر لنفسه بالوحدانية فلا مجال لغيرته. والشواهد من النص التوراتي على ما أقول لا تحصى: «من مثلك يا رب بين الآلهة» (الخروج: 15). «إله الآلهة، الرب إله الآلهة» (يشوع: 25). «أي إله عظيم مثل الله» (المزمور: 77). «إله الآلهة، الرب تكلم» (المزمور: 50). (س):
ولكن هناك روابط متينة تجمع اليهودية إلى الإسلام والمسيحية، فماذا ندعو هذه الزمرة من الأديان إذا ما رفضنا صفة التوحيدية للديانة اليهودية؟ لقد وصفتها عرضا في حديث سابق بالإبراهيمية! (ج):
هذا صحيح؛ فالكتب المقدسة لهذه الأديان متواشجة ومتناصة، وهذا ما يدعونا إلى وضعها في زمرة واحدة، أدعوها بالإبراهيمية سيرا مع الرأي الشائع لا عن قناعة بهذا الوصف. (س):
إذن أنت تضع الديانتين الإسلامية والمسيحية في زمرتين؛ الأولى الأديان التوحيدية، والثانية الأديان الإبراهيمية. (ج):
نعم، وهناك زمرة ثالثة تشتمل على الأديان التوحيدية وعلى الديانة البوذية أدعوها بالأديان الشمولية. (س):
وما الذي يجمع البوذية وهي عقيدة لا إلهية إلى أديان التوحيد؟ (ج):
طبيعتها الشمولية. لقد قلت في حديث سابق إن الدين يتبدى على المستوى الاجتماعي في صيغتين هما العبادة ودين الشعب، ولكن هنالك صيغة أخرى ثالثة هي الدين الشمولي؛ فلقد بقي دين الشعب بمثابة رابطة عامة تجمع أهل الثقافة الواحدة إلى أن شهد تاريخ الدين ظاهرة جديدة هي ظاهرة الأديان الشمولية، وذلك في سياق القرن السادس قبل الميلاد. والدين الشمولي هو عقيدة عابرة للجغرافيا والحدود السياسية والقوميات، تطمح إلى أن تجعل من نفسها دينا عالميا تؤمن به الشعوب كلها، معتمدة في ذلك على التبشير الذي لم يعرفه تاريخ الدين من قبل؛ فالمصريون القدماء لم يعملوا على نشر ديانتهم خارج مصر حتى في العصر الإمبراطوري، ومثلهم في ذلك السوريون والبابليون، وأهل الهند ما زالوا حتى الآن لا يمارسون نشاطا تبشيريا، بل وغير راغبين في تحول أحد إلى عقيدتهم. كما تتميز العقيدة الشمولية بأن لها بداية معروفة في الزمن، بينما تضيع بدايات الديانات الأخرى في ضباب التاريخ، وهي تحمل طابع تجربة روحية لفرد تاريخي هو مبدعها، والذي عمل على نشرها من خلال حركة ثورية قلبت المفاهيم الدينية لعصرها، وهذا المؤسس الفذ يعتقد بأنه امتلك الحقيقة النهائية ووجد الحل لكل مشكلات البشرية وأوجاعها.
عند هذا الحد من التشابه بين العقائد الشمولية تستقل الأديان التوحيدية عن البوذية؛ فالبوذية تقبل العيش في بيئة متعددة الأديان، وهي إذ تتابع عملها التبشيري بهدوء وسلام فإنها لا تدخل في صراع مفتوح مع العقائد الأخرى. أما الأديان التوحيدية التي تعتقد بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة فإنها ترفض التعايش مع العقائد الأخرى؛ لأن من يمتلك الحقيقة يرفض المساومة عليها. وهي تعلن منذ البداية بطلان تلك العقائد وبطلان وزيف آلهتها، وتناصب العداء كل إيمان آخر؛ وبالتالي فإنها تدخل في صراع مفتوح مع الجميع تكون في بدايته هي الجانب الأضعف؛ فالمسيحيون كانوا أول طائفة دينية وقع عليها الاضطهاد الرسمي المنظم من قبل السلطة الرومانية وعامة الناس على حد سواء، وما كان ذلك إلا لأن المسيحيين هم الذين استعدوا عليهم الجانب الآخر، وذلك برفضهم المطلق له والانتقاص من قيمة عقائده وآلهته. كما كان المسلمون في مكة أول طائفة دينية وقع عليها الاضطهاد في جزيرة العرب؛ لأنهم هم من بدأ برفض الآخر وسخر من عقائده وآلهته. (س):
نحن نتحدث عن التوحيد وكأنه مصطلح واضح ومعرف تمام التعريف، ولكننا حتى الآن لم نصف عقيدة التوحيد إلا بأنها الإيمان بإله واحد خالق للسماء وما فيها، والأرض وما عليها، ولا يشاركه أحد في الألوهية. أعتقد بأننا بحاجة إلى مزيد من الإحاطة بهذا المفهوم. (ج):
هذا صحيح؛ ولذلك يجب علينا أن نبدأ بالإحاطة بمفهوم الله في الأديان التوحيدية؛ لأن صفة الوحدانية تنطوي على صفات رئيسية أخرى متصلة بها؛ فالله هو الخير المحض، وما ينطوي عليه هذا الخير من رحمة ومحبة وحفظ لمخلوقاته، وعلى ما ورد في القرآن الكريم:
فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين (يوسف: 64). وهو كلي القدرة وقدرته متخللة في الكون لا يعجزها شيء:
تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير (الملك: 1). وهو كلي المعرفة وعلمه يشتمل على كل ما في الوجود من أحداث ماضية وأحداث جارية وأحداث آتية، وكل ما في سرائر الناس وضمائرهم:
ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض (المجادلة: 7).
إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (آل عمران: 5).
وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور (الملك: 13). وهو كلي الحضور:
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله (البقرة: 115). وهو أزلي أبدي. الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء:
هو الأول والآخر (الحديد: 3).
هذه الصفات الذاتية لله تتوجها صفة الفعالية في الطبيعة وفي التاريخ؛ فكل ما يحدث في العالم الطبيعي إنما يحدث نتيجة لفعالية الله في خلقه:
وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء (الأنعام: 99).
وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت (الأعراف: 57). أما عن فعالية الله في التاريخ والمجتمع الإنساني فتتجلى في عنايته بالإنسان ورغبته في خلاصه، وذلك عن طريق إرساله رسلا إلى البشر ليكشف لهم عن وجوده ويبين لهم سبل الخلاص والحياة القويمة:
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما (العنكبوت: 14).
ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه (المؤمنون: 44).
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (فاطر: 24).
وكم أرسلنا من نبي في الأولين (الزخرف: 6). أي إن الله ليس وجودا سكونيا بل وجود دائم الفعالية. (س):
وماذا عن الآلهة الوثنية، ألم يكن لها فعالية في التاريخ؟ (ج):
كانت فعالية الآلهة الوثنية في التاريخ عرضية، لأن التاريخ في العقائد الوثنية تاريخ سكوني، بمعنى أنه يجري على المنوال نفسه، أما في العقائد التوحيدية فإن فعالية الله هي جزء من وجوده، والتاريخ ذو سمة دينامية حركية، بمعنى أن له بداية في أزمنة الخلق ونهاية في اليوم الأخير، أو اليوم الآخر كما يدعى في القرآن؛ ولذلك فإننا لا نكاد نرى آية في القرآن تذكر الإيمان بالله إلا مقترنا باليوم الآخر. (س):
هذا التاريخ الدينامي كما تصفه، هل هو سمة مشتركة لدى كل عقائد التوحيد؟ وما هي خصائصه؟ (ج):
إنه السمة الأولى المشتركة بين عقائد التوحيد، ولكي نتعرف على خصائصه من الأفضل لنا أن نفعل ذلك في سياق مقارن؛ ذلك أن تاريخ الأديان يطلعنا على ثلاثة أنماط للتاريخ المقدس وهي: (1) التاريخ المفتوح الذي وصفته بالسكوني. (2) التاريخ الدوري الذي يتحرك بشكل دائري، وفي نهاية كل دورة يفنى الكون ليعود إلى التشكل من جديد. (3) التاريخ الدينامي.
تقدم لنا ديانة بلاد الرافدين النموذج الأمثل على مفهوم التاريخ المفتوح؛ حيث نستطيع تمييز أربع مراحل للتاريخ المقدس وهي: (1) السرمدية الكامنة عندما كانت الألوهة منكفئة على نفسها. (2) الزمن الكوزموغوني؛ أي زمن الخلق والتكوين. (3) زمن الأصول والتنظيم عندما قام الآلهة بالفعاليات المبدعة عند جذور التاريخ. (4) زمن البشر المفتوح على اللانهائية؛ فزمن الأصول والتنظيم ينتهي بخلق الإنسان لكي يحمل عبء العمل عن الآلهة، ويؤمن لها طعاما بعد أن كانت تكد وتشقى في سبيل ذلك، على ما أوردته في حديث سابق؛ فالإنسان خلق لكي يخدم الآلهة، والعلاقة بين الطرفين تبقى علاقة السيد والعبد، والآلهة خالدة والإنسان فان، وليس لديه أي أمل في التفكير بالخلاص من شرطه الأرضي ومشاركة الآلهة في نعمة الخلود؛ ولذا فإن أفضل ما يصبو إليه في حياته الأرضية هو تحقيق اللذائذ الحياتية الصغيرة خلال عمر ينتهي به إلى العالم الأسفل الذي تهبط إليه أرواح البشر بعد الموت؛ حيث تعيش في وجود شبحي لا نكهة له ولا طعم، لا فرق في ذلك بين أمير وفقير، وبين من قدم حسنة ومن قدم سيئة. في ظل مثل هذه الصيغة للعلاقة بين الآلهة والبشر تبقى الرابطة الوحيدة بينهم هي رابطة الطقوس والشعائر التي يقوم الإنسان من خلالها باستمالة آلهته وحثها على اتخاذ مواقف إيجابية منه؛ لأنها تصنع الخير مثلما تصنع الشر، وليس بمقدور الإنسان أن يتنبأ بردود أفعالها. (س):
هل هذا يعني أن الأخلاق لم تكن ذات شأن في ديانة وادي الرافدين؟ (ج):
ليس تماما، ولكن الآلهة الرافدينية لم تستن شرائع أخلاقية لعبادها يتوجب عليهم اتباعها، وترك المجتمع يسير شئونه الاجتماعية بنفسه ويتعامل أفراده وفق أخلاقيات متعارف عليها ومؤسسة منذ القدم، وكان الحكماء يعيدون صقل هذه الأخلاقيات ويذكرون الناس بها. وهذا ما نراه في نصوص الحكمة التي تحفل بها أدبيات وادي الرافدين، وأهم ما يميز هذه النصوص أنها لم تكن تجري على لسان كهان مرسومين ينطقون بها وحيا من السماء، بل على لسان حكماء خبروا الحياة، وأفادوا من عبرها وعرفوا مسالك الحق والباطل. (س):
أي إن الأخلاق كانت من طبيعة دنيوية وليس من طبيعة سماوية! (ج):
هذا صحيح، ولكن الآلهة قد تثيب على العمل الصالح الذي يبذله الإنسان، ولكن في هذه الدنيا وليس في عالم آخر قادم؛ ففكرة العالم الآخر هنا غير موجودة، ولا وجود إلا لهذا العالم، وما من خطة إلهية لإصلاحه أو تطهيره أو تحويله إلى عالم أسمى وأرقى؛ ولذلك فإن فكرة نهاية العالم وما يصحبها من قيامة عامة للموتى، ومن حساب وثواب وعقاب غير موجودة، وتاريخ الإنسان والعالم مفتوح ودونما نهاية منظورة؛ ولهذا وصفته بالسكوني. (س):
وهل تنطبق هذه الرؤية للتاريخ على بقية أديان الشرق القديم، أم أنها خاصة بالدين الرافديني؟ (ج):
هذه هي الرؤية المشرقية للتاريخ والرؤية الإغريقية الرسمية أيضا. (س):
ولكننا نجد في الميثولوجيا المصرية مشاهد لحساب الموتى أمام ميزان الأعمال، وإشارات نصية إلى جنات الإله أوزوريس التي يتوجه إليها الصالحون بعد الحساب. (ج):
في حديثنا عن قيامة الموتى علينا أن نميز بين قيامتين؛ الأولى قيامة فردية يختبرها كل فرد بعد الموت، والثانية قيامة عامة لكل الموتى منذ آدم وحتى اليوم الأخير. والميثولوجيا المصرية تتحدث عن القيامة الفردية، ولا يوجد في الديانة المصرية فكرة عن القيامة العامة ونهاية العالم. وكذلك الحال في عبادة الأسرار الإغريقية التي تؤمن بتحرر الروح الفردية وانعتاقها إلى عالم أفضل مع غياب تام لفكرة نهاية التاريخ. (س):
ولكن التاريخ في النمط الدوري لا ينتهي أيضا، فلماذا نميزه عن التاريخ المفتوح ونتحدث عن نمطين مختلفين؟ (ج):
هما نمطان مختلفان كل الاختلاف لأن التاريخ المفتوح لا يكرر نفسه، أما التاريخ الدوري فيكرر نفسه في دورات متتابعة، ونجد نموذجه الأوضح في الديانة الهندوسية. (س):
هل يقع التاريخ الدينامي إذن في نقطة الوسط بين التاريخ المفتوح والتاريخ الدوري؟ (ج):
التاريخ الدينامي نسيج وحده ولا يشبه في شيء النمطين الأخيرين؛ فهو كما أسلفت يتحرك بين الخلق الأول واليوم الأخير الذي ينتهي عنده الزمن الدنيوي، ويدخل الوجود بأكمله في زمن آخر هو الأبدية. (س):
وما الذي يدفع حركة التاريخ الدينامي في هذا الاتجاه الحتمي؟ (ج):
عندما توصل الفكر الإنساني إلى مفهوم التوحيد الذي عزا إلى الله كل الكمالات التي تنتهي جميعا إلى كمال الخير المطلق، كان في الوقت نفسه يتأمل في هذا العالم الناقص حيث يتخلل الشر نظام الطبيعة ونظام المجتمع وضمائر النفوس الواعية، ويحاول التوفيق بين كمال الله وخيره وما يراه من شر في بنية خلقه؛ فعلى المستوى الطبيعاني هنالك شرور متأصلة في صلب عمليات الطبيعة والبيولوجيا؛ مثل الزلازل والبراكين والأعاصير والفيضانات والحرائق، ومثل الألم والمرض والشيخوخة والموت. وعلى المستوى الاجتماعي هناك شرور ناجمة عن الإرادة الإنسانية؛ مثل السرقة والعنف والاغتصاب والتسلط والظلم. هذه المقابلة بين كمال الله ونقص العالم، جعلت الفكر التوحيدي يتحول بشكل أوتوماتيكي إلى مفهوم الشيطان الكوني. وهذا الشيطان ليس كائنا شريرا مثل بعض الآلهة الوثنية التي اتصفت بالشر ومارست أفعالا شريرة، ولكنه مبدأ الشر ومنبعه على كل صعيد. وعلى الرغم من أنه ليس إلها إلا أنه يتصرف مثل إله وينشط في استقلال عن الله، وينتمي من حيث الأصل إلى المجال القدسي لا إلى المجال الدنيوي. (س):
هل نستطيع القول إذن إن الشيطان ضرورة توحيدية؟ (ج):
بكل تأكيد؛ لأن مفهوم التوحيد لن يستقيم بدون الشيطان الذي يحمل مسئولية وجود النقص والشر في خلق الله؛ ولذلك فإن ميثولوجيا التكوين في كل عقيدة توحيدية تعطي حيزا لأسطورة ظهور الشيطان، وهذه الأساطير على اختلافها في التفاصيل إلا أنها تتفق على أنه من أصل سماوي خلقه الله مع ما خلق من الكائنات القدسية قبل اكتمال عملية التكوين وظهور الكون المنظم والإنسان. (س):
وكيف ساعد مفهوم الشيطان الكوني على تكوين نمط التاريخ الدينامي؟ (ج):
إن الكامل لا يصدر عنه إلا كل شيء كامل؛ ولذلك فلقد جاء الكون الذي خلقه الله في أكمل صيغة ممكنة وكذلك الإنسان:
الذي أحسن كل شيء خلقه .
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين (التين: 4-5).
فتبارك الله أحسن الخالقين (المؤمنون: 14). وهذه هي المرحلة الأولى من مراحل التاريخ، مرحلة الخلق الحسن والطيب، ولكن هذا الخلق الذي ولد كاملا داخله النقص والشر بسبب فعاليات الشيطان، ودخل العالم في مرحلة تمازج الخير والشر، ولكن الله بمعونة الإنسان وقوى الخير السماوية سوف يعمل على الفصل بين الخير والشر في المرحلة الثالثة التي تنتهي بدحر الشيطان وتنقية العالم من آثاره ، ونأتي إلى المرحلة الرابعة حيث يتم تدمير العالم القديم وخلق عالم جديد يدخل في الأبدية. (س):
أفهم من ذلك أن التكوين وأصل الشيطان هما أسطورتان في ميثولوجيا واحدة؟ (ج):
نعم؛ فالأسطورتان متواشجتان ومتداخلتان، والشيطان يظهر إما مع خلق العالم الروحاني عالم الملائكة قبل خلق العالم المادي، أو بعده مباشرة. وفي الديانات الإبراهيمية تتداخل أسطورة الشيطان مع أسطورة خلق الإنسان وجنة عدن. (س):
هل وضعت الزرادشتية الصيغة الأصلية لهذا اللاهوت المتراكب؟ (ج):
لقد وضعت الزرادشتية الأفكار العامة لهذا اللاهوت، ولدينا في الحقيقة ثلاث صيغ له هي الصيغة الزرادشتية والصيغة المانوية والصيغة الإبراهيمية. (س):
ما مدى التشابه بين هذه الصيغ؟ (ج):
هنالك تشابه بين الصيغة الزرادشتية والصيغة الإبراهيمية، أما الصيغة المانوية فتبدو نسيج وحدها؛ ولذلك فسوف نستبعدها فيما يأتي من حوارنا. (س):
دعنا نبدأ بالزرادشتية. الرأي الشائع عن الزرداشتية هو أنها عقيدة ثنوية لا توحيدية؛ بمعنى أنها تقول بوجود إلهين هما إله النور والخير وإله الظلام والشر. (ج):
مرت الزرادشتية بمراحل تطورية خلال ألف سنة من وجودها، وهذا الانطباع الذي تشكل عنها بأنها عقيدة ثنوية جاء في المرحلة الأخيرة التي نطلق عليها اسم المجوسية. أما الزرادشتية الأصلية التي بشر بها زرادشت فهي عقيدة توحيدية صافية؛ ففي البدء لم يكن سوى الله الذي يدعوه زرادشت أهورا مزدا، وجود كامل وتام، وألوهية مكتفية بنفسها غنية عما عداها. ثم إن هذه الألوهة اختارت الخروج من كمونها وإظهار غيرها إلى الوجود، ففاض عنها روحان توءمان هما سبيتنا ماينيو وأنجرا ماينيو، ولكي يكون لهذين الكيانين وجود مستقل عن خالقهما فقد أعطاهما الله خصيصة الحرية، فاستخدم الاثنان هذه الحرية عندما اختار سبينتا ماينيو الخير ودعي بالروح القدس، واختار أنجرا ماينيو الشر ودعي بالروح الخبيث، وهكذا تم زرع المبدأ الأخلاقي في صميم الوجود؛ فكل ما في هذا الوجود الجديد حر وأخلاقي في آن معا. وعلى الرغم من أن الله كان قادرا على سحق أنجرا ماينيو والقضاء على الشر في مهده، إلا أنه قرر عدم التناقض مع نفسه بالقضاء على مبدأ الحرية الذي أقره وأقام عليه خليقته، ووضع خطة لمقاومة الشر استنادا إلى المبدأ ذاته الذي أنتجه وهو الحرية.
وهكذا فقد تابع أهورا مزدا خلق العالم الروحاني، وأظهر إلى الوجود ستة كائنات نورانية من نوره السني، مثل من يشعل شمعة من جذوة نار، فشكل هؤلاء بطانته الخاصة التي تحيط به على الدوام وتعكس مجده، وقد دعي هؤلاء بالأميشا سبينتا أي المقدسون الخالدون. وقد شارك هؤلاء الخالق فيما تلا من عمليات الخلق والتكوين وصاروا حافظين لخلق الله ووسطاء بينه وبين العالم. وفيما بعد سوف ينزل واحد منهم ويبلغ زرادشت رسالة أهورا مزدا إلى البشرية ويأمره بالتبشير بدين الحق. ثم إن هؤلاء الأميشا سبينتا أظهروا للوجود حشدا من الملائكة الطيبين الذين دعوا بالأهورا، وراح الجميع يتهيأ لمقاومة قوى الشر. وبالمقابل فإن الشيطان أنجرا ماينيو استنهض حشدا من القوى الروحانية المدعوة بالديفا وعمل على تضليلهم، فانحازوا إليه وساروا في ركابه. وعلى الرغم من أن الصراع بين قوى النور وقوى الظلام سوف يستعر عقب خلق الكون المادي، إلا أن أهورا مزدا لن يكون طرفا مباشرا في هذا الصراع على ما آلت إليه الأمور في العقيدة المجوسية المتأخرة.
ثم إن أهورا مزدا خلق العالم على ست مراحل تقابل الأيام الستة التي خلق الله فيها العالم في العقائد الإبراهيمية؛ فقد خلق السماوات أولا، ثم الماء، ثم الأرض، ثم النبات، ثم الحيوان، وأخيرا خلق الإنسان الأول. وقد قسم الأرض إلى سبعة أقاليم كلها أراض سهلية لا التواء فيها ولا مرتفعات، وصنع بحرا في جهتها الجنوبية، ومن البحر فجر نبعين عذبين شكلا نهرين كبيرين راحا يجريان على الجهة الشرقية والجهة الغربية من الإقليم المسكون في الأرض، وزرع في البحر شجرتين الأولى تدعى بشجرة كل البذور تحتوي على بذور النباتات المعروفة كلها، والثانية تدعى بشجرة الشفاء والحياة الأبدية، وبذلك تنتهي مرحلة الخلق الحسن والكامل، وقد بقي العالم على كماله مدة كان الشيطان خلالها نائما. (س):
في قصة التكوين التوراتية هناك شجرة في الجنة تسمى شجرة الحياة. أليس كذلك؟ (ج ):
تتفق قصة الخلق المسيحية-اليهودية في سفر التكوين مع قصة الخلق الزرادشتية في ترتيب ظهور معالم الكون، وفي عنصرين آخرين هما عنصر النهرين وعنصر الشجرتين ولكن مع بعض التعديل؛ ففي سفر التكوين وبعد أن انتهى الله من آخر فعاليات الخلق وهو خلق الإنسان الأول آدم، زرع جنة في مكان يدعوه النص شرقي عدن (عدن شرقا)، وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة ثم ينقسم ليصير أربعة فروع، وفي وسط الجنة زرع شجرتين؛ الأولى تدعى شجرة الحياة، والثانية تدعى شجرة معرفة الخير والشر. (س):
كيف انتقلت هذه التأثيرات الزرادشتية إلى كتاب التوراة أو العهد القديم كما يدعى في المسيحية؟ (ج):
بعد أن دمر الملك البابلي نبوخذ نصر مدينة أورشليم وسبى نخبة من سكان مملكة يهوذا، أسكنهم في مدينة بابل وما حولها، ولكن بابل سقطت بعد خمسين سنة بيد الفرس عام 539ق.م. واحتكت الثقافة البابلية مع الثقافة الفارسية الزرادشتية. وكان لدى مثقفي يهوذا من كتبة وكهنة فرصة للاحتكاك بالثقافة الفارسية والاطلاع على الزرادشتية، وكانوا في ذلك الوقت قد شرعوا في تدوين الأسفار التوراتية المبكرة. (س):
هل من المناسب أن نستخدم لفظ الجلالة «الله» في الإشارة إلى الإله التوراتي كما فعلت منذ قليل، على الرغم من افتقار العقيدة التوراتية إلى التوحيد الصافي الذي يسوغ لنا مثل هذا الاستخدام؟ (ج):
من حيث المبدأ أنا لا أفضل ذلك، ولكن مشروعية هذا الاستخدام تأتي من أن القرآن الكريم يخبرنا بأن الله كان إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهم أنبياء ما قبل اليهودية، وكان إله موسى نبي اليهودية ومن جاء بعده؛ مثل أليشع وإلياس ويونس. (س):
حسنا، عندما قام أهورا مزدا بفعاليات الخلق كان الشيطان نائما، فمتى أفاق؟ (ج):
عندما أفاق الشيطان ورأى ما صنع الله، انقض عليه وأخذ بتخريبه؛ فقد قفز نحو الأعلى وشتت تجمعات النجوم، وأحل الاضطراب في نظام السماء، ثم غطس في البحر فأفسد ماءه بالملح، وجفف الينابيع، وأذبل المزروعات في السهول الخضراء ونشر فيها الصحاري، وبث فيها الأفاعي والعقارب وكل الكائنات المؤذية، ولوث النار بالدخان، وذبح الإنسان الأول، وزرع الموت والعفونة والفساد في كل ما خلق الله. وهكذا دخل العالم في مرحلة تمازج الخير والشر، والصراع بين قوى النور وقوى الظلام؛ فقد تصدى الأميشا سبينتا لإصلاح ما أفسده الشيطان، ومن جملة ما قاموا به أنهم أخذوا بذور الإنسان الأول فطهروها بضوء الشمس ثم زرعوها في التربة، فخرجت منها نبتة انطوى برعمها على الزوجين الأولين ماشيو وماشيا، فنفخ الله فيهما الروح وقال لهما: «أنتما سلف البشرية فحافظا على الفكر الحسن والقول الحسن ولا تخضعا للشيطان.» ثم جاء الملائكة فألبسوهما ثيابا من جلد لستر عريهما وعلموهما كل ما يلزم لحياة الإنسان، ولكن العالم لن يعود نقيا كما كان، والصراع بين قوى الخير وقوى الشر سوف يستمر، ولن يحسم إلا بمعونة الإنسان الذي يساهم في هذا الصراع من خلال التزامه بالمنظومة الأخلاقية التي سنها له زرادشت.
تبدأ مرحلة الفصل بين الخير والشر بميلاد زرادشت، وتنتهي بميلاد المخلص الذي ستحمل به عذراء تنزل لتستحم في مياه بحيرة معينة حفظ فيها الملائكة بذور زرادشت، فتتسرب البذور إلى رحمها وتنجب مخلص العالم المدعو ساوشيانط الذي سيقود المعركة الأخيرة الفاصلة ضد الشيطان ويقضي عليه. ومع القضاء على الشيطان يتم تدمير العالم القديم الملوث بعناصر الشر، وتجديده بطريقة أقرب ما تكون إلى خلق آخر، ثم تفتح القبور وتلفظ الأرض ما أتخمت به من عظام الموتى، وتهبط الأرواح من البرزخ الذي كانت تقيم به لتتحد بأجسادها. وبعد ذلك يسلط الملائكة نارا على الأرض تذيب معادن الجبال وتشكل نهرا ناريا يطغى على المبعوثين الذين تجمعوا في بقعة معينة من الأرض، ويجرف في طريقه الأشرار ويمحو عن الأرض أثرهم، أما الأخيار فيعبرونه كمن يخوض في نهر حليب دافئ، ويعيشون خالدين في العالم الجديد الذي تحول إلى جنة أرضية.
هذه هي القصة الكلاسيكية عن الله والشيطان والتاريخ الدينامي، والتي ستعود عناصرها للظهور في الديانات الإبراهيمية. (س):
ومن المتوقع أن نجد معظم هذه العناصر في الرواية التوراتية لأنها الرواية الأبكر. أليس كذلك؟ (ج):
أعتقد أني أشرت سابقا إلى أن العقيدة اليهودية قد مرت بطورين؛ الأول هو العقيدة التقليدية كما يرسمها كتاب التوراة بأسفاره القانونية، والثاني هو العقيدة التي تطورت على هامش التوراة تحت تأثير أسفار أخرى لم تقر في الكتاب القانوني والمدعوة بالأسفار المخفية أو غير القانونية. وقد تبنى مؤلفو التلمود وهو المصدر الآخر للديانة اليهودية عناصر مهمة من هذه العقيدة التي رسمت الصورة العامة للاهوت الشيطان في الديانات الإبراهيمية. (س):
هل تعني بأن عقيدة الشيطان مفقودة في التوراة؟ (ج):
نعم؛ فالشيطان كمبدأ كوني للشر لا وجود له في التوراة، هنالك شخصية ملائكية شريرة تدعى بالشيطان، والاسم العبري لها هو «شطن» ويعني المقاوم والمعاند، تعمل تحت إمرة يهوه الذي يوكل إليها مهام شريرة معينة على ما نراه مثلا في سفر أيوب، حيث أوكل الرب للشيطان مهمة إنزال المصائب بعبده الصالح أيوب ليمتحن مدى إيمانه وتقواه. وهو باختصار شخصية باهتة لا يمكن تمييزه بين «جيش الملائكة الأشرار»، وهو تعبير يرد لوصف فئة معينة من بطانة يهوه (راجع المزمور: 78). (س):
وما هو سبب هذا الغياب لشخصية الشيطان؟ (ج):
لأن الشيطان كما أسلفنا من قبل ضرورة توحيدية، والعقيدة التوراتية لم تتوصل إلى مفهوم التوحيد الصافي؛ وبالتالي إلى مفهوم الخير المطلق في شخصية الله؛ فهو صانع الخير وصانع الشر في آن واحد، على ما نقرأ في سفر إشعيا: «أنا الرب وليس آخر، مصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشر، أنا صانع كل هذا» (إشعيا، 45: 76). (س):
وماذا عن ميثولوجيا التكوين؟ هل خلت من أسطورة ظهور الشيطان كما هو متوقع؟ (ج):
بالطبع، ولكنها مع ذلك وضعت الصيغة الكلاسيكية لميثولوجيا التكوين في العقائد الإبراهيمية بعد أن أدخلت عليها الأسفار غير القانونية فكرة الشيطان؛ ففي البدء لم يكن سوى الماء وروح الرب يرف فوقه، ثم قرر الرب خلق العالم ونفذ ذلك في ستة أيام؛ ففي اليوم الأول خلق النور الذي شق الظلمة المتكاثفة فوق مياه الغمر البدئية، وسمى النور نهارا وسمى الظلمة ليلا، وفي اليوم الثاني خلق قبة السماء، وفي اليوم الثالث أظهر اليابسة وميزها عن البحار وبث فيها الحياة النباتية، وفي اليوم الرابع خلق الأجرام السماوية، وفي اليوم الخامس خلق الكائنات الحية وطيور الجو، وفي اليوم السادس خلق حيوانات الأرض، ثم أخذ حفنة من تراب الأرض وجبلها وصنع منها آدم الإنسان الأول، ونفخ في أنفه نسمة الحياة. وفي اليوم السابع استراح من كل عمله الذي عمل. بعد ذلك غرس الرب جنة في عدن شرقا، ووضع فيها آدم ليعملها ويحفظها، وأوصاه قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل، وأما من شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. بعد ذلك أحضر الرب إلى آدم كل الحيوانات البرية وطيور السماء ليرى ماذا يدعوها، فراح آدم يطلق الأسماء على كل فصيلة حيوانية اسمها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس صار اسمها. وقال الرب ليس جيدا أن يكون آدم وحده، فأوقع عليه سباتا فنام، وأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما وبنى الضلع امرأة وأحضرها إلى آدم لتكون رفيقة له. ثم إن الحية التي يصفها النص بأنها أحيل من حيوانات البرية جميعها تسللت إلى الجنة وأغوت المرأة حواء بالأكل من شجرة المعرفة فأكلت، ثم أعطت رجلها فأكل أيضا. وعندما عرف الرب بخطيئة آدم وحواء لعن الحية، ولعن الأرض التي صنع منها الإنسان قائلا لآدم: ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها؛ لأنك من تراب وإلى تراب تعود. وقال للمرأة: تكثيرا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك، ثم طرد الرب الإنسان من جنة عدن ليعمل في الأرض التي أخذ منها. هذه هي الخطوط العامة لأسطورة التكوين التوراتية. (س):
إن غياب الشيطان عن الميثولوجيا يعني غياب فكرة صراع الخير والشر الذي يدفع عجلة التاريخ الدينامي إلى نهايته في اليوم الأخير. وفي هذه الحالة كيف ينتهي التاريخ في الأيديولوجيا التوراتية؟ (ج):
مسيرة التاريخ في الرواية التوراتية ليست مدفوعة بالصراع بين الخير والشر ، وهاجس هذه المسيرة هو العلاقة بين يهوه وشعبه الذي اختاره لنفسه من بين شعوب الأرض جميعها. وسوف يكون هناك نهاية للتاريخ، ولكن هذه النهاية لا تأتي معها بتنقية العالم من آثار الشر، وإنما بحرب شاملة يشنها يهوه على أمم الأرض جميعها في يوم الرب أو اليوم الأخير كما يدعى في النص، وبعد ذلك يجمع إليه المنفيين والمسبيين من يهوذا وإسرائيل، ويقيم مملكة الرب على الأرض، وهي مملكة يحكمها يهوه بشكل مباشر. أما من بقي حيا من الأمم فيسيرون إلى هذه المملكة لكي يمتلكهم بنو إسرائيل عبيدا يخدمونهم. ومن الجدير بالذكر أن اليوم الأخير هذا لا يأتي معه بقيامة عامة للموتى ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب. ولعل المقاطع الآتية من النص التوراتي تكفي لإيضاح ما قلت: «اقتربوا أيها الأمم لتسمعوا، ويا أيها الشعوب أصغوا، لتسمع الأرض وملؤها، المسكونة وكل ما تخرجه؛ لأن للرب سخطا على كل الأمم وحموا على جيشهم، قد حرمهم، دفعهم للذبح فقتلاهم تطرح وجيفهم تصعد نتانتها وتسيل الجبال بدمائهم» (إشعيا، 34: 1-5). «ويكون في ذلك اليوم أن الرب يعيد يده ثانية ليقتني بقية شعبه التي بقيت من آشور ومن مصر ومن كوش ... (إلخ)، ويجمع منفيي إسرائيل ويضم مشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض ... ويريحهم في أرضهم ... فتقترن بهم الغرباء ... ويمتلكهم بيت إسرائيل في أرض الرب عبيدا وإماء ويسبون الذين سبوهم ويتسلطون على ظالميهم» (إشعيا، 11: 11-12 و14: 1-2). «قومي استنيري (يا أورشليم) لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك ... تسير الأمم والملوك في إشراقك ... وبنو الذين قهروك يسيرون إليك خاضعين، وكل الذين أهانوك يسجدون لدى باطن قدميك» (إشعيا، 27: 13 و60: 1-3 و14). «ما أجمل قدمي المبشر على الجبال، المخبر بالخلاص، القاتل لصهيون! قد ملك إلهك» (إشعيا، 52: 7). «الرب قد ملك فلتبتهج الأرض ... قدامه تذهب نار وتحرق أعداءه حوله» (المزمور، 97: 1-2).
إن أفضل ما توصف به الأيديولوجيا التوراتية هو أنها تاريخ دينامي منقوص من حيث أدواته ومن حيث غاياته؛ ذلك أن حركة التاريخ لا يدفعها الصراع بين الخير والشر، وهي لا تسعى إلى غاية نبيلة تتحقق في آخر الزمن. (س):
ولكن كتاب التوراة ليس المصدر الوحيد للديانة اليهودية كما قلت منذ قليل ؛ فهناك التلمود وهناك الأسفار غير الرسمية، فهل ساعد هذا المصدران على إدخال لاهوت الشيطان وما يتصل به من نهاية نبيلة للتاريخ كما دعوتها؟ (ج):
في أواسط القرن الثاني قبل الميلاد تم تدوين سفر دانيال، وهو آخر الأسفار التي قبلت في النص القانوني للتوراة. إلا أن اختتام الأسفار التوراتية على المستوى الرسمي لم يكن حائلا دون استمرار المفكرين بإنتاج فكر ديني يتجاوز الموروث التقليدي، وتفسيره بما يتلاءم ومستجدات العصر. وقد استخدم هؤلاء أسلوب الأسفار النبوية والرؤيوية التوراتية، ووضعوا خطابهم على لسان شخصيات توراتية بارزة من أجل إسباغ سطوة الماضي على أفكارهم. وقد استمرت هذه الحركة حتى نهاية القرن الثاني الميلادي، وأنتجت كما ضخما من الأدب الديني الذي كان له أثر على التلمود وأثر على الفكر المسيحي اللاحق. (س):
هل يمكننا القول بأن هذه الحركة أحدثت انقلابا في العقيدة التوراتية؟ (ج):
لنقل إنها أحدثت نقلة باتجاه مفهوم التوحيد وصفات الخير والعدالة عند الله دون أن تحقق أهدافها تماما. (س):
لا شك أنها بدأت برسم صورة للشيطان الكوني! (ج):
إن الانقلاب الذي أحدثته هذه الأسفار ينطلق من معالجتها لمشكلة وجود الشر في العالم؛ فالله ليس مسئولا عن الشر وإنما هو الشيطان. وقد قدم مؤلفو هذه الأسفار عدة أساطير تعاونت في النهاية على إنتاج الصيغة الكلاسيكية للاهوت الشيطان في العقائد الإبراهيمية.
ففي سفر أخنوخ الأول يقول الكاتب الذي وضع خطابه على لسان أخنوخ السلف السادس للبشرية بعد آدم، إنه عندما تكاثر نسل آدم وحواء على الأرض وولد لهم بنات جميلات، رأى فريق من الملائكة (وهم الساهرون المكلفون بتفقد أحوال الأرض) جمال نساء الأرض فرغبوا بهن، وهبطوا إلى الأرض بقيادة رئيسهم المدعو سيمياز على قمة جبل حرمون في سورية، وكان عددهم مائتين. ثم إن هؤلاء اتخذوا لأنفسهم زوجات من بني البشر فولدن لهم أبناء عمالقة ذوي قوة خارقة، فأكلوا كل شيء، وعندما لم يجدوا ما يأكلونه راحوا يلتهمون البشر . فصعد صراخ البشر إلى السماء وسمعه الرب، فأرسل إلى أخنوخ مع أحد الملائكة حكمه على الملائكة الساقطين الذين أنجبوا العمالقة، فهم سيشهدون ذبح أولادهم العمالقة، وبعد ذلك سيحبسون في باطن الأرض إلى يوم القيامة حيث سيقادون إلى النار الأبدية، ومن دماء أولادهم المذبوحين تنشأ أرواح شريرة تسكن الأرض، وهؤلاء سوف يكونون مصدرا للعنف والأذى، ويدفعون البشر إلى الخطيئة وإلى المعصية حتى اليوم الأخير.
هذه هي الأسطورة التمهيدية لقصة ظهور الشيطان. (س):
ولكن الشيطان الكلاسيكي لم يظهر بعد! (ج):
لدينا هنا عدة أفكار تمهد لظهوره، وهي فكرة الأصل الملائكي لقوة الشر، وفكرة العصيان الملائكي، وفكرة الأصل الشيطاني للخطيئة والمعصية. الأسطورة الثانية تسير خطوة أبعد في رسم شخصية الشيطان، ونجدها في السفر المدعو بكتاب اليوبيليات الذي ينطلق كاتبه من حيث انتهى سفر أخنوخ الأول؛ فقد زاد شر الشياطين التي نشأت عن دم العمالقة وفسدت الأرض، فقرر الرب إفناء كل ذي حياة على الأرض بطوفان عظيم لم ينج منه سوى نوح ومن حمل معه على ظهر السفينة. ولكن نسل نوح عاد إلى التكاثر خلال حياته التي امتدت إلى نحو ألف عام، وعاد الشياطين إلى شرورهم، فصلى نوح إلى الرب لكي ينجيه وذريته من شر الشياطين، فأمر الرب فريقا من الملائكة بمطاردة الشياطين وتقييدهم في باطن الأرض. وشرع الملائكة بهذه المهمة، ولكن رئيسهم المدعو مستيما جاء إلى الرب وطلب منه ألا يهلك الشياطين جميعا، بل يترك له قسما منهم يتابع العمل تحت إمرته، فوافق الرب وأمر بأن يبقى مع مستيما عشر الشياطين، أما التسعة أعشار الباقية فيتم تقييدها إلى يوم الحساب الأخير. كما أمر بعض الملائكة أن يعلموا البشر طرق الوقاية من شر الشياطين.
هذا هو التطوير الأول لقصة الشيطان. (س):
عندي سؤالان؛ الأول لماذا أهلك الرب البشر بالطوفان بدلا من أن يهلك الشياطين؟ والثاني هو لماذا أعطى المهلة لرئيس الشياطين وأنظره إلى يوم الحساب الأخير؟ (ج):
كلما نحت العقيدة نحو التوحيد كان هناك حاجة لتفسير وجود الشر في العالم، على ما أسلفت، وتحول التاريخ من صيغة التاريخ المفتوح إلى صيغة التاريخ الدينامي الذي يحركه صراع الخير والشر، وهنا يجب ألا يقضى على الشيطان إلا في آخر الزمن. وسنرى في الأسطورة الثالثة كيف أن الشيطان الذي شعر بتزايد قوته قد فكر في أن يغدو ندا لخالقه؛ ففي السفر المعروف باسم أخنوخ الثاني، أو (أسرار أخنوخ) تتحول زمرة الملائكة الساقطين الذين أنجبوا الشياطين إلى شخصية واحدة، هو رئيس طبقة عليا من الملائكة، وبذلك تتشكل صورة إبليس المعروفة في العقيدتين المسيحية والإسلامية، كما تتصل لأول مرة قصة عصيان إبليس وسقوطه بقصة عصيان الإنسان وسقوطه.
يعيد هذا السفر رواية قصة التكوين التوراتية، ولكنه يضيف إليها عنصر خلق الملائكة في اليوم الثاني، وعنصر عصيان الملاك الرئيس ساتانا إيل وتمرده على خالقه وتحوله إلى إبليس، ثم غوايته للزوجين الأولين؛ فقد خلق الله الملائكة من جوهر النار، وجعلهم في عشر طبقات، وجعل لكل طبقة رئيسا. ثم إن أحد هؤلاء الرؤساء تصور في قلبه خطة مستحيلة، وهي أن يصبح ندا للعلي في القوة، فتمرد على خالقه، ثم أغوى من تحته من الملائكة، وزين لهم الوقوف إلى جانبه، ففقدوا بريقهم الإلهي وصاروا أرواحا شريرة تهيم خارج دائرة الرحمة الإلهية. وفي اليوم السادس خلق الله آدم من تراب الأرض، ثم أسكنه في جنة زرعها على الأرض ليرعى عهده ووصاياه، وأراه طريق النور وطريق الظلام، وقال له هذا حسن وهذا سيئ. بعد ذلك تسير القصة وفق عناصرها الكلاسيكية، ولكن خطيئة حواء كانت بدافع الشيطان الذي تسلل إلى الفردوس وأغواها بالأكل من الشجرة، فأبعدهما الله عن الجنة ليسكنا في الأرض، ولكنه لم يلعن الأرض ولا أيا من مخلوقاتها، بل لعن الجهل وأعمال الإنسان الشريرة، ثم بارك يوم السبت الذي فيه استراح من أعماله، وجعل اليوم الثامن أول الأيام المخلوقة، وجعل بعده سبعة آلاف سنة بعدد الأيام السبعة الأولى، وفي بداية الألف الثامن جعل موعدا لانتهاء الزمن الأرضي.
وبهذا تكون عناصر القصة الكلاسيكية قد اكتملت عدا عنصرين. (س):
ولكن هذه الأسطورة قد احتوت على عناصر التاريخ الدينامي جميعها. أليس كذلك؟ (ج):
هذا صحيح؛ فمع سفر أسرار أخنوخ الذي تعود صيغته الأولى إلى أواخر القرن الأول قبل الميلاد كانت اليهودية مؤهلة لتبني فكرة التاريخ الدينامي وقيامة الموتى في اليوم الأخير، ولكن ذلك لم يحصل قبل بدايات القرن الثاني الميلادي؛ فنحن نعلم من الأناجيل الأربعة ومن رسائل بولس ومصادر أخرى، أن اليهود خلال القرن الأول الميلادي كانوا منقسمين إلى فرقتين؛ فرقة الصدوقيين المحافظة التي بقيت على عدم إيمانها بقيامة الموتى، وفرقة الفريسيين التي آمنت بها. ويذكر لنا سفر أعمال الرسل في كتاب العهد الجديد أن بولس الرسول عندما مثل أمام المجمع اليهودي ليحاكم بتهمة التجديف والكفر، لاحظ بأن عددا لا بأس به من أعضاء المجمع على العقيدة الفريسية، فصرخ أمامهم قائلا: أنا فريسي ابن فريسي، وإني أحاكم هنا على إيماني بقيامة الموتى. وهنا حدثت منازعة بين الفريسيين والصدوقيين من أعضاء المجمع وانفضت الجلسة دون اتخاذ قرار. (س):
ما هما العنصران المفقودان في سفر أخنوخ؟ (ج):
الأول هو الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم بعد خلقه، والثاني هو استشارة الله للملائكة بشأن خلق الإنسان. وهذان العنصران تم استكمالهما بعد ذلك؛ فالأمر الإلهي بالسجود لآدم موجود في السفر المعروف بكتاب حياة آدم، وهو يعود إلى زمن غير مؤكد بين أوائل القرن الأول قبل الميلاد وأواسط القرن الأول الميلادي؛ فبعد طردهما من الفردوس راح آدم وحواء يبحثان عن طعام يأكلانه يشبه طعام الجنة، فلم يجدا سوى ما تأكله البهائم، فقال آدم لحواء: من الأفضل أن نبكي أمام خالقنا ونستغفره لعله يسامحنا. ثم افترقا وراح كل منهما يصلي ويعلن توبته أمام ربه، فرآهما الشيطان وجاء إلى حواء في صورته الملائكية القديمة، وقال لها: قد سمع الرب دعاءكما وقبل توبتكما، وأرسلني لكي أقودك إلى مكان فيه طعام أهل الجنة. ثم أخذ بيدها وقادها إلى آدم، فلما رآهما تعرف آدم على الشيطان الذي حرمهما من الجنة، فاضطرب وصاح به: الويل لك أيها الشيطان، لماذا تلاحقنا دوما بالمكر والخديعة؟ وما الذي فعلناه لك؟ فقال له الشيطان : أنت السبب فيما حدث لي يا آدم؛ فبعد أن خلقك الرب على صورته، دعانا ميخائيل رئيس الملائكة وقال لنا: اسجدوا لآدم، لصورة الرب يهوه. فقلت له: لن أسجد لمن هو أقل مرتبة مني. ولما سمع الملائكة التابعون لي قولي هذا رفضوا السجود أيضا، فطردنا الرب من مسكننا الأعلى إلى الأرض. (س):
كنت أتساءل دوما عما فضل الله به الإنسان على الملائكة حتى أمروا بالسجود له. وقد قدمت هذه الأسطورة جوابا مقنعا من حيث الظاهر. (ج):
نعم؛ فالإنسان خلق على صورة الله وفق الرواية التوراتية «فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه» (التكوين، 1: 28). وأيضا: «يوم خلق الله الإنسان، على شبه الله عمله، ذكرا وأنثى خلقه» (التكوين، 5: 1-2).
الأسطورة الأخيرة التي سأقدمها تحتوي على عنصر السجود لآدم وعلى عنصر استشارة الله الملائكة بخصوص خلق الإنسان، وهي من كتاب الهاجاداه، وهو عبارة عن مجموعة من القصص الديني التعليمي التي تشرح نصوص التوراة بطريقة أدبية شيقة، وقد صار هذا الكتاب جزءا من التلمود. فبعد أن انتهى الرب من خلق السماوات والأرضين استطلع رأي الملائكة فيما هو مقدم عليه من خلق الإنسان، فجاءت مشورتهم في غير صالح الإنسان، وقال بعضهم إنه سيكون ممتلئا بالغش والخداع، ميالا إلى النزاع والخصام. فقال لهم: وما نفع وليمة فيها كل الطيبات وما من ضيف يتمتع بها؟ بعد ذلك مد الرب يده واغترف من جهات الأرض الأربع، أربع قبضات من التراب فعجنها بالماء وسواها إنسانا، فجاء آدم صنعة يد الخالق على عكس بقية مظاهر الخلق الأخرى التي ظهرت بكلمة من فمه، وذلك تكريما له وإعلاء لشأنه، ثم نفخ في أنف آدم من روحه الأزلية فصار نفسا حية، وأسكنه في الجنة التي غرسها في عدن شرقا، ولكي يثبت للملائكة تفوق آدم عليهم فقد عرض عليهم من كل ما خلق من الحيوانات زوجا زوجا لينبئوه بأسمائها ولكنهم عجزوا، ثم عرضها على آدم بعد أن أوحى إليه بأسمائها، فسماها آدم لأنه كان نبيا وحكمته من حكمة الأنبياء. عقب ذلك أمر الرب كل الملائكة أن يسجدوا لآدم ففعلوا وعلى رأسهم رئيسهم ميخائيل، ولكن أحد رؤساء الملائكة المدعو ساتان الذي أضمر الغيرة من آدم والحسد له رفض السجود قائلا: لقد خلقتنا من ألقك وبهائك فكيف نسجد أمام من خلقته من تراب الأرض؟ وهنا تدخل ميخائيل وقال لساتان: إذا لم تبجل آدم فعليك أن تتحمل عواقب غضب الرب. فأجابه ساتان: إذا غضب الرب علي فسأرفع عرشي فوق نجوم السماء وأغدو ندا للعلي. فلما سمع الرب منه ذلك أمسك به ورماه خارج دائرة السماء فهوى إلى الأرض، وتبعه حشد من جماعته الذين شجعهم تمرده على إظهار ما كتموه في أنفسهم من حسد لآدم ورفض لسموه عليهم. ومنذ تلك اللحظة صارت عداوة بين الشيطان والإنسان.
وبذلك تكون القصة الكلاسيكية قد اكتملت. (س):
إن رفض الملاك ساتان لأمر السجود يدل هنا على أن الملائكة خلقوا أحرارا كما هو حالهم في الزرادشتية، أليس كذلك؟ (ج):
نعم؛ فالحر وحده من يستطيع القول نعم أو لا. ولو أن الله خلقهم بلا حرية لكانوا امتدادا له لا كائنات مستقلة. وهنا نلاحظ، على سبيل المثال لا المقارنة، أن الرواية القرآنية جاءت في اتفاق مع الرواية التوراتية غير الرسمية لا مع الرواية الرسمية؛ حيث نقرأ في سورة البقرة:
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة (البقرة: 31). (س):
لماذا كان في معرفة آدم لأسماء الحيوانات تفوق على الملائكة، على الرغم من أن معرفته هذه جاءت من الله لا من نفسه؟ (ج):
لا جواب عندي على هذا السؤال، لو كان آدم متفوقا على الملائكة وحكمته من حكمة الأنبياء لعرف الأسماء دون أن يعلمه الله إياها. ولو أن الله علم الملائكة الأسماء ولم يعلمها لآدم لأظهروا تفوقا في الحكمة، إذا كان في ذلك حكمة. على أننا نفهم من الرواية التوراتية للقصة في سفر التكوين أن الله لم يتدخل لصالح آدم، حيث يقول النص: «وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات الأرض وطيور السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس فهو اسمها» (التكوين، 2: 19). وهنا نلاحظ على سبيل المقارنة أن الرواية القرآنية جاءت في اتفاق مع الرواية التوراتية غير الرسمية لا مع الرواية الرسمية؛ حيث نقرأ في سورة البقرة:
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة . (س):
حسنا، أعتقد أنه قد توضحت لنا الآن ملامح أسطورة أساسية تكونت من عدة تيمات أساطير تولدت بعضها من بعض، وهي: (1) التكوين وخروج الألوهة من كمونها في الأزلية. (2) ميلاد الشيطان وفساد العالم. (3) سقوط الإنسان. (4) صراع الخير والشر الذي يدفع حركة التاريخ نحو نهاية محتومة. (5) اليوم الأخير ودمار العالم القديم. (6) القيامة العامة للموتى، والثواب والعقاب. (7) تجديد العالم ودخوله في الأبدية. ما هي الصيغة المسيحية والإسلامية لهذه الأسطورة الأساسية؟ (ج):
الصيغة المسيحية متفردة من حيث تفسيرها لهذه التيمات الأسطورية؛ فقد تبنتها من حيث الشكل وخالفتها في المضمون. ويأتي تفرد الصيغة المسيحية من رؤياها الخاصة لخطيئة الإنسان الأول، ولكي أوضح هذه النقطة سوف أعود إلى كتاب حياة آدم، والمشهد الأخير الذي يصور وفاته: «ولسبعة أيام أظلمت الشمس وأظلم القمر والنجوم. وكان شيت يحتضن جسد أبيه، وحواء تشبك ذراعيها فوق رأسها المنكس على ركبتيها، وكل الأولاد يبكون بحرقة. وبينما هم على هذه الحال تجلى لهم الملاك ميخائيل واقفا عند رأس آدم، وقال لشيت: «انهض عن جسد أبيك لكي أطلعك على ماذا أعد الرب له. لقد رحم الرب مخلوقه وتاب عليه».» ولدينا في القرآن الكريم آية بخصوص مغفرة الله لخطيئة آدم:
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (البقرة: 37).
أما في المسيحية فإن الله لم يغفر لآدم خطيئته، وأكثر من ذلك فإن خطيئة آدم تحولت إلى خطيئة أصلية حملتها ذريته من بعده؛ فالكل خاطئون والكل ورث الخطيئة عن آدم وينوء تحت ثقلها. هذه الفكرة لا نجد لها أثرا في الأناجيل ولا في بقية أسفار العهد الجديد، وإنما في فكر بولس الرسول وفي اللاهوت المسيحي اللاحق؛ فبولس ينظر إلى الموت باعتباره عقابا على الخطيئة الأصلية، وكما جلب آدم على ذريته الخطيئة، فقد جلب عليهم الموت (الرسالة الأولى إلى أهالي روما، 5: 12). ولكن المسيح الذي يدعوه بولس بآدم الثاني قهر الموت من خلال موته على الصليب وقيامته، وجعل الحياة الأبدية متاحة لكل من آمن به وتوحد معه (الرسالة الأولى إلى أهالي روما، 5: 15-16). وهكذا وبعد أزمنة متطاولة أدار الله فيها وجهه عن البشرية، فقد تصالح معها في يسوع المسيح (الرسالة الثانية إلى أهالي كورنثة، 5: 18-21). واستنادا إلى هذه الفكرة المركزية في لاهوت بولس الرسول، قامت الكنيسة بصياغة رؤياها اللاهوتية للتاريخ المقدس.
فقد خلق الله العالم الروحاني قبل العالم المادي، وكان أول ما خلق حشد من الملائكة صنعهم من جوهر النار، ووهبهم خصيصة الحرية، فتوضعوا في تسعة أفلاك تحيط بمركز النور الأسمى ولكل طبقة رئيس. بين هؤلاء كان المدعو لوسيفر؛ أي الوضاء، أجملهم وأفضل ما يمكن لصنعة الله البديعة أن تخلقه، حتى ظن أنه يستحيل على الله أن يخلق من هو أكمل وأعلى شأنا منه، فتملكه الغرور وقاده إلى الاعتقاد بقدرته على الارتقاء إلى مقام أعلى يعادل مقام العلي، فقال في نفسه: أرغب في أن أكون سيدا أعلى، وألا يكون فوقي أحد. فأيده أتباعه قائلين: نرغب في رفع عرش مولانا ليبلغ عرش العلي. عند ذلك طوح به العلي خارج دائرة النور، وتبعه من والاه مديرين وجوههم عن دائرة النور، فانطفأ بريقهم وصاروا كفحم خامد، وراحوا يتهيئون لتخريب خطة خلق الله، ثم إن الله باشر عمليات الخلق وانتهى منه في ستة أيام. وهنا تسير قصة خلق الإنسان وسقوطه وفق القصة الواردة في سفر التكوين، ولكن مع تعديل واحد مفاده أن إبليس تسلل إلى الجنة في هيئة الحية، وتنتهي باللعنة التي قادت إلى سقوط العالم بأكمله وانفصاله عن مجد الله، ووضعه في يد الشيطان في انتظار قدوم المسيح المخلص. وبذلك ابتدأت مرحلة تمازج الخير والشر.
لقد كان عارفا منذ البداية أن الحرية التي أعطاها للملائكة وللإنسان سوف يساء استخدامها، وأن العالم سيقع فريسة للموت والفساد نتيجة عصيان الكائنات العاقلة، ولكنه كان يضمر خطة لتخليص الإنسان وتطهير العالم في الوقت المناسب دون الإخلال بمبدأ الحرية؛ فسوف يهبط الكلمة، وهو الأقنوم الثاني في الثالوث، إلى الأرض ليغدو إنسانا ويدخل في دورة الحياة والموت لكي يخلص خليقته من اللعنة القديمة، وهكذا كان؛ فبعد عصور الظلام ولد الكلمة من رحم العذراء، وتجلى في هيئة يسوع الناصري، فعاش في الزمن الدنيوي وشارك البشر الألم والمعاناة، ثم مات على الصليب لأجل خلاصهم، وبذلك افتدت الذبيحة الإلهية، وهي القربان الكامل، الإنسان وخلصته من الموت الذي جلبته خطيئة آدم؛ فالتاريخ الذي ابتدأ بآدم سوف يبدأ بداية جديدة بيسوع، وما الزمن الفاصل بين هاتين البدايتين إلا عصر جاهلية إنسانية كان العالم خلاله ينتظر قدوم المخلص الذي يستعيد العالم من يد الشيطان.
ولقد ابتدأت مرحلة الفصل بين الخير والشر بميلاد يسوع، وأخذت قوة الشر بالتلاشي؛ لأن كل من آمن بيسوع مخلصا سوف يقاوم أعمال الشيطان، وتنتهي هذه المرحلة بالمجيء الثاني ليسوع المسيح الذي سيظهر آتيا على سحاب السماء لينهي العالم القديم ويقيم على أنقاضه عالما جديدا؛ عندئذ تحدث القيامة العامة للموتى ويحاسب كل واحد على ما قدمت يداه، ويؤسس يسوع لمملكة الرب الأولى على الأرض، وفيها يعيش مع المؤمنين مدة ألف سنة، وبعد ذلك تأتي مملكة الرب الثانية التي يدخل فيها العالم في الأبدية. (س):
يخطر في بالي سؤال الآن قد يبدو ساذجا أمام جلال هذه الأسطورة، وهو: لماذا لم يقبل الله توبة آدم كما فعل في كتاب حياة آدم؟ لو أنه فعل لما كان هنالك خطيئة أصلية تبدو غير مسوغة، ولما كان هنالك من ذبيحة إلهية وقربان كامل على حد ما ذكرت. (ج):
الأسطورة بالنسبة لمنطقنا الحديث هي سلسلة أحداث مستحيلة الوقوع؛ لذلك علينا إذا شئنا فهم رسالتها أن نبحث عما تريد قوله، لا عن منطقية أحداثها؛ فخطيئة آدم التي قادت إلى سقوط العالم ووضعته في يد الشيطان كانت بالنسبة لأولئك اللاهوتيين خطيئة لا تمحوها توبة أو استغفار؛ لأن العالم كان يبدو لهم واقعا في يد الشيطان، تماما كما هو حاله الآن؛ وبالتالي فإن كل ما حدث وما يحدث الآن لا يمكن تفسيره أسطوريا إلا بأن الله قد تخلى عنا ووضعنا نحن وعالمنا تحت سلطة إبليس، الذي يدعى في الأناجيل وفي رسائل بولس بأمير هذا العالم وإله هذا الدهر، وهو الذي قال ليسوع عندما أخذه إلى البرية ليجربه، إن السلطة على ممالك هذا العالم قد أعطيت له وهو يعطيها لمن يشاء (إنجيل لوقا، 4: 5-6). (س):
حسنا. أعتقد أن الرواية القرآنية للتاريخ المقدس أقل تعقيدا. (ج):
في القرآن الكريم يرتبط الإخبار عن خلق العالم بالإخبار عن نهايته وبالقيامة العامة، ويكون ما بينهما فترة اختبار أخلاقي للبشر. والآيات الآتية تختصر فكرة التاريخ الدينامي وفق الرؤية القرآنية:
وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا (هود: 7).
ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون (الروم: 81).
هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا (الأنعام: 2).
لا ترد قصة الخلق والتكوين في القرآن الكريم بشكل مطرد في سورة واحدة، وإنما موزعة على عدة سور. وبشكل عام فإن الآيات الكريمة المتعلقة بهذا الموضوع لا تعطي جدولا زمنيا لتتابع أعمال الخلق خلال ستة أيام. ونموذجها قوله:
ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب «تعب» (ق: 38). وفي هذه الآية تلميح إلى ما ورد في رواية سفر التكوين من أن الخالق استراح في اليوم السابع، ونفي لحاجة الله إلى الراحة من عناء الخلق، ولكننا نفهم أحيانا أن الأرض قد خلقت قبل السماء (فصلت: 9-12)، وأن السماء كانت سبع طبقات، والأرض كذلك (الطلاق: 12). وقد جاء خلق الله هذا كاملا وتاما:
الذي أحسن كل شيء خلقه (سورة السجدة: 7). وهذا الإخبار عن حسن خلق الله يناظر ما ورد في سفر التكوين: «ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا» (التكوين، 1: 31). أما عن خلق الله العالم الروحاني فلا نعرف هل تم قبل العالم المادي أم خلاله، ولكننا نجد الملائكة في أكثر من آية محيطين بعرش الله يسبحون بحمد ربهم، كما هو الحال في اللاهوت المسيحي (الزمر: 75، الشورى: 5، غافر: 7). ولهؤلاء الملائكة أجنحة (الفرقان: 22). كما هو حالهم في التوراة (راجع إشعيا، 6: 1-3). ولهم وظائف متعددة؛ فمنهم رسل بين السماء والأرض (فاطر: 1). ومنهم من يتصل بالأنبياء والمختارين من البشر (آل عمران: 39). ومنهم حملة العرش (غافر: 7). ومن أجل نظير هذه الوظيفة في التوراة، راجع (سفر حزقيال: 1-28). ولكل فرد من بني البشر ملاكان يرافقانه طيلة حياته؛ واحد عن اليمين وآخر عن اليسار، يسجلان أعماله الحسنة وأعماله السيئة (ق: 17-18).
بعد انتهاء عمليات الخلق خلق الله الإنسان لكي يكون خليفته في حكم الأرض. وهنا، وعلى ما رأينا في كتاب الهاجاداه، فإن الله أراد أن يطلع ملائكته على ما هو مقدم عليه، فجاءت مشورتهم في غير صالح الإنسان:
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (البقرة: 30). بعد ذلك صنع الله جسد آدم بيديه من تراب الأرض، ثم نفخ في الجسد الترابي من روحه (ص: 75، السجدة: 7-9، الرحمن: 14). ولكي يظهر للملائكة تفوق آدم عليهم فقد علمه أسماء حيوانات الأرض كلها ثم عرضها على الملائكة لينبئوه بأسمائها، فقالوا له إنهم لا يعرفون إلا ما علمهم إياه. ثم قال لآدم أن ينبئهم بالأسماء ففعل (البقرة: 31-33). عند ذلك أمرهم بالسجود لآدم تكريما له، فسجدوا إلا إبليس استكبر عن السجود:
قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين * قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين * قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (ص: 71-85). (س):
نلاحظ هنا أن قصة عصيان إبليس لا تخرج عن إطار قصة عصيانه في الأسفار التوراتية غير القانونية. (ج):
إنها تقوم على العناصر نفسها. (س):
ولكن إبليس في القرآن كان من الجن ولم يكن ملاكا! (ج):
هنالك آية واحدة فقط يفهم منها ظاهريا أنه كان من الجن:
فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه (الكهف: 50). وهذه الآية تنتمي إلى ما يدعوه علم التفسير بالمتشابهات؛ أي التي يغمض تفسيرها على الإنسان ولا يعلم تأويلها إلا الله؛ ففي مقابل هذه الآية هنالك أربع آيات تسير على نسق ما ورد في سورة (ص) التي اقتبسنا منها آية الأمر بالسجود:
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس . وهي طه: 116، والإسراء: 61، والأعراف: 11، والبقرة: 34. والبنية اللغوية للأمر الإلهي بالسجود في جميع تنويعات القصة تدلنا على أن إبليس كان من الملائكة؛ لأن الاستثناء فيها هو استثناء متصل لا منقطع على ما هو معروف في علم النحو. ومن ناحية أخرى، لو لم يكن إبليس من الملائكة لما طاله أمر الله بالسجود، ولما كان هنالك من خطيئة يستحق العقاب عليها. (س):
مرة أخرى أقف حائرا أمام مسألة إمهال الله لإبليس وتأجيل عقوبته إلى آخر الزمن! (ج):
دعني أقول لك باختصار إن هذه القصة هي في جوهرها قصة وصفية؛ أي إنها تصف الواقع ولا تسوغه؛ فالوجود قائم على تقابل الأضداد: علو-انخفاض، قبل-بعد، صوت-صمت، حار-بارد، حب-كره، صعب-سهل، نور-ظلام، قوة-ضعف، طويل-قصير، سالب-موجب، خير-شر. وهذه الأضداد تظهر بعضها بعضا حيث لا وجود للنور دون ظلام، ولا لعلو دون انخفاض، ولا لحار دون رطب، ولا لحرارة دون برودة، ولا لخير دون شر. وعلى حد قول الحكيم لاو-تسو في التاو-تي-تشينغ: «يرى الجميع في الجميل جمالا لأن ثمة قبحا. ويرى الجميع في القبيح قباحة لأن ثمة جمالا.» أي إن القطبية مزروعة في صميم الوجود، ولو أننا أزلنا قطبا واحدا فقط من الأقطاب المتقابلة وليكن العلو لتداعت سلسلة القطبية وآل الوجود إلى لا وجود. (س):
أعتقد بأن الشيطان في العقيدة الإسلامية لا يتمتع بالقوة والسلطان على العالم كما هو الحال في المسيحية. (ج):
السبب في ذلك يعود إلى عنصر إمهال الله له إلى آخر الزمن، وهو عنصر مفقود في العقيدة المسيحية ، ولو أنه تركه يعمل على هواه دون موافقته لكان في العالم مشيئتان هما مشيئة الله ومشيئة الشيطان، ولكانت هناك مملكة للشر يحكمها الشيطان، ومملكة للخير يحكمها الله. وهنا أعود إلى الواقع القطبي للوجود لأقول بأن عنصر إمهال إبليس هو إقرار بهذا الواقع، والقول بأن خلق الله قائم على تقابل الأضداد. إن الله لا يريد الشر ولكنه واقع تحت مشيئته، وعندما ينتهي الشر في آخر الزمان تنتهي القطبية، ويتداعى خلق الله يوم القيامة ليبدأ خلق جديد يدخل في الأبدية ولا يعرف الأقطاب المتضادة. (س):
أعتقد أن قصة سقوط الإنسان كما وردت في القرآن تقوم على عناصر القصة الكلاسيكية نفسها، أليس كذلك؟ (ج):
نعم، ولكن لا يوجد لدينا تفاصيل بخصوص خلق حواء، وإبليس لا يتخفى في هيئة الحية. كما أن الأمر الإلهي بعدم الأكل من الشجرة التي لا يدعوها النص باسم معين، يوجه إلى الزوجين معا لا إلى آدم كما هو الحال في الرواية التوراتية والاثنان يأكلان منها معا، وهذا ما يبرئ حواء من المبادرة إلى الخطيئة أولا. كما أن الله لم يلعن الأرض بسبب خطيئة الإنسان، كما هو الحال في الرواية التوراتية، ولا أدار وجهه عن العالم وتركه للشيطان كما هو الحال في الرواية المسيحية. لقد غفر الله للإنسان خطيئته بعد أن طرده من الفردوس، ثم أطلعه على مسار التاريخ، الذي سيكون مسرحا للاختبار الأخلاقي للإنسان حتى اليوم الأخير، يوم عدالة الله عندما تجزى كل نفس بما قدمت في الحياة:
وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (البقرة: 35).
فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين (الأعراف: 20).
فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى (طه: 120-122).
قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار (البقرة: 38-39).
لم يكن عصيان إبليس وتعهده بإغواء البشر وحفزهم على الخطيئة بالأمر المهم في صيرورة تاريخ العالم وتاريخ الإنسانية؛ ذلك أن نهاية التاريخ أمر مقرر ومقدر سلفا، وهي جزء لا يتجزأ من خطة الله:
ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى (الأحقاف: 3).
وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى (لقمان: 29).
وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت (الجاثية: 22). ضمن هذه الخطة المتكاملة التي تجمع الجبرية في صيرورة التاريخ والحرية في نشاط الإنسان وخياراته لا يلعب الشيطان إلا دورا ثانويا؛ لأنه لا سلطان له إلا على الذين كفروا:
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان (الإسراء: 65). إن الإنسان هو معنى العالم وغايته وإليه أوكل الرحمن خلافته في السيادة على الأرض ومخلوقاتها، وعليه خلال مرحلة التمازج أن يثبت جدارته بهذه الأمانة ويصل بها إلى غايتها، وهي تنقية النفس من شوائب الشر ليكون أهلا للدخول في الأبدية. في خضم هذا الامتحان الكبير سوف يقف الله إلى جانب البشر في صراعهم مع نوازعهم الشريرة ومع الشيطان ويحارب الباطل بالحق:
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق (الأنبياء: 18). وتتجلى عنايته بالبشر في إرساله الرسل لكي يجنبهم مهاوي الشيطان.
خلال هذا الهزيع الأخير من التاريخ ترجح كفة الخير وتضعف قوة الشيطان، وهذه المرحلة التي تشهد في آخرها هزيمة الشيطان تبتدئ مع البعثة المحمدية؛ فقد بينت الرسالة المحمدية للناس كافة وللمرة الأخيرة الحد الواضح بين الهدى والضلالة، وما زال هنالك وقت للاختيار إلى أن يأتي يوم الفصل الذي يدعى بأسماء متعددة في القرآن الكريم، ولا تكاد تخلو سورة منه من عدة آيات تذكر الناس به؛ فهو الغاشية، والقارعة، والآزفة، واليوم الموعود، ويوم الوعيد، واليوم الآخر، والموعد، والميقات، وغيرها. وهذا اليوم هو تجسيد لعدالة الله، وكل تعاليم القرآن تصب في النهاية في تعليم أخروي واحد يؤكد على القيامة العامة للموتى وما يتلوها من حساب، وثواب وعقاب؛ فبعد سلسلة من الكوارث الطبيعانية التي تزعزع الأرض وتشقق السماء وتبعثر النجوم وتفيض بالبحار، يموت كل الأحياء على وجه الأرض وينضمون إلى من مات منذ بدء الخليقة، ثم يبعث الجميع وتعود إليهم الأرواح ويذهبون إلى مكان الحشر. عند ذلك ينزل الله من السماء آتيا على السحاب:
هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور (البقرة: 210).
وانشقت السماء فهي يومئذ واهية * والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية (الحاقة: 16-17).
كلا إذا دكت الأرض دكا دكا * وجاء ربك والملك صفا صفا (الفجر: 21-22)؛ عندئذ تفتح صحف الأعمال ويأتي الجميع إلى مكان الحساب حيث توزن أعمالهم. والنص هنا يتعامل مع هذا المشهد بكثير من الإيجاز والاختصار:
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة (الأنبياء: 27).
والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم (الأعراف: 8-9). وبعد ذلك يتجه كل فريق إلى مقامه في الجنة أو الجحيم:
وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا ... * ... وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا (الزمر: 71-73). والقرآن الكريم ولا سيما في السور المكية مليء بوصف أحوال الجنة وأهلها وأحوال النار وأهلها، مما لا مجال هنا للدخول فيه.
وعلى عكس التصورات الأخروية في بقية العقائد التوحيدية، فإننا لا نرى في القرآن صراعا حاسما أخيرا بين ملائكة الله وبين إبليس وجنوده؛ لأن المهلة التي أعطيت لإبليس في بدء الزمن قد انتهت مع زوال العالم القديم، ولم يعد له من عمل يعمله بعد أن تم فرز البشر إلى أهل النعيم وأهل الجحيم. وسوف يقاد الشيطان دون مقاومة مع أتباعه إلى النار وفق ما وعد به:
قال فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (ص: 84-85).
المحور الخامس
التناص بين الكتب المقدسة
(1) التوراة وما قبلها/التوراة والإنجيل (س):
من خلال عرضك السابق لتشكل الأسطورة الكبرى في الديانات التوحيدية، لاحظنا وجود تشابهات كثيرة بين هذه الديانات، فهل تتعدى هذه التشابهات الأسطورة الكبرى إلى نواح أخرى؟ (ج):
لا يوجد تشابهات بين الأديان التوحيدية (وأنا هنا ألحق بها اليهودية لغاية تبسيط الأمور)، وإنما هنالك تناص في كتبها المقدسة. والتناص هنا هو مصطلح أستعيره من النقد الأدبي، وأعني به وجود نص من هذا الكتاب في كتاب آخر، إما بمضمونه، أو بصيغته الأصلية مع تعديلات يستدعيها الأسلوب الأدبي للكتاب الآخر، أو بمنظوره الأيديولوجي. وهذا التناص بين الكتب المقدسة بالغا ما بلغ شأنه فإنه لا يؤدي إلى التشابه؛ فالمسيحية لن تشبه اليهودية أبدا مهما استعار مؤلفو الأناجيل مقاطع من التوراة وأدخلوها في سرديتهم الخاصة، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالإسلام. لكل دين خصوصيته ورسالته الخاصة التي لا تشبه رسالة أخرى. وهذه نقطة أود التركيز عليها قبل الدخول في هذا الموضوع الشائك، والذي يمكن أن يفهم منه عكس ما أريد تماما. (س):
أفهم من ذلك بأن التشابهات، أو التناص كما تسميه، يتعدى الأسطورة الكبرى؟ (ج):
هذا صحيح. (س):
هل نبدأ بالزرادشتية؟ فلقد فهمت من سياق ما أوردته عن الديانات التوحيدية أن العناصر الرئيسية للأسطورة الكبرى ظهرت أولا في الزرادشتية، فهل كانت العقيدة الزرادشتية أصيلة كل الأصالة، بمعنى أنها لم تتأثر بل أثرت، ولم تستعر بل أعارت؟ (ج):
لقد كان زرادشت كاهنا على دين قومه قبل أن يأتيه وحي النبوة، ومن المتوقع أن نجد في عقيدته الجديدة آثارا من عقيدته القديمة؛ لأن كل دين ينشأ ضمن حاوية ثقافية معينة، كما قلت سابقا، تمده بكثير من العناصر القديمة. ولكن المشكلة التي لم أجد لها حلا، هي أن الزرادشتية لم تتأثر كثيرا بحاضنتها الثقافية المحلية، وإنما بالحاضنة الثقافية الأوسع للشرق القديم؛ فلقد تلقت تأثيراتها على غير كل ما هو متوقع من ثقافة مصر القديمة. (س):
هل يوجد في سيرة زرادشت ما يوحي ولو بإشارة غامضة على أنه جاء من مصر، أو أنه سافر إلى مصر في مهمة ثم عاد إلى موطنه؟ (ج):
أبدا. لقد كان كاهنا على دين ذي عقائد وأساطير وطقوس هندو-أوروبية تشبه ديانة الآريين الذين سكنوا الهند، كما أنه عاش في المناطق الشرقية من إيران والبعيدة حتى عن الاحتكاك المباشر بثقافة وادي الرافدين. (س):
هل تعني أن فكرة التوحيد في الزرادشتية استلهمت توحيد الفرعون أخناتون؟ (ج):
لا أبدا؛ لأن عصر أخناتون بعيد جدا عن عصر زرادشت. التشابه الذي يمكننا ملاحظته بين الديانتين يتركز في فكرة الروحين التوءمين؛ روح الشر وروح الخير، إضافة إلى عدد لا بأس به من التصورات الأخروية؛ فبذور ثنائية أنجرا ماينيو الروح الخبيث وسبينتا ماينيو الروح القدس نجدها في ثنائية سيت-حورس التي استمرت فاعلة في الديانة المصرية حتى أواخر التاريخ المصري؛ فالإله سيت كما تصوره نصوص الأهرام وهي أقدم النصوص الدينية المصرية، يجسد كل القوى السالبة في الكون والطبيعة مقابل حورس الذي يمثل القوى الموجبة؛ فالإله حورس هو سيد السماء، وسيد الشمس التي تهب الحياة وتعكس في حركتها الثابتة نظام الكون الدقيق، أما الإله سيت فهو العدو الأول للشمس وللضوء بجميع أشكاله؛ فهو الذي يحرف خط سير الشمس في السماء باتجاه الجنوب عقب الانقلاب الصيفي، ويسرق من نور القرص فتقصر ساعات النهار وتطول ساعات الليل، وهو الذي يسرق من القمر عقب اكتماله في منتصف الشهر، فيتناقص ليلة بعد أخرى حتى ينطفئ في آخر الشهر، ولكن الإله تحوث يعمل على إشعاله مجددا. ومملكة هذا الإله الذي يعارض نظام الطبيعة ويعمل على نشر الفوضى تقع في الجهة الشمالية من قبة السماء، وهناك يقيم في كوكبة الدب الأكبر. ولقد كانت هذه الجهة لدى المصريين لا سيما سكان مصر العليا هي إقليم الظلام والبرد والمطر والضباب والبروق والرعود، ومنه تأتي العواصف والأعاصير، وهذه الظواهر الطبيعية جميعها التي لم تكن تتصل بالخصب في مصر التي تعتمد على فيضان النيل، وكانت تحت سيطرة سيت وبها يهدد نظام الطبيعة. كما ارتبط سيت بالأراضي الصخرية الجرداء، وبالصحاري القاحلة وبالبوار والجفاف.
وقد كان بين سيت وحورس صراع دائم، ولكن هذا الصراع لم يكن يصل إلى نتيجة حاسمة، وكان بقية الآلهة ولا سيما تحوث يتدخلون للفصل بينهما كلما علا أحدهما على الآخر وأوشك على الإجهاز عليه. وهذا يدل على أنهما كانا قطبين في ثنائية كونية لا يصل التناقض بينهما إلى حد إلغاء أحدهما وسيادة الآخر؛ لأنه لا غنى عن صراعهما من أجل تفسير صيرورة العمليات الجارية على مستوى الكون ومستوى الحياة الطبيعية؛ ولهذا نجد النصوص تدعوهما بالأخوين وبالتوءمين، وتصورهما الأعمال الفنية من عصر الأسرات في جسد واحد يحمل رأسين، رأس الصقر وهو رمز الإله حورس، ورأس الحمار وهو رمز الإله سيت. وبينما اختص حورس برمز الصقر وهو رمز يشير دائما إلى الشمس، فقد تعددت رموز سيت؛ فهنالك الأفعى والخنزير البري والتمساح. كما ساد الاعتقاد بأن القوة التدميرية لسيت تحل في بعض الحيوانات الشرسة؛ مثل الكلاب والقطط البرية والنمور، وجرت العادة على تقديم القرابين من هذه الحيوانات في الأوقات التي تبلغ فيها قوة سيت ذروتها مثل أواخر الشهر القمري. (س):
ولكن هذه القطبية كما عرضتها تبقى تمثيلا للخير والشر على المستوى الطبيعاني، ولا صلة لها بالخير والشر على المستوى الاجتماعي، كما هو الحال في القطبية الزرادشتية! (ج):
إن ما قدمته حتى الآن هو الطور الأول من ميثولوجيا سيت-حورس، ويشتمل هذا الطور على عصر المملكة القديمة في الألف الثالث قبل الميلاد عندما لم تكن الأخلاق قد ارتبطت بالدين، ولم تكن فكرة خلود الروح في عالم أفضل عنصرا أساسيا في العقيدة الدينية؛ لأن الخلود في ذلك الوقت كان وقفا على الفرعون الذي اعتبر من جنس الآلهة، ولكن انهيار المملكة القديمة جلب معه تغييرات عميقة في بنية المجتمع والدين، وصار الخلود متاحا للجميع ولكن على أساس أخلاقي، وترافق ذلك كله مع صعود الإله أوزوريس الذي كان إلها للخصب في الماضي، ثم تحول إلى إله للعالم الأسفل يحاكم الموتى على أعمالهم ويضمن خلود الروح للأخيار منهم. وهنا استمرت ميثولوجيا سيت-حورس، ولكن حورس تحول الآن إلى ابن لأوزوريس، وتابع الاثنان صراعهما، واتصل هذا الصراع بصراع الخير والشر على المستوى الأخلاقي. (س):
هذه المحاكمة التي يقيمها أوزوريس للموتى لا علاقة لها بفكرة القيامة العامة للموتى على ما فهمت من حديث سابق لك! (ج):
نعم؛ فالتاريخ في الديانة المصرية هو تاريخ مفتوح ولم يكن لديهم تصور عن نهاية الزمن، والقيامة هنا هي قيامة فردية، وأحداثها تشبه إلى حد بعيد ما وجدناه في الزرادشتية، ولها مقدمات في وظائف الإله أوزوريس. فقد كان أوزوريس تجسيدا للعدالة الإلهية، وكقاض للعالم الأسفل كان يحتفظ بسجل للأقدار دونت فيه آجال كل البشر وأوقات مماتهم، وسجل آخر يسمى سجل المصائر يشرف عليه الإلهان تحوث وشيشيتا اللذان يدونان الأعمال الصالحة والأعمال السيئة لكل إنسان، ويحفظانها إلى يوم الحساب لتعرض على الميت عندما يقف أمام الميزان في قاعة العدالة؛ فعندما يفلح الميت في عبور المفازات المرعبة التي تفصل بين عالمي الأحياء والأموات، يلقاه الإله أنوبيس الذي يحمل رأس ابن آوى ويقوده إلى قاعة العدالة التي يتصدرها أوزوريس جالسا على عرشه، وأمامه ميزان كبير منصوب يقف قربه الإله تحوث إله الحكمة والكتابة في هيئة القرد، والوحش عم-ميت آكل الموتى الذي يلتهم الموتى الذين ثبتت إدانتهم. وعلى طول جدار القاعة يصطف آلهة الأقاليم المصرية وعددهم 42، ولدى مرور الميت أمامهم يعلن براءته من 42 خطيئة لم يرتكبها في حياته. وعندما يقف أمام الميزان يقوم أنوبيس بوزن أعماله، فإذا وجد مذنبا انقض عليه الوحش عم-ميت والتهمه، وإذا وجد بريئا يقاد إلى جنة أوزوريس، وهي عبارة عن أرض خصبة تقع وراء الأفق الغربي، تتخللها شبكة من القنوات المائية العذبة، وفيها ينمو الزرع والشجر من كل نوع، وهناك تعيش أرواح الصالحين خالدة إلى الأبد. (س):
هل وردت فكرة الجنة الأخروية قبل ذلك في أي ميثولوجيا خارج الميثولوجيا الأوزيرية؟ (ج):
لا، وكذلك فكرة الحساب وميزان الأعمال التي نجدها أيضا في الزرادشتية مثلما هي في الأوزيرية؛ فبعد أن يودع الميت في القبر وفق التصورات الزرادشتية تمكث روحه عند رأسه ثلاث ليال تتأمل في حسناتها وسيئاتها، وخلال ذلك يزورها ملائكة الرحمة إذا كانت من الأخيار فيواسونها، أو شياطين العذاب إذا كانت من الأشرار فيسومونها سوء العذاب، وبعد ذلك تقاد إلى جلسة الحساب التي يرأسها ميترا رئيس فريق ملائكة الأهورا، وعن يمينه ويساره يقف مساعداه سراوشا وراشنو اللذان يقومان بوزن أعمال الميت بميزان الحساب، فمن رجحت كفة خيره كان مآله الفردوس ومن رجحت كفة شره كان مآله هاوية الجحيم. بعد ذلك تتجه الروح لتعبر صراط المصير، وهو جسر يتسع أمام الروح الطيبة فتسير فوقه الهوينى وتعبر إلى الجهة الأخرى المؤدية إلى الفردوس، ولكن الجسر يضيق أمام الروح الشريرة فتتعثر وتسقط لتتلقفها هاوية الجحيم، أما من تساوت حسناته وسيئاته فيعبر الصراط إلى مكان وسط حيث يستمر في وجود شبحي كظل بلا إحساس. (س):
اليهودية، وهي الأولى زمنيا بين الأديان الإبراهيمية، ماذا أخذت من الزرادشتية؟ (ج):
إذا استثنينا خلق النور في اليوم الأول من قصة التكوين التوراتية، فإن هذه القصة تسير على خطى القصة الزرادشتية بحيث تناظر أيام الخلق السبعة مراحل الخلق السبعة وما تم فيها من فعاليات. وعلى الرغم من أصالة قصة خلق الإنسان في الرواية التوراتية وإسكانه في جنة عدن، إلا أن بعض العناصر الرئيسية في قصة الجنة لها ما يناظرها في الرواية الزرادشتية؛ مثل شجرة كل البذور، وشجرة الحياة الخالدة، والنهر الذي يخرج من الجنة، على ما بينت سابقا. وهنالك ملمح ثانوي يتعلق بستر عري الزوجين الأولين؛ ففي القصة التوراتية صنع الرب لآدم وزوجته أقمصة من جلد وألبسهما إياها (سفر التكوين، 3: 20). وفي القصة الزرادشتية يصنع الملائكة ثيابا من جلد ويلبسونها للزوجين الأولين ماشيا وماشيو. وقد كانت فكرة المسيح المنتظر الذي يأتي في آخر الزمان أهم ما أخذته اليهودية عن الزرادشتية ولكن بعد إفراغها من مضمونها الأصلي؛ فالمخلص الزرادشتي يأتي في آخر الزمان ليقود الحرب الأخيرة ضد الشيطان، أما في اليهودية فيأتي ليحارب أعداء بني إسرائيل، ويقيم مملكة يهوه على الأرض.
ولسبب غير مفهوم تبنت اليهودية الكثير من بنود الشريعة الزرادشتية المتعلقة بالمأكل والمشرب والطهارة والنجاسة، وهي أمور لم تعرفها الثقافة المشرقية كشأن ديني وإنما كأعراف اجتماعية، وبالحد الأدنى المطلوب. وأقول لسبب غير مفهوم لأن للشريعة الزرادشتية منطقا ينسجم مع مبادئها الاعتقادية عن مسئولية الشيطان عن كل ما يمت إلى عالم الموت بصلة؛ مثل العفونة والقذارة والروائح الكريهة وأنواع معينة من الحشرات والحيوانات. أما الشريعة التوراتية فلا تستند إلى أي مرجعية اعتقادية وتبقى أقرب إلى مفهوم التابو غير المفسر، ولكي أعطي مثلا عما أقوله هنا، أقتبس من سفر اللاويين هذا النموذج البسيط من مئات المحرمات التي تحتويها شريعة التوراة: «هذه هي الحيوانات التي تأكلونها من جميع البهائم على الأرض؛ كل ما شق ظلفا وقسمه ظلفين ويجتر من البهائم فإياه تأكلون، إلا هذه فلا تأكلوها؛ الجمل لأنه يجتر لكنه لا يشق ظلفا فهو نجس لكم، والأرنب لأنه يجتر لكنه لا يشق ظلفا فهو نجس لكم، والخنزير لأنه يشق ظلفا ويقسمه ظلفين لكنه لا يجتر فهو نجس لكم، من لحمها لا تأكلوا وجثثها لا تلمسوا» (سفر اللاويين، 11: 1-8). (س):
دعنا نوسع دائرة التشابه قليلا ونقول: إذا كان الإله التوراتي لا يشبه الإله الزرادشتي، فهل من شبه ما بآلهة الشرق القديم الوثنية؟ (ج):
سؤالك في مكانه؛ لأنني كنت أود التحدث عن تاريخ الإله يهوه الذي شاءت له الأقدار أن يرتقي إلى مرتبة الله في العقائد اللاحقة. وهذا التاريخ يوضح دين اليهودية للوثنية المشرقية من جهة، ومن جهة أخرى يكشف عن الطبيعة الانتقالية لشخصية يهوه من حيث كونه في نقطة الوسط بين المفهوم الوثني عن الألوهة، وبين مفهوم الله.
دعني أبدأ من المدخل التالي، إذا راجعت القواميس العربية القديمة، وبحثت عن معنى كلمة «إيل» لوجدت أنها تعني اسم الله تعالى (راجع على سبيل المثال قاموس المحيط، فصل اللام، باب الألف). (س):
ولكن الاسم إيل لم يرد في القرآن الكريم، أو في الحديث النبوي الشريف في معرض الإشارة إلى الله، فمن أين جاء أهل القواميس بهذه البدعة؟ (ج):
ليست بدعة؛ فنحن لو قرأنا التوراة بلغته الأصلية لوجدنا أن الإله التوراتي يدعى أحيانا بالاسم إيل، وهي كلمة سورية كنعانية قديمة تعني إله، وهي في نفس الوقت اسم علم لكبير الآلهة الكنعانية. وهنالك كلمة أخرى يستخدمها المحرر التوراتي في الإشارة إلى إلهه وهي إيلوهيم، والكلمة هي صيغة جمع من إيل، والمقصود بها أن الإله يهوه يجمع في شخصه قوى الآلهة طرا ويعبر وحده عن مفهوم الألوهة المطلقة. وقد استخدمت كلمة إيلوهيم في القرآن الكريم في معرض الإشارة إلى الذات الإلهية وذلك بصيغة اللهم:
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء (آل عمران: 26).
اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء (المائدة: 114). (س):
وكيف اكتسب يهوه اسم إيل على ما بينهما من تباعد؟ (ج):
لم يكن يهوه إلها قديما في فلسطين، وقد وفد إلى المناطق الهضبية التي قامت عليها مملكتا إسرائيل ويهوذا فيما بعد، وجاءت به جماعة رعوية كانت تتجول في مناطق الصحاري الجنوبية قبل أن تستقر وتتحول إلى الزراعة، وذلك في زمن ما من مطلع عصر الحديد الأول (1200-1000ق.م). وقد حفظ لنا محررو التوراة موروثات قديمة تنبئنا عن موطنه السابق، ومنها: «يا رب بخروجك من سعير، بصعودك من صحراء آدوم ارتعدت الأرض» (القضاة، 5: 4). وصحراء آدوم هنا هي المنطقة الجرداء الوعرة الممتدة بين البحر الميت وخليج العقبة، أما سعير فتقع في الطرف الشمالي الغربي من جزيرة العرب. وأيضا: «الرب جاء من سيناء وأشرق لهم من سعير» (التثنية: 33). ويبدو أنه كان إلها بركانيا على ما يبدو لنا من مشهد نزوله على جبل سيناء للقاء موسى: «وكان جبل سيناء كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون وارتجف الجبل جدا» (الخروج، 19: 18). وخلال مسيرته الطويلة التي انتهت بأن يكون الإله الرئيسي لمملكتي إسرائيل ويهوذا، حاول كهنته إيجاد موطئ قدم له في أرض حاشدة بالآلهة عن طريق المطابقة بينه وبين إيل كبير آلهة كنعان. وبهذه الطريقة تسرب الاسم إيل أو إيلوهيم إلى نصوص التوراة. ولكن عملية الترجمة من العبرية إلى اللغات الأخرى أخفت الصيغة الأصلية للاسم؛ فالترجمة اليونانية وهي أولى الترجمات، استخدمت كلمة «ثيوس» كمقابل لإيل، والتي تعبر عن مفهوم الألوهة المطلقة، والترجمة الفرنسية استخدمت كلمة «ديو» والإنكليزية استخدمت
God
والعربية كلمة الله. (س):
ولكن الاسم وحده لا يكفي لإحداث المطابقة المطلوبة بين الإلهين. (ج):
هذا صحيح؛ ولذلك فقد سارت المطابقة أبعد من ذلك، واشتملت على ألقاب إيل الكنعاني التي تنطوي على صفاته، ومنها: (1)
إله السماء؛ فقد كان إيل إلها للسماء، وفي الوقت نفسه كان رئيسا لمجمع الآلهة الكنعاني. وكذلك كان يهوه إلها للسماء وفيها مسكنه. (2)
إيل عليون؛ أي إيل العالي أو السامي، وهو لقب مستمد من علو وسمو قبة السماء، ونجده في التوراة بلفظه الكنعاني في أكثر من موضع، ومنها: «أصرخ إلى الله العلي (بالعبرية إيل عليون) إلى الله المدافع عني» (المزمور، 57: 2). وقد ترد لفظة العلي غير مقترنة بإيل مثل: «أرعد الرب من السماوات، والعلي (أي عليون) أعطى صوته» (المزمور، 18: 13). (3)
إيل عولم (أي الأبدي): «وغرس إبراهيم أثلا في بئر السبع ودعا باسم الإله السرمدي (بالعبرية إيل عولم).» (4)
أب شنم (أبو السنين): وتدل أبوة إيل الكنعاني للزمن على قدمه؛ ولذلك نقرأ في التوراة: «كنت أرى أنه وضعت عروش، وجلس القديم الأيام. لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي» (رؤيا دانيال، 7: 9). وأيضا: «هو ذا الله (إيلوهيم)، عظيم ولا نعرفه، وعدد سنيه لا يفحص» (أيوب، 36: 26). وأيضا: «إلى دهر الدهور سنوك ... أنت هو، وسنوك لا تنتهي» (المزمور: 102: 24-27). (5)
أدون إيليم ربون (أي سيد الآلهة العظيم): وهؤلاء الآلهة هم أولاد إيل السبعون الذين ولدتهم له زوجته عشيرة. وقد ورد في التوراة: «إله الآلهة، الرب إله الآلهة» (يشوع، 22: 22). (6)
إيل قوني أرص (أي خالق الأرض)، وورد في التوراة: «رفعت يدي إلى الرب الإله مالك السماوات والأرض (= قوني شماييم وأريص)» (التكوين، 14: 22). (7)
إيل فوئد (أي الرحيم)، وإيل لطفان (أي اللطيف والرحيم)، وورد في التوراة: «الرب إله رحيم (= راحوم)، وحنون (= حانون)». (8)
إيل ث ر (إيل الثور): وهو وصف يدل في الكنعانية على القوة. وقد أطلق المحرر التوراتي على يهوه لقب الثور في ستة مواضع من النص، ولكن الترجمات العربية استبدلت كلمة العزيز أو القدوس بكلمة الثور: «إني أنا الرب فاديك ومخلصك، عزير يعقوب (= ثور يعقوب بالعبرية)» (إشعيا، 49: 26). «تركوا الرب، استهانوا بقدوس إسرائيل (= ثور إسرائيل)» (إشعيا ، 1: 4). وهذا اللقب الذي ليهوه يفسر لنا لماذا قام يربعام ملك إسرائيل ببناء مقامين دينيين؛ واحد في شمال المملكة وآخر في جنوبها، ووضع في كل منها تمثالا للعجل (الملوك الأول، 12: 25-29). (9)
أخيرا فإن يهوه في بعض المواضع عندما كان يتحدث عن نفسه نجده يقول: «أنتم شهودي، وأنا الله» (إشعيا، 43: 12). أو كما نقرأ هذه الجملة بنصها العبري: «أنتم شهودي وأنا إيل.» من هنا لا عجب إذا ورد الاسم إيل في القواميس العربية باعتباره من أسماء الله. (س):
في حديث سابق لك، قلت إن لقب راكب السحاب الذي أطلقه محررو التوراة على يهوه، والذي كان وراء مشهد قدوم المسيح على سحاب السماء في اليوم الأخير، مستمد من لقب راكب السحاب الذي للإله بعل على ما ورد في نصوص أوغاريت. وهذا يعني بأن الإله التوراتي لم يتماه فقط مع إيل وإنما مع الإله بعل أيضا. أليس كذلك؟ (ج):
يهوه لم يتماه مع بعل كما فعل مع الإله إيل، ولكنه دخل في صراع معه من أجل اكتساب قلوب الناس، وفي خضم هذا الصراع كان يهوه الإله البركاني القادم من الصحاري الجنوبية ينزع عنه وجهه القديم ويدعي لنفسه الخصائص والوظائف التي لبعل، ومنها ترويض المياه الأولى، التي ترمز إلى حالة العماء والشواش البدئي، من أجل إحلال النظام في الكون. لقد كان أول عمل استهل به بعل مشروعه للصعود إلى سدة السلطان على الآلهة والكون هو ترويض المياه الأولى المتمثلة بالإله يم (= البحر) والسيطرة عليها، وقد قام إله الحرف اليدوية كوثر-حاسيس بصنع سلاحين لبعل من أجل المعركة مع يم، وقدم له نبوءة بالنصر:
هو ذا أعداؤك يا بعل،
هو ذا أعداؤك الذين ستقتلهم،
هو ذا أعداؤك الذين ستقضي عليهم،
ولسوف تقبض على الملك إلى الأبد (من ملحمة بعل وعناة).
وقد ورد هذا المقطع بنصه تقريبا في التوراة:
لأنه هو ذا أعداؤك يا رب،
هو ذا أعداؤك يبيدون،
يتبدد كل فاعلي الإثم،
أما أنت يا رب فمتعال إلى الأبد. (المزمور: 92)
هذا ويحفل النص التوراتي بالإشارات إلى ترويض يهوه لمياه البحر: «أنت متسلط على كبرياء البحر، عند ارتفاع لججه أنت تسكنها» (المزمور: 89: 9). «صوت الرب على المياه ، إله المجد أرعد، الرب فوق المياه الكثيرة» (المزمور: 29). وها هو يفتخر في سفر أيوب بقهره للبحر: «ومن حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم؛ إذ جعلت عليه حدي وأقمت له مغاليق ومصاريع وقلت له: إلى هنا تأتي ولا تتعدى، وهنا تتخم كبرياء لججك» (أيوب، 38: 9-10).
ومن جملة فعالياته في ترويض البحر قتله للتنين البحري المدعو لواياتان، وهو التنين نفسه الذي صرعه الإله بعل. نقرأ في النص الأوغاريتي: «والآن تريد أن تقتل لوتان الحية الهاربة، الآن تريد أن تجهز على الحية المتحوية ذات الرءوس السبعة» (من ملحمة بعل وعناة). ونقرأ في النص التوراتي: «في ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسي الشديد لواياتان الحية المتحوية، ويقتل التنين الذي في البحر» (إشعيا، 27 : 1). وفي موضع آخر من النص التوراتي نقرأ: «أنت شققت البحر بقوتك، وكسرت رءوس التنانين على المياه، أنت رضضت رءوس لواياتان» (المزمور، 74).
ومن جهة أخرى فقد استولى يهوه على وظائف بعل الإخصابية، وادعى لنفسه لقب بعل الرئيسي وهو راكب السحاب الذي يرد مرارا في ملحمة بعل وعناة. نقرأ في المزمور 104: «الجاعل السحاب مركبته، الماشي على أجنحة الريح» (المزمور: 104: 2). وكما كانت غيوم البعل تسقي الأرض العطشى لتنبت زرعا للإنسان، كذلك هو يهوه: «الساقي الجبال من علاليه، من ثمر أعمالك تشبع الأرض، المنبت عشبا للبهائم وخضرة لخدمة الإنسان، لإخراج خبز من الأرض» (المزمور: 104: 13-14). كما ادعى لنفسه أسلحة البعل وهي البرق والرعد والصاعقة، وهي أدوات إخصابية وقتالية في آن معا؛ فالبعل يزمجر بصوته من السماء فيشتت أعداءه، على ما نقرأ في نصوص أوغاريت، وكذلك يهوه عندما يرعد ويقدح بروقه ويلقي صواعقه، على ما نقرأ في المزمور: 18: «طأطأ السماوات ونزل وضباب تحت رجليه ... أرعد الرب من السماوات، والعلي أعطى صوته بردا وجمر نار، أرسل سهامه فشتتهم وبروقا كثيرة أزعجتهم» (المزمور: 18: 9-13). وأيضا: «صوت الرب على المياه، إله المجد أرعد، الرب فوق المياه الكثيرة، صوت الرب بالقوة، صوت الرب بالجلال ... صوت الرب يقدح لهب نار، صوت الرب يزلزل البرية» (المزمور، 29). (س):
شخصية الإله التوراتي إذن هي شخصية بالغة التركيب وفق ما قدمته في حديثك! (ج):
نعم؛ فهي تحتوي على أربعة مستويات: (1)
المستوى الأول وهو أقدمها، ينتمي إلى إله المناطق الصحراوية الجنوبية، وهو إله بركاني يتجلى في ثورة البراكين وقوتها التدميرية، ومنه اكتسب الإله التوراتي طبعه الغضوب وهيجانه الدائم وميله إلى العنف والانتقام، وردود أفعاله التلقائية؛ فهو لا يفكر ثم يفعل، وإنما يفعل ثم يفكر بنتائج عمله؛ ولهذا كان يندم في كثير من الأحيان على ما قدمت يداه. (2)
المستوى الثاني وينتمي إلى كبير الآلهة الكنعانية إيل إله السماء، وهو ألوهة خالقة وحافظة لخلقها، مهيبة وجليلة، مفارقة للعالم، ولكنها في الوقت نفسه رحيمة وحنونة على مخلوقاتها. (3)
المستوى الثالث وينتمي إلى الوجه الأول للبعل، باعتباره ربا للظواهر الطبيعانية المولدة لخصب الأرض. (4)
المستوى الرابع وينتمي إلى الوجه الثاني للبعل، وهو وجه المحارب الذي يستخدم الظواهر الطبيعانية نفسها في محاربة خصومه.
وعلى الرغم من أن المستوى الثاني الذي ينتمي إلى كبير الآلهة إيل كان الأبرز في تشكيل صورة الله في الأديان اللاحقة، إلا أن بقية المستويات بقيت قابعة في خلفية هذه الصورة. (س):
أعتقد أن المستوى الأول البركاني، والمستوى الثاني المحارب، هما الأبرز والأكثر طغيانا في صورة الإله التوراتي. (ج):
هذا صحيح؛ لأن المستويين الآخرين مضافان على الأصل ومستعاران. (س):
من هنا يأتي سؤالي الآتي: كيف عدت هذه الألوهة التوراتية إلها ليسوع المسيح؟ (ج):
أولا، إن كل مؤسسي الديانات نشئوا على دين قومهم ثم انشقوا عنه، وأكثر من ذلك فقد كان بعضهم كاهنا على دين قومه مثل زرادشت، وبعضهم ناسكا على ملة قومه مثل البوذا. وثانيا، فقد عمل مؤلفو أسفار العهد الجديد على رسم صورة مختلفة لإله العهد القديم، ويظهر ذلك منذ ظهور يسوع لأول مرة في السردية الإنجيلية عندما اعتمد بماء نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان؛ فبينما هو خارج من الماء رأى السموات قد انشقت والروح القدس مثل حمامة نازلا عليه، وصوت من السماء يقول: أنت ابني الحبيب الذي به سررت. وفي هذا المشهد يخلق العهد الجديد شبه قطيعة مع العهد القديم فيما يتعلق بصورة الله؛ فقد تجلى إله موسى للمرة الأولى في النار، في لهيب شجرة شوكية تحترق في الصحراء، ومن داخل اللهيب تحدث إليه، وفي المرة الثانية نزل على جبل سيناء بالنار فصعد دخانه مثل دخان الأتون وارتجف الجبل جدا، ثم دعا موسى إليه. أما إله يسوع فقد تجلى في هيئة الحمامة الوديعة التي اعتبرت في ميثولوجيا اليونان والشرق القديم رمزا للحب. وعبر أسفار العهد الجديد كان الحب هو الذي يربط بين الله والعالم وبينه وبين مخلوقاته وبين الناس بعضهم مع بعض، حتى إن يسوع في موعظة الجبل حض على حب الأعداء والخصوم، بينما كان الخوف هو ما يربط الناس إلى إلههم في العهد القديم. وهنالك ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي أن إله يسوع ليس له اسم، وكلمة الله التي نجدها في الإشارة إليه هي كلمة «ثيوس» في الأصل اليوناني، وهي ليست اسم علم، بل تعبير يدل على الألوهة المطلقة. كما كان يسوع يدعوه بالآب، فيقول أبي، وأبي وأبوكم، والصلاة المسيحية تبدأ بجملة أبانا الذي في السموات. وباختصار فقد انشق يسوع عن اليهودية بشكل راديكالي وهذا ما قاده إلى الموت على الصليب. (س):
إذا كانت رسالة يسوع على هذه الدرجة من الاستقلال عن اليهودية، فلماذا أدمجت الكنيسة كتاب التوراة في الكتاب المقدس المسيحي واعتبرته عهدا قديما؟ (ج):
عندما ظهر يسوع كانت الآمال الميسيانية (من كلمة ميسايا أي المسيح) تسيطر على الحياة الدينية في فلسطين وبقية أجزاء آسيا الغربية، والكل كان في انتظار المخلص الذي سينهي العالم القديم ويدخل البشرية إلى عالم جديد مقدس؛ ولذلك فقد ظن أتباع يسوع المقربين بأنه هو المسيح، وبسبب خلفيتهم الدينية اليهودية فقد راحوا يبحثون في التوراة عن شواهد على ظنهم هذا، أو تفكيرهم الرغبي. أما يسوع فقد كان موقفه ملتبسا إزاء قبوله لهذا اللقب، وبقي على هذا الموقف الملتبس حتى نهاية محاكمته. وبعد أربعين سنة على حادثة الصلب ، بدأت الأناجيل التي تقص عن سيرة يسوع بالظهور واحدا تلو الآخر، وراح مؤلفوها يستعينون بنصوص التوراة من أجل إثبات مسيحانية يسوع. وبذلك ترسخ التناص بين النبوءات التوراتية والسرديات الإنجيلية عن ظهور المسيح، أو ما اعتبره أولئك الإنجيليون نبوءات. وهذا ما أسبغ على النص التوراتي طابع القداسة باعتباره شاهدا على مسيحانية يسوع. (س):
ولربما ابتكر هؤلاء أحداثا لم تقع في حياة يسوع من أجل إحداث المطابقة المطلوبة! (ج):
بالضبط؛ فنحن لا نستطيع الآن التمييز بين ما حدث فعلا في سيرة يسوع وبين رغبة أولئك المؤلفين في حدوثه. لقد كان أولئك الإنجيليون قارئين ممتازين للنص التوراتي وعارفون بخباياه وخفاياه، وانتقوا بعناية ما يناسب نصهم. (س):
إذن سيرة يسوع في الأناجيل تتطور من خلال التناص. (ج):
نعم. وأول تناص يرد على لسان يسوع نلحظه في أول خطاب علني له بعد اعتماده بمياه نهر الأردن، ومكوثه في الصحراء أربعين يوما؛ فعند عودته إلى مدينته الناصرة على ما يرد عند لوقا: «دخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ، فدفع إليه سفر إشعيا النبي، ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبا فيه: روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين، لأشفي منكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية وأكرز بسنة مقبولة للرب. ثم طوى السفر وسلمه للخادم وجلس، وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه، فابتدأ يقول لهم إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم» (إنجيل لوقا، 4: 16-21). وهذا المقطع الذي قرأه يسوع موجود في سفر إشعيا التوراتي (الإصحاح 61: 1-2). وهو يفسر عادة بأنه كلام على لسان مسيح آخر الأزمنة؛ ولذلك فقد قرأه يسوع ثم أخبرهم أن هذه النبوءة تتحدث عنه عندما قال: اليوم قد تم هذا المكتوب.
وسأقدم فيما يأتي نماذج من هذا التناص تفي بالغرض:
يسوع هو من سلالة داود ويرث عرشه: «لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنا، وتكون الرياسة على كتفيه ... لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود أبيه» (إشعيا، 9: 6-9). «وها أنت «يا مريم» ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع، هذا يكون عظيما وابن العلي يدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد» (إنجيل لوقا، 1: 32-33).
المسيح يولد في بيت لحم: «أما أنت يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة في ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطا على إسرائيل» (ميخا، 5: 2). «وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا، لست الصغرة بين رؤساء يهوذا؛ لأن منك يخرج مدبر شعبي إسرائيل» (إنجيل متى، 2: 6).
يولد من عذراء: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية؛ ها العذراء؛ تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل» (إشعيا، 7: 14). «هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنا ... وتدعو اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا» (إنجيل متى، 1: 20-21).
اليهود يرفضون المسيح ويتآمرون عليه: «تآمر الرؤساء معا على الرب وعلى مسيحه قائلين: لنقطع قيودهما ولنطرح عنا ربطهما» (المزمور: 2: 1-2). «ليس نبي مقبولا في وطنه» (إنجيل لوقا، 4: 24). «جاء إلى بيته فما قبله أهل بيته» (إنجيل يوحنا، 1: 11).
يدخل أورشليم راكبا على حمار: «هو ذا ملكك يأتي إليك، هو عادل ومنصور ووديع، وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان» (زكريا، 9: 9). «قولوا لابنة صهيون: هو ذا ملكك يأتيك وديعا وراكبا على أتان وجحش ابن أتان» (إنجيل متى، 21: 5).
يخونه أحد المقربين إليه: «رجل سلامتي الذي وثقت به، الذي أكل من خبزي، رفع عقبه علي» (المزمور: 41: 9). «إن واحدا منكم سيسلمني، الآكل معي» (إنجيل مرقس، 14: 18).
قدم نفسه للموت وعد بين خاطئين: «سكب نفسه للموت وأحصي مع أثمة» (إشعيا، 53: 12). «وصلبوا معه لصين؛ واحدا عن يمينه وآخر عن يساره، فتم الكتاب القائل أحصي مع أثمة» (إنجيل مرقس، 15: 27-28).
وفي مشهد الصلب ترد التقاطعات الآتية:
لا تكسر عظامه: «كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب، يحفظ جميع عظامه، واحد منها لا ينكسر» (المزمور: 34: 19-20). «فجاء الجنود فكسروا سيقان الأول والآخر اللذين صلبا معه، أما يسوع فلم يكسروا ساقيه لأنهم لما وصلوا إليه رأوه ميتا ... وحدث هذا ليتم الكتاب القائل: عظم له لا يكسر» (إنجيل يوحنا، 19: 33-37).
تثقب يداه ورجلاه: «جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يدي ورجلي» (المزمور: 22: 16). «بعد قيامته من القبر ظهر يسوع لتلاميذه وأراهم مواضع الثقب في يديه ورجليه» (إنجيل لوقا، 24: 38-40).
يقترعون على ثيابه: «يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون » (المزمور: 22: 18). «ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ما يأخذ كل واحد» (مرقس، 15: 24).
يشربونه خلا: «العار قد كسر قلبي فمرضت، انتظرت رقة فلم أجد، ويجعلون في طعامي علقما وفي عطشي يسقونني خلا» (المزمور: 69: 20-21). «لكي يتم الكتاب قال يسوع أنا عطشان. وكان إناء موضوعا مملوءا خلا، فملئوا إسفنجة من الخل ووضعوها على قضيب من الزوفا وقدموها إلى فمه، فلما أخذ يسوع الخل قال: قد كمل. ونكس رأسه وأسلم الروح» (إنجيل يوحنا، 19: 28-30).
كلمات يسوع الأخيرة: «إلهي، إلهي لماذا تركتني بعيدا عن خلاصي؟» (المزمور: 22: 1). «ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا: إيلي، إيلي لما شبقتني؛ أي إلهي، إلهي لماذا تركتني» (إنجيل متى، 27: 46). (س):
ولكن المسيح اليهودي، على ما قدمته في حديث سابق، هو مسيح منتصر وملك يعيد أمجاد أبيه داود. ولا يتألم أو يموت على الصليب؛ ولذلك فصورة مسيح الأناجيل لا تتفق وصورة مسيح التوراة! (ج):
عندما مات يسوع على الصليب بعد أن عانى الآلام، كان على من اعتقد أنه المسيح أن يبحث عن تسويغ لذلك؛ ولهذا نجد في الأناجيل أقوالا ليسوع يتنبأ فيها بأنه سيتألم ويموت وفي اليوم الثالث يقوم: «وكان يعلم التلاميذ ويقول لهم إن ابن الإنسان (= يسوع) سيسلم إلى أيدي الناس فيقتلونه، وبعد ثلاثة أيام يقوم» (إنجيل مرقس، 9: 30-32). (س):
في هذه الحالة ينبغي أن يوجد في التوراة ما يشير إلى ذلك! (ج):
نعم، لقد وجد مؤلفو الأناجيل ضالتهم في صورة «عبد يهوه البار»، وهو شخصية ضبابية تظهر بشكل خاص في سفر إشعيا، ولا ندري على وجه التحقيق صلتها بصورة المسيح لأن العبد البار لا يسير في طريق الانتصارات العسكرية، وإنما يحيا حياة الطاعة المطلقة، فيأخذ على عاتقه حمل خطايا الشعب بفضل ما يتكبده من آلام: «هو ذا عبدي يعقل، يتعالى، ويرتقي ويتسامى جدا ... لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس. رجل أوجاع ومختبر الحزن، وكمستر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتد به. لكن أحزانا حملها وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصابا مضروبا من الله ومذلولا ... كلنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا، ظلم. أما هو فلم يفتح فاه كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جلاديها فلم يفتح فاه ... سكب للموت نفسه وأحصي مع أثمة، وهو حمل خطيئة كثيرين وشفع في المذنبين» (إشعيا، 53: 1-13).
إن صورة العبد الصالح المتألم هذه قد زودت مؤلفي الأناجيل بنبوءات تفسر ما حصل ليسوع من آلام وموت فاجع؛ فقد وضع مؤلف إنجيل مرقس على لسان يسوع قوله: «إنا لصاعدون إلى أورشليم، وسيسلم ابن الإنسان إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت ويسلمونه إلى الوثنيين، فيسخرون منه ويبصقون عليه ويجلدونه ويقتلونه، وبعد ثلاثة أيام يقوم» (مرقس، 10: 32-34). وهذا ما حصل ليسوع قبل المحاكمة وبعدها وانتهت آلامه بالصلب. ومن ناحيته فقد جعل متى يسوع يبقى صامتا طيلة مدة المحاكمة لا يرد على اتهامات خصومه (متى، 27: 11-14)، وذلك تحقيقا لما فعله العبد الصالح: «وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه». كما قام مؤلف إنجيل يوحنا بإطلاق لقب حمل الله على يسوع، (يوحنا، 1: 19). وأطلق عليه مؤلف سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي لقب الخروف (سفر الرؤيا، 5: 6).
كما وجد هؤلاء الإنجيليون في سفر المزامير ما يعزز صورة عبد يهوه المتألم مما ذكرته أعلاه.
المحور السادس
التناص بين الكتب المقدسة
(2) القرآن والإنجيل (س):
إذا كانت الغاية من التناص بين الإنجيل والتوراة هي إثبات مسيحانية يسوع، فما هي الغاية من التناص بين القرآن وكلا الكتابين المقدسين؟ (ج):
لقد نزل القرآن في حاضنة ثقافية مسيحية-يهودية؛ ولذلك فقد قدم نفسه منذ البداية على أنه استمرار للوحي السابق وإضافة إليه:
نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل (آل عمران: 3)؛ فالوحي التوراتي والإنجيلي والقرآني هو وحي واحد يتتالى في الزمن وفق ما تقتضيه عوامل التغير. وهذا الوحي لم ينقطع منذ عهد نوح:
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده (النساء: 163). ووحدة الوحي تستدعي التناص لأن القرآن خاطب أهل الوحي السابق بما يعرفونه من كتبهم، مستخدما هذا المعروف لديهم لإيصال الجديد الذي لا يعرفون. (س):
في العديد من السور القرآنية نلاحظ وجود جدل متوتر بين القرآن وعقائد النصارى؛ الأمر الذي يوحي بوجود خلافات عميقة ربما لا يفلح التناص في تسويتها. (ج):
أعود هنا إلى ما قلته في حديث سابق، عندما ميزت بين التناص وبين التشابه؛ فالجدل الذي عقده القرآن كان مع اللاهوت المسيحي وليس مع نصوص الإنجيل، أما التناص فقد أظهر أن الهوة بين الكتابين المقدسين ليست بالاتساع الذي يظنه البعض. وهذا التناص لا يقتصر على الأناجيل الأربعة وإنما يتعداها إلى تناص مع عدد من الأناجيل غير الرسمية والمدعوة بالمنحولة؛ لأن الكنيسة لم تقبلها في عداد الكتاب القانوني. وقد كانت هذه الأناجيل متداولة على نطاق واسع في العالم المسيحي ولدى مسيحيي الجزيرة العربية. (س):
لعل قصة ميلاد يسوع من أبرز نواحي التناص بين الكتابين! (ج):
ربما، ولكني قبل التعرض لما هو معروف إلى حد ما من نواحي التناص، سأتحدث عما هو غير معروف، وهو وجود عدد كبير من أقوال يسوع الواردة في الأناجيل الأربعة على شكل آيات قرآنية، بعضها بنصها تقريبا وبعضها بصيغة معدلة وبعضها بمعناها.
وفيما يأتي أسوق بعضها على سبيل المثال.
قال يسوع: «لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون معهم» (متى، 18: 20).
وجاء في القرآن:
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا (المجادلة: 7).
قال يسوع: «إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أبوكم السماوي، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضا» (متى، 6: 14-15).
وجاء في القرآن:
وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم (التغابن: 14). وأيضا:
وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم (النور: 22).
قال يسوع: «سمعتم أنه قيل للقدماء: تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول: أحبوا أعداءكم» (متى، 5: 43).
وجاء في القرآن:
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (فصلت: 34).
قال يسوع: «احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم» (متى، 6: 1).
وجاء في القرآن:
إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم (البقرة: 271).
قال يسوع: «مرور جمل في ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله» (مرقس، 10: 25).
وجاء في القرآن:
لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط (الأعراف: 40).
قال يسوع: «حين تدخلون البيت سلموا عليه، فإن كان البيت مستحقا فليأت سلامكم عليه، ولكن إذا لم يكن مستحقا فليرجع سلامكم إليكم» (متى، 10: 12-13).
وجاء في القرآن:
فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة (النور: 61).
قال يسوع: «لأني لم أتكلم من نفسي، لكن الرب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم ... فكما قال لي الآب هكذا أتكلم» (يوحنا، 12: 49-50).
وجاء في القرآن:
وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى (النجم: 3-5).
قال يسوع: «لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون ... تأملوا الغربان، إنها لا تزرع ولا تحصد وليس لها مخدع ولا مخزن، الله يقيتها. كم أنتم بالحرى أفضل منها!» (لوقا، 12: 22-24).
وجاء في القرآن:
وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم (العنكبوت: 60).
قال يسوع: «إن أقرضتم الذين ترجون أن تستردوا منهم فأي فضل لكم ... أقرضوا وأنتم لا ترجون شيئا فيكون أجركم عظيما» (لوقا، 6: 34-35).
وجاء في القرآن:
وإن كان ذو عسرة (= المدين)
فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا (= عليه بدينه)
خير لكم إن كنتم تعلمون (البقرة: 280).
قال يسوع: «أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة» (يوحنا، 8 : 12).
وجاء في القرآن:
الله نور السموات والأرض (النور: 35).
هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور (الحديد: 9).
قال يسوع: «كل من ترك بيوتا أو إخوة أو ... حقولا من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية» (متى، 19: 20).
وجاء في القرآن:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة (البقرة: 245).
قال يسوع: «لأنه ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه » (مرقس، 8: 36).
وجاء في القرآن:
قل إن الخاسرين (هم)
الذين خسروا أنفسهم (الزمر: 15).
قال يسوع: «تعالوا يا مباركي أبي لترثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم» (متى، 25: 34).
وجاء في القرآن:
قد أفلح المؤمنون * ... أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون (المؤمنون: 1-11).
قال يسوع: «ومتى صليت فلا تكن كالمرائين؛ فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع لكي يظهروا للناس» (متى، 6: 5).
وجاء في القرآن:
وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا (النساء: 142).
قال يسوع: «وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن إلا الآب» (مرقس، 13: 32-33).
وجاء في القرآن:
يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله (الأحزاب: 63).
هذه بعض أوجه التناص بين أقوال يسوع وآيات في القرآن الكريم، ولدي منها حتى الآن ستون، والعدد مرشح للتزايد كلما جرى التعمق في دراسة النصين. (س):
هل التناص بين القصص الإنجيلي والقرآني على هذه الدرجة من الدقة؟ (ج):
لدينا ثلاث قصص متناصة بين الإنجيل والقرآن؛ الأولى هي قصة ميلاد يوحنا المعمدان أو يحيى كما يدعى في القرآن. ويوحنا المعمدان هو آخر الأنبياء اليهود على ما تصوره الأناجيل الأربعة، وقد ولد قبل يسوع بستة أشهر وهو يظهر إلى العلن ليبشر بقدومه. وقد وجد مؤلفو الأناجيل في سفر ملاخي التوراتي ما اعتبروه نبوءة بإرسال الرب لنبي في آخر الأزمنة يهيئ الطريق للمسيح: «ها أنا ذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب، اليوم العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم» (ملاخي، 4: 5-6). وأيضا: «ها أنا ذا أرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي، ويأتي إلى هيكله السيد الذي تطلبونه» (ملاخي، 3: 1). ووجدوا في سفر إشعيا ما اعتبروه نبوءة أخرى: «صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب، قوموا في القفر سبيلا لإلهنا ... فيعلن مجد الرب ويراه كل بشر» (إشعيا، 40: 3-5)؛ ولذلك نجد إنجيل مرقس يجمع بين هذه النبوءات: «كما هو مكتوب في الأنبياء: ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك، صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة. كان يوحنا يعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لغفران الخطايا، وخرج إليه جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم واعتمدوا منه في نهر الأردن معترفين بخطاياهم. وكان يوحنا يلبس وبر الإبل ومنطقة من جلد على حقويه، ويأكل جرادا وعسلا بريا. وكان يكرز قائلا: يأتي بعدي من هو أقوى مني، الذي لست أهلا أن أنحني وأحل سيور حذائه، أنا أعمدكم بماء وأما هو فسيعمدكم بالروح القدس» (مرقس، 1: 2-8). وعلى الرغم من نجاحه بين الناس إلا أن فترة كرازة يوحنا لم تطل كثيرا لأن ملك الجليل أنتيباس أمر بحبسه لأنه كان ينتقد سلوكه وزواجه من مطلقة أخيه في حياته، ثم قطع رأسه بعد وقت قصير (مرقس، 6: 17-29).
وردت القصة الكاملة لميلاد يوحنا في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا، أما القصة القرآنية فقد وردت في سورة مريم وسورة آل عمران. وتسير القصتان على التوازي على الرغم من الصيغة المختصرة للقصة القرآنية: (1) لوقا: كان في أيام هيرودس ملك (المقاطعة) اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة أبيا (الكهنوتية) وامرأته من بنات هارون واسمها أليصابات (= إليزابيت باللغات الأوروبية). وكانا كلاهما بارين أمام الله، سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم. ولم يكن لهما ولد إذ كانت أليصابات عاقرا، وكان كلاهما متقدمين في السن (1: 1-7). (1) سورة مريم:
كهيعص * ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفيا * قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا (سورة مريم: 1-6). (2) لوقا: «فبينما هو يكهن في نوبة فرقته أمام الله حسب عادة الكهنوت، أصابته القرعة أن يدخل إلى هيكل الرب ويبخر، وكان كل جمهور الشعب يصلون خارجا وقت البخور، فظهر له ملاك الرب واقفا عن يمين مذبح البخور، فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه الخوف، فقال له الملاك: لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت ، وامرأتك أليصابات ستلد لك ابنا وتسميه يوحنا، ويكون لك فرح لأنه يكون عظيما أمام الرب، ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم» (لوقا، 1: 8-16). (2) سورة آل عمران:
فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين (آل عمران: 39). (3) لوقا: «فقال زكريا للملاك: كيف أعلم هذا؟ لأني شيخ وامرأتي متقدمة في أيامها؟ فأجاب الملاك: أنا جبرائيل الواقف قدام الله، وأرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا، وها أنت تكون صامتا ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا - أي ولادة الصبي - لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته» (لوقا، 18-20). (3) سورة آل عمران:
قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء * قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار (آل عمران: 40-41). (4) لوقا: «وكان الشعب منتظرين زكريا ومتعجبين من إبطائه في الهيكل، فلما خرج لم يستطع أن يكلمهم ففهموا أنه رأى رؤية في الهيكل، فكان يومئ إليهم (يتكلم رمزا) وبقي صامتا» (لوقا، 1: 21-22). (4) سورة مريم:
فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم (= أشار إليهم)
أن سبحوا بكرة وعشيا (مريم: 11). (5) لوقا: «ولما كملت أيام خدمته مضى إلى بيته. وبعد تلك الأيام حبلت أليصابات امرأته وأخفت نفسها خمسة أشهر قائلة: هكذا قد فعل بي الرب في الأيام التي نظر إلي لينزع عاري بين الناس» (لوقا، 1: 23-25). (5) سورة مريم:
يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا * وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا (مريم: 12-15).
وبعد ذلك مباشرة تبدأ قصة ميلاد عيسى. (س):
قلت في البداية إن التناص بين القرآن والإنجيل لا يقتصر على الأناجيل الأربعة القانونية، وإنما يتعداها إلى الأناجيل المنحولة التي لم تقبل في العهد الجديد، ولكننا في قصة ميلاد يحيى لم نعثر على تناص مع أي إنجيل منحول؟ (ج):
هذا التناص سنجده في القصة الثانية، وهي قصة ميلاد مريم؛ فهنا اقتصر التناص على الأناجيل المنحولة من دون الرسمية لأن الأخيرة لم تتعرض لأخبار مريم قبل بشارتها بالحمل العذري، وهذا ما جعل مؤلفي الأناجيل المنحولة يملئون هذا الفراغ ويقدمون إلى قارئ الإنجيل ما يتوق إليه من سيرة مريم. (س):
ولماذا لم يتعرض الإنجيليون لسيرة مريم قبل حملها بيسوع؟ كان من المتوقع أن يصدر ذلك عن لوقا، وهو الذي قدم لنا تلك القصة الطويلة والمفصلة عن ميلاد يوحنا! (ج):
الشخصية الرئيسية في الأناجيل هي يسوع، ويسوع وحده، وما من شخصية أخرى يعتد بها ظهرت إلى جانبه حتى لكأن سيرته عبارة عن مونودراما، أي مسرحية يؤديها ممثل واحد؛ ولهذا لم تظهر مريم مثلما لم يظهر أي رسول أو تلميذ بقوة على مسرح الحدث. وعلى الرغم من أن صورة يسوع في الأناجيل كانت صورة إنسان متفوق إلا أنه بقي إنسانا وتصرف كإنسان، وعبر عن ضعفه الإنساني في آخر جملة نطق بها عندما كان على الصليب وصرخ بصوت عظيم قبل أن يسلم الروح: إلهي، إلهي لماذا تركتني؟
وقد كانت مريم أم ذلك الإنسان، ولم يكن لها من دور سوى إنجابه، ولكن مكانة يسوع أخذت بالارتفاع ولا سيما بعد ظهور إنجيل يوحنا وهو آخر الأناجيل، وأخذ يفقد سماته الإنسانية ويكتسب سمات إلهية، وبالتالي كان لا بد أيضا من أن ترتقي رتبة مريم معه حتى تحولت من أم إنسان إلى أم إله. (س):
ولكن كان لمريم حضور قوي في قصة ميلاد يسوع؟ (ج):
إلى حد ما، ولكن قصة ميلاد يسوع غير موجودة في إنجيل مرقس الذي صار مؤكدا الآن أنه أقدم الأناجيل. وهذا يعني أن مؤلف هذا الإنجيل لم يسمع بتلك القصة، وأنها لم تكن متداولة في زمنه وإنما ابتكرت فيما بعد على ما هو متفق عليه بين الباحثين في العهد الجديد. وعلى كل حال فخارج قصة الميلاد التي وردت عند متى ولوقا بشكل مختلف تماما، ولم ترد عند مرقس ويوحنا، فإن مريم لم تذكر بالاسم لدى متى بعد قصة الميلاد سوى مرة واحدة، وبشكل عابر عندما قال أهل الناصرة عن يسوع: «أليس هذا ابن النجار؟ أليست أمه تدعى مريم؟» (متى، 13: 55). ثم وردت الإشارة إليها دون ذكر اسمها عندما دخلوا على يسوع وهو يعلم في أحد البيوت وقالوا له: «أمك وإخوتك واقفون في الخارج طالبين أن يكلموك» (متى، 12: 47). كما أن مريم لم تظهر في رواية لوقا بعد قصة الميلاد سوى مرة واحدة، وذلك في زيارة العائلة المقدسة إلى أورشليم عندما كان في سن الثانية عشرة، وبعد ذلك تغيب عن سيرة يسوع تماما، حتى إن أهل الناصرة عندما كانوا يتشاورون في أمر يسوع قالوا: «أليس هذا ابن يوسف؟ ولم يقولوا أليس هذا ابن مريم أو أليس هذا ابن مريم ويوسف.» فإذا انتقلنا إلى الإنجيليين الآخرين اللذين لم يتعرضا لقصة الميلاد لما وجدنا فيهما أفضل من ذلك. (س):
وماذا عن بولس الرسول الذي يحمل لقب مؤسس المسيحية، وكيف رأى مريم في رسائله التي تشكل عماد اللاهوت المسيحي؟ (ج):
بولس لم يتعرض لسيرة يسوع وإنما فسرها وأولها، ولم يذكر من أحداث حياته التي حفلت بها الأناجيل سوى العشاء الأخير؛ ولذلك فهو لم يأت على ذكر مريم لا من قريب ولا من بعيد. أما عن قوله بأن: «الله أرسل ابنه مولودا من امرأة ... إلخ» (غلاطية، 4: 4-5). فليس فيه إشارة إلى مريم بشكل خاص لأن كل كائن بشري يولد من امرأة. (س):
وماذا عن مكانة مريم في القرآن الكريم؟ (ج):
دعي يسوع في القرآن عيسى، وورد ذكره نحو 35 مرة، ولم يتفوق عليه في ذلك سوى إبراهيم وموسى، وقد حمل فيها جميعا لقب ابن مريم، وهو لقب لم يرد في العهد الجديد أبدا، لقد قال أهل الناصرة عندما تعجبوا من حكمة يسوع في إنجيل مرقس: «أليس هذا هو ابن النجار، ابن مريم وأخا يعقوب وموسى ويهوذا؟» (مرقس، 3: 6). ولكن هذا القول هو من قبيل التعريف بيسوع لا من قبيل إطلاق اللقب عليه. أما اسم مريم فقد ورد في القرآن نحو 43 مرة. ومريم هي المرأة الوحيدة التي ورد ذكرها في القرآن باسمها المجرد، بينما ورد ذكر بقية النسوة من خلال نسبتهن إلى أزواجهن؛ مثل: امرأة عمران، وامرأة لوط، وامرأة فرعون، وامرأة العزيز. وفي مقابل صمت الأناجيل عن أصل مريم ونسبها، فإن الرواية القرآنية تنسبها إلى سلسلة الأنبياء العظام في تاريخ الوحي، وإلى أسرة آل عمران المصطفاة:
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض (آل عمران: 33-34). ومريم هي أشرف وأنبل نساء الأرض:
يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (آل عمران: 42). (س):
إذن الأناجيل المنحولة التي ظهرت بعد الأناجيل الأربعة هي التي سدت هذه الفجوة في المعلومات عن أصل مريم وحياتها قبل الحمل العذري. (ج):
نعم، لدينا إنجيلان منحولان اهتما بهذه المسألة؛ الأول إنجيل يعقوب التمهيدي الذي دون في أوساط القرن الثاني الميلادي، والثاني منحول متى الذي دون بعده. ويمكن تلخيص القصة الواردة في إنجيل يعقوب ومقارنتها بالقصة القرآنية وفق ما يأتي، علما بأن والد مريم يدعى عند يعقوب يواكيم وفي القرآن عمران:
إنجيل يعقوب:
كان يواكيم رجلا واسع الثراء من قبيلة يهوذا، ومتزوجا من حنة بنت عساكر التي عاش معها مدة طويلة دون أن يرزقا بولد. وفي أحد الأيام جاء إلى هيكل الرب ليقدم له قربانا، ولكن الكاهن رفض القربان لأن يواكيم لم يصنع له ذرية في إسرائيل، فمضى يواكيم واعتزل في البرية وراح يصوم ويصلي ويدعو ربه أربعين يوما، بينما كانت زوجته حنة تبكي في البيت وتندب عقمها. ثم إن ملاك الرب ظهر لحنة وقال لها: حنة، حنة. إن الرب سمع صلاتك، ولسوف تحبلين وتلدين وستلهج ألسنة المعمورة بذكر نسلك. فقالت حنة: حي هو الرب. إذا ما أنجبت طفلا، ذكرا كان أم أنثى، سوف أنذره للرب ليخدمه كل أيام حياته.
سورة آل عمران:
إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم (آل عمران: 35).
إنجيل يعقوب:
ولما أكملت شهور حملها وضعت حنة مولودها، فسألت القابلة: ماذا أنجبت؟ فقالت القابلة: إنها أنثى. فقالت حنة: لقد تعظمت روحي في هذا اليوم ، ثم أسلمت نفسها للراحة.
سورة آل عمران:
فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى (من حيث ملاءمتها للخدمة في المعبد) (آل عمران: 36).
إنجيل يعقوب:
ولما أتمت أيام تطهرها طهرت نفسها، وألقمت الطفلة ثديها، ودعتها باسم مريم.
سورة آل عمران:
وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (آل عمران: 36).
إنجيل يعقوب:
ومرت الشهور حتى أكملت الطفلة عامها الثالث، فقال يواكيم لحنة: لنأخذها إلى الهيكل حتى نفي بنذرنا لكيلا يطالبنا الرب به. فسارا بها ومعهن ثلة من الفتيات العذراوات تحمل كل منهن بيدها مصباحا لكيلا تلفت الطفلة إلى الوراء وينصرف قلبها عن هيكل الرب. وعندما وصلوا خرج الكاهن زكريا وتلقاها وقبلها قائلا: لقد عظم الرب اسمك في كل الأجيال.
سورة آل عمران:
فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا (آل عمران: 37).
إنجيل يعقوب:
وعاد أبواها من الهيكل، أما مريم فقد بقيت في الهيكل مثل حمامة تتلقى الطعام في كل يوم من يد ملاك.
سورة آل عمران:
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله (آل عمران: 37).
إنجيل يعقوب:
ولما أتمت مريم عامها الثاني عشر (وفي منحول توما الرابع عشر وهو الأصح) اجتمع الكهنة يتشارون بشأنها بعد أن صارت صبية ولم يعد من المناسب بقاؤها في الهيكل، فدخل زكريا إلى محراب الهيكل وصلى من أجلها، فظهر له ملاك الرب وأمره أن يدعو إليه كل الرجال والأرامل، وليجلب كل منهم عصا، فمن ظهرت على عصاه آية الرب يأخذ مريم زوجة له، فاجتمع كل الرجال وبينهم يوسف النجار، فجمع زكريا عصيهم ودخل إلى الهيكل فصلى ثم خرج وراح يرد العصي إلى أصحابها دون أن تظهر على أي منها علامة الرب، إلى أن وصل إلى عصا يوسف وكانت الأخيرة، فما إن مد يوسف يده ليأخذها حتى انطلقت منها حمامة وحطت على رأسه، فقال له زكريا: لقد تم اختيارك بالقرعة لكي تأخذ عذراء الرب . فتمنع يوسف بحجة أنه رجل مسن ولديه أولاد، ولكن زكريا نبهه إلى أن هذه هي إرادة الرب ولا سبيل لتجاوزها، فخاف يوسف وأخذها.
وبعد ذلك تبدأ قصة الحمل العذري بيسوع.
سورة آل عمران:
قصة مريم في الهيكل تتوقف بعد أن قالت:
هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ، من أجل رواية قصة ميلاد يحيى:
هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية ... ، وبعد الانتهاء يتابع النص من حيث انتهى في قصة مريم:
وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين * يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين * ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (آل عمران: 41-44). وبعد ذلك تبدأ قصة الميلاد العذري.
في المقطع أعلاه، وكما هو الحال في إنجيل يعقوب، هناك قرعة تجري على كفالة مريم الصبية؛ لأن قصة مريم الطفلة التي كانت في المحراب تتلقى الطعام من عند الله قد انتهت، فمن الذي كفل مريم؟ هل كفلها زكريا مرة أخرى مثلما كفلها لدى دخولها إلى الهيكل، أم شخص آخر؟ النص هنا شديد الغموض، ولا يمكننا أن نستنتج منه شيئا، لا سيما وأننا في سياق قصة الميلاد العذري نسمع عن «أهلها» وعن «قومها» دون أن نعرف من هم:
انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ، و
فأتت به قومها تحمله قالوا ... . (س):
هل التناص في القصة الثالثة، قصة الميلاد العذري، يجري أيضا مع الأناجيل المنحولة؟ (ج):
هو بشكل رئيسي مع الأناجيل القانونية، ولكنه يتعداها إلى عناصر من قصص الأناجيل المنحولة. وبما أن القصة لدى إنجيل متى ترد في اختصار شديد، فإن التناص لا يظهر إلا مع قصة لوقا المفصلة.
لوقا: «وفي الشهر السادس، أي بعد حمل أليصابات أم يوحنا بستة أشهر، أرسل جبرائيل الملاك من عند الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة إلى عذراء مخطوبة إلى رجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم، فدخل إليها الملاك وقال: سلام لك أيتها المنعم عليها، الرب معك. مباركة أنت في النساء» (لوقا، 1: 26-28).
سورة مريم:
واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (سورة مريم: 16-17).
لوقا: «فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية» (لوقا، 1: 29).
سورة مريم:
قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (مريم: 18).
لوقا: «فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم؛ لأنك وجدت نعمة عند ربك، وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع» (لوقا، 1: 30-31).
سورة مريم:
قال (الملاك)
إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (سورة مريم: 19).
لوقا: «هذا (= يسوع) يكون عظيما وابن العلي يدعى، ويعطيه الرب كرسي داود أبيه» (لوقا، 1: 32).
سورة آل عمران: ... وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (سورة آل عمران: 45).
لوقا: «فقالت مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا؟» (لوقا، 1: 34).
سورة مريم:
قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر (مريم: 20).
لوقا: «فأجاب الملاك: الروح القدس يحل عليك وقوة العظيم تظللك؛ فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى ابن الله ... لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله» (لوقا: 35-37).
سورة مريم:
قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس (مريم: 21)، وورد في سورة التحريم:
ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا (التحريم: 12)، (قارن مع قوله أعلاه: فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا).
لوقا:
فقالت مريم: هو ذا أنا أمة الرب، ليكن لي قولك (لوقا: 38).
سورة التحريم:
وصدقت (مريم)
بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين (التحريم: 12).
بعد ذلك تفترق رواية لوقا عن الرواية القرآنية فيما يتعلق بالحمل والوضع؛ فلوقا جاء بيوسف ومريم الحامل من الجليل إلى بيت لحم في مقاطعة اليهودية من أجل الإحصاء السكاني العام الذي قامت به السلطات الرومانية ليكتتبا فيها؛ لأن يوسف كان من عشيرة الملك داود ومسجلا أصلا في بيت لحم. وهناك تمت أيامها لتلد، فولدت ابنها البكر، وقمطته وأضجعته في مذود لطعام الماشية؛ إذ لم يكن لهما مكان في خان المسافرين يبيتان فيه (لوقا، 2: 1-7).
أما في الرواية القرآنية فنجد مريم وحدها تعاني آلام المخاض في مكان بعيد:
فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا * فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا * وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا * فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (مريم: 22-26). وورد في سورة «المؤمنون»:
وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين (المؤمنون: 50)، والمعنى هنا هو أن مريم اختفت عن الأنظار ولجأت إلى ربوة فيها مقر راحة (= قرار)، ونبع ماء جار (= معين)، وشجرة نخيل. وعندما اشتدت عليها آلام المخاض لجأت إلى جذع النخلة وتمنت لو أنها ماتت دون أن تتعرض لهذه المحنة، فناداها الملاك جبريل من تحت الربوة مواسيا، وقال إن الله قد أجرى من أجلها جدول ماء (= سريا) وأن باستطاعتها الحصول على ثمر النخلة بهز جذعها. وعليها بعد الولادة ألا تحفل بالرد على أسئلة المتسائلين؛ لأن الله عازم على إظهار آية تبرئها عندما يتكلم وليدها في المهد.
لا يوجد لدينا في الأناجيل المنحولة ما يطابق هذا النص القرآني، وإنما ما يشبهه في ثلاثة عناصر وهي: المكان البعيد المنعزل، والنخلة التي تعطي ثمارها، وجدول الماء الذي انبثق من نبع تحتها؛ فقد ورد في منحول متى أنه في اليوم الثالث من سفر يوسف ومريم ومعهما يسوع وهو رضيع إلى مصر هربا من الملك هيرود الذي أمر بذبح كل الأطفال من عمر سنتين وما دون لكي يهلك يسوع، تعبت مريم وأرادت النزول عن دابتها للراحة، فرأت شجرة نخيل ولجأت إلى فيئها. ولما نظرت إلى الأعلى رأت ثمرها وعبرت عن رغبتها في تذوق بعضها، فقال لها يوسف إن الشجرة عالية جدا، وإن ما يشغل باله فعلا هو قلة زادهم من الماء. وكان يسوع جالسا في حضن أمه، فأمر النخلة أن تعطي أمه بعض رطبها، فانحنت النخلة حتى لامست قدمي مريم فأكلت منها، ثم أمر يسوع النخلة أن تفتح مجرى للماء المخزون عند جذورها، فانبثق من هناك جدول ماء فشربوا منه وسقوا حيواناتهم. (س):
هنالك عنصر هام في الرواية القرآنية وهو أن عيسى كان يصنع طيورا من طين فتغدو طيورا حية وتطير في الجو كإحدى المعجزات التي زوده بها الله، فهل لذلك العنصر من معادل في الرواية الإنجيلية؟ (ج):
هنالك ثلاثة عناصر في الرواية القرآنية لا نجدها في الرواية الإنجيلية الرسمية، وإنما في الأناجيل المنحولة، وهي: (1) الصور الطينية. (2) الكلام في المهد. (3) الحجاب الذي اتخذته مريم قبل أن يأتيها الملاك بالبشارة.
فقد ورد في سورة آل عمران عن عيسى في سياق بشارة الملاك لمريم:
ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين (سورة آل عمران: 46)، وجاء في الإنجيل العربي، وهو من الأناجيل المنحولة، وجدت ترجمة له إلى العربية ربما تعود إلى القرن الرابع أو الخامس الميلادي، أما أصله فمفقود: «ورد في كتاب الكاهن الأعلى يوسف الذي عاش في زمان يسوع المسيح، أن يسوع تكلم في المهد وقال لأمه مريم: أنا الذي ولدته، أنا يسوع ابن الله، الكلمة، على ما بشرك به الملاك جبريل، ولقد أرسلني أبي من أجل خلاص العالم.»
وورد في سورة آل عمران أيضا:
أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله (آل عمران: 49)، ونقرأ في الإنجيل العربي: «عندما أتم يسوع عامه السابع، كان يلعب في أحد الأيام مع صبية آخرين من عمره، وكانوا يصنعون على سبيل التسلية صور حيوانات متنوعة من الطين. وقد صنع يسوع صور طيور وعصافير دوري، وكان يأمرها بالطيران فتطير ثم يأمرها بالتوقف فتتوقف.»
وورد في سورة مريم:
واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (سورة مريم: 16-17). وقد اختلف مفسرو القرآن في ماهية هذا الحجاب دون التوصل إلى نتيجة، ولكننا نعثر على تفسير الحجاب في إنجيل يعقوب التمهيدي؛ فهو حجاب هيكل أورشليم الذي يفصل المحراب الداخلي عن القسم الأوسط. وكان من عادة الكهان أن يعهدوا إلى بعض العذارى غزل وحياكة حجاب جديد كلما بلي القديم. وقد وقع الاختيار على مريم من بين سبع فتيات أخريات لهذه المهمة، وأعطيت مريم اللون الأرجواني لتغزله، وبينما هي جالسة على الكرسي وقد سحبت إليها خيط الغزل، ظهر ملاك الرب أمامها قائلا: لا تخافي يا مريم؛ فقد نلت نعمة عند الله وسوف تحبلين بكلمته.
المحور السابع
التناص بين الكتب المقدسة
(3) القرآن والتوراة (س):
من المتوقع أن يكون حجم التناص بين القرآن والتوراة أكبر بكثير من حجمه بين القرآن والإنجيل، نظرا لغزارة المادة التوراتية مقارنة بالمادة الإنجيلية. (ج):
بكل تأكيد؛ فالأناجيل الأربعة لا تشغل من الكتاب المقدس حيزا يزيد بكثير عن سفري التكوين والخروج، يضاف إلى ذلك أن الأنبياء المذكورين في القرآن هم شخصيات توراتية عدا خمسة هم: صالح نبي قوم ثمود، وهود نبي قوم عاد، وشعيب نبي قوم مدين، وإدريس وذو الكفل اللذان لم يذكر لنا النص اسم قومهما، على أنه من المرجح أن يكون شعيب نبي قوم مدين هو كاهن مدين المدعو يثرون الذي تزوج موسى من ابنته في سفر الخروج التوراتي، وأن يكون إدريس هو أخنوخ الأب السادس بعد آدم على ما يقول بعض مفسري القرآن. وبذلك تتقلص قائمة الشخصيات الدينية القرآنية غير التوراتية إلى ثلاث فقط. أما الشخصيات القرآنية/التوراتية فتغدو ثمانية وعشرين شخصية، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الأسباط من أولاد يعقوب هم أحد عشر. وهذه أسماؤهم:
نوح، إدريس، إبراهيم، إسماعيل، لوط، إسحق، يعقوب، الأسباط (= 12)، يوسف، موسى، هارون، شعيب، داود، سليمان، الياس، اليسع، أيوب، يونس.
وهؤلاء جميعا أنبياء في القرآن تلقوا وحيا من ربهم:
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا - النساء: 163. أما في التوراة فأدوار هؤلاء تتنوع؛ فالأسباط لم يكونوا أنبياء بل الجدود الأعلون للقبائل العبرانية التي تسلسلت منهم، ومنهم يوسف الذي لم يكن نبيا ولم يكلمه الله طيلة قصته الطويلة في سفر التكوين، وكذلك أيوب الذي لم يكن سوى رجل صالح اختبره الله بالمصائب والبلايا، وكذلك لوط. وعلى الرغم من أن الله كلم داود وسليمان، إلا أنهما كانا ملكين مقربين من الله، ولم يكونا نبيين بالمعنى التوراتي للكلمة. (س):
كيف لا يكون داود نبيا وقد تلقى من الله كتابا يدعى الزبور؟ هل للزبور ذكر في القرآن؟ (ج):
لقد ورد في القرآن ما يشير إلى أن داود قد تلقى من ربه كتابا موحى يدعى بالزبور:
وآتينا داوود زبورا (الإسراء: 55).
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (الأنبياء: 105). ومن المفترض أن كتاب الزبور هذا هو سفر المزامير التوراتي، ولكن سفر المزامير ليس كتابا مستقلا، وإنما هو جزء من كتاب التوراة. ويحتوي على تراتيل دينية وأدعية وصلوات كانت تنشد على أنغام الموسيقى في الهيكل، ومعظم هذه المزامير ومفردها (مزمور) منسوب لداود والبقية لغيره، ولكن لا شيء فيها يدل على وحي إلهي. وعلى كل فإن سلوك داود وسليمان في التوراة كان بعيدا عن صلاح وتقوى الأنبياء. (س):
هل تعني ما فعله داود عندما قتل أحد محاربيه الشجعان لكي يستولي على امرأته؟ (ج):
نعم؛ فقد رأى الملك داود، وهو على سطح منزله يتمشى، امرأة في البيت المقابل تستحم، ففتنه جمالها وسأل في اليوم التالي أعوانه فقالوا إنها بتشبع زوجة أوريا الحثي الذي يقاتل في عبر الأردن مع الجيش الذي يحارب الآراميين. فأرسل داود غلمانه فجاءوا بها ودخل عليها ثم رجعت إلى بيتها. وبعد مدة أرسلت إلى داود وأخبرته بأنها حامل منه. فكتب داود إلى يوآب قائد جيشه يقول له: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة ثم ارجعوا من ورائه فيضرب ويموت، وهكذا كان. وعندما وصل داود خبر موت أوريا أتى بالمرأة الحامل إلى بيته وصارت له زوجة وولدت له سليمان. وعندما سمع النبي ناثان بالخبر دخل على داود وقال له: كان رجلان في مدينة واحدة؛ واحد منهما غني والآخر فقير، وكان للغني بقر وغنم كثيرة جدا، وأما الفقير فلم يكن له شيء إلا نعجة واحدة وكانت له مثل ابنة، فجاء ضيف إلى الرجل الغني وأراد أن يهيئ له ضيافة، وبدلا من أن يذبح له غنمه، جاء إلى الرجل الفقير فأخذ نعجته وهيأ للضيف طعامه، فماذا تقول في ذلك؟ قال داود: إنه يقتل. فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل (سفر صموئيل الثاني، 11: 2-29).
أما سليمان الذي قال عنه الرب: «هو يبني بيتا لاسمي، وأنا أثبت كرسي ملكه إلى الأبد، أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا» (سفر صموئيل الأول، 7: 13-14)، فقد تخلى عن الرب الذي بنى له هيكل أورشليم وعبد الآلهة الكنعانية وبنى لها المعابد: «ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه، فذهب سليمان وراء عشتروت إلهة الصيدونيين، ووراء ملكوم إله العمونيين وعمل سليمان الشر في عيني الرب» (سفر الملوك الأول، 11: 4-5). (س):
أعتقد أن ما فعله داود قد وردت الإشارة إليه في القرآن في قصة الرجل الذي عنده تسع وتسعون نعجة وأخيه الذي عنده نعجة واحدة. (ج):
نعم، وإن كان العديد من مفسري القرآن يمارون في ذلك دفاعا عن نبوة داود، ولكن مقارنة القصة القرآنية مع القصة التوراتية تؤكد وحدة الموضوع بينهما. نقرأ في سورة ص:
وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (سورة ص : 17-26).
في القصة القرآنية يقوم ملاكان مقام النبي ناثان في القصة التوراتية في الدخول على داود وتنبيهه إلى خطيئته من خلال عرض قصة رمزية؛ فقد اجتاز هذان الملاكان الأبواب والأسوار ودخلا فجأة على داود فخاف منهما. وبعد أن عرضا عليه قضيتهما وأفتى لهما فيها، انتبه إلى أنه هو المقصود وعرف هويتهما فخر راكعا على الأرض طالبا العفو من الله. (س):
هذا يضعنا في لب عملية التناص بين الكتابين؟ (ج):
التناص بين الكتابين أغزر من أن نوفيه حقه هنا، وهو يتراوح بين التناص التام حيث يبدو النص القرآني أشبه بترجمة للنص التوراتي، كما هو الحال في قصة يوسف، والتناص شبه التام حيث يبدو النص القرآني ترجمة حرة ومختصرة بعض الشيء للنص التوراتي، كما هو الحال في قصص موسى وإبراهيم، والتناص المجتزأ كما هو الحال في قصص بعض الأنبياء مثل إلياس. (س):
لقد أفردت في القرآن سورة كاملة لقصة يوسف على الرغم من أنه ليس شخصية نبوية في التوراة على ما ذكرت منذ قليل. دعنا نبدأ به. (ج):
القصة طويلة لذلك سأكتفي بإيراد ملخصات من النص التوراتي من أول القصة إلى أواسطها، مع ما يقابلها من النص القرآني.
يوسف وإخوته:
سفر التكوين: كان يوسف ابن سبع عشرة سنة، وكان يرعى الغنم مع إخوته، وقد أحبه أبوه يعقوب أكثر من جميع بنيه، فأبغضه إخوته ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام (سفر التكوين، 1: 37-5).
سورة يوسف:
لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين * إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين (يوسف: 7-8).
حلم يوسف:
سفر التكوين: وحلم يوسف حلما أخبر به أباه وإخوته قال: إني حلمت حلما، وإذا الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدة لي. فازداد إخوته له بغضا (التكوين، 37: 9-11).
سورة يوسف:
إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين * قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا (يوسف: 4-5).
مؤامرة الإخوة:
سفر التكوين: طلب يعقوب من يوسف أن يذهب إلى إخوته في المرعى، فلما رأوه من بعيد قال بعضهم لبعض: هو ذا صاحب الأحلام قادم، فالآن لنقتله ونطرحه في إحدى الآبار، ونقول وحش رديء أكله. فسمع أخوهم رءوبين مقالتهم وأراد إنقاذه فقال لهم: لا تسفكوا دما، اطرحوه في هذه البئر في البرية ولا تمدوا إليه يدا. فكان لما جاء يوسف أن خلعوا عنه قميصه وطرحوه في البئر وكانت جافة ليس فيها ماء، ثم أخذوا القميص وذبحوا تيسا من المعزى، وغمسوا القميص بالدم، وعادوا إلى أبيهم فقالوا: حقق، أقميص ابنك هذا؟ فتحقق وقال: قميص ابني، وحش رديء أكل يوسف. ثم مزق ثيابه ولبس الحداد وناح على ابنه أياما كثيرة. أما يوسف فقد انتشلته قافلة تجار مديانيين وباعوه للإسماعيليين بعشرين من الفضة فأتوا به إلى مصر (التكوين: 18-38).
سورة يوسف: (طلب الإخوة من أبيهم أن يرسل يوسف معهم إلى البرية فوافق بعد تمنع خشية من أن يأكله الذئب، وعندما صاروا في المرعى قال بعضهم):
اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين * قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين * ... فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون * وجاءوا أباهم عشاء يبكون * قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون * وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون * وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين (سورة يوسف: 9-20).
يوسف في مصر:
سفر التكوين: فأخذوه إلى مصر واشتراه رئيس شرطة الفرعون المدعو فوطيفار (ولقبه في القرآن العزيز). وكان الرب مع يوسف، فكان رجلا ناجحا، ووجد نعمة في عيني سيده الذي أوكله بجميع شئون بيته، فبارك الرب بيت فوطيفار وحقله. وكان يوسف حسن الصورة وحسن المنظر (التكوين، 39: 1-6).
سورة يوسف:
وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره (يوسف: 21-22).
الإغواء:
سفر التكوين: وحدث بعد هذه الأمور أن امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف وقالت: اضطجع معي. فقال لها: كيف أصنع هذا الشيء العظيم وأخطئ إلى الله؟ ثم تركها ومضى، إلى أن جاء يوم دخل فيه يوسف إلى المنزل ولم يكن هناك غيرهما، فأمسكت بثوبه قائلة: اضطجع معي. فترك ثوبه في يدها وخرج من البيت، أما هي فوضعت ثوبه بجانبها حتى جاء سيدها، فقالت له: لقد دخل علي هذا الرجل ليضطجع معي فصرخت فترك ثوبه بجانبي وهرب. فحمي غضب فوطيفار على يوسف ووضعه في السجن الذي كان أسرى الملك محبوسين فيه (التكوين، 39: 1-23).
سورة يوسف:
وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون * ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين * واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم * قال (يوسف)
هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم * ... ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين (يوسف: 23-35).
في السجن:
سفر التكوين: وحدث بعد هذه الأمور أن فرعون غضب على رئيس السقاة في قصره ورئيس الخبازين، وأمر بحبسهما في السجن نفسه، ثم إن كليهما حلما حلما وقصاه في الصباح على يوسف. قال رئيس السقاة: رأيت كرمة فيها ثلاثة قضبان نضجت عناقيدها فأخذت العنب وعصرته في كأس قدمتها لفرعون. فقال له يوسف: الثلاثة قضبان هي ثلاثة أيام، في ثلاثة أيام تخرج من السجن وترد إلى مقامك، وتسكب الخمرة لفرعون كما كنت تفعل، فهلا صنعت لي معروفا وذكرتني له فيخرجني من السجن. ثم قص عليه رئيس الخبازين حلمه قال: رأيت ثلاث سلال على رأسي والعليا فيها خبز والطيور تأكل منه. فقال يوسف: السلال هي ثلاثة أيام. في ثلاثة أيام يقطع فرعون رأسك ويعلقك على خشبة وتأكل الطيور من لحمك. ثم مضت الثلاثة أيام وحدث ما توقعه يوسف، ولكن رئيس السقاة نسيه ولم يذكره لفرعون مدة سنتين (سفر التكوين، 40: 1-22).
سورة يوسف:
ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين * قال ... يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان * وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين (يوسف: 36-42).
هذا ما لدي فيما يتعلق بالتناص في قصة يوسف، ولا داعي للمضي أكثر من ذلك؛ لأن بقية القصة تسير على المنوال نفسه. (س):
هناك شيء لم أفهمه في عنصر انتشال يوسف من البئر في الرواية القرآنية؛ فعندما جاء السيارة إلى البئر ليستقوا منها الماء ودلى ساقيهم بدلوه فوجد يوسف، فقال: يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة. ما معنى كلمة أسروه؟ (ج):
معظم المفسرين يقرءون كلمة أسروه بتشديد الراء (من فعل أسر أي أخفى)، ويقولون إن الذين انتشلوه أخفوه عن الآخرين حتى لا يشاركوهم فيه. ولكن هذا المعنى لا يستقيم لأنهم بعد ذلك شروه؛ أي باعوه لأن الكلمة تحتمل المعنيين، بثمن بخس وكانوا فيه من الزاهدين. وهذا يعني أن يوسف لم يكن بضاعة غالية الثمن حتى يخفيه من انتشله عن الآخرين. يضاف إلى ذلك استحالة إخفاء شاب في القافلة عن عيون الآخرين. (س):
وما المعنى إذن؟ (ج):
ربما كان علينا أن نقرأ الكلمة دون تشديد السين، عندها يستقيم المعنى؛ فالذين انتشلوه أسروه؛ أي أمسكوا به ولم يطلقوا سراحه ليجعلوه بضاعة يتاجرون فيها . (س):
وهل يجوز لنا أن نغير في قراءة القرآن؟ (ج):
هنالك فرق بين القرآن الكريم وبين المصحف الشريف. القرآن الكريم مقدس ولا يتغير أو يغير، أما المصحف فنتاج بشري صنعته أيادي النساخ الذين كانوا ينقلون ما دونه كتاب الوحي متفرقا على رقاع الجلد أو عظم الأكتاف أو الخشب، أو ما حفظه حفاظ القرآن وفقدت أصوله. وقد تم ذلك على مرحلتين؛ الأولى في عهد الخليفة عمر، والثانية في عهد الخليفة عثمان. (س):
هل تقصد بقولك أن من جمع القرآن في مصحف قد ارتكب بعض الأخطاء في النسخ؟ (ج):
هذا ممكن؛ فهؤلاء ليسوا ملائكة، والإنسان خطاء بطبيعته، ولكن تلك الأخطاء كانت شكلية ولا تؤثر على المعنى لا من قريب ولا من بعيد. وقد أورد السيوطي في كتابه «الإتقان في علوم القرآن» خبرا عن السيدة عائشة مفاده أن البعض استفتاها في بعض الشذوذات النحوية في المصحف، فقالت: لقد أخطأ النساخ. (س):
ما نوع هذه الشذوذات؟ (ج):
ما أتذكره منها عشرة، وربما كان العدد أكبر من ذلك؛ فقد ورد على سبيل المثال، في سورة طه: 63:
قالوا إن هذان لساحران ، والشذوذ هنا هو رفع اسم إن بدلا من نصبه. وورد في سورة المائدة: 69:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى ... ، والشذوذ هنا هو أن كلمة الصابئون مرفوعة رغم أنها معطوفة على منصوب. (س):
لفت نظري ما قلته منذ قليل عن فقدان بعض الأصول المكتوبة للقرآن، ما الدليل على ذلك؟ (ج):
هنالك دلائل عدة تأتينا من أخبار عملية جمع القرآن، ومنها أنه عندما أراد عمر أن يجمع القرآن قام في الناس، فقال: من كان تلقى من رسول الله شيئا من القرآن فليأتنا به، وكان لا يقبل شيئا من ذلك حتى يشهد عليه شاهدان. ولو كان القرآن مدونا كله بشكل متفرق، لما كان من الضرورة أن يتم طلبه ممن يحفظ منه شيئا، أو إشهاد شاهدين على ما يأتي به هؤلاء . لأن ما دون في عهد الرسول من قبل كتبة الوحي لا يحتاج إلى شهادة أحد عليه. ويبدو أن المحفوظ في صدور الرجال ولا أصل له في المدونات كان كثيرا، لأن ما دفع عمر للإسراع في جمع القرآن هو استشهاد الكثيرين من حفظته في حرب اليمامة ضد مسيلمة الكذاب أيام الخليفة أبي بكر، على ما يورد لنا السجستاني في مؤلفه المعروف «كتاب المصاحف».
على كل، فإن المقطع من سورة يوسف الذي أثار لديك التساؤل بخصوص كلمة «أسروه» يحتوي كلمة أخرى اختلف القدماء في قراءتها، وهي قول الوارد الذي دلى بدلوه في البئر «يا بشرى» عندما وجد يوسف، فقد قرأها البعض «يا بشراي» وبإمكانك أن تجد هذه المعلومة في كتب التفسير. إن الاختلاف بين القراءتين لا قيمة له في الحقيقة، ولكنه اختلاف على أية حال. (س):
تقدم لنا سورة يوسف نموذجا عن الأسلوب القرآني البليغ المختزل الذي يؤدي المعنى بكفاءة وبأقل الكلمات، في مقابل الأسلوب التوراتي المسترسل وذي النفس الطويل. أليس كذلك؟ (ج):
هذا صحيح؛ فالإيجاز في الأسلوب القرآني يمثل ذروة إعجازه اللغوي. ولكنه في أحيان قليلة يترك القصة سابحة في جو من الغموض، ربما كان مقصودا، كما هو الحال في قصة يونس التي تقدم لنا نموذجا عن التناص التام مع مقابلها قصة يونان التوراتية.
ترد قصة يونس، أو قصة يونان كما يدعى في التوراة موزعة في القرآن على عدة سور:
فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم * لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم (سورة القلم: 48-49).
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين (سورة يونس: 98).
وذا النون (= صاحب الحوت)
إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين (سورة الأنبياء: 87-88).
وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق (= هرب ولجأ)
إلى الفلك المشحون (= المثقل بالركاب والبضائع)
فساهم (= شارك في القرعة)
فكان من المدحضين (= الخاسرين)
فالتقمه الحوت وهو مليم (= فعل ما يلام عليه)
فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون * فنبذناه بالعراء وهو سقيم (= متعب ومريض)
وأنبتنا عليه شجرة من يقطين * وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون * فآمنوا فمتعناهم إلى حين (سورة الصافات: 139-148).
إن من يقرأ هذه المقاطع المتفرقة سيجد صعوبة في إعادة تجميع عناصر القصة في سردية متصلة، كما أن العديد من هذه العناصر يبقى بحاجة إلى الإيضاح؛ فلماذا ذهب يونس مغاضبا ومن الذي غاضبه؟ ولماذا لجأ إلى تلك السفينة المحملة بالناس والبضائع؟ ما هو موضوع القرعة التي خسر فيها؟ كيف وجد نفسه في الماء فالتقمه الحوت؟ من هم أولئك القوم الذين أرسل إليهم والذين يزيد تعدادهم عن المائة ألف؟ ولماذا نبتت فوقه شجرة من يقطين؟
إن المقارنة التي سنجريها مع مقاطع مختصرة من سفر يونان هي التي ستجلي تلك الغوامض:
تكليف يونس بالرسالة:
سفر يونان: كانت كلمة الرب إلى يونان بن أمتاي قائلا: قم انطلق إلى نينوى، المدينة العظيمة، وناد عليها؛ فإن شرها قد كثر أمامي.
سورة الصافات:
وإن يونس لمن المرسلين .
يونس يحاول التهرب من حمل الرسالة:
سفر يونان: فقام يونان ليهرب من وجه الرب إلى ترشيش (= إسبانيا).
سورة الأنبياء:
وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه .
يونس يركب السفينة:
سفر يونان: فنزل إلى يافا، فوجد سفينة، فأدى أجرتها، ونزل فيها.
سورة الصافات:
إذ أبق إلى الفلك المشحون .
زوبعة في البحر:
سفر يونان: وبعد أن أبحرت السفينة، أرسل الرب ريحا عظيمة وأوشكت السفينة على الغرق، فألقى الملاحون البضاعة التي فيها إلى البحر، وقال كل منهم إلى صاحبه هلم نلق قرعا لنعلم بسبب من أصابنا هذا الشر. فألقوا قرعا فوقعت القرعة على يونان، فقالوا له: أخبرنا لأي سبب أصابنا هذا الشر، وماذا صنعت؟ فقال لهم: أنا عبراني هارب من وجه الرب إله السماوات الذي صنع البحر. قالوا: ماذا نفعل بك حتى يسكن البحر عنا ؟ فقال: خذوني فألقوني إلى البحر فيسكن عنكم. فأخذوا يونان وألقوه في البحر.
سورة الصافات:
فساهم فكان من المدحضين .
الحوت يبتلع يونس:
سفر يونان: فأعد الرب حوتا عظيما لابتلاع يونان، فكان في جوف الحوت ثلاثة أيام.
سورة الصافات:
فالتقمه الحوت وهو مليم .
صلاة يونس في جوف الحوت:
سفر يونان: فصلى يونان إلى الرب إلهه من جوف الحوت وقال: إلى الرب صرخت في ضيقي فاستجاب لي ... إلخ (صلاة طويلة).
سورة الأنبياء:
فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .
خروج يونس إلى البر:
سفر يونان: فأمر الرب الحوت فقذف يونان إلى اليبس.
سورة الصافات:
فنبذناه بالعراء وهو سقيم .
تكليف يونس ثانية:
سفر يونان: وكانت كلمة الرب إلى يونان ثانية وأمره بالانطلاق إلى نينوى، المدينة التي تضم أكثر من 12 ربوة من الناس (والربوة الواحدة عبارة عن عشرة آلاف؛ أي إن عدد سكان المدينة كان 120 ألف نسمة)، وتحذير أهلها من الاستمرار في غيهم، فوصل يونان وراح ينادي في الأسواق قائلا: إن نينوى ستنقلب بعد أربعين يوما. فآمن أهل المدينة.
سورة الصافات:
وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون * فآمنوا فمتعناهم إلى حين .
أما عن عنصر شجرة اليقطين التي أنبتها الله فوق يونس، وهو العنصر الأكثر غموضا في الرواية القرآنية، فإن بقية القصة في الرواية التوراتية تزيل عنها الغموض؛ فبعد أن أنذر يونان أهل نينوى خرج وجلس ينظر من بعيد، وعندما عرف أن الرب عفا عن المدينة بعد توبة أهلها، غضب يونان غضبا شديدا، فقال له الرب: أبحق غضبك؟ وكانت حرارة الشمس تضرب رأس يونان بشدة، فأنبت الرب عليه يقطينة فارتفعت فوق يونان وظللته من الشمس ففرح فرحا شديدا، وقضى بقية يومه في فيئها، ولكن الله أعد دودة فضربت اليقطينة فجفت عند طلوع الشمس، ثم أعد ريحا حارة فضربت رأس يونان فتمنى الموت لنفسه، فقال الله ليونان: أبحق غضبك لأجل اليقطينة؟ فقال: نعم. فقال الرب: لقد أشفقت أنت على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولم تربها، التي نشأت بنت ليلة وهلكت بنت ليلة، أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي فيها أكثر من 12 ربوة من أناس لا يعرفون يمينهم من شمالهم، عدا ما بها من بهائم؟ (س):
ولكن اليقطين ليس شجرا يستظل بفيئه؟ (ج):
الترجمة البروتستانتية للعهد القديم تقول يقطينة، وهي ليست شجرة ولا فيء لها، أما في الترجمة الكاثوليكية فتقول خروعة، والخروع نبات عشبي أوراقه عريضة يستخرج من بذوره زيت الخروع، أو الخروع باللفظ العامي السوري، وهو ليس شجرا أيضا. والتفسير الوحيد لذلك هو أن الله أرادها معجزة ليونان. (س):
في حديثك عن عيسى المسيح، قلت إنه ذكر في القرآن نحو 37 مرة، ولم يتفوق عليه في تكرار ورود الاسم سوى إبراهيم وموسى، وهذا يعني أن هاتين الشخصيتين هما أبرز الشخصيات التوراتية التي أتى القرآن على ذكرها، فهل سيكون التناص بين الكتابين هو الأوضح فيما يتعلق بأخبارهما؟ (ج):
لعل الأمر كذلك، وسأبدأ بإبراهيم وما حصل له في موطنه الأصلي قبل الهجرة إلى كنعان، ثم قصة زيارة الضيوف السماويين له. وبعدها قصة لوط وتدمير سدوم من قبل الضيوف السماويين.
اهتداء إبراهيم:
لا يوجد في الرواية التوراتية أخبار عن حياة إبراهيم في موطنه الأصلي الذي يدعوه النص أور الكلدان، ولكننا نجد مثل هذه الأخبار في الأسفار المنحولة خارج التوراة ومنها كتاب اليوبيليات الذي أقتبس منه هذه الملخصات:
كتاب اليوبيليات: ذات مساء جلس إبراهيم الشاب يراقب النجوم من المساء إلى الفجر ليستخيرها فيما ستأتي به السنة الجديدة من خير ومطر. ولكن قلبه نبض بكلمات، وحدث نفسه قائلا: إن كل شارات السماء وشارات النجوم والشمس والقمر هي في يد الرب، فما الذي أنا باحث عنه فيه؟ إن شاء الرب جعل السماء تمطر من الصباح إلى المساء، وإن شاء أغلقها؛ لأن كل شيء ملك يديه. ثم قام فصلى قائلا: أيها الإله العلي أنت وحدك إلهي، لقد خلقت كل شيء، وكل ما في الوجود صنعة يديك، لقد اخترتك واخترت ملكوتك، فأنقذني من الأرواح الشريرة، ولا تجعلهم يضلوني عنك.
سورة الأنعام:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (الأنعام: 74-79).
إبراهيم يحاول هداية أبيه وقومه:
كتاب اليوبيليات: اعتزل إبراهيم أهله وملته الأولى وقال لأبيه: ما نفع هذه الأصنام التي نسجد لها ونطلب عونها؟ إنها خرساء ولا روح فيها، إنها ضلالة للقلب فلا تعبدها، بل اعبد رب السماء الذي يرسل المطر والندى، الذي صنع كل شيء وخلق كل شيء ومنه تستمد كل حياة. لماذا تعبد هذه الأصنام التي يصنعها الناس بأيديهم ويضل قلب من يعبدها؟ فقال له أبوه: الزم الصمت يا بني لكيلا تجلب على نفسك الأذى. ثم إن إبراهيم حدث أخويه بما حدث به أباه فاستعر غضبهما عليه.
سورة مريم، وسور أخرى:
واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا * إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا * يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا (سورة مريم: 41-43).
إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له (سورة العنكبوت: 16-17).
أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون (الصافات: 95-96).
إبراهيم يحرق بيت الأصنام:
كتاب اليوبيليات: وعندما لم يفلح إبراهيم في هداية قومه تسلل ليلا إلى بيت الأصنام وأشعل فيه النار وأحرق كل ما في البيت، فهب القوم لإنقاذ آلهتهم وكان هاران أخو إبراهيم معهم فاحترق ومات ودفن في أور، فقام تارح أبو إبراهيم وارتحل من أور قاصدا بلاد كنعان وأخذ معه إبراهيم ولوط بن هاران المتوفى، ولكن تارح توفي في حاران ودفن هناك. أما إبراهيم فقد تابع طريقه إلى كنعان بعد أن تلقى وحيا من الرب بذلك وأخذ معه لوطا.
سورة الأنبياء: في الرواية القرآنية، إبراهيم لا يحرق بيت الأصنام بل يحطمها ويجعلها قطعا متناثرة، أما النار فيشعلها قومه ليحرقوه فيها. نقرأ في سورة الأنبياء بعد جدال جرى بينه وبين قومه:
قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين * قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين * وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين * فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون * ... قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون * ... قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين * ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين (الأنبياء: 55-71).
إلى هنا وتنتهي قصة إبراهيم الشاب في سفر اليوبيليات، وننتقل إلى الرواية الرسمية في سفر التكوين.
الضيوف السماويون:
في الأرض التي نجاه الرب إليها ووعده أن يعطيها لذريته ملكا أبديا، عاش إبراهيم ولوط عيشة رغدا، فأقام إبراهيم في حبرون (= الخليل). أما لوط فقد استقل عنه وأقام في شرقي الأردن في مدينة سدوم لأن رعاة مواشيه الكثيرة تخاصموا مع رعاة مواشي إبراهيم الكثيرة أيضا. وكانت سارة زوجة إبراهيم عاقرا ولم يرزق منها بولد على الرغم من تكرار الوعد الإلهي له بالإنجاب. فقالت لإبراهيم أن يدخل على جاريتها هاجر ليكون لهما منها ولد، ففعل وحبلت هاجر ووضعت ولدا لإبراهيم دعاه إسماعيل. ولكن سارة بقيت تأمل في أن ترزق بولد إلى أن شاخت هي وزوجها. وأخيرا جاءهما الضيوف السماويون ببشرى الحمل. وهؤلاء الضيوف لم يكونوا سوى الرب يهوه نفسه ومعه اثنان من الملائكة:
سفر التكوين: «وظهر له الرب عند بلوطات ممرا (= اسم مكان فيه شجر بلوط)، وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار، فرفع عينيه وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض، وقال: يا سيد، إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك، ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة، فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون. فقالوا هكذا نفعل كما تكلمت. فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: أسرعي بثلاث كيلات دقيقا سميذا، واعجني واصنعي خبز ملة، ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلا رخصا وجيدا وأعطاه لغلامه فأسرع ليعمله، ثم أخذ زبدا ولبنا والعجل الذي عمله ووضعه قدامهم. وإذ هو واقف لديهم تحت الشجرة أكلوا وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: هي في الخيمة. فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة (أي بعد الوقت اللازم لإتمام شهور الحمل)، ويكون لسارة امرأتك ابن. وكانت سارة تستمع من وراء باب الخيمة، وكان إبراهيم وسارة متقدمين في الأيام وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء، فضحكت سارة في باطنها قائلة: أبعد فنائي يكون لي تنعم وسيدي قد شاخ؟ فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة ابن. فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك، فقال: لا بل ضحكت» (سفر التكوين، 18: 1-15). بعد ذلك يمشي إبراهيم مع ضيوفه ليشيعهم فيقول له الرب إنه عازم على إهلاك مدينتي سدوم وعمورة لأن خطيئتهم قد عظمت جدا، فراح إبراهيم يتوسط لدى الرب لكيلا يهلك البار مع الأثيم، ولكن جهوده راحت أدراج الرياح.
سورة هود وسورة الذاريات: ترد هذه القصة بجميع عناصرها ولكن بالأسلوب القرآني المختزل، وذلك في سورتي هود والذاريات. ولكن زوار إبراهيم كانوا ملائكة وعندما قدم إليهم الطعام رأى أن أيديهم تمتد إليه ولكنها لا تصل، فخاف منهم ولكنهم طمأنوه وكشفوا له عن هويتهم، وعن السبب الذي من أجله أتوا:
ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ (= مشوي على الحجارة الحارة)
فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط * وامرأته (= سارة)
قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب * قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد * فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى (راح)
يجادلنا في قوم لوط * إن إبراهيم لحليم أواه منيب * يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود (سورة هود: 69-76). (س):
نلاحظ هنا أن امرأة إبراهيم قد ضحكت قبل أن تسمع البشارة بالحمل، في الوقت الذي كان عليها أن تضحك بعد سماعها! (ج):
نعم، ولا تفسير عندي لذلك. وقد انتبه المفسرون لهذه النقطة وقال بعضهم إنها شعرت بالسعادة لسماعها بأنهم أرسلوا لقوم لوط لعقابهم. على أننا نراها في سورة الذاريات تلطم وجهها بكفيها دون أن تضحك:
هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون (= لا نعرفهم)
فراغ (= مال)
إلى أهله فجاء بعجل سمين * فقربه إليهم قال ألا تأكلون * فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم * فأقبلت امرأته في صرة (في جلبة)
فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم * قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم (الذاريات: 24-32). (س):
لماذا قال في سورة هود:
فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ؟ البشارة تكون بالابن وليس بابن الابن. أم هل المقصود هنا أن إسحاق ويعقوب هما ولدا إبراهيم رزق بهما على التوالي؟ بينما تقول المعلومة التوراتية إن يعقوب هو ابن إسحاق. (ج):
هذه نقطة غامضة في النص، والآيات الأخرى التي يرد فيها ذكر إسحاق ويعقوب لا تزيل الغموض ومنها:
وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا (سورة مريم: 49).
ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته (سورة العنكبوت: 27).
ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين (سورة الأنبياء: 72).
ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا (سورة الأنعام: 84). إن الصيغة التي ورد فيها ذكر الاسمين يمكن أن يفهم منها بقوة أن إسحاق ويعقوب هما ابنان لإبراهيم رزق بهما على التوالي؛ بحيث يكون إسحاق هو الابن الأكبر ومن ورائه يعقوب الأصغر. وقد قال بذلك بعض المفسرين؛ فمثلا نقرأ في تفسير الجلالين للآية 84 من سورة الأنعام:
ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ... إلخ. وهنا لا بد من القول بأن سلسلة نسب الأنبياء في القرآن لا تتطابق تماما مع سلسلة نسب الأنبياء في التوراة. نقرأ على سبيل المثال في سورة الأنعام بقية ما أوردناه منها في الأعلى:
ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته (أي إبراهيم)
داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين (الأنعام: 84). هذه الآية تجعل أيوب من نسل إبراهيم عن طريق يعقوب، ولكن أصل أيوب في التوراة مجهول تماما، ومؤلف سفر أيوب لا يربطه بأحد من أولاد يعقوب، ويقول في مطلع نصه: «كان رجل في أرض عوص اسمه أيوب، وكان الرجل كاملا ومستقيما يتقي الله ويحيد عن الشر» (أيوب، 1: 1). وأرض عوص تقع في صحراء أدوم الصخرية الممتدة من جنوب البحر الميت إلى خليج العقبة؛ فهي أقرب إلى جزيرة العرب منها إلى فلسطين، يضاف إلى ذلك أن أيوب لم يذكر خارج السفر المعروف باسمه إلا مرة واحدة وبشكل عابر في سفر حزقيال، (14: 14). كرجل بار إلى جانب دانيال ونوح. (س):
بعد أن أخفقت وساطة إبراهيم في إنقاذ مدينة سدوم، ماذا فعل الضيوف السماويون؟ (ج):
بعد أن شيع إبراهيم ضيوفه وفق الرواية التوراتية، يختفي الرب من بقية القصة بينما يتابع الملاكان اللذان كانا برفقته مسيرتهما إلى سدوم. وهنا يستأنف التناص بين الروايتين القرآنية والتوراتية:
سفر التكوين:
جاء الملاكان إلى سدوم مساء وكان لوط جالسا في باب سدوم، فلما رآهما قام لاستقبالهما وسجد إلى الأرض بوجهه، وقال: يا سيدي، ميلا إلى عبدكما واغسلا أرجلكما ثم تبكران وتذهبان في طريقكما. فقالا: لا، بل في الساحة نبيت. فألح عليهما جدا فمالا إليه ودخلا بيته، فصنع لهما ضيافة وخبزا وفطيرا فأكلا (التكوين، 19: 1-3).
سورة هود:
ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم (= أصابه منهم سوء وضجر)
وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب (سورة هود: 77).
فلقد جاء الملاكان في أحسن صورة بشرية؛ ولذلك فقد توقع لوط أن رجال المدينة اللوطيين سوف يطلبونهما منه إذا حلا في بيته.
سفر التكوين:
وقبلما اضطجعا أحاط بالبيت رجال المدينة، فنادوا لوطا وقالوا له : أين الرجلان اللذان دخلا إليك الليلة؟ أخرجهما إلينا لنعرفهما (= فعل الفاحشة) (التكوين، 19: 4-5).
سورة هود:
وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات (هود: 78).
سفر التكوين:
فخرج إليهم لوط وقال: لا تفعلوا شرا يا إخوتي. هو ذا لي ابنتان لم تعرفا رجلا، أخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم، وأما هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئا لأنهما دخلا تحت سقف بيتي.
سورة هود:
قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد (هود: 78).
سفر التكوين:
قال الرجلان للوط ... إننا مهلكان هذا المكان ... قم خذ امرأتك وابنتيك الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة ... ولا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كل الدائرة (التكوين، 19: 12-17).
سورة هود:
قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد (هود: 81).
سفر التكوين:
وإذا أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى بلدة صوغر فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عند الرب، ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح (التكوين، 19: 23-26).
سورة هود:
إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب * فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود (هود: 81-82).
ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم .
إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين (سورة العنكبوت: 33). (س):
موسى، الشخصية الرابعة التي اخترتها لعرض التناص، يدعى في التقاليد الإسلامية كليم الله؛ أي الذي كلمه ربه دون واسطة ملاك. هل يوجد في التوراة والقرآن ما يدل على أصل هذا اللقب؟ (ج):
لقد كلم الله في التوراة شخصيات عديدة دون حجاب، كما رأينا في زيارة الضيوف لإبراهيم، كما كلم يعقوب عند مخاضة نهر يبوق ورآه رؤية العين؛ ولذلك عندما غادره: «دعا يعقوب اسم المكان فنيئيل، قائلا لأني نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسي» (سفر التكوين، 32: 30). أما في القرآن فإن رؤية الله مستحيلة على الأنبياء:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء (سورة الشورى: 51). أي إن الله إما أن يضع الكلام في قلب النبي دون صوت، أو يكلمه من حيث لا يراه فيسمع صوته كما حدث لموسى، أو يرسل الملاك جبريل كوسيط للوحي. وقد أكدت الآية الكريمة 164 من سورة النساء ذلك:
وكلم الله موسى تكليما . (س):
موسى هو النبي الأكثر حضورا في القرآن الكريم؛ ولذلك فمن المتوقع أن يبلغ التناص ذروته فيما يتعلق بأخباره. (ج):
موسى هو النبي الأكثر حضورا في التوراة أيضا، ومعه يبتدئ تاريخ الإله يهوه الذي تحول من إله بركاني معتزل في صحرائه، إلى إله لشعب اختاره ليكون إلها له من بين كل الشعوب، ووعده بالمقابل أن يقوده إلى أرض كنعان ليعطيها لهم ميراثا أبديا. وفي أول تجل له إلى موسى أعلن عن اسمه الجديد يهوه، وقال له إن الأولين من آباء بني إسرائيل لم يعرفوه بهذا الاسم ولا بغيره؛ فلقد كان إله أولئك الآباء الأولين إله مجموعة رعوية بسيطة يحرص على أمنها ورخائها، ويدخل في علاقة حميمة مع أفرادها، يظهر لهم ويكلمهم ولا يستنكف عن تأدية أصغر المهام لهم. أما هذا الإله فعلى الرغم من قربه المكاني من قوم موسى، إلا أن ذلك القرب لم يخلق لديهم إحساسا بالحميمية معه كما كان حال الآباء مع إلههم، وإنما ولد لديهم إحساسا طاغيا بحضور قدسي ينطوي على تهديد دائم، حضور لا يمكن الاطمئنان إليه وإنما الخوف منه، وهذا الخوف لا يقتصر على كونه رهبة من هوية ماورائية غامضة، وإنما يتعدى ذلك إلى توقع انبثاقها في عالم الواقع بأكثر الأشكال انفلاتا، وإحداثها أكثر أشكال الرعب هولا.
وعلى الرغم من أن يهوه اختار إسرائيل شعبا له ووعده بإخراجه من مصر حيث كان مستعبدا لفرعون، إلا أن هذا الشعب لم يقبل هذه الألوهة التي فرضت عليه عبودية أقسى من العبودية لفرعون. وقد أعلن هؤلاء عن عدم رغبتهم في ذلك التحرير المزعوم منذ اليوم الأول لهروبهم من مصر، فعندما أدركهم فرعون وجنوده عند البحر صرخوا وقالوا لموسى : «أمن عتم القبور في مصر أخرجتنا لنموت في البرية؟ ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر؟ أليس هذا ما كلمناك به في مصر قائلين دعنا نخدم المصريين فإن خدمتنا لهم خير من أن نموت في البرية؟» (سفر الخروج، 14: 10-12). ولكن يهوه كان مصرا على الالتصاق بهذه الجماعة، وقصة الخروج، بل القصة التوراتية برمتها، لم تكن إلا وصفا للعلاقة المتوترة بين يهوه وشعبه؛ فلقد كانت إسرائيل في عيون يهوه مثل الزوجة الخائنة الزانية، وكان هو بالنسبة إليها مثل الزوج المخدوع على ما ورد في سفر هوشع: 2. أما موسى فقد كان واقعا بين مطرقة يهوه وسندان إسرائيل، وكان يتذمر إلى ربه من هذه المهمة الثقيلة التي ألقاها على عاتقه: «لماذا ابتليت عبدك؟ ولم أنل حظوة في عينيك حتى وضعت أثقال جميع هؤلاء الشعب علي؟» (سفر العدد، 11: 14-12). وبنو إسرائيل كانوا في حالة تذمر دائم على موسى وهارون: «ليتنا متنا في أرض مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل لنشبع، فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع» (سفر الخروج، 16: 3). كما أن يهوه بدوره يتذمر على الشعب لدى موسى: «حتى متى يهينني هذا الشعب، وحتى متى لا يصدقون بجميع الآيات التي عملت في وسطهم؟ إني أضربهم بالوبأ وأبيدهم» (سفر العدد، 14: 11-12).
هذا المأزق الذي وجد موسى فيه نفسه، جعل منه «بطلا تراجيديا» بمصطلح الدراما الإغريقية، بطلا يصارع قدره ليخفق في النهاية؛ فقد حكم الرب عليه وعلى أخيه هارون بالموت قبل الوصول إلى الأرض الموعودة بسبب خطيئة طقسية ارتكبها، ولم يشفع له كل عمله الذي عمل في خدمة الرب. وهكذا مات هارون قبل الوصول إلى شرقي الأردن: «وكلم الرب موسى وهارون في جبل هور على تخم أدوم قائلا: خذ هارون وأليعازر ابنه واصعد بهما إلى جبل هور، واخلع عن هارون ثيابه والبس أليعازر إياها، فيضم هارون ويموت هناك، فمات هارون هناك على رأس الجبل» (سفر العدد ، 20). أما موسى فقد أمهله الرب حتى وصل بجماعته إلى ضفة نهر الأردن، وهناك أصعده إلى جبل نبو وأراه الأرض الموعودة على الضفة الغربية للنهر وقال له: «هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قائلا لنسلك أعطيها، قد أريتك إياها بعينيك، ولكن إلى هناك لا تعبر. فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب بأمر الرب ودفنه في الوادي في أرض مؤاب ولم يعرف أحد قبره إلى هذا اليوم» (سفر التثنية، 34: 1-9). (س):
لم أفهم جملة «ودفنه في الوادي» من الذي دفن موسى؟ (ج):
صعد موسى إلى الجبل وحده، ولم يكن هناك غيره؛ ولذلك فإن الرب هو الذي قتله وهو الذي دفنه؛ ولذلك لم يعرف أحد قبره. (س):
هذا الحيز الذي شغلته أخبار موسى في التوراة وفي القرآن الكريم ربما يعدنا بحيز واسع من التناص بين الكتابين! (ج):
قصة موسى في التوراة طويلة جدا وتستغرق أربعة أسفار هي: الخروج واللاويين والعدد والتثنية، ولكن القرآن بأسلوبه الموجز حافظ على التناص معها في عناصرها الرئيسة جميعا، وذلك من ميلاد موسى وحتى وصوله إلى أطراف كنعان، عندما رفض بنو إسرائيل القتال وقالوا له: «اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون.» وسنتابع فيما يأتي القصة في النصين حتى منتصفها تقريبا.
مولد موسى:
الرواية التوراتية: «ومات يوسف وكل إخوته وجميع ذلك الجيل، وأما بنو إسرائيل فقد أثمروا وتوالدوا وكثروا جدا. ثم قام ملك لم يكن يعرف يوسف فقال لشعبه: هلم نحتال لئلا ينمو هؤلاء فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من الأرض. فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم فاستعبد المصريون بني إسرائيل ... ونما الشعب وكثر جدا ... ثم أمر فرعون جميع شعبه قائلا: كل ابن يولد لهم تطرحونه في النهر، لكن كل بنت تستحيونها. وذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي، فحبلت المرأة وولدت ابنا، ولما رأت أنه حسن خبأته ثلاثة أشهر، ولما لم يمكنها أن تخبئه بعد أخذت له سفطا من البردي وطلته بالحمر والزفت ووضعته بين الحلفاء على حافة النهر، ووقفت أخته من بعيد لتعرف ماذا يفعل به. فنزلت ابنة فرعون إلى النهر لتغتسل وكانت جواريها ماشيات على جانب النهر، فرأت السفط بين الحلفاء فأرسلت أمتها وأخذته، ولما فتحته رأت الولد وإذا هو صبي يبكي، فرقت له وقالت هذا من أولاد العبرانيين. فقالت أخته لابنة فرعون: هل أذهب وأدعو لك امرأة من العبرانيات لترضع لك الولد؟ فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي. فذهبت ودعت أم الولد. فقالت لها ابنة فرعون اذهبي بهذا الولد وأرضعيه لي وأنا أعطيك أجرتك، فأخذت المرأة الولد وأرضعته، ولما كبر جاءت به إلى ابنة فرعون فصار لها ابنا» (سفر الخروج، 2: 1-10).
سورة القصص:
طسم * تلك آيات الكتاب المبين * نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون * إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم (= العبرانيين)
يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم (= يدعهن أحياء)
إنه كان من المفسدين * ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض (= العبرانيين)
ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون * وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين * فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين * وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون * وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين * وقالت لأخته قصيه (= تتبعي أثره)
فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون * وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت (= أخته)
هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون * فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون * ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين (القصص: 1-14).
يلي ذلك في الروايتين قصة قتل موسى للمصري ثم هربه إلى صحراء مديان عند خليج العقبة حيث أقام عند كاهن مديان وتزوج من ابنته وأنجب منها. وعندما شعر بأن عودته إلى مصر ستكون آمنة أخذ أهله وعاد عبر صحراء سيناء. وفي الطريق تجلى له الرب.
التجلي في الوادي المقدس:
الرواية التوراتية:
التجلي في الرواية التوراتية يحدث قبل أن يتخذ موسى قراره بالعودة: «وأما موسى فقد كان يرعى غنم حميه يثرون كاهن مديان، فساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب، وظهر له ملاك الرب (= شبح الرب) بلهيب نار من وسط عليقة (= شجرة شوكية) فنظر إلى العليقة تتوقد بالنار والعليقة لا تحترق، فقال موسى أميل الآن وأنظر هذا المنظر العظيم، لماذا لا تحترق العليقة؟ فلما رأى الرب أنه مال لينظر ناداه من وسط العليقة وقال: موسى، موسى. فقال: ها أنا ذا. فقال: لا تقترب إلى ها هنا، اخلع حذاءك من رجليك لأن الموضع الذي أنت فيه أرض مقدسة. ثم قال: أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله. فقال الرب: إني رأيت مذلة شعبي الذي في مصر، فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة» (الخروج، 3: 1-8).
سورة القصص وسورة طه:
فلما قضى موسى الأجل (= مدة إقامته في مديان)
وسار بأهله آنس من جانب (جبل)
الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون * فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين (سورة القصص: 29-30).
وهل أتاك حديث موسى * إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى * فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى (= اسم الوادي)
وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري (سورة طه: 9-14).
التكليف بالرسالة:
الرواية التوراتية: «اذهب واجمع شيوخ إسرائيل وقل لهم: الرب إله آبائكم ظهر لي قائلا: إني افتقدتكم وما صنع بكم في مصر، فقلت أصعدكم من مذلة مصر إلى أرض الكنعانيين، إلى أرض تفيض لبنا وعسلا. فإذا سمعوا لك تدخل أنت وشيوخ بني إسرائيل إلى ملك مصر وتقولون له: الرب إله العبرانيين التقانا، فالآن نمضي سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا. ولكني أعلم أن ملك مصر لا يدعكم تمضون» (سفر الخروج، 3: 16-19). «فأجاب موسى وقال: ولكن ها هم لا يصدقونني ولا يسمعون لقولي، بل يقولون لي لم يظهر لك الرب. فقال له الرب: ما هذه في يدك؟ فقال: عصا. فقال: اطرحها إلى الأرض. فطرحها إلى الأرض فصارت حية، فهرب موسى منها. ثم قال الرب لموسى مد يدك وأمسك بذنبها، فمد يده وأمسك به فصارت عصا في يده. ثم قال له الرب أيضا: أدخل يدك في عبك. فأدخل يده في عبه ثم أخرجها وإذا يده برصاء مثل الثلج. ثم قال له: رد يدك إلى عبك. فرد يده إلى عبه ثم أخرجها من عبه وإذا هي قد عادت مثل جسده. (فقال الرب) فيكون إذا لم يصدقوك ولم يسمعوا لصوت الآية الأولى أنهم يصدقون صوت الآية الأخيرة» (سفر الخروج، 4: 1-8).
سورة طه:
إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى * وما تلك بيمينك يا موسى * قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى * قال ألقها يا موسى * فألقاها فإذا هي حية تسعى * قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى * واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى * لنريك من آياتنا الكبرى (سورة طه: 15-22).
هارون:
الرواية التوراتية: «فقال موسى للرب: استمع أيها السيد، أنا لست صاحب كلام منذ أمس ولا أول أمس، بل أنا ثقيل الفم واللسان. فقال له الرب: ... أليس هارون اللاوي أخاك؟ أنا أعلم أنه هو يتكلم، وأيضا ها هو خارج لاستقبالك فحينما يراك يفرح قلبه فتكلمه وتضع الكلمات في فمه ، وأنا أكون مع فمك ومع فمه وأعلمكما ماذا تصنعان، وهو يكلم الشعب عنك وأنت تكون له إلها . وتأخذ في يدك هذه العصا التي تصنع بها الآيات» (سفر الخروج، 4: 10-17).
سورة طه:
قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي * واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري * ... قال قد أوتيت سؤلك يا موسى * ولقد مننا عليك مرة أخرى * ... اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري (سورة طه: 25-43).
وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون * قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا (سورة القصص: 34-35).
بعد ذلك تسير القصة على التوازي في الروايتين، فيما يتعلق بدخول موسى وهارون على فرعون عدة مرات ورفضه إطلاق بني إسرائيل في كل مرة، ثم المصائب التي كان الرب يرسلها على المصريين في كل مرة كان فيها فرعون يرفض إطلاق بني إسرائيل. وأخيرا خروج بني إسرائيل ووصولهم إلى الحدود الشرقية لمصر عند خليج السويس.
عبور البحر وغرق فرعون:
الرواية التوراتية: «فشدد الرب قلب فرعون ملك مصر حتى سعى وراء بني إسرائيل، وبنو إسرائيل خارجون بيد رفيعة، فسعى المصريون وراءهم وأدركوهم، جميع خيل مركبات فرعون وفرسانه وجيشه، وهم نازلون عند البحر ... فلما اقترب فرعون رفع بنو إسرائيل عيونهم وإذا المصريون راحلون وراءهم ففزعوا جدا ... فقال الرب لموسى: ارفع عصاك ومد يدك على البحر وشقه فيدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة ... فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم، وتبعهم المصريون ودخلوا وراءهم ... فقال الرب لموسى: مد يدك على البحر ليرجع الماء على المصريين على مركباتهم وفرسانهم. فمد موسى يده على البحر فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون الذي دخل وراءهم في البحر، ولم يبق منهم ولا واحد» (سفر الخروج، 14: 8-29).
سورة طه وسورة الشعراء:
ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى * فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم * وأضل فرعون قومه وما هدى (سورة طه: 77-79).
فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين (سورة الشعراء: 63-65).
هذه نماذج من التناص بين الروايتين فيما يتعلق بقصص موسى لا يسمح المجال لعرض المزيد منها. (س):
يتردد في النص القرآني اسم هامان بالترافق مع اسم فرعون، فمن هو؟ وماذا كانت وظيفته؟ وهل له ذكر في التوراة؟ (ج):
ورد اسم هامان مع اسم فرعون ست مرات في سياق قصة موسى القرآنية. ويبدو أنه كان وزيرا أول للفرعون أو قائدا عاما لجيوشه، على ما نفهم من قوله:
وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا (سورة غافر: 36-37). ولكن شخصية الوزير القوي المدعو هامان في التوراة لا تظهر في سيرة موسى وفرعون، وإنما في مكان آخر وزمان آخر؛ ففي سفر إستير التوراتي نجده وزيرا للملك الفارسي زركسيس، أو إحشويرش كما يدعى في التوراة، الذي حكم خلال النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد؛ أي بعد أكثر من 700 سنة على العصر المفترض لموسى. وقصته طويلة وتستغرق كامل سفر إستير، ولا أجد داعيا لعرضها هنا. (س):
هل كان موسى من السلالة النبوية التي ترجع إلى إبراهيم وإسحق ويعقوب؟ (ج):
تقول قصة موسى التوراتية في بدايتها إن أباه وأمه ينتميان إلى قبيلة لاوي. وهو أحد أولاد يعقوب الاثني عشر الذين أنجبوا في مصر القبائل الإسرائيلية الاثنتي عشرة. (س):
ومن المفترض أن لاوي كان نبيا لأنه من الأسباط! (ج):
نعم، ولكن الأسباط في التوراة لم يكونوا أنبياء، على ما أشرت إلى ذلك سابقا، وبعضهم قام بارتكاب الفواحش مثل يهوذا سلف السبط الأكثر عددا بين العبرانيين، ورءوبين الابن البكر ليعقوب؛ فرءوبين قام باغتصاب سرية أبيه يعقوب المدعوة بلهة (سفر التكوين، 35: 21-22). ولكي نعرف فداحة هذه الخطيئة علينا أن نذكر أن بلهة كانت قد ولدت ليعقوب ابنين هما دان ونفتالي، وهذا يعني أن رءوبين ضاجع أم أخويه غير الشقيقين، وهما من الأسباط أيضا. أما يهوذا فقد زنى بكنته تامار التي كان قد زوجها لاثنين توفيا من أولاده، فأنجبت له ولدين؛ الأول دعاه فارص، والثاني دعاه زارح (سفر التكوين: 38). وإلى سلسلة نسب فارص ابن الزنا بالكنة ينتمي الملك داود وفق سلسلة نسب يسوع المسيح في الإصحاح الأول من إنجيل متى.
المحور الثامن
إله الغنوصية
(س):
نالت الغنوصية حيزا لا بأس به من اهتمامك، فما هي؟ وكيف تقدمها لمن لا يعرف عنها شيئا؟ (ج):
أعتقد أن الغنوصية ستبدو مألوفة للكثيرين إذا قلت إنها طريقة صوفية اشتد عودها خلال القرون الميلادية الأولى في مصر وسورية، ومنها شعت نحو أقطار بعيدة، فوصلت إلى الصين شرقا وإلى فرنسا غربا. كما أنها تمازجت مع المسيحية واليهودية، ثم مع الإسلام منذ مطلع القرن الرابع الهجري. (س):
ولكن مصطلح الصوفية لا يعني شيئا واحدا للجميع، فما هو تعريفك له؟ (ج):
الصوفية ليست حكرا على دين بعينه، ولكنها تيار يسري في أديان متباعدة ومتخالفة. نجدها في الهندوسية مثلما نجدها في الثقافة اليونانية والرومانية، وفي الثقافة الشرق أوسطية. وهي تقوم على فكرة جوهرية مفادها أن روح الإنسان هي قبس من روح خالقه، ولكن الإنسان جاهل بهذه الحقيقة، وهذا الجهل يبقي الروح أسيرة في دورة الحياة والموت تنتقل من جسد إلى آخر إلى ما لا نهاية، ولكن الإفلات من إسار هذه الدورة ممكن عندما تتوصل هذه الروح من خلال فعالية العرفان إلى اكتشاف أصلها وموطنها الحقيقي، وتغدو مهيأة للانعتاق. وفعالية العرفان التي أشير إليها هنا تدعى باللغة اليونانية
Gnosis ، ومنها جاءت تسمية
Gnosticism
أي الغنوصية. وهذه الفعالية العرفانية ليست فعالية عقلية بل فعالية روحانية وتجربة باطنية تقود إلى معرفة الله في أعماق النفس، وعلى حد قول المتصوفين المسلمين: «من عرف نفسه عرف ربه.» وهم يتداولون حديثا قدسيا يقول: «ما وسعتني سمائي ولا أرضي، ووسعني قلب عبدي المؤمن.» (س):
هل يمكننا إذن تعريف التصوف بأنه المعرفة القلبية بالله؟ (ج):
نعم، وأكثر من ذلك. إنه فتح قناة تواصل مباشر مع الله، ومن يبلغ هذه الدرجة يغدو وليا عند محيي الدين بن عربي الذي يرى أن مرتبة الولاية تلي مرتبة النبوة في سلم الارتقاء الروحي الإنساني؛ فالمتصوف لا يقنع بدين العامة لأنه دين براغماتي سطحي؛ ففي الإسلام مثلا يتوجب على المسلم أن يؤمن بالله وملائكته ورسله وباليوم الآخر، وبالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى. هذا الإيمان الذي هو نوع من الإقرار يجب أن يتمم بالأعمال وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. ومن قام بهذا كله حجز لنفسه مقعدا في الجنة واتقى عذاب النار. أما المتصوف فإن جنة الله وناره لا تعنيه في شيء، وهو في علاقة حب مع الله تحكمها الآية الكريمة القائلة:
يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه (الانشقاق: 6). والكدح هنا هو كدح روحي يرتقي خلاله المريد عبر مراتب من المعرفة توصله أخيرا إلى ملاقاة ربه عندما تنكشف بصيرته ويغدو بالمصطلح الصوفي عارفا بالله. ورحلة الكدح هذه تكتنفها الأسرار ولا يعرف تفاصيلها إلا من هم في الداخل. (س):
هل يوجد في القرآن ما يؤيد السعي الصوفي كما شرحته؟ (ج):
هناك آيات عديدة أذكر منها:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم (فصلت: 53). فالله ظاهر في خلقه وباطن في داخل النفس الإنسانية؛ فأهل الظاهر يرونه في الآفاق، أما أهل الباطن فيرونه في داخلهم. وأيضا:
ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (ق: 16). فالله أقرب إلى الإنسان من ذلك الشريان الذي يصعد في الرقبة لينقل الدم إلى الرأس؛ أي إنه أقرب إليه من جسده، وهذا يعني أنه وروح الإنسان شيء واحد. هذه الصلة بين روح الإنسان وروح الله تقر بها جملة في قصة خلق آدم تجاهلها الإسلام الرسمي حتى الآن وكأنها لم ترد في القرآن على الرغم من تكرارها في ثلاث سور؛ فبعد أن صنع الله جسد آدم من تراب الأرض نفخ فيه من روحه:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (الحجر: 29).
ثم سواه ونفخ فيه من روحه (السجدة: 9).
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (ص: 72). فروح الإنسان من روح الله؛ ولهذا السبب دعا الملائكة إلى السجود له. (س):
لماذا تم التغاضي عن هذه الحقيقة الناصعة؟ (ج):
لأن الإنسان غافل عن حقيقة نفسه، وهو لا يتوصل إليها إلا بالكدح، فمن عرف نفسه عرف ربه، ومن لم يعرفها عاش وراء حجب الجهل. هذه الآية لم تفهم لأن البشر هم في نوم الغفلة ورقدة الجهالة، على حد تعبير رسائل إخوان الصفا التي أسست للغنوصية الإسلامية، وعلى من توصل إلى الاستفاقة من نوم الغفلة هذه ألا يبوح بسر الصوفية؛ ولذلك قال الحلاج:
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
وكذا دماء البائحين تباح
وهذا السر لا يتوصل إليه إلا من بلغ أعلى درجات الكدح الروحي وصار التماهي بين روحه والروح الإلهية حالة ماثلة في الوجدان. وهذا ما عبر عنه الحلاج في قوله:
رأيت ربي بعين قلبي
فقلت من أنت؟ قال أنت
وقال أبو يزيد البسطامي:
أشار سري إليك حتى
فنيت عني ودمت أنت
محوت اسمي ورسم جسمي
سألت عني فقلت: أنت
هذه الوحدة في الهوية بين العبد الواصل والمعبود الموصول، تشعل في الداخل حالة وجد تلتهب جذوتها وقد تدفع بالواصل إلى إباحة السر، وهذا ما حصل للحلاج عندما صرخ أمام شهود: أنا الحق. فحوكم وصلب على الرغم من أنه لم يفعل سوى التنبيه إلى حقيقة وردت في كتاب الله. (س):
ذكرت منذ قليل أن رسائل إخوان الصفا هي التي أسست للغنوصية الإسلامية، على الرغم من أن الحركة الصوفية في الثقافة الإسلامية سابقة على رسائل الإخوان! (ج):
أرجو ألا يفهم من كلامي أني أجعل مصطلح الصوفية معادلا لمصطلح الغنوصية. كل ما أردته من هذه المقدمة هو شرح مصطلح غير مألوف في الثقافة العربية هو الغنوصية من خلال مصطلح مألوف هو الصوفية. فالصوفية الإسلامية حركة غنوصية ، ولكنها لا تختصر الغنوصية؛ فالغنوصية عباءة فضفاضة تنضوي تحتها كما أسلفت الطوائف العرفانية التي نشأت في المشرق العربي خلال القرون الميلادية الأولى وهي الغنوصية الكلاسيكية، وكذلك الصوفية الإسلامية، وإخوان الصفاء، والطوائف الإسلامية ذات الطابع الفلسفي مثل الإسماعيلية والنصيرية والدرزية. وبما أن موضوعنا هنا هو الغنوصية الكلاسيكية بالدرجة الأولى، فسوف أبدأ بتقديم تعريف عام بهذه الشيعة الدينية.
فالغنوصية ليست دينا بالمعنى التقليدي المتعارف عليه، بمعنى أنها لم تطور أيديولوجيا دينية وعقائد ثابتة، ولم يكن لها معابد أو كهنة أو كتب مقدسة، وإنما بقيت على شكل طوائف دينية أشبه بالطرق الصوفية الإسلامية التي تتبع كل طريقة منها شيخها. وهذه الطوائف لم تتصارع، ولم يستبعد بعضها بعضا، ولم يعتبر أي منها نفسه قيما وحيدا على الإيمان الغنوصي، وإنما تعاونت وأغنى بعضها بعضا، ووجدت في التنوع إثراء لفكرها المشترك. أما عن مصادرها فيبدو أنها تأثرت بشكل رئيسي بالرسائل الهرمزية، وهي عبارة عن ثلاث عشرة رسالة منسوبة إلى هرمز مثلث العظمة، أو مثلث الحكمة كما يدعى في الغنوصية الإسلامية، وهو شخصية غير تاريخية. وهذه الرسائل كانت متداولة في الحلقات الإيزوتيرية السرانية خلال القرن الأول الميلادي، وهي تركز بشكل خاص على مثنوية الإنسان وانقسامه إلى جسد يمثل كل ما هو مادي ومظلم وفان، وإلى روح تتطابق مع العقل وتمثل كل ما هو نوراني وحقيقي وخالد، وهذه الروح مدعوة دوما من قبل الله المدعو بالأب الكلي للالتحاق بعالمه الروحاني الأعلى، وما على الإنسان سوى الاستجابة إلى دعوة الله من خلال معرفة نفسه. نقرأ في رسالة بيوماندريس على سبيل المثال: «إن من عرف نفسه حصل على الخير الأسمى، أما من أضلته الرغبات وحب الجسد فسوف يتيه في ظلمات عالم الحواس ويذوق الموت ... إن الله أب للجميع، وهو النور والحياة، فإذا عرفت أنك مجبول من النور والحياة فسوف تعود إلى النور والحياة.» (س):
هل يمكننا القول إذن بأن الغنوصية نشأت في وسط وثني ثم انتقلت بعد ذلك إلى المسيحية؟ (ج):
يبدو أن الأمر كذلك؛ فأول غنوصي تذكره المصادر المسيحية التي تصدت لنقد الغنوصية كان سوريا من مدينة السامرة الفلسطينية عندما كانت حافلة بالشيع الدينية، وهو سمعان ماجوس أو سمعان الساحر كما يشار إليه في سفر أعمال الرسل في كتاب العهد الجديد. وقد عاصر سمعان يسوع المسيح وورد ذكره في سفر أعمال الرسل باعتباره ساحرا أدهش الناس بسحره فتبعوه ولقبوه بقوة الله العظمى (أعمال، 8: 9-13). أما عن أفكار سمعان هذا فنعرفها عن طريق المؤلفين المسيحيين الذين تصدوا لنقد الغنوصية؛ فهو يقول، وفق ناقده هيبوليتوس، بأن الله هو قوة أزلية موحدة وغير متمايزة، منغلقة على نفسها في صمت مطلق. ثم إن هذه القوة اتخذت شكلا وانقسمت على نفسها، فظهر العقل
Nous
وهو مذكر، وعن العقل ظهرت الفكرة إينويا/
Enoin
وهي مؤنث. وبعد ذلك أنتجت إينويا قوى ملائكية عملت من خلالهم على صنع العالم المادي، وبذلك انشطرت الألوهة إلى قسم علوي هو عالم الأب الأعلى وهو عالم روحاني، وقسم سفلي هو عالم المادة. ولكن إينويا بعد ذلك فقدت السلطة على القوى التي نتجت عنها وصارت أسيرة لها ولا تستطيع الرجوع إلى الآب. ثم ظهر سمعان ماجوس كتجسيد لله على الأرض لكي يحرر إينويا من قيودها، ويقدم الخلاص من العالم المادي لكل من يتعرف عليه بصفته هذه من البشر. وقد كان لسمعان عدد من التلامذة السوريين أشهرهم دوتيسيوس وميناندر. (س):
نلاحظ هنا ظهور فكرة جديدة على العقائد الشرق أوسطية وهي عدم مسئولية الله عن خلق العالم، واضطلاع ألوهة أخرى بهذه المهمة، فما مبعث هذه الفكرة؟ (ج):
العالم المادي نقيض الله؛ فالله كمال والمادة نقص، والله خير مطلق والشر يعشعش في نسيج المادة، والله نور صاف والمادة كثيفة كتيمة، والله أزلي أبدي والمادة مخلوقة ثم فانية؛ ولذلك لا يمكن أن يكون العالم قد نتج عن الله إلا من خلال وسائط. (س):
وهل فكرة الفصل بين الله المتعالي عن المادة والإله الخالق هي فكرة مشتركة بين الطوائف الغنوصية كلها؟ (ج):
نعم، ولكنها لم تعالج بالطريقة نفسها؛ ففي الغنوصية المسيحية هنالك فصل تام بين الله/الآب النوراني الأعلى وبين الديميرج، وهي كلمة يونانية تعني الإله الخالق. وهذا الديميرج الذي صنع العالم هو الإله التوراتي يهوه، وهم يطابقون بينه وبين الشيطان أمير هذا العالم كما يلقب في الأناجيل؛ لأن العالم شر ومن صنعة الشرير. أما في الغنوصية الإسلامية فإن الإله الخالق هو حالة وسيطة ضمن الألوهة الواحدة نفسها؛ فإخوان الصفا مثلا لا يرون أن العالم شر بطبيعته وإنما ناقص، ونقصه ناجم عن كونه الحلقة الأخيرة من سلسلة الفيض الإلهي؛ فالعلاقة بين الله وما خلق هي علاقة فيض لا علاقة صناعة يدوية؛ فما دون الله فاض عنه مثلما يفيض النور من الشمس أو مثلما يفيض الماء من النبع، وأول ما فاض عن الله جوهر روحاني في غاية التمام والكمال والفضل، فيه صور جميع الأشياء يسمى العقل الفعال، ومن العقل الفعال فاض جوهر آخر هو النفس الكلية، ومن النفس الكلية فاض جوهر آخر هو الهيولى أو المادة الأولى التي توقفت عندها سلسلة الفيض.
ثم إن المادة الأولى قبلت المقدار الذي هو الطول والعرض والعمق فصارت جسما مطلقا وهو المادة الثانية، ثم إن الجسم المطلق قبل الشكل الكروي الذي هو أفضل الأشكال، فكان من ذلك عالم الأفلاك التي أعلاها الفلك المحيط بالكل، يليه فلك الكواكب الثابتة، ففلك زحل، ثم فلك المشترى، ثم فلك المريخ، ثم فلك الشمس، ثم فلك الزهرة، ثم فلك عطارد، ثم فلك القمر، تسع أكر في جوف بعضها بعضا، أما دون فلك القمر فهنالك الأرض أغلظ الأجسام جوهرا وأكثفها جرما، وتتكون من الأركان الأربعة وهي النار والماء والهواء والتراب. وهكذا فإن ما يبدو من نقصان في عالم الأرض الذي يعيش فيه الإنسان، ناجم عن كون هذا العالم هو الحلقة الأخيرة في سلسلة الفيض الإلهي وأكثرها بعدا عن مصدر الفيض. وخلال توالي هذه الحلقات كانت كل حلقة تقصر عن اللحاق بسابقتها وتعجز عن التماثل معها تماما، وصولا إلى أكثر الحلقات نقصا وعجزا وهي هذا العالم المادي الذي نعيش فيه. (س):
هل يمكننا القول إذن إن النفس الكلية هي وسيط الخلق وإنها تلعب دور الديميرج في الغنوصية المسيحية؟ (ج):
إلى حد ما إذا كان لا بد من إيجاد صلة بين المنظومتين؛ فالنفس الكلية هي أداة في الخلق، وهي التي تديم الكون وتبث فيه الحركة، وعندما ينتهي الزمن المحدد لوجود الكون تنسحب النفس منه وتبطل الحركة، وببطلان الحركة يتداعى الكون ويئول إلى الفناء. (س):
أعتقد بأنه سيكون لنا وقفة أخرى مع إخوان الصفا في سياق هذا المحور. والآن نعود إلى أصول الغنوصية المشرقية لنسأل: هل من شخصيات معروفة أخرى إلى جانب سمعان ماجوس ساهمت في تكوين الغنوصية المبكرة؟ (ج):
هنالك شخص آخر لا يخطر ببال أحد هو يوحنا المعمدان. (س):
هل هو نفس الشخصية المذكورة في الأناجيل بالاسم نفسه وفي القرآن باسم يحيى؟ (ج):
هو نفسه، ولكن الأناجيل تنسبه إلى سلسلة الأنبياء اليهود، وتجعل منه الأخير في هذه السلسلة، وتعتبر أن رسالته كانت التبشير بظهور يسوع المسيح. ولكن أخبارا أخرى وصلتنا من عصر يوحنا تفيد بأنه كان معلما غنوصيا وأن سمعان ماجوس نفسه كان تلميذا له، بل كان من أنجب تلامذته، وهذه الأخبار تكتسب مصداقية من خلال وجود طائفة معمدانية في جنوب العراق والمناطق العربية من إيران وهم الصابئة المندائيون. وهذه الطائفة هي الفرقة الغنوصية الوحيدة الباقية حتى الآن من العصور القديمة، وأفرادها يتكلمون الآرامية إلى جانب العربية، والآرامية هي لغة كتبهم المقدسة. أما عن عقائدهم فيقولون إنهم تلقوها من يوحنا المعمدان عندما كانوا يعيشون في فلسطين قبل الحرب اليهودية الرومانية التي تسببت بهجرتهم، وهم يمارسون حتى الآن طقس التعميد بالماء الجاري على سنة يوحنا. ويقوم جوهر العقيدة المندائية على الإيمان بأن نفس الإنسان هي نفحة من روح الله، وهذه النفس ستعود يوما ما إلى باريها وتتحد به في حياة خالدة. وقد حلت النفس، أو نشمتا بلغتهم، في جسد آدم ومعها شيء من جلال موطنها الأصلي وجماله، وفي الوقت نفسه حلت في ذلك الجسد روح الشر المدعوة روها، ولكن من خلال العرفان أو الماندا بلغتهم يستطيع الإنسان اكتشاف أصله السماوي ويصارع الشر في داخله، ويحقق أخيرا الانعتاق من دورة التناسخ ومن عالم المادة. (س):
لماذا دعوا أنفسهم بالصابئة المندائيين؟ وهل هم المذكورون في القرآن الكريم باسم الصابئين؟ (ج):
من الممكن أن يكونوا هم المذكورين في القرآن؛ لأن ذكرهم ورد أكثر من مرة في زمرة الأديان التوحيدية. أما عن معنى التسمية فيجب أن نبحث عنه في لغتهم لا في اللغة العربية؛ فكلمة صابئة مشتقة من الجذر صبأ الذي يعني التطهر بالماء الجاري، أما المندائية فمشتقة من كلمة مندا، التي تعني معرفة أو علما، وتعادل كلمة غنوص في اليونانية. (س):
هذه الغنوصية المبكرة التي نشأت في وسط وثني ثم شقت لنفسها طريقا خاصا، كيف تحولت إلى غنوصية مسيحية؟ (ج):
الغنوصية المسيحية هي التيار الغنوصي الرئيسي الذي عاش طويلا. أما عن نشوئها فلي في ذلك نظرية خاصة لا تتفق مع نظريات بقية الباحثين؛ فأنا أرى أن حلقة فكرية يهودية توسطت بين الغنوصية المبكرة والغنوصية المسيحية، وقد جرى ذلك على مرحلتين؛ ففي البداية نشأت شيعة يهودية ضاقت ذرعا بالمدى الذي بلغه تشخيص الألوهة في التوراة، وتبنت من الكتاب موقفا تأويليا، فقالت بوجود إله آخر إلى جانب يهوه يدعى يوئيل يجلس على عرش قرب عرشه، ويلعب دور الوكيل، وهو الذي تشير إليه نصوص الكتاب بملاك الرب، وقالوا إن كل الصور التشخيصية ليهوه يجب أن تعزى إلى الإله الوكيل. وهذه هي المرحلة الأولى التي وصلتنا عنها أخبار من ذلك العصر. المرحلة الثانية فافتراضية؛ إذ ليس من المستبعد أن تكون هذه الشيعة التي نشأت في الإسكندرية أو غيرها قد طورت مفهوم الإله الوكيل إلى نتيجته المنطقية بأن عزت إليه مهمة خلق العالم، وتصورت وجود إله خفي أعلى يسمو فوق ثنائيات الكون. ومن أجل التخلص من سطوة الشريعة اليهودية التي لم تعد مقبولة في ثقافة عالمية منفتحة مثل ثقافة الإسكندرية، فقد آمنوا بمسيحانية يسوع الذي حرر أتباعه من الشريعة، ثم إن فكرهم التقى بفكر مسيحيين منشقين لم يكونوا راضين عن تفسير الأناجيل لسيرة يسوع، وعن هؤلاء نشأت حلقات المسيحية الغنوصية. (س ):
مع الأخذ بعين الاعتبار ما ذكرت، ألا يمكن أن تكون الغنوصية المسيحية قد تطورت ضمن حلقات مسيحية ؟ (ج):
أستبعد ذلك بسبب توكيد الطوائف الغنوصية المسيحية كلها على نقد الشريعة اليهودية ونبذها، حتى إن بعض المعلمين يرونها وسيلة الديميرج الخالق لإبقاء الإنسان في حجب الجهل التي تمنعه من اكتشاف حقيقة أصله. وفي هذا المجال أذكر ما يروى عن أتباع المعلم باسيليد قولهم: لم نعد يهودا ولم نصبح مسيحيين. (س):
فيما عدا فكرة الديميرج، ما هي الفوارق الأساسية بين المسيحية والمسيحية الغنوصية؟ (ج):
المسيحية القويمة كما تدعو نفسها (من أجل التمييز بينها وبين الهرطقة الغنوصية) تنظر إلى الله على أنه كيان مفارق على كل صعيد، والهوة عميقة بينه وبين الإنسان، ولا يمكن عبورها إلا من خلال الإيمان بيسوع المسيح ربا ومخلصا؛ أي إن المسيح هو شفيع الإنسانية الوحيد لدى الله، وكل علاقة مع الله تمر عبر المسيح. أما المسيحية الغنوصية فترى أن قنوات الاتصال بين الإلهي والإنساني مفتوحة من خلال معرفة النفس التي توصل إلى معرفة الله، وبذلك فإنها تحل العرفان محل الإيمان كوسيلة للخلاص؛ ولذلك فإن النصوص الغنوصية لا تتحدث عن الخطيئة والتوبة، وإنما عن حالة الجهل والنوم التي يكون فيها غير العارفين، وعن حالة اليقظة والاستنارة التي يصير إليها العارفون. ويسوع قد جاء إلى العالم كمعلم روحي وكمرشد على طريق العرفان، ولم يأت ليفدي العالم من الخطيئة الأصلية ويصالح البشرية مع الله. وترى المسيحية القويمة أن يسوع هو ابن الله بطريقة فريدة لن تتكرر؛ ولذلك فإنه يبقى نسيج وحده ومتميزا عن بقية البشر، أما المسيحية الغنوصية فترى أن كل من حقق العرفان يتحول إلى مسيح. وبذلك تبدو الغنوصية أقرب إلى البوذية حيث يغدو المستنير بوذا بعد أن يكتسب البوذوية أو طبيعة البوذا. (س):
هل توافرت لدينا معلومات عن المسيحية الغنوصية وهي في طور التشكل؟ (ج):
لعل أفكار
Marcion ، أو مارقيون كما يدعوه المؤلفون المسلمون، هي المعبر الأوضح عن تلك الحلقة الوسيطة بين المسيحية القويمة والمسيحية الغنوصية؛ فقد كان مارقيون في شبابه عضوا في الكنيسة القويمة، لكنه انشق عنها وأخذ بتكوين عقيدته الخاصة المتلونة بالغنوصية والتي تسببت أخيرا بحرمانه من الكنيسة عام 144م؛ فقد أخذ مارقيون عن الغنوصية فكرة الديميرج، وقال إن خالق هذا العالم ليس الآب السماوي الذي بشر به يسوع المسيح بل يهوه إله التوراة، وهو الذي خلق الإنسان وفرض عليه الشريعة التي كانت بمثابة لعنة. وهذا الإله الذي يقول مارقيون إنه يعرفه حق المعرفة، لا يستحق الطاعة والعبادة التي يطلبها، وهو ليس أبا ليسوع كما يعتقد المسيحيون. أما الآب السماوي الذي يدعوه مارقيون بالإله المتعالي والإله المجهول، فليس له علاقة بكل ما يجري في العالم لأنه ليس صانعه، وهو لم يتدخل في أمور هذا العالم إلا بأن أرسل ابنه يسوع المسيح الذي هبط من السماء إلى هذا العالم التافه وصلب من أجل الإنسان الذي أحبه وأراد له الخلاص. وعلى عكس الغنوصية التقليدية فإن مارقيون لا يعتقد بأن روح الإنسان هي قبس من نور الله بل هي من صنع الديميرج أيضا؛ ولذلك فإن خلاصه يعتمد على الإيمان بيسوع لا على العرفان المحرر. (س):
المسيحية القويمة تستمد أفكارها من الأناجيل الأربعة ومن رسائل بولس، ولكن من أين تستمد المسيحية الغنوصية أفكارها؟ (ج):
يقول المعلمون الغنوصيون إنهم يستندون إلى تعاليم سرية بثها يسوع في حلقة المقربين إليه ولم يعلنها للعامة، وإلى تعاليم سرية أخرى لبولس. وفي الحقيقة فإننا نجد في الأناجيل القانونية كثيرا من أقوال يسوع ذات طابع غنوصي واضح لا سيما في إنجيل يوحنا. وهنالك إنجيل معروف باسم إنجيل توما يقع في نقطة الوسط بين الأناجيل الرسمية والأناجيل الغنوصية، وهو عبارة عن مجموعة لأقوال يسوع بعضها ورد في الأناجيل الرسمية والبعض الآخر ذو طبيعة غنوصية لا تخفي نفسها. (س):
تتحدث هنا عن أناجيل غنوصية، فهل وصلنا منها شيء؟ (ج):
قبل أواسط القرن العشرين لم يكن بين أيدي الباحثين سوى قلة من المخطوطات الغنوصية الأصلية، ولكن في العام 1945م تم العثور على كنز من المخطوطات الغنوصية الأصلية قرب بلدة نجع حمادي بصعيد مصر، وهو عبارة عن 52 نصا بينها معظم الأناجيل الغنوصية التي كنا نعرف عناوينها فقط من خلال المؤلفين المسيحيين الذين تصدوا لنقد الفكر الغنوصي. وكانت هذه المخطوطات محفوظة في جرة فخارية ضخمة مدفونة في التراب، ويبدو أن أصحابها قد أخفوها خوفا من ملاحقة السلطات الكنسية لهم بعد أن صارت المسيحية دينا رسميا للإمبراطورية الرومانية في مطلع القرن الرابع الميلادي، وصار اقتناء النصوص الغنوصية جريمة بحكم القانون، لا سيما وأن الغنوصية كانت في ذلك الوقت قد انتشرت في أوروبا أيضا. (س):
لقد كان انطفاء شعلة الغنوصية إذن نتيجة الاضطهاد الواسع والمنظم الذي قامت به كنيسة روما! (ج):
الأصل في تعريف الجريمة أنها عمل يهدد سلامة الآخرين وأمن الجماعة؛ وبالتالي فإن الفرد يحاكم على عمل قام به أو شرع به، أما في الأيديولوجيات الدينية المغلقة فإن الفرد يحاكم على أفكاره، وغالبا ما تكون المحاسبة على الأفكار أقسى وأشد من المحاسبة على الأعمال، ولقد اضطهد الغنوصيون المسالمون على أفكارهم، ولكن الغنوصية لم تندثر تماما وبقيت حية في جمعيات سرية حافظت على ميراثها، ثم كان لها انتفاضة علنية قوية عندما تشكلت دولة الكاثار أو المتطهرين في جنوب فرنسا، وأعلنت عن هويتها كمسيحية غنوصية، وكانت بمثابة بقعة ضوء في ظلام العصور الوسطى؛ فقد نشط فيها التعليم، ونشطت التيارات الفكرية والفلسفية المختلفة، وعلا شأن الشعر والشعراء، وتعلم الطلاب اللغات اليونانية واللاتينية والعربية. ونظرا لقرب المنطقة من مركز الإشعاع الحضاري في الأندلس، فقد وردتها تأثيرات عربية عن طريق الموانئ البحرية وعبر جبال البيرنيه، ولكن هذه الدولة لم تعمر سوى قرابة قرن ونيف؛ ففي عام 1209م أمر البابا إنوسنت الثالث بتجهيز حملة صليبية قوامها ثلاثون ألف مقاتل وجهها نحو مقاطعة الكاثار أفنت تدريجيا وبعد معارك دامت طويلا معظم سكان المنطقة، ومحت عن الخارطة أرقى ثقافة في عصور الظلام الأوروبية. (س):
أعود إلى إخوان الصفاء لأسأل من هم؟ ومتى ظهروا؟ وأين؟ (ج):
إخوان الصفاء هم جمعية سرية نشطت قيادتها في مدينة البصرة منذ أواسط القرن الرابع الهجري. ونفهم من إحدى رسائلهم أن هذه القيادة تتكون من أربعة أشخاص، وهؤلاء الأربعة منتقون من أربعين، والأربعون منتقون من أربعمائة، والأربعمائة منتقون من أربعة آلاف، ووراء الأربعة آلاف عدد غير محدد من أعضاء هذه المرتبة الأخيرة منتشرون في أنحاء العالم الإسلامي جميعه. وقد تركت لنا هذه الجماعة ميراثا فكريا وروحيا يتمثل في اثنتين وخمسين رسالة تستغرق في الطبعات الحديثة نحو ألفين وخمسمائة صفحة لا نعرف أسماء مؤلفيها، هدفت إلى التأسيس لمذهب إسلامي ذي طابع كوني يستغرق المذاهب كلها ويوحد بينها. وقد ظهرت هذه الرسائل في زمن كانت فيه المذاهب الإسلامية الفلسفية في طور التشكل، فتأثرت بها هذه المذاهب ودخلت أفكار الإخوان في صلب عقائدها، كما أثرت على الفكر الصوفي لا سيما فكر محيي الدين بن عربي. وعلى الرغم من أن الإسماعيليين يتبنون الإخوان ويعتبرون رسائلهم نوعا من الفلسفة الإسماعيلية المبكرة، إلا أن الإخوان لم يكونوا إسماعيليين، ولا أدل على ذلك من نقدهم لمبدأ الإمامة الذي تقوم عليه العقيدتان الشيعية والإسماعيلية. ومع ذلك فإن البنية السامقة للفلسفة الإسماعيلية قامت على أرضية فرشتها رسائل الإخوان التي كانت متداولة قبل ظهور بواكير تلك الفلسفة. (س):
ما هي نقاط الالتقاء ونقاط الخلاف بين فكر الإخوان وفكر الغنوصية؟ (ج):
الروح الإنسانية عند الغنوصيين هي شرارة من النور الإلهي الأسمى تم احتباسها في الجسد المادي. وقد عبر الإخوان عن هذه الفكرة بقولهم إن النفس الجزئية، كما يفضلون تسميتها، هي قوة منبعثة وفائضة من النفس الكلية. وقد أهبطت هذه النفس الجزئية إلى مركز العالم المادي وهو الأرض، واتحدت بالأجسام الجزئية. ويتبع ذلك عند الإخوان أن الإنسان عبارة عن جملة مجموعة من جوهرين متباينين هما جسد مادي منفسد يتحول بعد الموت إلى العناصر التي تشكل منها، ونفس روحانية سماوية نورانية، حية بذاتها وفعالة في الجسد ومستعملة له إلى وقت معلوم، ثم إنها تاركة له وراجعة إلى أصلها السماوي.
وهم يتفقون مع الغنوصية في أن فكاك النفس من أسر العالم المادي وسجن الجسد لن يتأتى لها إلا بمعرفتها لأصلها بعد صحوها من حالة الجهل والنسيان التي آلت إليها عقب ارتباطها بالجسد؛ فالشريعة وحدها لا تكفي عندهم لتحقيق الانعتاق، ولا بد من اقترانها بالكدح المعرفي الذي يحول النفس الغافلة إلى نفس منتبهة مهيأة للانعتاق بعد الموت، ولكن النفوس العارفة التي فارقت أجسادها بالموت لن ترد إليها إثر قيامة عامة للموتى لأن الجسد يسقط ولا يقوم أبدا، ولكنها تبقى سعيدة ملتذة حرة في عالم الأفلاك، بينما تبقى النفوس غير العارفة بعد مفارقة أجسادها حبيسة في العالم المادي الأسفل، فإذا حان وقت دمار العالم انسحبت منه النفس الكلية فبطلت حركته وتهاوى وآل إلى فناء، وحشرت النفوس الجزئية؛ أي اجتمعت بالنفس الكلية واتحدت معها، ثم إن النفس تلتحق بالعقل، والعقل يلتحق بباريه عز وجل.
هذه أهم نقاط اتفاق الإخوان مع الغنوصية التقليدية. أما عن نقاط الاختلاف فإن الغنوصية ترى أن العالم شر ولا سبيل إلى إصلاحه؛ لأنه من صنع الديميرج لا من صنع الآب النوراني الأعلى خالق العوالم الروحانية التي تسمو على العالم المادي. من هنا يأتي رفض الغنوصية للعالم واحتقارها للجسد الذي ينتمي إلى هذا العالم والتنكر لرغباته. أما الإخوان فلا يرون أن العالم شر ولكنه ناقص، ولكنه على نقصه وكونه سجنا للنفوس الهابطة، فإنه يقدم لتلك النفوس فرصة للانعتاق عن طريق المعرفة المنجية؛ فالنفوس إنما تقضي المدة اللازمة في هذا العالم من أجل التعلم والتبصر والارتقاء من أجل الانتفاع بالحياة الثانية. والجسد ليس شرا إلا بالنسبة لأولئك الذين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم مجرد جسد، أما العارفون فإنهم في موقع السادة لأجسادهم لا في موقع العبيد، ويتحول الجسد عندهم، بما فيه من وظائف حسية وعقلية ونفسية، إلى أداة للمعرفة المنجية.
كما تختلف غنوصية الإخوان عن الغنوصية التقليدية في وسائل وأساليب تحقيق المعرفة؛ فبينما تركز الغنوصية على المعرفة الصوفية في معزل عن العالم ومؤثراته، فإن الإخوان يرون أن معرفة النفس لن تتأتى قبل معرفة العالم ومجرياته، ومعرفة الجسد بكل وظائفه؛ لأنه مسكن النفس ووسيلتها إلى الانعتاق؛ من هنا فقد تحدث الإخوان في رسائلهم عن الفلسفة والرياضيات والموسيقى وعلم الفلك، وعن الأرض وبيئاتها الطبيعية وكرويتها وطول قطرها ومحيطها، ووصفوا جسم الإنسان ووظائفه وآليات حواسه. وفي غمار ذلك كانوا يبسطون لمذهبهم ويدعون إليه. هذه الذخيرة المعرفية للإخوان خطفت أبصار الباحثين في رسائلهم، فاعتقدوا أنها مقصودة لذاتها وأشبعوا فروع المعرفة التي تكلم فيها الإخوان بسطا وبحثا وتحليلا، ولكن دون عناية بفهم مذهبهم على أنه مذهب غنوصي لا لبس فيه. (س):
في سياق حديثك عما هو مشترك بين الإخوان والغنوصية، قلت إنهم لا يؤمنون ببعث الأجساد وإنما ببعث الأرواح وخلودها، وهم في هذا، وفي مسائل أخرى عديدة، يطرحون أفكارا لا تتفق مع التفسير الرسمي للقرآن الكريم، أليس كذلك؟ (ج):
نعم، فأفكارهم قد لا تتفق أحيانا مع التفسير الرسمي للقرآن، ولكنها في رأيهم تتفق مع المرامي الحقيقية للنص؛ فالنص القرآني مؤلف من مستويين، مستوى موجه نحو العامة، وآخر موجه نحو الخاصة؛ فالعامة تفهم منه ما شاء لها أن تفهم، وهم أهل الظاهر، والخاصة تفهم منه ما شاء لها أن تفهم وهم أهل الباطن، وفي كل فهم خير لأهله؛ ولذلك فإن إخوان الصفاء يلجئون إلى التأويل من أجل الكشف عن المعنى الباطن لآيات الكتاب كلما كان هناك تعارض بين أفكارهم والمعنى المباشر الظاهر للنص القرآني. ولا أستطيع هنا سوى إيراد نماذج من تأويلاتهم؛ فهم يرون مثلا أن الملائكة الذين خلقهم الله وأوكلهم بحفظ العالم وتدبير الخليقة ليسوا شخصيات روحانية، وإنما هم بعض قوى النفس الكلية منبثة منها في الأجسام كلها التي دون فلك القمر. وهذه القوى تدعى باللفظ الشرعي ملائكة ولكنها تدعى باللفظ الفلسفي قوى طبيعية. وبذلك يكون إخوان الصفاء قد توصلوا إلى مقدمات ما ندعوه اليوم بقوانين الطبيعة. (س):
نلاحظ هنا غلبة التفكير العقلي على التفكير الأسطوري، فهل كانوا على هذه الدرجة من العقلانية دوما؟ (ج):
لقد أعلى إخوان الصفاء من شأن العقل وجعلوه مرشدا وهاديا للإنسان؛ ولذلك فإنهم يرون أن الفلاسفة والحكماء هم ورثة الأنبياء. والإخوان يعلون من شأن التفكير العقلي ويضعونه في مرتبة العبادة، ويرون أن أجود أحوال العامة والجهال الصوم والصلاة وما شاكل ذلك من العبادات، وأن أجود أحوال الخواص التفكر بتصاريف أمور المحسوسات والمعقولات. (س):
هل لدى الإخوان تأويلات أكثر تطرفا مما ذكرت؟ (ج):
من الأفضل أن نقول أكثر عقلانية. نعم؛ فهم لا يرون أن إبليس عبارة عن شخص روحاني ناصب الله العداوة وأقسم بعزته أن يغوي الناس ويدفعهم إلى المعصية، وإنما هو نوازع النفس الشهوانية إذا تغلبت على نوازع النفس العاقلة؛ فهو في داخل الإنسان وليس في خارجه، ويجري من ابن آدم مجرى الدم. وهذا هو معنى الآية الكريمة القائلة:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها (سورة الشمس: 7-10). وليس اندحار إبليس وجنوده في آخر الزمن إلا تعبيرا عن وصول الإنسانية إلى ذروة ارتقائها، وضعف النفس الشهوية وظهور النفس العاقلة عليها.
وأكثر من ذلك، فإن الأوصاف المادية لجهنم على أنها خندق من نار يعذب فيه الله العصاة كلما احترقت أجسادهم عادت إليهم الرطوبة لتحترق ثانية، وكذلك الأوصاف المادية للجنة على أنها بستان فيه من كل الثمرات وأنهار من لبن وعسل وخمر، وأن أجساد أهلها لحمية، وأنهم شبان لا يهرمون وأصحاء لا يمرضون، كلها أوصاف رمزية تصلح للجهال والصبيان؛ لأنها تقرب لأذهانهم ما وعدوا به وتزيد خوفهم من سوء أفعالهم فيتركونها، وتقوي رجاءهم لثواب أعمالهم. وأما من رزقه الله قليلا من التمييز والعقل ونظر في علوم الحكمة فإن ذلك لا يصلح له. (س):
إلى أين تذهب أرواح الموتى قبل نهاية الزمن؟ (ج):
أرواح الصالحين العارفين خفيفة، وهي تصعد إلى عالم الأفلاك حيث تبقى سعيدة ملتذة، كما قلت منذ قليل. أما أرواح الطالحين فثقيلة بأعمالها السيئة؛ ولذلك تبقى حبيسة في العالم المادي الأسفل، وقد سلبت منها كل الحواس التي كانت تنال بواسطتها اللذات الجسمانية؛ فهي ليست مثل الحي الذي يلتذ بالعيش ولا مثل ميت يستريح من العذاب. وفيما عدا ذلك فإن الإخوان لم يقدموا الكثير من الإيضاح، واعتبروا هذا العلم من العلوم الدقيقة الغامضة فلا يباح به لغير العارفين الذين قطعوا شوطا بعيدا في فهم رسائلهم.
هذه الجنة والنار لا تدوم إلى الأبد؛ فقد ورد في القرآن الكريم:
خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك (هود: 107). ولكن السماوات والأرض لا تدوم لأن النفس الكلية سوف تنسحب من العالم في آخر الزمان، وبانسحابها تبطل الحركة ويحدث بوار العالم. عند ذلك يعتق أهل النار وتبطل جهنم الدنيا، وتبعث الأنفس لتلتحق بباريها. (س):
وماذا عن تناسخ الأرواح الذي تقول به كل الأنظمة الغنوصية؟ (ج):
لم يصرح الإخوان بإيمانهم بتناسخ الأرواح، ولكن كثيرا من تعليقاتهم بخصوص رمزية الجنة والنار توحي بأنه جزء من عقائدهم المخفية، لا سيما تكرارهم ذكر الآية القائلة:
سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب . وذلك في معرض وصفهم لأحوال الأرواح التي لم تنعتق. وهم يعنون بذلك في رأيي، أن تلك الأرواح سوف تحل في أجسام جديدة، وكلما بليت هذه الأجسام بالموت بدلوا بها أجساما أخرى. (س):
من كل ما سبق نستنتج أن ما قدمه الإخوان كان بمثابة ثورة تقدمية في الفكر الإسلامي، فهل كان لهذه الثورة حامل بعدهم؟ (ج):
هذا صحيح؛ فقد تنازع في الفكر الإسلامي منذ البداية اتجاهان هما اتجاه العقل واتجاه النقل؛ الأول كان يركز على الإبداع وتحكيم العقل في فهم النص المقدس وتمييز الحديث الصحيح، والثاني يركز على النقل عن السلف الصالح. وقد ابتدأ الاتجاه العقلي مع المعتزلة ثم تابعه من بعدهم إخوان الصفاء، ولكن الثقافة العربية بعد إخوان الصفاء أخذت تدخل تدريجيا في عصر الانحطاط، إلى أن جاء عصر المغول الذي اجتاح المشرق العربي، ودخلت الثقافة العربية بعده في فترة ركود ثقافي ضعفت خلالها حركة الإبداع الحر في الفكر والعلوم والآداب، وعزف الناس عن العلم والتعلم. وقد انعكست حالة الانحطاط هذه على الفكر الديني، وقام ابن تيمية ومن بعده تلميذه ابن القيم الجوزي بصياغة هذه النسخة الرديئة من الإسلام السائد اليوم. (س):
وماذا عن عصر النهضة العربية وما قدمه من إعادة نظر في إسلام ابن تيمية؟ (ج):
ما يدعى بعصر النهضة العربية لم يكن سوى بارقة نهضة سرعان ما انطفأت. لقد أحدث مفكرو عصر النهضة في القرن التاسع عشر نهضة عابرة في الفكر الإسلامي بقيت آثارها إلى أواسط القرن العشرين، وبعد ذلك عاد الفكر إلى أحضان ابن تيمية ثم آل اليوم إلى ما أدعوه بالجاهلية الإسلامية التي يبدو ابن تيمية مقارنة بها مصلحا ثوريا. (س):
نعود إلى ما ابتدأنا به؛ أي الصوفية. ما هو تأثير رسائل إخوان الصفاء على الصوفية الإسلامية؟ (ج):
لقد كان الإخوان أول من قال بوحدة الوجود في تاريخ الفكر الإسلامي. وعلى الرغم من أنهم لم يستخدموا هذا المصطلح، إلا أن نظريتهم في الفيض الإلهي تستدعي قولهم به، فإذا كان العالم قد فاض عن الله فإن وجوده هو امتداد لوجود الله. وسوف أتوقف فيما يأتي عند اثنين من أعلام الصوفية المتأخرة ممن قالوا بوحدة الوجود، وهما عبد الكريم الجيلي المولود في بغداد، ومحيي الدين بن عربي الأندلسي.
يضع الجيلي فكرة التجلي مقابل فكرة الفيض عند إخوان الصفاء؛ فالتعبيران مختلفان والمضمون واحد؛ ذلك أن الألوهة تتجلى على مراتب، وهذا التجلي أمر اقتضاه ظهور الموجودات عنها، وبغير الموجودات تبقى الألوهة ذاتا مستغرقة في نفسها كوجود مطلق لا ظهور فيه لاسم أو نعت أو إضافة. المرتبة الأولى في خروج الألوهة من كمونها وغناها، يؤشر إليها ظهور الممكنات فيها جميعا. فكل ما سيظهر للوجود فيما بعد هو الآن في حيز الممكن الثابت في الذات الإلهية؛ فهنا يتجلى المطلق في نفسه ولنفسه، وتتأمل الألوهة نفسها دون أن تلحقها الاعتبارات والإضافات. هذا التجلي الأول للذات يدعى الأحدية، وهو أول تنزلات الذات من ظلمة العماء إلى نور المجالي. المرتبة الثانية في التجلي بعد الأحدية هي الألوهية، والله اسم لرب هذه المرتبة وهو الاسم الذي يبصر به الحق نفسه ويتوصل الخلق من خلاله إلى معرفته. وكل الأسماء والصفات واقع تحت الاسم الله؛ لأنه لا سبيل إلى معرفته إلا عن طريق أسمائه وصفاته. المرتبة الثالثة هي الرحمانية، وهنا تتجلى الألوهة كقدرة خالقة مظاهر الكون كلها ، ولكن الخلق هنا ليس خلق صانع ماهر وإنما خلق ألوهة تنقسم إلى حق وخلق دون أن تفقد وحدتها الأصلية؛ ذلك أن الوجود خلق من حيث مظاهره، وحق، أو ألوهة مولدة من حيث جوهره. والاسم الظاهر في هذه المرتبة هو الرحمن؛ لأن أول رحمة رحم بها الله الموجودات أن أوجد العالم من نفسه، ولهذا سرى ظهوره في الموجودات ولم يتعدد بتعدد مظاهره، بل هو أحد على ما تقتضيه ذاته الكريمة. آخر تجليات الألوهة هو الربوبية. وهو مختص حصرا بعالم الخلق، والرب اسم لهذه المرتبة. ويقع تحت هذا الاسم كل الأسماء التي يتطلبها وجود المخلوقات، مثل العليم والسميع والبصير والمريد والملك، وغيرها؛ لأن كل واحد من هذه الأسماء والصفات يطلب ما يقيم عليه؛ فالعليم يقتضي المعلوم، والقادر مقدورا عليه، والمريد يطلب مرادا، وما أشبه ذلك.
عند هذه المرتبة يظهر الرب في مخلوقاته، ويناجي الساعي إلى معرفته قائلا: أنت خلاصة الأكوان والمقصود بالوجود والحدثان. تقرب إلى شهودي فقد تقربت إليك بوجودي. لا تبتعد فإني أنا الذي قلت: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. لا تتقيد باسم العبد؛ فلولا العبد ما كان الرب. أنت أظهرتني كما أنا أظهرتك، فلولا عبوديتك لم تظهر لي ربوبية. أنت أوجدتني كما أنا أوجدتك، فلولا وجودك ما كان وجودي موجودا. (س):
أعتقد بأن هذه المناجاة تلخص الموقف الصوفي بأكمله! (ج):
هذا صحيح؛ فالوجود مثل دائرة باطنها حق وظاهرها خلق. وكما تتجلى الألوهة ابتداء من الذات عند مركز الدائرة وانتهاء إلى الربوبية عند محيطها، كذلك يكتشف الإنسان الألوهة من خلال هذه المراتب نفسها وبما يتلاءم مع استعداد كل فرد لوطأة الصلة مع المرتبة؛ فالصلة الأولى بين الحق والخلق تعقد مع المجلى الخارجي، مجلى الربوبية، ومع الاسم الرب الذي هو إله الشرائع. وعامة الناس يبقون عادة عند هذه المرتبة عابدين لله تعالى من حيث اسمه الرب، وفوق هؤلاء هنالك زمرة العارفين الذين يعبدونه من حيث اسمه الرحمن، وفوقهم زمرة المحققين الذين يعبدونه من حيث اسمه الله.
فإذا انتقلنا إلى ابن عربي نجد أن العالم ينشأ عن الله من خلال الفيض الذي قال به إخوان الصفاء؛ فأول ما خلق الله العقل الكلي أو العقل الأول، وهو ما يدعوه أيضا بالروح الكلي وبالقلم، استنادا إلى ما ورد في حديث شريف: «أول ما خلق الله العقل»، وحديث آخر: «أول ما خلق الله القلم»، وهو «الحق» أيضا و«الروح» الوارد ذكرهما في أكثر من آية. ويتجه فعل العقل الذي هو بمثابة القلم إلى النفس الكلية التي هي بمثابة اللوح فينتقش عليها ما سيكون في العالم إلى يوم القيامة. وهذه النفس الكلية هي أول موجود انبعاثي منفعل عن العقل، وهي للعقل بمنزلة حواء لآدم. وكان بين العقل أو القلم، والنفس أي اللوح، زواج معنوي نتج عنه المولود الأول وهو الطبيعة، التي تعادل المادة الأولى ثم الجسم المطلق عند إخوان الصفاء. على أن فيض الله تعالى الذي أظهر الكون إلى الوجود لم يحصل مرة واحدة في بدء الزمن، وإنما له صفة الدوام والاستمرار وإلا قامت الموجودات بقواها الذاتية في غنى عن موجدها وهذا محال؛ فالله خالق على الدوام وفعله دائم في كل لحظة، ولو أنه أمسك تجديد الإيجاد على الموجودات لانعدمت في طرفة عين؛ فالوجود الحق هو لله تعالى، أما وجود ما سواه فمستمد منه في كل لحظة، وفي كل لحظة تفنى الموجودات ثم تستعاد مرة أخرى إلى الوجود، تغيب صورها لتحل محلها صور أخرى فيما يأتي من اللحظات. وعلى الرغم من أن هذه الصور الأخرى تبدو عين الصور الغائبة، إلا أنها جديدة كل الجدة وتلي سابقاتها دون فاصل زمني ملحوظ؛ لأن الذهاب هو في الآن نفسه بقاء لما يظهره التجلي الثاني.
إن كل ما هو موجود في عالم الظواهر عبارة عن مجلى أو مظهر إلهي؛ فالحق يتجلى في الأشياء أي يظهر فيها باسمه «الظاهر» الذي يتجه نحو الخارج، أما اسمه «الباطن» فيتجه نحو الغيب ولا يكون فيه تجل أبدا. أما كيف يتكثر الحق في الأشياء دون أن ينقسم، فإن ابن عربي يستعير من إخوان الصفاء نظريتهم العددية في تفسير ذلك؛ فنسبة الباري من الموجودات كنسبة الواحد من العدد، وكما أن الواحد أصل العدد ومنشؤه، كذلك الله هو علة الأشياء وخالقها وأولها وآخرها. وكما أن الواحد لا جزء له ولا مثل في العدد، فكذلك الله لا مثل له ولا شبه في خلقه. وكما أن الواحد محيط بالعدد كله ويعده، كذلك الله جل جلاله. وأما القول إن الواحد أصل العدد ومنشؤه، فلأن الواحد إذا رفعته من الوجود بطل العدد بارتفاعه، ولكن إذا رفعت العدد لم يبطل الواحد. (س):
وماذا عن الكسور العشرية مثل الربع والنصف؟ ألا تعني أن الواحد يتجزأ؟ (ج):
أبدا؛ لأن النصف هو واحد من اثنين 1 / 2، والربع هو واحد من أربعة 1 / 4، وعلى هذا المثال سائر الكسور. (س):
إن فكرة الوجود عند ابن عربي ليست ببساطة قولنا إن الله والعالم شيء واحد! (ج):
إنها تعني أن الوجود الحق هو لله، أما وجود ما سواه فمستعار من وجود الله. وأكثر من ذلك فإنه وجود خيالي لأنه يتناوب بين الوجود والعدم في كل لحظة، ومتقلب دائما من حال إلى حال. وهو خيال لأنه يخيل إلينا أنه قائم بنفسه ولكنه في حقيقة الأمر ليس كذلك. (س):
هذا القليل الذي عرضته من أفكار الجيلي وابن عربي يثير عندي سؤالا عن العلاقة بين التصوف والفلسفة! (ج):
أنا أرى أن المتصوفة من أصحاب النظم أمثال الجيلي وابن عربي هم فلاسفة في ثياب متصوفة. ولو أن ابن عربي لم يختر منذ البداية طريق التصوف لكان واحدا من أنبغ العقول الفلسفية في تاريخ الحضارة، ولما كان مضطرا إلى التقية في عرض أفكاره مما نجده بشكل خاص في كتاب الفتوحات المكية؛ حيث بلغ الإلغاز في عباراته حدا جعلها أحيانا أشبه بالشيفرة. (س):
ممن كان يتقي ابن عربي؟ (ج):
من أهل الحرف الذين صادروا الإسلام ونصبوا أنفسهم حماة له. لقد عاصر ابن عربي السهروردي صاحب فلسفة الإشراق، وهو متصوف أمر صلاح الدين الأيوبي بقتله في حلب بعد أن رفع إليه شيوخ الإسلام عريضة تتهمه بالكفر، فكان في موته عبرة لأصحاب الفكر الحر ودافعا إلى التزامهم التقية، وذلك عملا بقول يسوع المسيح: «لا تلقوا بدرركم إلى الخنازير؛ لأنها ستدوسها بالأقدام، ثم تنقض عليكم.» (س):
يبدو السهروردي شخصية جديرة بالاهتمام، لماذا لا نعرف الكثير عنه؟ (ج):
هو شهاب الدين السهروردي، الملقب بالحلبي القتيل. وقد اكتسب لقب الحلبي لأن حلب كانت آخر ما استقر به من مدن وفيها قتل. ولد وعاش سنوات طفولته وفتوته في مدينة سهرورد في إيران، وتلقى علومه الأولى في أصفهان، وعندما لم تسعه أصفهان غادر يطلب العلم في بغداد، ثم في قونية وغيرها من مدن السلطنة السلجوقية في الأناضول، وأخيرا استقر في حلب. وهو من أصحاب النظم الصوفية التي جمعت بين الفلسفة والتصوف، وترك لنا نحو خمسين كتابا باللغتين العربية والفارسية، أهمها كتاب حكمة الإشراق الذي لخص فيه فلسفته التي تقوم على الجمع بين التأمل العقلي والعرفان الروحي؛ فقد تبنى المنطق الأرسطي بعد نقده وإكماله، حيث أنزل المقولات العشر إلى أربع، ثم جعل من المنطق الصوري سلما صاعدا إلى عالم الإشراق في منظومة فكرية منسجمة. أما لماذا لم نعرف عنه الكثير، فلأن الغربيين كانوا أكثر اهتماما به من العرب الذين قتلوه ولم يجدوا في فكره غير إلحاد وكفر، ومن هؤلاء بروكلمان، وماسينيون، وكوربان وتلميذه الإيراني الباحث المعاصر سيد حسين نصر. (س):
لماذا يلقى المفكرون الأحرار هذا المصير؟ (ج):
لأنهم يغردون خارج السرب، ولا يتماثلون مع الفكر السائد الذي يلوذ به السواد الأعظم خوفا من الحرية. (س):
هل يخاف الإنسان من الحرية؟ (ج):
الحرية هي أكثر ما يرعب الفرد. وأنا لا أعني بالحرية هنا أن تذهب إلى صندوق الاقتراع لتنتخب من بين المرشحين لهذا المنصب أو ذاك أقلهم غباء. الحرية هي أن تكون فردا يتصل بالجماعة فيما يتعلق بشئونه الحياتية وواجباته الاجتماعية، ولكنه يستقل عنها في تفكيره ولا يقبل منها إلا كل ما يضعه على محك النقد وينجح في الاختبار. وقد قال أحد الحكماء مرة: إذا وجدت نفسك متفقا في الرأي مع الأغلبية، فاعلم عندها أنك على خطأ.
المحور التاسع
صيغ أخرى لمفهوم الله
الوحدانية في التعددية (س):
لقد فهمنا مما سبق أن فكرة الله قد نشأت وتطورت في ثقافة الشرق الأوسط، ووجدت صيغتها التامة في العقيدة الإسلامية، فهل يعني هذا أن بقية ثقافات العالم لم تتوصل إلى صياغة فكرة مماثلة أو حتى مقاربة؟ (ج):
لدينا في الثقافة الهندية مفهوم توحيدي عبر عن نفسه من خلال عقيدة وحدة الوجود في الهندوسية، ولكنه يتميز عن التوحيد الشرق أوسطي في جمعه بين الوحدانية والتعددية الوثنية؛ فالله الذي يدعى براهمان في الهندوسية هو الإله الخفي الذي صدرت عنه الموجودات، ولكنه يتجلى في هذا العالم من خلال كائنات إلهية وهمية يتعبد إليها الناس ويطلبون عونها، ولا يعرفه حق المعرفة إلا من اكتشف أن هذه الآلهة ليست إلا حجابا يستر وجهه ووحدانيته، وسار في طريق المعرفة الباطنية التي تكشف له عن تماثل الروح الإنسانية مع الروح الكونية، وهي المعرفة المحررة التي تقود إلى الانعتاق من عالم المادة. (س):
ولكن الغنوصية قالت أيضا بتماثل النفس الإنسانية مع النفس الإلهية ولم تكن مذهبا في وحدة الوجود. (ج):
في وحدة الوجود الهندوسية لا وجود حقيقيا إلا لله، أما هذا العالم المتغير الدائم الجريان فغير موجود بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهو أشبه بسراب لا قوام له ينجم عن المايا، وهي الطاقة المبدعة لبراهمان التي تنتج ذلك الوهم الكوني. ولما كان براهمان وطاقته شيئا واحدا، فإن الوجود بأسره واحد. (س):
هذه فكرة صعبة على الأفهام العادية. (ج):
سوف تغدو أسهل كلما توغلنا في عقائد الهندوسية. (س):
هل بإمكاننا القول إذن بأن جوهر الهندوسية يقوم على مبدأ وحدة الوجود؟ (ج):
ليست الهندوسية في الحقيقة دينا موحدا يؤمن به كل الهندوس، بل هي مجموعة من الطوائف الدينية التي تختلف في عقائدها وفي طقوسها وفي رؤياها لطريق الانعتاق، ولكنها مع ذلك تتفق جميعا في عدد من المعتقدات التي لا يصح إيمان الهندوسي بدونها، أولها تناسخ الأرواح؛ فالأرواح في أصلها عبارة عن جواهر فردية مستقلة عن بعضها وخالدة، وهي حرة وبدون صفات وواعية، ولكنها غير فاعلة على أي صعيد، ولا تبدأ فعاليتها إلا بعد حلولها في الكائنات الحية. وعندما تبدأ بالفعل والنشاط الحقيقي من خلال الجسد والعمليات العقلية، فإن كلا منها يراكم كارما خاصة به. والكارما بمعناها اللغوي في السنسكريتية هو الفعل أو العمل، ولكنها في سياق العقائد الهندية تعني الفعل وجزاءه سواء أكان ثوابا أم عقابا. إلا أن ما يميز فكرة الثواب والعقاب هنا عن مثيلتها في أديان التوحيد هو أن الجزاء ليس مفروضا من شخصية إلهية ترعى العدل، وإنما يتم بشكل أوتوماتيكي من خلال قانون الكارما الكوني، فإذا كانت الكارما إيجابية عادت الروح إلى التقمص في جسد أعلى، وإذا كانت سلبية تقمصت في جسد أدنى لكي تسدد دينها. هذه الدورة من الفناء والتجدد تتجاوز عالم الإنسان لتشمل عالم الظواهر المادية برمته، والزمن يشبه عجلة تدور على نفسها، كلما بلغت دورة منتهاها فني العالم برمته ثم عاد إلى التشكل من جديد دونما نشدان غاية أو سعي إلى هدف. إلا أن الانعتاق من هذه الدورة السببية ممكن التحقيق وهو بؤرة الحياة الدينية عند الهندوسي. (س):
بين هذه الأفكار التي تجمع الطوائف الهندوسية لا نجد مفهوما واضحا عن طبيعة الألوهة ودورها على مستوى الكون والإنسان. (ج):
هذا صحيح؛ لأن الهندوسية تبدي تحررا من أي دوغمائية تتعلق بطبيعة الألوهة، وجوهر الدين لديها لا يقوم على الاعتقاد بوجود إله واحد، أم عدة آلهة، أم على نكران وجودها على ما نجده لدى بعض المذاهب الهندوسية؛ من هنا فإن الهندوس يتمتعون بخيارات واسعة من المعتقدات والممارسات ينتقون منها ما يريدون، أو يختارون من الآلهة ما يعبدون؛ لذلك فقد تعددت طرق الانعتاق التي يختار الفرد من بينها ما يناسب تكوينه النفسي والفكري والجسدي، وهي ثلاثة؛ أولها طريق المعرفة، وهو الطريق المؤدي إلى معرفة الله معرفة ذوقية اختبارية في أعماق النفس، وذلك من خلال تدريبات روحية خاصة وأسلوب خاص في الحياة يعتمد على الزهد والتنسك وقهر رغبات الجسد، وهذا ما يقوده أخيرا إلى كشف حجب الجهل، جهل النفس الإنسانية بطبيعتها وأصلها، فتنفلت من تلك العجلة الدائمة الدوران وتعود إلى أصلها، ولكن هذا الطريق صعب سلوكه على معظم الناس، وهو يتطلب مقدرات عقلية ونفسية وجسدية لا تتوافر عند الجميع؛ ولذلك، ولمثل هؤلاء، جرى الاعتراف بطريقين آخرين هما طريق الأعمال وطريق التقوى. يقوم طريق الأعمال على تأدية الطقوس لا سيما المنزلية منها، كتلك المتعلقة بالولادة والموت والزواج والحصاد، إضافة إلى تقديم القرابين إلى الآلهة وإلى أرواح الأسلاف، وبهذه الطريقة يكسب المؤمن حسنات ويراكم كارما إيجابية تساعده على الانتقال إلى درجة أعلى في سلم التناسخ. أما طريق التقوى فهو الانقطاع لعبادة إله معين، والدخول في علاقة حب معه، والاستسلام الكامل له، وممارسة الطقوس الواجبة له في المعبد، وبذل العمل الصالح؛ ولهذا يقول الإله كريشنا في ملحمة المهابهراتا عندما يتجلى للمحارب أرجونا: «التصق بي، ضمني بالعقل والقلب، قم بأعمال تسرني، مجدني، اخدمني، هب لي قلبك، اجعلني ملجأك الوحيد، وسأحرر روحك.» (س):
ما هي مكانة عقيدة وحدة الوجود في دين الهند، وكيف نشأت في وسط وثني لا شبيه له من حيث كثرة الآلهة؟ (ج):
هنا لا بد لنا من إلقاء نظرة عاجلة على الكيفية التي تطورت بها الهندوسية خلال تاريخها الطويل الذي يبتدئ مع دخول الجماعات الهندو-أوربية إلى الهند في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد. وقد احتل هؤلاء وادي السند أولا ودمروا ثقافة راقية قديمة قامت هناك قبل ألف عام بتأثير من ثقافة وادي الرافدين، ثم تابعوا ببطء تقدمهم نحو وادي الغانج، ولم يصلوا أقصى الجنوب إلا في بدايات الألف الأول قبل الميلاد. وخلال تقدمهم كانوا يخضعون السكان الأصليين من ذوي البشرة الداكنة. (س):
من هي هذه الجماعات؟ ومن أين جاءت؟ وما سبب تسميتها بالهندو- أوروبية؟ (ج):
هي فرع من الأقوام الذين يدعوهم المؤرخون بالهندو-آريين أو الهندو أوروبيين لأنهم انطلقوا من موطنهم الأصلي في السهوب الأوراسية الواقعة بين آسيا وأوروبا في هجرات جماعية، فوصلت جماعات منهم أولا إلى آسيا الصغرى وأوروبا، وبعد ذلك إلى الهند وإيران. وقد كانت لهم في الأصل لغة واحدة انقسمت بعد تفرقهم إلى عدة لغات، وهي أصل اللغة السنسكريتية المقدسة في الهند ومعظم اللغات الأوروبية المستعملة الآن. وقد حمل هؤلاء معهم إلى الهند ديانتهم التي يدعوها الباحثون اليوم بالفيدية نسبة إلى الفيدا، وهي مجموعة من الأدبيات والأناشيد الدينية دونت بالسنسكريتية في مواطنهم الجديدة بالهند. وقد اتسعت أسفار الفيدا حتى اشتملت على أربع مجموعات ضخمة، ولا أدل على ضخامتها من أن المجموعة المعروفة باسم الرج فيدا احتوت على عشرة آلاف ترتيلة دينية.
وهنا تحضرني حادثة طريفة ذات علاقة بالفيدا؛ فعندما كنت مقيما في الإمارات العربية، طلبت من صديق هندي ذاهب في إجازة إلى موطنه أن يحضر لي معه الرج فيدا معتقدا أنه مجرد كتاب في ثلاثمائة أو أربعمائة صفحة، وعندما عاد دخل إلى مكتبي ومعه علبة ثقيلة ينوء بحملها، فوضعها أمامي قائلا: هذه هي الرج فيدا. وكانت في نحو عشرة مجلدات ضخمة يحتوي كل منها على 400 صفحة، وترتب علي أن أدفع مقابلها ثمنا باهظا لم أكن أتوقعه. (س):
هل جاء هؤلاء معهم بعقيدة وحدة الوجود؟ (ج):
كلا؛ فهذا المفهوم نشأ عن تمازج دين الفيدا مع دين السكان الأصليين؛ فقد كان دين هؤلاء القادمين دينا طقسيا عمليا لا يحتوي على كثير من الأفكار المجردة، وكان القربان الحيواني مركز طقوسهم، ومن خلاله اعتقدوا أنهم قادرون على الحصول من الآلهة على ما يريدون. ومع تقديم القربان، كان الكهنة القائمون عليه يتلون صيغا كلامية سحرية من شأنها أن تضع تحت تصرفهم تلك القوة فوق الطبيعانية التي تجعل الإجراء السحري فعالا.
على أن معتقد الفيدا أخذ بالتبدل عندما تبدل الفاتحون نتيجة اختلاطهم بالسكان، فتشكل خلال الفترة المعروفة بالبراهمانيين معتقد صوفي طورته فئة من الكهنة كانت في الماضي تشرف على طقوس القرابين، وقد دعي هؤلاء بالبراهمانيين، أو البراهمة كما دعتهم المصادر العربية في العصر العباسي؛ فقد أخذ هؤلاء بتكوين مفهوم جديد عن الألوهة، والنظر إلى آلهة الطبيعة المختلفة باعتبارها وجوها لحقيقة كلانية وكينونة خافية هي براهمان، الألوهة غير المشخصة والقدرة الكامنة خلف مظاهر الكون المتبدية . وقد تطور فكر هؤلاء من خلال الأسفار المعروفة باسم البراهمانات (مفردها براهمانا)، وهي عبارة عن تعليقات وشروح على الفيدا كان آخرها كتاب الأوبانيشاد الذي دون في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد وأسس للتصوف الهندي. (س):
كيف تم عبور الهوة الواسعة بين عقيدة تعددية طقسية تجعل من القربان الحيواني صلة بين السماء والأرض، وعقيدة صوفية توحد بين السماء والأرض؟ (ج):
يبدو أن الأمر حصل هكذا؛ فمن خلال تفرغهم للشئون الدينية، وإشرافهم على أداء الطقوس المعقدة المصحوبة بالصيغ السحرية المنطوقة، طور البراهمة مفاهيم عن معنى الطقس وغاياته والقوة الخافية التي تمنحه التأثير والفعالية. فالتضحية ليست قربانا يقدم إلى الآلهة مع الصلاة والشكر، بمقدار ما هي عمل سوي يضع تحت تصرفهم تلك القوة الماورائية السارية في الكون، والتي ينبغي على الآلهة أنفسهم الانصياع لها. وقد دعيت هذه القوة براهمان، وهي كلمة كانت تطلق في الأصل على الصيغ السحرية المستخدمة لاستنهاض القوة ثم تحولت لتصبح دلالة على القوة نفسها. ومع تركيزهم على هذه القوة ومحاولة فهمها، راحوا ينظرون إليها على أنها مصدر كل شيء ومآل كل شيء، وتحول سعيهم من محاولة التأثير فيها إلى التوحد معها. وشيئا فشيئا، أخذت الآلهة الفيدية تفقد شخصيتها وتغدو رموزا طقسية لا أكثر، فأدار الكهنة لها ظهورهم وراحوا يمارسون رياضات روحية باحتساء شراب السوما المخدر الذي لا نعرف كيف كانوا يصنعونه، من أجل التوصل إلى حالة من الوجد، يشعرون معها بذوبان الأنا الفردية بالكل. هذه الحالة التي يختبرها البراهماني هي مقدمة للانعتاق والاتحاد مع براهمان. وهذا الانعتاق كان في البداية وقفا على البراهمة من دون غيرهم. ولكي تؤدي الرياضات الروحية المطلوب منها، كان على البراهماني أن يلتزم نظاما في الحياة يقوم على النسك والتزهد والفقر والعزوف عن متع الحياة الزائلة. (س):
ما طبيعة هذه الرياضات الروحية؟ (ج):
إن عقل الإنسان مشغول على الدوام بالأمور اليومية، وعندما لا يكون مشغولا بها تراه يقفز مثل قرد دائم الحركة من فكرة إلى أخرى دونما غاية؛ ولذلك فإن المهمة الأولى التي يتوجب على السائر في طريق المعرفة القيام بها هي ترويض العقل ووضعه في حالة استرخاء تام لكي يغدو مهيأ لتلقي المعارف العليا ، ويتم ذلك بواسطة اتخاذ جلسة التأمل الباطني التي نراها في التماثيل البوذية عادة، وإبعاد كل الأفكار والصور التي يمكن للعقل أن يتداولها، مع التنفس بطريقة إيقاعية خاصة. ويترافق ذلك مع التركيز على اللحظة الراهنة، فلا ماض ولا مستقبل ولا جريان للزمن، وإنما لحظة أبدية خارج الزمان والمكان. ومع المضي في هذا التدريب اليومي، قد يصل الفرد إلى حالة من الوعي تجعله يدلف إلى عالم الحقيقة فيشعر بومضة يقين مثيرة للفرح ويحصل على الاستنارة التي من شأنها كف الكارما عن فرض تأثيراتها، وتصل دورة التناسخ إلى نهايتها. (س):
هل انتقلت هذه الرياضة الروحية إلى البوذية كما نفهم من كلامك؟ (ج):
هذا صحيح؛ فقد نشأت البوذية المبكرة في حاضنة دينية هندوسية، وبإمكاننا اعتبارها هرطقة براهمانية. (س):
نفهم من كل ما سبق أن براهمان ليس إلها بالمعنى المتعارف عليه لهذه الكلمة، أليس كذلك؟ (ج):
نعم، إنه ليس إلها وبالتالي فهو بلا صفات؛ أي إننا لا نستطيع التحدث عنه على أنه كذا وكذا، بل على أنه ليس بكذا وليس بكذا، ودائما بصيغة النفي لا بصيغة الإثبات. (س):
فكيف يفعل في العالم إذا كان بلا صفات؟ أعني إذا لم يكن: الخالق، القادر، المنعم، وما إلى ذلك؟ (ج):
لقد حلت عقيدة وحدة الوجود مشكلة كيف يمكن لبراهمان الذي لا ماهية له ولا فعل أن ينتج عالما من الصور المرئية والمتغيرة، من خلال قولها بوجود حالين لبراهمان هما حال الخفاء حيث لا أسماء ولا صفات، وحال التجلي حيث تلحق بالألوهة الأسماء والصفات، الأولى براهمان نرغونا، والثانية براهمان ساغونا، وقد حقق براهمان هذه النقلة بين الحالتين بواسطة قوته الخلاقة مايا التي أنتجت الإله الخالق الذي يعيد خلق العالم بعد فنائه في كل دورة. وهذا الإله الخالق هو قناع براهمان الذي يتوجه الناس إليه بالعبادة، وعنده تقف أفهامهم، إلا من شاء اجتياز بحار الوهم والتعرف على ما وراء القناع . (س):
هذا يشبه قول الغنوصيين بوجود الأب النوراني الأعلى الذي لا علاقة له بالعالم، والديميرج الإله الصانع الذي خلق العالم ، أليس كذلك؟ (ج):
هذا صحيح؛ فدروب العقل الإنساني تلتقي كلما افترقت، وقد حل التصوف الإسلامي أيضا، في شقه الفلسفي الذي يمثله عبد الكريم الجيلي ومحيي الدين بن عربي، مشكلة صدور العالم عن ذات الله التي لا صفات لها ولا أسماء من خلال تصورات مشابهة لتصورات وحدة الوجود في الهندوسية. يقول الجيلي في كتابه الإنسان الكامل - على ما أوردت في محور الغنوصية - إن الأصل في الألوهة هو الكمون والغنى عما سواها؛ فذات الله عبارة عن نفسه التي هو بها موجود لأنه قائم بنفسه، وهو وجود مطلق لا ظهور فيه لاسم أو نعت أو إضافة؛ ولذلك ارتفع من حيث الاصطلاح معناه في الكلام، وانتفى أن يدرك للأنام. المتكلم في ذات الله صامت والناظر باهت، ولكن الألوهة تخرج من كمونها وغناها في علاقتها بالعالم وتتجلى على مراتب؛ الأولى هي مرتبة الأحدية التي تظهر فيها الممكنات جميعا ولكن بحكم البطون، فكل ما سيظهر للوجود فيما بعد كان في حيز الممكن الثابت في الذات الإلهية لا في حيز الوجود المتحقق؛ فهنا يتجلى المطلق في نفسه ولنفسه، وتتأمل الألوهة نفسها دون أن تلحقها الاعتبارات والإضافات. والثانية هي مرتبة الألوهة التي تظهر فيها الأسماء والصفات، والله اسم لرب هذه المرتبة، وكل الأسماء والصفات واقع تحت هذا الاسم الذي يبصر به الحق نفسه وبه يتوصل الخلق إلى معرفته. الثالثة هي مرتبة الرحمانية، وهنا تدخل الألوهية مرحلة الخلق وتتجلى كقدرة خالقة لكل مظاهر الكون. إلا أن الخلق هنا ليس خلق صانع ماهر، وإنما خلق ألوهة تنقسم إلى حق وخلق دون أن تفقد وحدتها، فالله يظهر في الموجودات ولكنه لا يتعدد بتعدد مظاهره بل هو واحد في تلك المظاهر جميعها. المرتبة الأخيرة هي الربوبية، والرب اسم لهذه المرتبة، وهي مختصة بعالم الخلق، فإذا كانت الذات تمثل بطون الألوهة وغناها عما عداها، فإن الربوبية هي ظاهر الألوهة الذي يتجه نحو عالم الخلق.
وكما أن خروج الألوهة من كمونها يتم عبر مراتب متتابعة للتجلي، كذلك يتم تواصل الإنسان مع عالم الألوهة عبر المراتب نفسها وبما يتلاءم واستعداد كل فرد؛ فعامة الناس يبقون عند ظاهر الألوهة يتعبدون لله تعالى من حيث اسمه الرب إله الشرائع، وفوقهم العارفون الذين يعبدونه من حيث اسمه الرحمن، وفوقهم المحققون الذين يعبدونه من حيث اسمه الله. (س):
يشعر المرء في قراءته للجيلي أنه قدم صيغة إسلامية لوحدة الوجود الهندوسية. (ج):
هذا صحيح؛ فالعقول الإنسانية تلتقي في النهاية دونما ضرورة لاتصال مباشر، والمتصوفة ينطلقون من بيئات ثقافية متنوعة ليصلوا في النهاية إلى رؤى مشتركة. (س):
في عقيدة التناسخ تلعب الأخلاق الدور الأهم، أما في عقيدة وحدة الوجود فإن العرفان هو الأهم. كيف وفق البراهمة بين العقيدتين؟ وأيهما الأجدى بالنسبة إلى الساعي إلى الانعتاق، الأخلاق أم العرفان؟ (ج):
السلوك الأخلاقي في حد ذاته لا يؤدي إلى الانعتاق، وإنما يؤهل صاحبه للدخول في تجسيد أفضل وأرقى في حياته الثانية؛ ولهذا نجد أن الهندوسي الصالح يلتزم بقواعد الأخلاق الخاصة بطبقته، فيتزوج وينجب ويساهم في كل نشاط بناء تتطلبه حياة الجماعة إلى أن يصل أواسط العمر، فإذا وجد في نفسه الرغبة والقدرة على الشروع في رحلة الانعتاق، انسحب من العالم وترك كل ما له علاقة بحياة الجماعة، وهجر أسرته التي لم تعد بحاجة إليه، وتوجه إلى الغابات ليعيش حياة الزهد والتنسك وقهر الجسد والتأمل. لقد ترك العالم بخيره وشره وتحول إلى أرهط؛ أي إلى ناسك متجول يحمل قصعة التسول التي يضع له فيها من يمر بهم من القرويين ما يبقيه على قيد الحياة. نقرأ في كتاب الأوبانيشاد: «إن طالب الخلود ليس لديه خوف مما ارتكبه من شر، ولا أمل فيما قدمه من خير. لا شيء مما فعله أو لم يفعله يمكن أن يكون له أهمية عنده.» (س):
الحديث عن التزام الهندوسي بأخلاق طبقته يثير عندي سؤالا يتعلق بنظام الطبقات في الهند. متى نشأ هذا النظام الفريد من نوعه؟ وهل له صلة ما بالدين ؟ (ج):
عندما دخل الآريون الهند كان المجتمع الهندي يتألف من طبقتين هما: طبقة الفاتحين، وطبقة السكان الأصليين. وقد بقي الأمر على هذا الحال حتى أواسط الألف الأول قبل الميلاد عندما أخذ نظام الطبقات يتأسس حتى صار سمة بارزة للمجتمع الهندي الذي انقسم بحدة إلى أربع طبقات هي: (1) الكشاتيريا، وهم النبلاء من أصحاب الأراضي والمحاربون، (2) البراهمة. (3) الفايساس، وهم عامة الشعب الآري من فلاحين وحرفيين وغيرهم. (4) الشودرا، أو الخدم، وهم السكان الأصليون من ذوي البشرة الداكنة. وفي الحقيقة فإن كلمة طبقة في اللغة السنسكريتية تعني في الأصل لونا؛ لأن اللون كان أول ما ميز به الآريون البيض أنفسهم عن سكان الأرض السود. وهنالك طبقة تقع خارج النظام الاجتماعي الهندوسي وهي طبقة المنبوذين الذين يشكلون حثالة المجتمع، والذين لا يمكن للطبقات الآرية أو لطبقة السود التعامل معها بأي طريقة كانت، حتى إن طبقة النبلاء أو البراهمة كانت تتلوث بمجرد النظر إلى المنبوذين. وعلى الرغم من أن الطبقات الآرية الثلاث ميزت نفسها بحدة عن السكان الأصليين، إلا أن الحدود الفاصلة بين الطبقات الآرية نفسها كانت حادة؛ فالتزاوج ممنوع وحتى العلاقات الاجتماعية. وقد كانت الصدارة في البداية لطبقة النبلاء ثم آلت إلى البراهمة، ولكن النزاع على الصدارة لم يهدأ بين الطبقتين. (س):
في حديثك عن الطبقات في الهند أشرت إليها مرة على أنها طبقات المجتمع الهندي، ومرة أخرى على أنها طبقات المجتمع الهندوسي، فهل كان هذا النظام اجتماعيا أم دينيا؟ (ج):
كان نظام الطبقات في بدايته نظاما اجتماعيا في الهند مثلما هو الحال في بقية البلدان، ولم تكن الحدود بين الطبقات صلبة مثلما صارت إليه بعد ذلك، ولكن الفكر البرهمي عندما تبنى عقيدة التناسخ والكارما من جملة ما تبنى من عقائد السكان الأصليين، قام بعقد صلة بين هذه العقيدة ونظام الطبقات الاجتماعي، فإذا كان البراهماني يتمتع بكل ما تقدمه له طبقته من مزايا، والشودرا يعاني من كل الشروط الحياتية البائسة لطبقة الخدم، فلأن كلا منهما قدم في حياته السابقة ما يسوغ حياته الحالية. وبذلك تم ربط نظام الطبقات بالدين، وصارت أي محاولة لإزالة الفروق بين الطبقات نوعا من الهرطقة لأنها تعاكس القانون الكوني للسبب والنتيجة ، وتجادل في عواقب الكارما. (س):
تحدثنا عن بعض نواحي التشابه بين عقيدة وحدة الوجود في الهندوسية ومثيلتها في التصوف الإسلامي، ولكن ما الذي يميز بحدة بينهما عدا الإيمان بالتقمص؟ (ج):
تنفرد عقيدة وحدة الوجود بنظرتها إلى الزمن؛ فالزمن لا يسير بشكل خطي نحو الأمام دون نهاية منظورة، كما هو الحال في الديانة الفيدية أو أديان الشرق القديم. كما أنه لا يسير نحو نهاية محتومة مقررة في عقل الخالق، ينتهي عندها التاريخ ويفنى العالم، كما هو الحال في أديان التوحيد. الزمن في الهندوسية يتحرك بشكل دائري، والعالم لا يفنى مرة واحدة وإنما مرات لا يمكن حصرها، وذلك مع انتهاء كل دورة وابتداء دورة جديدة. في نهاية كل دورة يتهدم العالم بما فيه من بشر وكائنات حية وآلهة، ويتلاشى في مياه الأبدية، أما الأرواح التي فنيت أجسادها مع ما فني من عالم الظواهر، فإنها لا تفنى ولا تنعتق، بل تبقى هاجعة في سكون ناسية أعمالها الماضية، ويخيم على الوجود ليل وصمت. وفي أول لحظة من نهار الدورة الزمنية التالية يولد الإله براهما ليخلق عالما جديدا وتحمل كل روح أعمالها وتحل في أجساد جديدة، وهكذا إلى ما لا نهاية حيث لا يمكن عد الدورات الماضيات ولا أفق تنتهي عنده الدورات الآتيات، وما من غاية منظورة ولا هدف ولا معنى. (س):
ما هي المدة الزمنية للدورة الواحدة؟ (ج):
تدوم الدورة مدة 4320000000 سنة (أربعة مليارات وثلاث مائة وعشرين مليونا)، وهذه هي الدورة الكبرى المدعوة كالبا، والتي يأتي العالم في آخرها إلى نهايته. ولكن كل دورة كبرى تتألف من ألف دورة صغرى تدعى ماهايوغا. وكل دورة صغرى تتألف من أربعة عصور. يتصف العصر الأول بالكمال في كل شيء لأن الناس يولدون فيه أخيارا ويكرسون حياتهم لأداء واجباتهم، وهو أطول العصور. في العصر الثاني يبدأ الفساد بالتسرب إلى المجتمع الإنساني؛ ولذلك يتوجب على الناس أن يتعلموا الفضائل بعد أن كانت مغروسة في طبعهم. في العصر الثالث يحصل توازن حرج بين النقص والكمال. في العصر الرابع تطغى الرذيلة على الفضيلة، وتسود البغضاء بين الناس وتقوم المنازعات بينهم، وتنشب الحروب بين الشعوب، وهو أقصر العصور الأربعة، والعالم الآن يعيش في أحد هذه العصور السوداء. (س):
عندما أتأمل هذه الميثولوجيا الهندوسية التي تشف عن عقل فلسفي قل نظيره، يبدو لي أن مذهب وحدة الوجود اقتصر في الهند على نخبة العقول والنفوس الشفافة، فماذا عن بقية شرائح المجتمع؟ (ج):
لم يكن الهندي العادي، في الحقيقة، بحاجة إلى تلك الألوهة الخافية الغائبة براهمان، بقدر حاجته إلى إله مشخص قريب يمكن محبته وعبادته والدخول معه في علاقة محبة، إله يلبي له مطالبه اليومية، ويساعده على تجسد أفضل أو حتى على الانعتاق. وقد كان البراهمة مدركين لهذه الحقيقة، فحاولوا الحصول على نصيب لهم في الديانة الشعبية، وطوروا عقيدة تقول بأن براهمان يتجلى في عالم الظواهر من خلال ثلاثة آلهة تمثل الوظائف الرئيسية للألوهة، وهي الخلق والحفظ والتدمير، وهم برهما الخالق وفيشنو الحافظ وشيفا المدمر. وفي العلاقة مع هؤلاء تحل محبة الإله والإخلاص له محل الكدح الروحي، وتحل الأعمال وتأدية الواجبات محل العرفان. وقد أخذ هؤلاء الثلاثة يستوعبون إليهم وظائف عشرات الآلهة المحلية. وبذلك ظهرت إلى الوجود ابتداء من القرن الثاني قبل الميلاد الهندوسية الكلاسيكية التي سيطرت على المشهد الديني حتى الوقت الحاضر. وقد أنتجت هذه الهندوسية أدبا حل محل الفيدا والأوبانيشاد وغيرها من الأدبيات البراهمانية، لعل من أبرز مظاهره ملحمة الماهبهاراتا وملحمة النارايانا، وأسفار البورانا؛ أي القصص القديم.
كانت عبادة شيفا هي الأقوى والأكثر انتشارا قبل أن تكسفها عبادة فيشنو. والخصيصة الرئيسية لشيفا هي التدمير، إلا أن التدمير الذي يقوم به هو من أجل إفساح المجال لخلق جديد؛ فموت الحياة النباتية ليس سوى مقدمة لنشأة أشكال جديدة من الحياة تتغذى عليها الحياة الإنسانية، وموت الإنسان هو تحرر مؤقت وتحول إلى حياة أخرى جديدة. وعندما يقف شيفا عند نهاية الدورة الزمنية الكبرى في مركز الكون ، ويرقص رقصته الشهيرة الهادفة إلى تدميره، إنما يفعل ذلك من أجل خلق كون آخر. وبذلك فقد غدا شيفا المدمر رمزا لطاقة الحياة والتجدد، تساعده في ذلك زوجته شاكتي ذات الأسماء المتعددة؛ فهي مايا، ودوركا، وشاندي، وكالي السوداء. وتركز عبادة شيفا، أو الشيفاتية، على القران المقدس بينه وبين شاكتي، فنراهما في الرسوم والمنحوتات في حالة عناق واتحاد جسدي، وهذا الاتحاد هو الذي يديم طاقة الحياة فاعلة في عالم الطبيعة والكائنات الحية. وقد ينوب عن هيئة الإلهين منحوتة اللينغام-يوني، وهي تمثل عضو الذكورة وعضو الأنوثة في وضعية الاتحاد. وقد ينصب تمثال لقضيب شيفا في المعبد وفيه كوة تبدو من خلفها شاكتي.
كانت عبادة شاكتي في البداية موضوعا ثانويا لعبادة شيفا، ولكنها تحولت في المناطق الشمالية الشرقية إلى عبادة مستقلة تدعى بالشاكتية. وقد ركزت هذه العبادة على شاكتي باعتبارها الإلهة الأم المجسدة لطاقة الطبيعة الجامعة للحياة والموت، وهذه الطاقة ليست سوى مايا، الطاقة الخلاقة لبراهمان، والتي يقول فيها المعلم الهندوسي راما كريشنا، الذي عاش في القرن التاسع عشر الميلادي، ما يأتي: «عندما أفكر في الكائن الأعلى في حالته السكونية عندما لا يحفظ ولا يدمر ولا يبدع فإني أسميه براهمان. وعندما أفكر في حالته الفعالة عندما يحفظ ويدمر ويبدع فإني أسميه شاكتي أو مايا أو كالي. براهمان ومايا شيء واحد، تماما كما هو الحال مع الحليب وبياضه أو الماس وبريقه؛ حيث من المستحيل تصور هذا بدون ذاك. الأم الإلهية وبراهمان هما براهمان وقوته.» (س):
يبدو أن مفهوم المايا هو قاسم مشترك بين العقائد الهندوسية! (ج):
هو قاسم مشترك بين معظم تلك العقائد، ووظيفته هي تفسير الصلة بين الواحد غير المتجزئ والكثرة التي صدرت عنه بواسطة المايا، وهذه الكلمة في اللغة السنسكريتية تعني الوهم والخيال وكل مظهر خادع؛ فالمايا، القوة المقدسة لبراهمان، هي التي تولد المشهد الكوني وتفعل من داخله، وفي الوقت نفسه هي ذلك المشهد بعينه، ولكن ما تولده المايا لا يتمتع بوجود حقيقي لأنه دائم التبدل والتغير، لا يثبت على حال وأشبه ما يكون بحلم يمر في عقل براهمان؛ ففيما عدا براهمان الكينونة الكاملة والوجود الحق، كل شيء مؤقت وعابر، مظهره كالرغوة التي لا قوام لها أو كالسراب الخادع، إنه ليس بموجود ولا غير موجود؛ لأنه يتكئ على براهمان كأصل له، لكن براهمان لا تصله بالعالم صلة سببية؛ لأن العالم ظهر على يد الإله الخالق برهما أو الإله إشفارا عبر المايا. (س):
هذا شيء صعب قبوله على الفهم العادي. هل نحن أيضا وهم في جملة ذلك الوهم الكبير؟ (ج):
حسنا، إذا سألتك: من أنت؟ تقول لي فلان ابن فلان، ولكن من هو فلان؟ هل هو ذلك الجنين في بطن أمه؟ لقد تحول الجنين إلى رضيع بعد الولادة، والرضيع تحول إلى طفل، والطفل إلى مراهق، والمراهق إلى شاب، والشاب إلى كهل، والكهل إلى شيخ، والشيخ ارتفع من الوجود، فأي من هذه الأحوال المتبدلة يمكن أن يمثل فلانا؟ إذا لم تحر جوابا أقول لك إذا لم يكن أي من هذه الأحوال يمثل فلانا، فوجوده لم يكن سوى مايا. (س):
ولكن النفس ليست مايا، إنها شيء حقيقي لأنها من نفس براهمان. (ج):
هذا صحيح، ولكن النفس واقعة في إسار الجهل الذي يوحي لها بأنها نفس مستقلة، وما دامت على جهلها هذا فإنها تعاين الكثرة والتنوع، كثرة الموضوعات الطبيعية وكثرة النفوس البشرية، ولكنها عندما تفلح في الانعتاق فإن الوهم الكبير ينجلي وترى كل شيء متوحدا في براهمان، فتنمحي الحدود بين الظواهر وتذوب الفروق بين الأرواح التي كانت تعيش وهم التفرد والاستقلال. (س):
هل لفكرة وهمية عالم الظواهر معادل خارج فكر الهند؟ (ج):
لها معادل في فكر محيي الدين بن عربي. لقد أشرت سابقا إلى مفهوم الخلق المستمر عند هذا المفكر الإسلامي، ومفاده أن الله لم يخلق العالم مرة واحدة في بداية الزمن، وإنما هو خالق على الدوام؛ ففي كل لحظة يفنى العالم ثم يستعاد إلى الوجود، والكائنات الحية لها مع كل شهيق وزفير فناء ثم استعادة، والبطلان يتطرق إلى الأشياء مع الخطرات فهي في تغير مستمر ، ولو أمسك الحق سبحانه الإيجاد عنهم لانعدموا في أسرع من طرفة عين. من هنا فإن وجود المخلوق لا حقيقة له ، ولو كان الوجود للمخلوقات حقيقة لأشبه وجود الحق سبحانه، وهذا محال.
من هذه المقدمات ينطلق فكر ابن عربي إلى فكرة الكون الخيالي، فإذا كان الوجود الحقيقي هو لله وحده فإن كل وجود آخر لا يعدو أن يكون خيالا، ونتاج فعل الخيال الخلاق عند الذات الإلهية، فالحياة حلم وجميع صور العالم الخارجي خيال في خيال، جوهره التبدل الدائم، ولا شيء يبقى على حاله سوى الله، وكل ما عداه خيال حائل وظل زائل. من هنا، فإن ظهور العالم ليس خلقا عن عدم، بل هو خروج من وجود علمي؛ أي في علم الله، إلى وجود عيني. ولكن ما يخرجه الله من علمه لنراه لا يتعدى كونه ممكنات أو قوابل للوجود يدعوها ابن عربي بالأعيان الثابتة في العدم؛ فهي موجودة في علم الله ولها ظهور خيالي في العالم الخارجي؛ فالإمكان ما فارقها حكمه، وهي محفوظة في خزائن الإمكان ولا خروج لها منه، ولكن الحق سبحانه فتح أبواب هذه الخزائن حتى نظرنا إليها ونظرت إلينا، ونحن فيها وخارجون عنها.
المحور العاشر
غروب الآلهة
في الجاينية والبوذية والتاوية (س):
في محور الدين والحضارة قلت لنا إن الإنسان الأول لم يؤمن بوجود الآلهة، وإن الآلهة ظهرت عبر سياق تطوري بطيء، ولم يترسخ حضورها في الدين قبل الألف الرابع قبل الميلاد. فهل عادت الآلهة إلى الاختفاء بعد ذلك؟ (ج):
لدينا زمرة من الأديان تقوم عقائدها على المبدأ اللاإلهي/
Atheism ، الذي ينكر وجود إله أعلى خالق للكون؛ لأن الكون قديم وليس بحادث، وأزلي وليس بمخلوق، وهو يعمل وفق آلية دقيقة ونظام خفي يخضع له الكل بما في ذلك الآلهة، إن وجدوا. (س):
المبدأ اللاإلهي إذن لا ينكر وجود الآلهة. (ج):
لنقل إنه صرف الآلهة من الخدمة، وخصص لها رواتب تقاعدية تكفيها لأن تعيش على هامش الكون دون فعالية تذكر. (س):
متى وأين حصلت هذه الردة عن العقيدة الإلهية؟ (ج):
ظهر المبدأ اللاإلهي بشكل واضح في الهند؛ فقد ظهرت في الهندوسية (التي لم تتخذ قط صيغة أيديولوجية موحدة) أكثر من فرقة قالت بأن الحجج على وجود الإله الخالق قد تكون مقنعة على مستوى الحياة اليومية، أما على مستوى المعرفة الدينية الأعمق فإن الكائن الأعلى هو وهم حقا. على أن المبدأ اللاإلهي لم يترسخ في الهند ويغدو دينا مؤسساتيا إلا في الجاينية والبوذية. (س):
نحن نعرف عن البوذية ولكننا لم نسمع عن الجاينية من قبل! (ج):
البوذية معروفة كاسم لدى الجميع بسبب انتشارها خارج الهند، أما الجاينية فلم تحقق لنفسها الانتشار نفسه، وقد أسسها معلم روحي يدعى ناتابوتا فاردهاما، والذي عرف بعد ذلك بلقبه الماها فيرا؛ أي الإنسان العظيم. ولد الماها فيرا في بيت ملكي في مقاطعة بيهار نحو عام 599ق.م، وعندما بلغ سن الرشد تزوج وأنجبت له زوجته ابنة، ولكن الشاب كان كثير التأمل، عازفا عن حياة الترف المحيطة به، وغالبا ما كان ينسل من القصر إلى الغابة القريبة حيث كان يلتقي بجماعات من النساك المتجولين، ويجد في الاستماع إليهم ما يرضي فكره المتقد بالأسئلة. وعندما توفي والداه وهو في سن الثلاثين قرر أن يهجر حياة الناس بشكل نهائي، ويتحول إلى حياة النسك والتأمل. تجول الماها فيرا حافيا عاريا في غابات وسهول وقرى مناطق الهند الوسطى، مؤمنا بأن إعتاق الروح من التناسخ ودورة الحياة والموت لا يتم إلا بتجاهل الجسد وحاجاته، وبالتزام مبدأ الأهيمسا/
Ahimsa
الذي ينص على عدم إيذاء أي كائن حي من الإنسان وصولا إلى أصغر حشرة يمكن رؤيتها بالعين. ولم يكن يقضي أكثر من ليلة واحدة في كل قرية أو خمس ليال في كل مدينة، كي لا تشده أي رابطة إلى مكان أو صلة حميمة بشخص ما. وغالبا ما كان الناس يرونه جالسا في العراء في وضعية التأمل الباطني مستغرقا في ذاته غير عابئ ببرد أو ريح أو مطر. وبعد اثنتي عشرة سنة من التطواف والتأمل، وفي إحدى جلسات استغراقه الباطني العميق، سطع النور في داخله ووصل إلى الاستنارة الكاملة، فصار جينا/
Jina
أي المنتصر الذي قهر الموت وحرر روحه في عالم السمسارا، عالم التغير الدائم والجريان الذي لا يهدأ . وبعد ذلك راح يبشر بمذهبه ويجمع الأتباع حوله يعلمهم طريق الخلاص، وعندما بلغ سن الثانية والسبعين قرر مغادرة عالم المادة عن طريق طقس المجاعة الطوعية، فتحرر من كل أشكال الألم والتحق بعالم البركة العلوي في حالة لا تخضع لولادة ثانية. (س):
استخدمت هنا مصطلح الاستنارة لوصف حالة المعرفة التي وصل إليها الماها فيرا، وكنت من قبل قد استخدمت المصطلح نفسه لوصف حالة المعرفة الغنوصية التي تقود إلى عودة روح الإنسان لتتحد بروح الله، ولكن الله غير موجود في الجاينية، ونحن هنا أمام مضامين متناقضة للاستنارة. (ج):
هذا صحيح، وسوف نجد بعد قليل أن مضامين استنارة البوذا تختلف عن مضامين استنارة الماها فيرا؛ فلقد جاءت كل منظومة عرفانية بما يختلف عما جاءت به المنظومة الأخرى، ويبدو أن ما يكتشفه المستنير هو قناعات عقلية تكاملت تدريجيا ثم انبثقت في داخله بصيغة حقائق نهائية، أو أنه نوع من الإيمان اللاشعوري لم يعرض على العقل الواعي لمناقشته من قبل. (س):
كأنك هنا تنكر حصول الاستنارة! (ج):
بل أفسر آلياتها، ولماذا تختلف نتائجها من معلم إلى آخر. (س):
مصطلح السمسارا الذي ذكرته منذ قليل يحتاج إلى مزيد من الإيضاح. (ج):
لماذا؟ أعتقد أنني شرحت المصطلح في سياق حديثي عن الهندوسية. ومع ذلك لا بأس بالإعادة. هنالك عدة أفكار أخذتها الجاينية والبوذية من حاضنتها الثقافية الهندوسية؛ أولها عقيدة تناسخ الأرواح، يتبعها معتقد مرتبط بها أشد الارتباط هو الكارما، أو الفعل وجزاؤه. والكارما هو قانون يعمل بشكل آلي دون تدخل من قوة إلهية ما، وهو ينص على أن تصرفات الفرد وأفكاره وأقواله سيكون لها تبعات أخلاقية تحدد طبيعة تجسداته المقبلة مثلما تحدد تجسده الحالي بما تم من أفعال في حيواته السابقة؛ فالكارما الإيجابية تؤدي إلى حالة أرقى في سلم التجسدات، والكارما السلبية تؤدي إلى حالة أدنى. كما أن دورة حياة الفرد هذه مرتبطة بدورة كبرى تطال الكون برمته تدعى سمسارا، فالكون يفنى في كل دورة ثم يعود جديدا مرة أخرى، في زمن يدور على نفسه بلا بداية أو نهاية، ودون أن ينشد غاية أو يسعى إلى هدف. إلا أن الانعتاق، أو موكشا، من هذه الدورة ممكن التحقيق وهو بؤرة الحياة الدينية للهندوسي، إلا أن الطوائف الهندوسية مختلفة في كيفية تحقيق هذا الانعتاق، وفي الحالة التي تصير إليها الروح المتحررة بعد انعتاقها. (س):
ماذا أخذت الجاينية من هذه الأفكار، وماذا تركت؟ (ج):
لقد أخذت بها وفسرتها بشكل مختلف؛ فتعاليم الماها فيرا تقوم على الإيمان المطلق بالإنسان كسيد لنفسه، وبقدرته على الخلاص والانعتاق دون معونة من إله مخلص؛ لأن الآلهة خاضعة مثل البشر إلى دورة السمسارا ولا ترجى منها نعمة أو منة أو شفاعة؛ لأن عليها أن تعمل على إعتاق نفسها تماما مثل البشر. وللماها فيرا في هذا الموضوع قول مشهور: «يا أيها الإنسان، أنت صديق نفسك، فلماذا تبحث عن صديق خارج ذاتك؟» أما العالم فغير مخلوق من قبل ألوهة عليا، وهو أزلي قائم بذاته، وخاضع لمبادئه الخاصة، وهو يتألف من مكونين اثنين هما عالم المادة وعالم الروح. يتألف عالم المادة من ذرات دقيقة جدا، تتجمع وفق أنماط مختلفة، تنتج صنوف المادة المتنوعة من الهواء والماء والمعدن وما إلى ذلك، وهي تتدرج في الكثافة من المواد الشديدة الصلابة إلى المواد الخفيفة التي لا تستطيع حواس الإنسان تبينها لرقتها وشفافيتها، وأكثر هذه المواد رقة مادة الكارما التي تترسب على الأرواح نتيجة أعمالها السيئة. أما عالم الروح فهو مجموع الأرواح المنبثة في الكائنات الحية، وهو عالم حسن على عكس عالم المادة السيئ، والأرواح خيرة بطبيعتها إلا أن ما تجنيه من أعمال سيئة يؤدي إلى تداخل عالم المادة بعالم الروح، وتلتصق الكارما بروح الفرد فتغلفها وتجعلها ثقيلة، وهذا ما يؤدي بها إلى تقمصات أدنى في دورة الميلاد والموت. وكلما كانت المادة التي غلفت الروح قليلة، صارت خفيفة بما يكفي لدخولها في تقمصات أعلى، إلى أن تغدو كينونة متحررة إلى الأبد، وتنتقل إلى القسم الأعلى من الكون الذي له شكل إنسان؛ حيث تعيش في عالم البركة في سلام أبدي دون أن تفقد فرديتها . (س):
نحن هنا أمام بواكير النظرية الذرية في تفسير المادة، أليس كذلك؟ (ج):
هذا صحيح؛ فلقد سبق مؤسس الجاينية بنحو قرن فلاسفة اليونان الذين قالوا بهذه النظرية، ثم جاء بعد ذلك اليوناني لوكيبوس الذي كان رائد هذه النظرية في الغرب، وبعده تلميذه ديمقريطوس (460-370ق.م)، الذي عاصر سقراط وكان أكبر منه سنا؛ فالذرة عند ديمقريطوس هي الجزء الذي لا يتجزأ من المادة، وهي أزلية غير مخلوقة، ومتحركة بذاتها. والذرات تتشابه من حيث طبيعة مادتها وعدم قبولها للتجزئة، ولكن الأشياء التي تتركب من هذه الذرات مختلفة بسبب اختلاف مقدار الذرات الداخلة في تركيبها وطريقة ترتيبها؛ فباتحاد الذرات ينشأ الكون، وبافتراقها يئول إلى فساد، ولكن ديمقريطوس لا يميز بين المادة والروح على طريقة الماها فيرا؛ لأنه لم يكن يؤسس دينا، وهو يرى أن الروح مادية أيضا، وتتألف من ذرات كروية تستطيع النفاذ في الأشياء. (س):
ما هي الوسائل العملية التي توصل الجايني إلى الانعتاق؟ (ج):
هنالك طريقة الحياة القائمة على الزهد والتنسك، وعدم اقتناء الممتلكات المادية، والصوم وفقا لقواعد مدروسة من شأنها تهذيب النفس وعدم إتلاف الجسد. ويجب أن يترافق ذلك مع ممارسة الاستغراق الباطني/
Meditation ، الذي يعزل العقل عن وظائفه اليومية ويوجهه نحو تحقيق المعرفة الباطنية وتحقيق الاستنارة التي حققها الماها فيرا من قبل. وبما أن الناس ليسوا على درجة واحدة من الاستعداد للسير في هذا الطريق الشاق، فإن الجاينية تقسم أتباعها إلى فريقين؛ فريق الرهبان المنذورين للانعتاق، وهؤلاء يعيشون في الأديرة والمعابد، أو يتجولون في العراء دون مأوى، وفريق عامة المؤمنين الذين يمارسون الحياة اليومية الاعتيادية. وقد استن الماها فيرا لهؤلاء العامة شريعة أسهل تطبيقا واتباعا من شريعة الرهبان، وتتضمن اثني عشر بندا أخلاقيا ينبغي اتباعها، وأهمها عدم إيذاء أو قتل أي مخلوق حي، عدم السرقة، عدم الكذب، الإخلاص الزوجي، وتقديم الطعام والكساء للرهبان. (س):
ذكرت منذ قليل أن الرهبان يعيشون في الأديرة والمعابد. ما فائدة المعابد إذا كان الجاينيون لا يقدمون فروض العبادة لإله ما؟ (ج):
لا تحتوي المعابد الجاينية على صور للآلهة، وإنما على صور للمرشدين الروحيين في أوضاع الاستغراق الباطني تشبه صور البوذا. أما الطقوس التي تجري فيها فلا علاقة لها بالتقرب إلى الكائنات العليا، وإنما هي احتفالات تذكارية دورية موضوعها مراحل حياة الماها فيرا؛ الحمل به، ولادته، تزهده، استنارته، انعتاقه، يضاف إلى ذلك بعض الحركات الطقسية؛ مثل غسل الصور بالماء، والتلويح أمامها بالمصابيح الزيتية، وحرق البخور. (س):
هل ما زالت الجاينية ديانة حية اليوم؟ (ج):
بقي منهم طائفة صغيرة موجودة بشكل رئيسي في مدينة بومبي، وجلهم من رجال الأعمال الناجحين، وقد أكسبهم سلوكهم الأخلاقي الصارم ثقة الناس واحترامهم. (س):
ما قدمته عن الجاينية يشير إلى وجود شبه بينها وبين البوذية، لا سيما لجهة إنكار العالم، وقصة حياة المؤسس، وتقسيم مجتمع المؤمنين إلى كهنة وعوام. هل من الممكن أن تكون الديانتان قد نشأتا عن عقيدة واحدة ومؤسس واحد ثم افترقتا بعد ذلك؟ (ج):
هنالك شبه واضح بين سيرة حياة البوذا والماها فيرا يعطي مسوغا للقائلين بوحدة الشخصيتين؛ فقد ولد كل منهما في أسرة نبيلة وتزوج وأنجب طفلا، ولكنه لم يكن راضيا عن حياته دائم التأمل والتفكير، وأخيرا هجر بيته وأسرته وتحول إلى حياة النسك والتجوال التي قادته أخيرا إلى الاستنارة، ولكن نواحي الاختلاف فيما جاءت به استنارة هذين المعلمين هي أكثر من نواحي الاتفاق، لا سيما فيما يتعلق بوسائل تحقيق الاستنارة؛ فبينما ركز الماها فيرا على الزهد المفرط ورفض العالم بصورة مطلقة، فقد اختار البوذا ما دعاه بالطريق الوسط بين التقشف المفرط والحياة الشهوانية. أما أكثر نواحي الاتفاق فهي النظر إلى الاستنارة باعتبارها يقظة وصحوة فردية على حقيقة العالم والشرط الإنساني يحققها المستنير دون مدد أو نعمة تأتي من جهة إلهية.
ولد الأمير سيد هارتا، أو البوذا فيما بعد، نحو عام 563ق.م؛ أي قبل جيل من ولادة الماها فيرا، وكان أبوه أميرا على عشيرة تمتد أراضيها في منطقة خصبة على التلال الواقعة عند سفوح جبال الهيملايا في الهند الشمالية. وعندما قرر ترك زوجته الشابة وابنه الصغير والتحول إلى حياة النسك والتجوال، كان يتبع تقليدا هنديا سائدا في ذلك الوقت يحض من أدى واجباته الاجتماعية والتزاماته العائلية على ترك الحياة التقليدية والالتحاق بالنساك الباحثين عن الانعتاق. وبعد قضاء ست سنوات من الزهد والتطواف كناسك هندوسي، اكتشف أنه كان يسير في الطريق الخاطئ؛ فخلال هذه السنوات الست حاول قهر جسده بالصوم والعري والسهر، ولكن جهوده ضاعت سدى. وفي أحد الأيام سقط الأمير مغشيا عليه من الوهن الذي أصابه، وظن صحبه من النساك أنه قد مات، ولكنه تحامل على نفسه واتجه إلى ضفة نهر قريب فاغتسل بمائه، ثم قرر قطع صيامه، وقبل صحنا من الأرز قدمته إليه فتاة عابرة. وعندما انتهى من تناوله شعر بقوة في جسده وعقله، فقطع النهر إلى الضفة الأخرى وهناك جلس تحت شجرة تين وارفة، وأقسم ألا يبرح مكانه حتى تأتيه الاستنارة الكاملة. وعند الفجر انتبه من استغراقه الباطني العميق، وصحا على حقائق الحياة، وصار البوذا؛ أي المستيقظ أو المستنير. (س):
على ماذا صحا؟ وما هي هذه الحقائق؟ (ج):
دعاها سيدهارتا بالحقائق النبيلة الأربع، وأولها هو أن الحياة شقاء وألم؛ فالولادة ألم، والمرض ألم، والفراق عمن نحب ألم، والشيخوخة ألم، والموت ألم، كل وجود الإنسان قائم على الشقاء والألم. كما أن حياة الإنسان تعاني من نقيصتين أخريين؛ هما: (1) ال «لاثبات» (2) ال «لانفس». فاللاثبات هو ذلك التبدل الدائم فيك وفي كل ما حولك؛ فأنت الجنين هو غير أنت الرضيع، وأنت الرضيع هو غير أنت الطفل، وأنت الطفل هو غير أنت المراهق. وهكذا وصولا إلى تحلل وتفكك هذا الذي تدعوه أنا، والذي لا وجود له بالفعل، وهذا يقودنا إلى فكرة اللانفس عند البوذا، فإذا كانت الهندوسية الكلاسيكية ترى في كل فرد جوهرا ثابتا هو النفس التي تنتقل من جسد إلى آخر، حاملة معها أعمالها السابقة، أو الكارما الخاصة بها، إلى حين فلاحها في الانعتاق، فإن البوذا لا يرى في الفرد إلا تجمعا لعدد من المسببات التي يؤدي اجتماعها المؤقت إلى خلق هذا الفرد وجعله يشعر بأناه وشخصيته المميزة. وهذه الشخصية تستمر بفعل الذاكرة التي تحفظ سجلات الشخصية من الولادة إلى الممات، وبعد ذلك فإن تلك المسببات التي قادت إلى تكوين الشخصية تتحلل ويتحلل معها الفرد تماما، ولا يبقى منه سوى الكارما التي يحملها شخص آخر يتكون بالطريقة نفسها. وبتعبير آخر، فإن الكارما هي التي تتناسخ لا النفس، ويمكن تشبيه سلسلة التناسخات التي تمر بها الكارما بسجل مفتوح تزيد عناصره أو تنقص دونما حامل شخصي، إلى أن تنطفئ هذه السلسلة في عالم السكون التام المدعو بالنيرفانا. (س):
ما زلت أجد صعوبة في فهم كيفية تناسخ الكارما دون وجود نفس تتناسخ! (ج):
يمكن تشبيه هذه العملية بقيامنا بطبع ختم على شمع طري؛ حيث تنتقل الأشكال والكلمات المحفورة على الختم إلى الشمع مكونة نسخة عنه دون أن ينتقل بين هذا وذاك جوهر ثابت. إن الفرد خلال حياته، على ما يرى البوذا، يكون مجموعة صفات وخصائص وسلوكيات تصير إلى بنية صلبة قبل موته، وهذه البنية الصلبة هي ما ينطبع على الشمع الطري لوجود جديد يتشكل في رحم امرأة ما، ويستعد للانطلاق إلى الحياة. والنقطة الأساسية هنا هي أن كل ما يفكر به ويفعله شخص ما في حياته سوف يستمر في حيوات أخرى لا نهاية لها، ولا خلاص إلا بالخروج من عالم الجريان إلى عالم الثبات الذي لا جريان فيه ولا تغير أو تبدل. وهذا ما تشرحه بقية الحقائق النبيلة.
فالحقيقة الثانية تقول إن سبب الألم والشقاء في الحياة هو الرغبة؛ لأن الرغبة لا يمكن إرضاؤها فهي كالنار زدت فيها حطبا كلما زادت تأججا، وكلما ازداد الفرد طمعا في الحياة دفع أمامه سلسلة من التناسخات المقبلة التي تخلقها الرغبة في استمرار وهم الوجود. والحقيقة الثالثة تقول إن القضاء على الألم والشقاء ممكن، وذلك بالقضاء على الرغبة وعدم التعلق بأسباب الحياة، وهذا ما يهيئ الفرد للخروج من دورة التناسخ والدخول في النيرفانا؛ أي انتقاله من الصيرورة إلى الوجود الحق. أما ما هو شكل هذا الوجود وما هي طبيعته فأمر رفض البوذا التحدث عنه بإصرار. الحقيقة الرابعة تصف الطريق إلى تحقيق النيرفانا، وهو طريق ذو مراحل ثمان، يتضمن كيفية سلوك المريد البوذي في هذه الحياة، وطرائق تفكيره، وسبل عيشه، وكيفية مراقبته لأحاسيسه وأفكاره. إذا كنت تنوي التحول إلى البوذية فسأشرحها لك! (س):
ليس الآن. إن ما سمعته منك منذ بداية حوارنا جعلني في حالة تشوش عقلي وعاطفي. هذه الاختلافات بين كل المنظومات الدينية تسبب لي الدوار. (ج):
المعرفة هي التي تحررك وتجلب لك الطمأنينة. (س):
ولكنها لم تجلب لي حتى الآن سوى الارتباك. (ج):
إذن سأكتفي بشرح المرحلة الأولى والمرحلة الثامنة من مراحل طريق البوذا. المرحلة الأولى يدعوها بالرؤية السليمة، وهي أن يتخلص المرء من الطقوس والخرافات البدائية كلها، وخصوصا ما تعلق منها بالقرابين الحيوانية، وأن يتخلص من الاعتقاد بالأرواح الحالة في مظاهر الطبيعة، وبالجن والعفاريت من أي نوع، ومن الاعتقاد بوجود خالق أعلى للكون يمكنه أن يمد يد العون للإنسان في سعيه إلى التحرر. أما المرحلة الثامنة والأخيرة فهي التأمل السليم، وهو ممارسة الاستغراق الباطني الذي يدفع السالك إلى عتبة الاستنارة؛ ففي جلسة الاستغراق التي نراها في تماثيل البوذا، يقوم المستغرق بتركيز وعيه على الآن وكأن الزمان قد توقف، فلا ماضي للوعي ولا مستقبل، في لحظة متطاولة تبدو وكأنها حاضر أبدي. ولهذا الاستغراق في الممارسة البوذية ثماني درجات توصل الدرجة الأخيرة منها إلى النيرفانا. (س):
لماذا تجنب البوذا الحديث عن حالة الوجود في النيرفانا؟ (ج):
هل تذكر ما قاله إخوان الصفاء في الآيات القرآنية التي تصف أحوال أهل الجنة وأهل النار؟ (س):
نعم. لقد قالوا بأنها مجرد رموز من أجل تقريب حالة الأرواح الناجية إلى ذهن العامة. (ج):
نعم؛ فتلك الحالة لا تنتمي إلى ما نعرفه من أحوال الدنيا، وبالتالي لا يمكن وصفها من خلال المفاهيم العقلية؛ ولذلك فقد رفض البوذا الحديث عنها لكيلا يأخذ تلاميذه عنها فكرة خاطئة. وقد اتخذ البوذا الموقف نفسه من بقية المسائل الميتافيزيكية؛ التي رأى أن لا علاقة لها بكدح المريد من أجل الانعتاق؛ ولذلك قال لتلاميذه في خطاب مشهور له ما يأتي: «ضعوا نصب أعينكم ما أكدته لكم وميزوه عما لم أؤكده لكم؛ فأنا لم أؤكد لكم أن العالم قديم، ولم أؤكد لكم أنه حادث. لم أؤكد لكم بأن العالم زائل، ولم أؤكد لكم بأنه أبدي. أنا لم أؤكد لكم بأن الروح والجسد شيء واحد، ولم أؤكد بأنهما شيئان. لم أؤكد لكم أن المتنور يتابع وجوده بعد الموت، ولم أقل إنه لا يتابع وجوده بعد الموت، أو يصير إلى حالة لا هي بالوجود ولا بالعدم. أما لماذا لم أؤكد لكم هذه الأمور فلأنه لا فائدة منها ولا علاقة لها بأساسيات تعليمي. وبالمقابل فقد أكدت لكم أن وجود الإنسان شقاء، وأشرت إلى سببه، وعلمتكم الطريق إلى رفع الشقاء عنكم. أما لماذا أكدت لكم هذه الأمور فلأنها ذات فائدة ولأنها ذات صلة بتعليمي، إنها تزيل الرغبة من نفوسكم، وتهبكم المعرفة والحكمة العليا التي تقود إلى النيرفانا.» (س):
أرى أن الطريق الذي رسمه البوذا للراغب في الانعتاق طريق شاق، لا سيما وأنه يسير فيه وحيدا دون مدد من إله أو معونة من بشر. (ج):
لقد خلع البوذا الآلهة القديمة عن عروشها، وأصبحت مناصبها مجرد مقامات عابرة للمثوبة يشغلها الأبرار في طريقهم نحو الانعتاق؛ ولذلك فإنها لا تستطيع تقديم معونة للإنسان، والصلاة أو الضراعة إليها لا معنى لها ولا فائدة ترجى من ورائها. ولعل مما يزيد من وحدة السالك في هذا الطريق هو أن عليه أن يقطع الروابط العاطفية كلها التي تشده إلى الأمكنة أو الأشخاص؛ فمحبة الآباء أو الزوجات أو الأطفال أو الأصدقاء مجلبة للشقاء؛ لأن هنالك الانفصال والموت والمرض ومئات الأحوال التي تحيل هذه المحبة إلى شقاء، وهذا الشقاء يمكن تجنبه عند الذين لا يحبون شيئا ولا يكرهون شيئا. وموقف البوذا بخصوص هذه المسألة توضحه قصص عديدة من التراث البوذي، ومنها أن امرأة جاءت إليه باكية بعد أن فقدت حفيدها الغالي جدا عليها، فسألها البوذا: كم يوجد من الناس في مدينتك؟ وعندما تلقى جوابها قال: أوتريدين أن يكون لك أحفاد بعددهم؟ قالت : نعم، نعم. فقال لها البوذا بلطف: ولكن إذا كان لديك أولاد وأحفاد بعدد هؤلاء فسوف تبكين كل يوم؛ لأن الناس يموتون كل يوم في مدينتك. إن الذين لديهم مائة شخص عزيز لديهم مائة بلوى، والذين لديهم عزيز واحد لديهم بلوى واحدة، والذين ليس لديهم شخص أو شيء عزيز ليس لديهم بلوى.
وتروي الموروثات البوذية عن شاب ترك بيت أهله وتحول إلى حياة النسك والتشرد ينتقل من مكان إلى مكان وهو يستعطي الطعام على طريقة الرهبان البوذيين. وبعد ثلاث سنوات قادته قدماه إلى بلدته الصغيرة فوقف أمام باب بيته وقرع الباب. وكان في البيت غرفة خارجية أعدها أبوه منذ زمن لاستقبال الرهبان العابرين، يقيمون فيها ويأكلون ثم يتابعون سفرهم، فأدخلته أمه دون أن تتعرف عليه في زي الرهبان وقد نحل جسمه وتغيرت هيئته، وراحت تقدم له الطعام في كل يوم مدة ثلاثة أشهر دون أن يكشف لها عن شخصيته ثم غادرها بهدوء. وبعد ذلك جاء من تعرف عليه من أصدقائه القدامى وأخبر الأم بحقيقته، فصلت الأم وقالت: لا بد أن المبارك كان في ذهنه كهنة مثل ابني. لقد أكل في منزل الأم التي أنجبته ثلاثة أشهر ولم يقل لي أنا ابنك. (س):
البوذي الباحث عن الانعتاق في هذه الحالة هو فرد منسحب تماما من المجتمع وليس معنيا إلا بخلاصه الفردي. (ج):
أبدا، فالبوذي منسحب من الحياة اليومية ومن كل ما يرغب به الناس العاديون، ولكنه جاهز للمساهمة في أي نشاط يعود على المجتمع ككل بفائدة، بمعنى أن التزامه ذو طابع شمولي. وهو في مقابل رفضه للارتباط العاطفي بشخص أو مكان ما، فإنه ينمي في داخله محبة للبشر، إنه يمتلك ذلك الحنو الذي أكنه البوذا نحو الجميع والذي تبدى في حياته التي كرسها للوعظ والتعليم وبدافع محبة غير محدودة مبذولة للجميع. ومثل هذه المحبة تغدو ينبوعا للفرح لأنها متجردة عن الغرض، على عكس المحبة الموجهة نحو شخص ما، والتي تكون ذات طابع اتكالي عاطفي ومحفوفة بمخاطر الشقاء والألم. وهذا النوع من المحبة لا يتطلب المعاملة بالمثل، ويبذل للأخيار والأشرار على قدم المساواة.
وموقف البوذا هنا يشبه موقف يسوع المسيح الذي قال في موعظة الجبل: «سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات؛ لأنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين؛ لأنه إذا أحببتم الذي يحبونكم فأي أجر لكم؟» (إنجيل متى، 5: 43-46). وينقل الموروث البوذي عن المبارك قوله: «إذا تكلم الإنسان أو تصرف بفكر نقي رافقته السعادة مثل ظله. بالنسبة إلى الذين يقولون: لقد أساء معاملتي، ضربني، غلبني، سلبني، فإن الكراهية لن تزول. أما بالنسبة للذين لا يضمرون في أنفسهم مثل هذه الأفكار فإن الكراهية سوف تزول؛ لأن الكراهية لا تزول بالكراهية أبدا وإنما بالمحبة.»
وأيضا: «إذا شتمك أحدهم فعليك أن تكبح استياءك، وأن تتخذ قرارا بألا تفلت من فمك كلمة غضب واحدة، وتبقى لطيفا، ودودا، ومحبا دون حقد دفين. وكذلك إذا هوجمت بعد ذلك وضربت.» (س):
ما زلت لا أفهم كيف يمكن للبوذي أن يمتلك ذلك الحنو تجاه العالم وتلك المحبة للبشرية في الوقت الذي يدير ظهره لمن حوله من البشر؟ ولا كيف يستطيع تقديم العون للمجتمع ككل في الوقت الذي يرفض فيه إقامة علاقات حميمة مع من حوله؟ (ج):
هذه المسائل الدقيقة في تعاليم البوذا، وما يطرحه طريق البوذا من صعوبات أمام السالك فيه، كانت وراء إدخال تغييرات عميقة على البوذية. ولم ينقض قرنان من الزمان على وفاة البوذا حتى وقع الخلاف بين المفكرين البوذيين في مسائل العقيدة؛ فقد رأى فريق منهم أن صرامة الطريق الأصلي بحاجة إلى تلطيف؛ لأنه لا يسمح إلا بخلاص فئة قليلة مختارة من البوذيين، ويتجاهل رغبة العامة في الخلاص على الرغم من عدم قدرتهم على تحمل مشاق الطريق. وقد قام هؤلاء بإدخال تغييرات على العقيدة من شأنها مساعدة أكبر عدد ممكن من الناس على سلوك طريق الانعتاق. وترافق ذلك مع حملة تبشيرية واسعة قادها الإمبراطور أسوكا الذي وحد الهند وتحول بعد ذلك إلى البوذية، كان من شأنها نشر البوذية في مناطق واسعة من الشرق الأقصى بشكليها الأصلي والمحدث.
دعا المجددون عقيدتهم بالمركبة الكبرى أو الماهايانا/
Maha-Yana ؛ لأنها قادرة على نقل عدد كبير من المؤمنين من عالم الشقاء إلى عالم النيرفانا، بينما أطلق على العقيدة الأصلية اسم المركبة الصغرى أو الهينايانا/
Hina-yana ؛ لأنها مركبة النخبة. ثم إن الماهايانا في ارتحالها نحو الشرق الأقصى صارت تكتسب في كل قطر شكلا جديدا إلى أن تحولت البوذية إلى عائلة أديان، ولم تعد دينا واحدا، وهذه الأديان لا يجمعها سوى شخصية البوذا الحنونة والدافئة والمعنية بخلاص البشر، وبذلك تم التركيز على المعلم وإهمال تعاليمه. (س):
ما هي أهم التعديلات التي أدخلتها الماهايانا على تعاليم المبارك كما تدعوه؟ (ج):
لقد تمسك الناس العاديون بالرجل الكامن خلف تعاليمه ورأوا فيه الألوهية، فكان جسده مسكنا يتحرك فيه كائن سماوي جاء إلى الأرض في جسد مجيد يتخلل الجسد المادي الأرضي. وبما أن هذا الإله بحاجة إلى بطانة سماوية، فقد تبع تأليه البوذا في الماهايانا ظهور كائنات ماورائية أخرى تتصف بالحنو الذي اتصف به البوذا، وتمد يد العون إلى الناس الذين لا يستطيعون تحقيق الخلاص بالجهد الذاتي، وهي تسمع النداء وتقبل الصلوات، وهؤلاء هم البودهيساتفات، ومفردها بودهيساتفا. والبودهيساتفا هو إنسان حقق الاستنارة، ولكنه بعد الموت رفض الدخول في النيرفانا لكي يستطيع عون الآخرين. ولكل واحد من هؤلاء البودهيساتفا اسم وسيرة حياة وطريقة في العمل.
لقد أعطى البوذا للإنسان الحرية، وجعله مسئولا عن خلاصه، ولكنه رفضها وعاد إلى العبودية. (س):
هل اختفت الهينايانا أو المركبة الصغرى بعد أن اشتد عود الماهايانا؟ (ج):
كلا، فهي ما تزال حية في سيلان وبعض مناطق جنوب شرق آسيا (أو الهند الصينية)، ولكن مع تعديلات فرضتها حاويتها الثقافية الجديدة. (س):
هل يمكن وضع التاوية في زمرة واحدة مع الجاينية والبوذية انطلاقا من التزامها أيضا بالمبدأ اللاإلهي؟ (ج):
أبدا، التاوية نسيج وحدها. ومن حيث المبدأ فإنها تختلف عن الجاينية والبوذية في مسألتين؛ فالجاينية والبوذية تريان أن العالم قديم ولا خالق له، وهو يعمل وفق آلية دقيقة في استقلال عن أي إرادة أو قوة فاعلة خارجية كانت أم داخلية. أما التاوية فتعتقد بوجود مبدأ كلي غير مشخص فاعل في الكون من داخله لا من خارجه، بطريقة أشبه ما تكون بفعل الخميرة في العجين. وفعالية هذا المبدأ تنجم عن قوته ذات الطبيعة المزدوجة والتي تبدت في عالم الظواهر في قوة اليانغ الموجبة وقوة الين السالبة، وعن دوران هاتين القوتين على بعضهما نجمت مظاهر الخليقة جميعها. والجاينية والبوذية تنكران العالم وترسم كل منهما طريقا للانعتاق منه، أما التاوية فلا تنكر العالم وإنما ترسم الطريق الأمثل للحياة فيه. (س):
في أحاديثك السابقة اقتبست العديد من أقوال الحكيم لاو-تسو مؤسس التاوية. فمن هو هذا المعلم الغامض الذي لا نعرف عنه مثلما نعرف عن البوذا؟ (ج):
يلف الضباب شخصية لاو-تسو، وكل ما استطاع قدامى المؤرخين الصينيين قوله في سيرة حياته، هو أن هذا الحكيم عاش في زمن ما بين أواسط القرن السادس وأواسط القرن الخامس قبل الميلاد. وقد عمل قيما على مكتبة القصر الملكي في عاصمة مملكة تشاو الصينية، ثم قرر ترك عمله ومغادرة العاصمة إبان فترة الاضطرابات التي عصفت بالمملكة. وعندما كان يجتاز بوابة المدينة أوقفه رئيس الحرس وطلب منه أن يكتب له ملخصا عن حكمته التي اشتهر بها، فأنجز كتابه الصغير المعروف بعنوان تاو-تي-تشينغ؛ أي رسالة في التاو وقوته، والذي يتألف من خمسة آلاف شارة كتابية صينية، أو أقل من ألف وخمسمائة كلمة في ترجماته إلى اللغات الألفبائية. وبعد ذلك اختفى ولم يسمع أحد عنه شيئا. ويقول أحد المعلقين على سيرته: لقد كان شخصية فذة ومتفوقة، وأحب دوما أن يبقي نفسه مجهولا. وقد عبر لاو-تسو عن فلسفة التواضع هذه في أكثر من فصل من فصول كتابه، ومنها :
يغدو النهر ملكا على مئات الجداول؛
لأنه أوطأ منها منسوبا؛
لذا فإن من أراد أن يحكم أمة،
عليه أن يتضع أمامها.
ومن أراد أن يقود شعبا،
فعليه أن يسير وراءه أولا. (الفصل 66)
وأيضا:
من يتطاول على أطراف أصابعه لا يقف طويلا.
من يوسع خطاه لا يمشي بعيدا.
من يظهر نفسه لا يبدو للعيان.
من يعتبر نفسه دوما على حق لا يحوز المكانة.
من يتبجح لا ينال الاعتراف. (الفصل 24)
يتألف الكتاب من 81 فصلا، ويتألف الفصل من عدد من الأبيات أو الأسطر، أقصرها يحتوي على أربعة وأطولها يحتوي على خمسة عشر. والكتاب بمجمله ليس نصا فلسفيا مطردا، وإنما عبارة عن حكم مليئة بالإيحاءات والإشارات الضمنية مصاغة بأسلوب مكثف ومختصر يصل حد الإلغاز أحيانا، وهذا ما جعله موضع دراسة وشرح وتفسير منذ القدم إلى يومنا هذا. (س):
من يقرأ ترجمتك لكتاب التاو-تي-تشينغ الصادرة عام 1998، يلاحظ مدى إعجابك به وربما تبنيك لأفكاره! (ج):
لم تكن ترجمة وإنما صياغة عربية للنص، اعتمدت فيها على أربع ترجمات إنكليزية أعدها باحثون صينيون وترجمة فرنسية، وزودت النص بمقدمة عن الفكر الصيني وبشروحات مستفيضة لكل فصل. وفي الطبعة الصينية للكتاب الصادرة عام 2009م، قام الباحث الصيني تشاو تشينغ قوه بمراجعة ترجمتي على النص الصيني القديم، وجرى تزويدها بمقدمة طويلة كتبها أستاذ في جامعة بكين. أما عن إعجابي بالكتاب فإن كلمة إعجاب لا تكفي عندي لإيلائه حقه؛ فأنا أرى فيه دواء شافيا لكل أمراض حضارة إنسانية ضلت طريقها. (س):
بما أننا نتحدث في هذا المحور عن المبدأ اللاإلهي، دعنا نستكشف أفكار لاو-تسو التي تقوم على هذا المبدأ مع نقيضها الذي يتمثل بشكل خاص في أديان التوحيد الشرق أوسطية. (ج):
هذا مدخل مناسب، وسأبدأ من طبيعة المبدأ الكلي. (1) في طبيعة المبدأ الأول أو الكلي:
المبدأ الكلي في دين التوحيد هو كينونة إلهية ذات شخصية واسم تعرف به، مستقلة عن العالم وتفعل فيه فعلا إراديا قصديا ذا هدف وغاية. أما عند لاو-تسو فقدرة بلا شخصية تتخلل العالم وتفعل فيه فعلا لا إراديا ومجردا من الهدف والغاية. وهو إذ يدعوها بالتاو؛ أي الطريق، فإنه لا يسميها وإنما يصرف الذهن عن الاسم إلى الطريقة التي يفعل بها هذا المبدأ في الكون والطبيعة. وفي هذا يقول المعلم في الفصل الأول:
التاو الذي يمكن التحدث عنه،
ليس التاو السرمدي.
اللامسمى (أو العدم) هو بداية السماء والأرض. (س):
لماذا اقترن اسم اللامسمى بالعدم في البيت الأخير أعلاه؟ (ج):
في الفلسفة التاوية كل ما له شكل وهيئة مادية يحمل اسما ما، أو هنالك إمكانية لأن نطلق عليه اسما. أما ما يقع خارج الشكل والصورة فليس له اسم؛ فالطاولة تدعى طاولة لأن لها من الخصائص ما يدفعنا لتسميتها طاولة، ولكن التاو ليس له صفات وخصائص من هذا النوع؛ ولذلك عندما ندعوه بالتاو فذلك من قبيل الإشارة إليه دون تسميته، فهو عدم بمعنى خاص يتضمن كونه مختلفا عن مظاهر الكون والطبيعة، وفي الوقت نفسه فإن وجودها المادي مستمد منه. (س):
هذه الصعوبة التي يطرحها الفصل الافتتاحي ربما أثارت اليأس في نفس القارئ! (ج):
هذا إذا لم يكن لديه مرشد حاذق يقوده في متاهات الكتاب. لننظر أيضا إلى ما ورد في الفصل 25 بخصوص الاسم:
لا أعرف اسمه فأدعوه التاو.
لا أستطيع وصفه فأقول العظيم.
عظمته امتداد في المكان.
الامتداد في المكان يعني امتدادا بلا نهاية.
الامتداد بلا نهاية يعني العودة إلى نقطة المبتدى. (س):
لماذا تتجلى عظمة التاو في الامتداد في المكان؟ (ج):
لأنه يتخلل كل شيء، ويوجد في كل شيء. وهناك محاورة جرت بين حكيم كونفوشي وحكيم تاوي ابتدأها الكونفوشي بسؤاله: أين نجد هذا الشيء الذي تدعونه بالتاو؟ فأجاب التاوي: إنه في كل مكان. فأخذ الكونفوشي يسأل عن الأمكنة التي يمكن أن يوجد فيها التاو، والتاوي يقول له: نعم. نعم. نعم. ثم نظر إلى الأرض ورأى بقية من روث البقر فقال للكونفوشي: لا تسأل أين يوجد التاو. إنه موجود حتى في روث البقر. (س):
ولماذا يكون في الامتداد بلا نهاية عودة إلى نقطة المبتدى؟ (ج):
لقد أدرك لاو-تسو بحدسه المبدع أن الكون الذي نعيش فيه هو كون مغلق ولا وجود لمكان خارجه؛ ولذلك فإن الامتداد في المكان مهما استمر فإنه لا يتجاوز حدود الكون، وإنما ينقلب عائدا إلى نقطة المبتدى. والفيزياء الكونية تقول لنا اليوم إن الكون محدود ولا نهائي في الآن نفسه؛ فهو لا نهائي لأن حدوده الخارجية في توسع دائم مع تباعد المجرات عن بعضها بسرعات خيالية، وهو التباعد الذي نجم عن لحظة الانفجار الكبير الذي تولد عنه الكون، ولكنه محدود ومغلق لأن الثابت الكوني وهو سرعة الضوء لا يستطيع النفاذ من أقطاره فيرتد عائدا إلى نقطة تولده. وبتعبير آخر، لو أن أحدنا نظر في منظار يكشف حتى حدود تلك المجرات الواقعة على حافة الكون فإنه لن يصل أخيرا إلا لرؤية نقرة رأسه.
أنتقل من وجع الدماغ الذي تحدثه هذه الأفكار إلى النقطة الثانية. (2) في دين التوحيد يتعرف الناس على الله من خلال مختارين من البشر هم الأنبياء الذين خصهم الله بالوحي وكشف لهم عن مقاصده في عالم الطبيعة والبشر؛ فالحكمة التي تعين البشر على معرفة المبدأ الكلي هي والحالة هذه حكمة إلهية علوية، أما في التاوية فحكمة إنسانية، والمعرفة لا تأتي من قراءة الكتب المقدسة بل من تجربة ذوقية داخلية تجعلنا في تواصل مع المبدأ دون كلمات؛ ولذلك يقول المعلم:
في قلة الكلام تناغم مع الطبيعة.
الطبيعة لا تعبر عن نفسها بالكلمات (الفصل 5).
وأيضا:
الذين يعرفون لا يتكلمون،
والذين يتكلمون لا يعرفون (الفصل 56).
وأيضا:
الكلام الكثير يقود أخيرا إلى الصمت.
ثبت قلبك على جوهر الفراغ (الفصل 5).
فمعرفة التاو لا تتطلب الكلام ولا التفتيش في الكتب، وهي ليست معرفة عقلية بل معرفة حدسية تنشأ من تثبيت الذهن في أحوال التأمل على جوهر الفراغ أي على طبيعة التاو والتي هي خواء، ولكن هذا الخواء ليس حالة عطالة مطلقة، وإنما حالة فعالية تشبه فعالية القوانين الطبيعية المعدومة بالنسبة لأحوال الوجود المعروفة لنا، ولكنها كامنة وراء جميع أحوال هذا الوجود وفاعلة فيه؛ ولذلك يتحدث لاو-تسو عما يمكن لنا تسميته بالفراغ المليء:
التاو فارغ،
ولكن النضح منه لا ينضبه،
لا يسبر غوره، منشأ الآلاف المؤلفة (= مظاهر الكون جميعها). (س):
كيف يكون الشيء فارغا ومهما أخذنا منه لا ينضب؟ (ج):
لأنه يحتوي على إمكانيات الوجود وليس على موجودات مادية قابلة للنفاد. وهذه الإمكانيات تتحول من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل باستخدام مصطلحات فلسفية. (س):
هل أعطانا أمثلة عن الفراغ باعتباره حالة فعالية؟ (ج):
نعم. يقول في الفصل «11»:
اجمع أقطار العجلة الثلاثين عند مركزها،
وانظر كيف يعطيك اللاشيء في المركز حركة ودورانا.
اعجن الصلصال وشكله إناء،
وانظر كيف يعطيك اللاشيء في الداخل استعمالا.
ابن غرفة بنوافذ وأبواب،
وانظر كيف يقدم لك اللاشيء في داخلها مسكنا.
ما نحصل عليه هنا هو شيء،
ولكن بفضل اللاشيء يكتسب الشيء وظيفته.
وهنا يمكن أن أضيف مثالا من عندي إلى حجة لاو-تسو بخصوص دور الفراغ أو اللاشيء، مستمدا من الموسيقى؛ فاللحن الموسيقي لا يمكن تمييزه إلا بتتابع الصمت والصوت؛ فالصمت هو الفراغ أو اللاشيء، والصوت هو الشيء، وإذا لم يفصل الفراغ بين نقرتين على أوتار العود فإن ما يمكن أن نسمعه لن يكون أكثر من فوضى صوتية لا معنى لها. (س):
يبدو أن الأفكار التي تسبب وجع الدماغ ما زالت تتوالى! (ج):
أعتقد أن ما سيأتي هو أقل صعوبة.
في الخلق والتكوين:
في أديان التوحيد يظهر العالم إلى الوجود من خلال فعل إرادي للإله الخالق وخطة محكمة مسبقة في عقله المفارق لعالم المادة والفاعل فيها. أما عند لاو-تسو فإن ظهور العالم أشبه ما يكون بعملية تفتح زهرة تدفعها من داخلها فعالية خلاقة. ومن خلال هذه الفعالية يتحول التاو إلى ما لا يحصى من مظاهر العالم الحية والجامدة (أو الآلاف المؤلفة بالتعبير التاوي)، وذلك عن طريق تناوب قوة اليانغ الموجبة وقوة الين السالبة. هذا الفعل غير القصدي هو نوع من اللافعل، أو الفعل من خلال اللين لا الفعل من خلال ممارسة القوة:
التاو ليس من شيمته الفعل،
ومع ذلك لا يترك شيئا بحاجة إلى إتمام. (الفصل 37).
وأيضا:
بتكامل الأضداد يتحرك التاو،
باللين ينجز عمله.
وما دام التاو ليس خالقا للعالم بالمعنى الديني للكلمة فإنه لا يلعب تجاهه دور السيد المتحكم، بقدر ما يلعب دور القوانين الطبيعية في المفاهيم العلمية الحديثة؛ فالأشياء تنشأ تلقائيا وبشكل متزامن في معزل عن مبدأ السببية؛ فلا حاكم ولا محكوم، والكل يحدث من تلقاء ذاته وفي ارتباط وثيق مع حدوث الآخر. عن هذا النشوء التلقائي المتزامن يقول تشوانغ تزو تلميذ المعلم: «قد يبدو أن للعالم سيدا ولكن ما من دلائل تدل على وجوده ... لننظر إلى الجسد الإنساني كنموذج للعالم، بعظامه المائة وفتحاته التسع وأجهزته الداخلية الستة، كم هي متكاملة وفي أماكنها الصحيحة. هل أستطيع وضع أسبقية لأحدها على الآخر؟ هل أضعها جميعا على قدم المساواة؟ هل كلها خدم لا تستطيع ضبط بعضها بعضا؟ هل تتبادل دور الخادم والسيد على التوالي؟ ألا ترى أن هنالك شيئا جوهريا موجودا في صميم تكاملها؟» (س):
إذن فالعالم يسير دون مسير! (ج):
نعم، وهذا يحصل نتيجة لتفاعل مكوناته مع بعضها البعض، وكل عنصر هو فاعل ومنفعل، سيد وخادم، في الآن نفسه. (3) العلاقة بين المبدأ الكلي والبشر:
العلاقة بين الله والبشر في أديان التوحيد هي علاقة طقسية شعائرية؛ فقد خلق الله البشر وسخر لهم الطبيعة ونبات وحيوان الأرض لأجل معاشهم، وعليهم في المقابل شكره الدائم على نعمه وتقديم فروض الطاعة والعبادة له. أما عند لاو-تسو فإن نعم المبدأ الكلي تفيض من خلال تلقائية كونية لا سيد فيها ولا مسود، والكل يعيش حالة وجود تشاركي لا فضل فيه لأحد عناصره على الآخر. وفي هذا يقول المعلم:
الآلاف المؤلفة تظهر وتختفي بلا توقف.
ما يعطيها الحياة لا يدعي امتلاكا.
يكمل عمله ولا يدعي فضلا.
العمل ينجز ثم ينسى؛
ولذلك فإن أثره لا يفنى. (الفصل 2)
وأيضا:
إنه يعطي ويغذي.
يعطي الحياة ولا يدعي امتلاكا.
يغذي ولا يأمل عرفانا.
يدبر ولا يبسط سلطانا. (س):
إذا أردنا أن نشكر التاو فماذا نفعل؟ (ج):
تشبه به على قدر طاقتك الإنسانية. (4) في الأخلاق:
في دين التوحيد تهبط الشرائع الأخلاقية من السماء، والإله هو الذي يبين للناس طريق الخير وطريق الشر. وهذا يعني الإنسان لا يتمتع بوازع أخلاقي أصلي، وهو لا يسلك في طريق الخير إلا امتثالا للأمر الإلهي. أما عند لاو-تسو فإن الفضيلة كامنة في صلب النظام الطبيعي، وما على الإنسان إلا أن يضع نفسه في حالة تناغم مع هذا النظام لكي يستطيع تلمس الفضيلة في داخله دون حاجة إلى تلقين، أو إلى اتباع لوائح أخلاقية صاغتها له قوة علوية. وبتعبير آخر، فإن عمل الخير يأتي دون قصد أو تصميم، وهو شكل من أشكال التلقائية على مستوى الكون وفي النفس الإنسانية. يقول المعلم:
رجل الفضيلة الكاملة لا يشعر بفضيلته؛
ولذا فإنه رجل فاضل.
البعيد عن الفضيلة مشغول بها على الدوام،
ولذا فإنه رجل غير فاضل.
رجل الفضيلة لا يفعل،
ومع ذلك لا يترك شيئا بحاجة إلى إتمام. (الفصل 38) (س):
لماذا على إنسان الفضيلة ألا يشعر بأنه رجل فاضل، وما السوء في ذلك؟ (ج):
رجل الفضيلة لا يشعر بأنه مخير بين إتيان الحسنة أو إتيان السيئة، لأن كل أفعاله حسنات من دون قصد أو تفكير، أما الآخر فإنه دوما يختار لأن الحسنة والسيئة في داخله تتنازعان، وعندما يختار فعل الحسنة فإن ذلك يحدث عن قصد وتصميم، وهو غالبا ما يتوقع الثناء والإعجاب؛ ولذلك يقول المعلم أيضا:
إذا اتبعت طريق السماء،
تبذل الحسنة لا السيئة.
إذا اتبعت طريق السماء،
تفعل ولا تبغي من وراء ذلك عرفانا. (الفصل 81)
وفي هذا يقول تشوانغ تزو: «كان الناس في تلك الأيام مستقيمين في سلوكهم دون أن يعرفوا أن في ذلك صلاحا، وكانوا محبين لبعضهم دون أن يعرفوا أن في ذلك خيرا، وكانوا مخلصين دون أن يعرفوا أن في ذلك صدقا، كانوا يساعدون بعضهم دون أن يعرفوا أن في ذلك أخذا وعطاء؛ لذا فإن أعمالهم لم تترك أثرا، ولا نملك سجلات عن أخبارهم.»
وبهذا الخصوص ينقل لنا تشوانغ تزو حوارية بين لاو-تسو وكونفوشيوس يقول لاو -تسو لكونفوشيوس في خاتمتها: «لننظر إلى الكون وصيرورته الدائمة التي لا تنقطع، إلى الشمس والقمر وضيائهما الدائم، إلى النجوم في تجمعاتها، إلى الطير والوحش في أفواجها، إلى الشجر والقصب المشرئب دوما نحو الأعلى. كن كهؤلاء، اتبع التاو فتغدو كاملا. لماذا كل هذه العناء العقيم في البحث عن الإحسان والواجب؟ إنه يشبه قرع الطبل في البحث عن الفار الذي تسعى وراءه. وا أسفاه يا سيدي! لقد جلبت الكثير من التشوش إلى عقول الناس.» (5) في الثواب والعقاب:
في دين التوحيد تتصل المنظومة الأخلاقية الدينية بالثواب والعقاب؛ فالله يثيب فاعل الخير ويعاقب فاعل الشر، والإنسان في خياره الأخلاقي يتصرف عن خوف من العقاب وطمع في الثواب. أما عند لاو-تسو فإن ثواب الخير يكمن في الخير نفسه لا في مكافأة تترتب عليه، والثاوي يقوم بواجبه دون النظر إلى مردود، وهذا ما يأخذ بيده إلى النجاح دون أن يطلبه. يقول المعلم:
عندما تتبع طريق السماء،
فإنك تربح دون نضال،
تحصل على ما تريد دون سؤال،
يأتيك النجاح دون أن تسعى إليه. (الفصل 73) (س):
هل تعبير «طريق السماء» هنا معادل للتاو؟ (ج):
نعم. ولاو-تسو هنا يستخدم تعبيرا مفهوما لدى أهل بقية العقائد؛ فالسماء في ذلك الوقت كانت بمثابة الحضور الروحي الجليل والقوة الأخلاقية الأعظم، وكان على الحكماء والحكام الوقوف في خشوع في حضرة السماء واستيعاب مشيئتها باعتبارها ألوهة كونية غير مشخصة؛ ولذلك يقول في الفصل (79):
طريق السماء حيادي،
ولكنه يبقى إلى جانب الإنسان الطيب.
والمعلم هنا لا يقصد إلى القول بأن التاو يقف بشكل قصدي إلى جانب الإنسان الطيب، بل إلى أن الشخص الطيب الذي يتماثل مع التلقائية الكونية يجدها دوما إلى جانبه دون قصد منه أو منها. والمسألة هنا مثل سرب طيور مهاجرة انعكست صورته على سطح ماء بحيرة ساكنة؛ فالسرب لم يقصد إرسال صورته إلى سطح البحيرة، والبحيرة لم تقصد أن تعكس صورته.
ويتصل الثواب والعقاب بفكرة الآخرة والحياة الثانية التي تتخذ مركز البؤرة من الفكر الديني التوحيدي؛ فالحياة الدنيا ليست سوى مرحلة قصيرة عابرة تقودنا إلى الحياة الحقة الأبدية. أما لاو-تسو الذي لم يعط اهتماما للمسائل الميتافيزيكية، فإنه لم يتحدث عن فناء الروح ولا عن خلودها، وما على الإنسان سوى أن يحيا حياة طبيعية خلال هذه الفترة المقدرة له في هذه الدنيا دون خوف من الموت أو تعلق بالحياة، ويترك ما عدا ذلك للتلقائية الكونية لكي تتكفل به. وفي تفسير موقف معلمه من هذه المسألة يقول تشوانغ تزو: «الناس في الأيام الخوالي لم يعرفوا حب الحياة ولا كره الموت. الولوج إلى الحياة لم يكن فيه بهجة لهم، والخروج منها لم يكن يثير فيهم جزعا ومقاومة. بهدوء كانوا يأتون وبلا ضجيج كانوا يمضون. لا ينسون ما كانت عليه بدايتهم ولا يتساءلون عما ستئول إليه نهايتهم. لم يكن لديهم نية أو رغبة لمقاومة التاو، ولم يبذلوا جهدا لمعارضة طريق السماء. لقد قبلوا الحياة واغتبطوا بها ثم نسوا وآلوا إلى حالة ما قبل الحياة.» (س):
إذن عقيدة تناسخ الأرواح غير موجودة في التاوية! (ج):
هذا صحيح؛ فعقيدة تناسخ الأرواح هي جزء من منظومة ميثولوجية متشعبة ومتخمة بالمفاهيم، أما التاوية فتهدف إلى مقاربة الحقيقة بشكل مباشر وبدون توسيط المفاهيم، والتاوي لا يقيم علاقة معرفية مع العالم بل معرفة اختبارية ذوقية لا يمكن للكلمات التعبير عنها. وهذا ما يقصد إليه لاو-تسو عندما يتحدث عن التعليم بدون كلمات. يقول في الفصل 48:
في طلب العلم تعرف في كل يوم أكثر،
في طلب التاو تبذل في كل يوم أقل.
تبذل أقل فأقل حتى تصل إلى حالة اللافعل،
وعندما تصل إلى حالة اللافعل،
لا تجد أمرا بحاجة إلى إتمام.
ويقول تشوانغ تزو في تفسير موقف معلمه هذا: «من يتصدى للإجابة عن سؤال حول التاو لا يفهم التاو؛ إذ ما من تساؤل ممكن هنا وما من أجوبة. إن طرح أسئلة لا يمكن الإجابة عنها حماقة، وفي الإجابة عن أسئلة لا جواب لها فقدان للمعرفة الداخلية. التاو يعرف بدون مفاهيم، بدون تفكير عقلي. يمكن مقارنته بالمكوث في اللاشيء باتباع لا شيء، بطلب لا شيء. الحكيم يعلم مبدءا لا يمكن التعبير عنه بالكلمات.» (س):
إن تعبير اللافعل الذي يستخدمه لاو-تسو مرارا لا يعني بالطبع عدم القيام بأي شيء، أليس كذلك؟ (ج):
إنه يعادل تعبير اللاجهد؛ فالإنسان يتوافق مع الطبيعة من خلال ما يدعوه لاو-تسو بحالة اللافعل وعدم التدخل في مسار الأشياء؛ ففن الحياة هو أشبه بفن الملاحة لا بفن القتال، ففي الملاحة يدير الربان شراعه للريح ويستخدم خبرته بها لأجل الإفادة منها لا لمقاومتها، وبذلك يغدو جزءا من النظام الطبيعي للأشياء. وحركة الماء هي إحدى الصور المفضلة لدى لاو-تسو لتوضيح مفهوم اللاجهد. يقول في الفصل 8:
الخير الأسمى يشبه الماء.
الماء يسقي ألوف الحيوات في جريانه بلا جهد،
يرافقها في أماكن لا يرتادها أحد.
وهو في ذلك يشبه التاو.
فالنهر من منبعه إلى مصبه يسير متعرجا بين الأودية، ويلتف حول الصخور والعقبات فيبلغ غايته دون جهد، وعلى الإنسان في سعيه أن يتشبه دوما بجري الماء.
وأيضا:
عندما تتبع طريق السماء،
فإنك تربح دون نضال،
تحصل على ما تريد دون سؤال،
تحقق النجاح دون أن تطلبه. (س):
سلوك طريق اللاجهد يذكرني بالمصارعة اليابانية؛ فقد قرأت في إحدى المرات أنها تقوم على الإفادة من قوة الخصم، فهل كان للتاوية تأثير على فكر اليابان؟ (ج):
هذا صحيح؛ فرياضة الجيدو اليابانية لا تقوم على استخدام القوة للإيقاع بالخصم، وإنما على تنفيذ حركات لينة مدروسة تؤدي إلى الإخلال بتوازنه وتوجيه قوته ضده. وهذه الرياضة تستلهم حكمة الزن اليابانية ذات الخلفية التاوية. وقد تحدث لاو-تسو عن الإفادة من قوة الطرف الآخر عندما قال في الفصل 68:
المقاتل الصنديد لا يظهر عنفا،
والمجلي في المعارك ليس غضوبا،
والمنتصر على عدوه ليس منتقما،
والبارع في القيادة يظهر تواضعا.
هذا ما يدعى بالإفادة من قوة الطرف الآخر،
هذا ما يدعى بالتماثل مع السماء.
وتتصل فلسفة اللاجهد هذه بفلسفة اللين ونكران الذات:
ألين الأشياء في العالم
يقوى على أقسى الأشياء،
ما لا مادة له ينفذ إلى ما لا ثقوب له. (الفصل 43)
وأيضا:
الجسد الحي رقيق ولين،
وكذلك العشب والشجر الأخضر.
الجسد الميت صلب وقاس،
وكذلك العشب الذاوي والشجر اليابس.
القسوة والصلابة من علائم الموت،
واللين والرقة من علائم الحياة.
من هنا فسلاح القوة لا ينفع،
والشجر اليابس يقع تحت ضربات الفأس. (الفصل 76)
وأيضا:
لا يوجد في العالم أرق وألين من الماء،
ومع ذلك فإنه الأقدر على مواجهة القوي والصلب.
هذه حقيقة ناصعة لا مراء فيها.
الضعيف يظهر على القوي،
واللين يقوى على الصلب،
ولكننا لا نضع معرفتنا بذلك موضع التطبيق. (الفصل 78)
أما لماذا لا نضع هذه المعرفة موضع التطبيق فلأن «الكلمات الصادقة تبدي تناقضا» على ما يقول في السطر الأخير من هذا المقتبس؛ فالحكيم عندما يقول بأن ألين الأشياء في العالم يقوى على أقسى الأشياء، فإنه يقول للسامع جملة تحتوي على تناقض ظاهري لا يتفق مع خبرة ذلك السامع العادية في الحياة، والتي تعلمه أن أقسى الأشياء يقوى على ألين الأشياء.
ويقول في نكران الذات:
الحكيم يضع نفسه في المؤخرة فيجدها في المقدمة.
عندما ينسى نفسه يجد نفسه.
لأنه لا يشعر بنفسه قادر على تحقيق ذاته. (الفصل 7)
وأيضا:
الحكيم يعرف نفسه ولكنه لا يظهرها،
يصقل نفسه ولكنه لا يعلي من شأنها. (الفصل 72)
وفي شخص الحاكم تتحد فضيلة اللاجهد بفضيلة نكران الذات:
يغدو النهر ملكا على مئات الجداول؛
لأنه أوطأ منها منسوبا؛
لذا فإن من أراد أن يحكم أمة،
عليه أن يتضع أمامها،
ومن أراد أن يقود شعبا،
عليه أن يسير وراءه أولا.
إذا اعتلى الحكيم قمة السلطة،
لا يشعر بسلطته أحد،
وإذا سار في مقدمة الركب،
لا يشعر بوجوده أحد؛
ولهذا يعطيه الناس ولاءهم عن طيب خاطر. (الفصل 66)
وأيضا:
أفضل الحكام من شابه الظل عند رعيته،
يليه الحاكم الذي يحبون ويمدحون،
فالذي يخافون ويرهبون،
فالذي يحتقرون ويكرهون. (س):
لماذا أتى الحاكم المحبوب هنا في المقام الثاني؟ (ج):
لأن الرعية تشعر بوجوده في الوقت الذي يتوجب عليه أن يكون مثل الشبح أو الظل لا يشعر بوجوده أحد؛ ولذلك يقول في نهاية المقتبس عن الحاكم الظل:
فإذا أكمل مهمته وأتم عمله،
تقول الرعية: لقد حصل ذلك من تلقاء ذاته. (س):
هل يمكننا اعتبار تاوية لاو -تسو دينا؟ (ج):
ربما بسبب مركزية مفهوم التاو في فكر لاو-تسو نستطيع اعتبارها دينا، ولكنه دين بلا كهنوت وبلا طقوس أو معابد وبلا أيديولوجيا، ولكن هذه التاوية الحكموية التي أرادها لاو-تسو سارت بعد عدة قرون من وفاة صاحبها في الطرق التي أرادها البشر، فقامت بعدها ديانة طقسية تاوية لها آلهتها وعقائدها وتصوراتها عن الحياة الثانية والعالم الآخر، وجرى تقديس لاو-تسو على طريقة البوذا، وجعلت له بطانة سماوية تحف به في مسكنه الأعلى، وأنشئت المعابد على نطاق واسع، مما لا أريد التوسع به هنا لأن موضوعنا يدور حول المبدأ اللاإلهي وغروب الآلهة في معتقدات الشرق الأقصى.
ناپیژندل شوی مخ