الجهاد في سبيل الله تعالى
الجهاد في سبيل الله تعالى
خپرندوی
مطبعة سفير
د خپرونکي ځای
الرياض
ژانرونه
سلسلة مؤلفات سعيد بن علي بن وهف القحطاني
الجهاد
في سبيل الله تعالى
مفهومه، وحُكْمه، ومراتبه، وضوابطه، وأنواعه، وأهدافه، وفضله، وأسباب النصر على الأعداء
في ضوء الكتاب والسنة
تأليف الفقير إلى الله تعالى
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني
الطبعة السادسة ١٤٣١هـ
ناپیژندل شوی مخ
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم يبعثون، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد.
فهذه كلمات مختصرات في «الجهاد في سبيل الله تعالى»، بَيَّنْتُ فيها: مفهوم الجهاد، وحكمه، ومراتبه، وضوابطه، وأنواع الجهاد في سبيل الله، وأهدافه، والحكمة من مشروعيته، وفضله، والترهيب مِن ترك الجهاد في سبيل الله، وبيان شهداء غير المعركة، وأسباب وعوامل النصر على الأعداء، والله ﷿ أسال أن ينصر المجاهدين في سبيله في كل مكان، وأن يوفقهم للعمل بعوامل النصر وأسبابه، والإخلاص في القول والعمل، والرغبة فيما عند الله من الثواب العظيم، والتجارة الرابحة، والفوز بسعادة الدنيا والآخرة.
وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل القليل مباركًا، وأن ينفعني به في حياتي، وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه سبحانه أكرم مأمول وخير مسؤول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا
1 / 3
بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف
الرياض في ٦/ ٢/١٤١١هـ
1 / 4
المبحث الأول: تعريف الجهاد لغة وشرعًا
أولًا: تعريف الجهاد لغة:
هو: بذل واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل (١).
ثانيًا: تعريف الجهاد شرعًا:
هو: بذل الجهد من المسلمين في قتال الكفار المعاندين المحاربين، والمرتدين، والبغاة ونحوهم؛ لإعلاء كلمة الله تعالى (٢).
_________
(١) انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، ١/ ٣١٩، باب الجيم مع الهاء، والمصباح المنير، مادة «جهد»، ١/ ١١٢.
(٢) انظر: فتح الباري، لابن حجر، ٦/ ٢، ومنتهى الإرادات، لمحمد بن أحمد الفتوحي، ٢/ ٢٠٣، والإقناع لطالب الانتفاع، للحجاوي، ٢/ ٦١، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، ٤/ ٢٥٣، وسبل السلام للصنعاني، ٧/ ٢٣٧، ونيل الأوطار للشوكاني، ٥/ ٦، والمغني لابن قدامة، ١٣/ ١٠، والمقنع مع الشرح الكبير والإنصاف، ١٠/ ١٢، والشرح الممتع لابن عثيمين،٨/ ٨.
1 / 5
المبحث الثاني: حكم الجهاد في سبيل الله
الجهاد فرض كفاية إذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن الباقين (١). قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (٢).
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في فرضية الجهاد: «لابد فيه من شرط، وهو أن يكون عند المسلمين قدرة وقوة يستطيعون بها القتال، فإن لم يكن لديهم قدرة، فإن إقحام أنفسهم في القتال إلقاء بأنفسهم إلى التهلكة؛ ولهذا لم يوجب الله ﷾ على المسلمين القتال وهم في مكة؛ لأنهم عاجزون ضعفاء، فلما هاجروا إلى المدينة، وكوَّنوا الدولة الإسلامية، وصار لهم شوكة أُمروا بالقتال، وعلى هذا فلابد من هذا الشرط، وإلا سقط عنهم كسائر الواجبات؛ لأن جميع الواجبات يشترط فيها القدرة؛ لقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ (٣)، وقوله: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (٤» (٥). انتهى كلامه ﵀.
_________
(١) انظر: المغني لابن قدامة، ١٣/ ٦.
(٢) سورة التوبة، الآية: ١٢٢.
(٣) سورة التغابن، الآية: ١٦.
(٤) سورة البقرة، الآية: ٢٨٦.
(٥) الشرح الممتع على زاد المستقنع، ٨/ ٩، وانظر: المحلى لابن حزم، ٧/ ٢٩١، وفتح الباري لابن حجر، ٦/ ٣٨.
1 / 6
ويكون الجهاد فرض عين في ثلاث حالات (١):
١ - إذا حضر المسلم المكلَّف القتال والتقى الزحفان وتقابل الصفان، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (٢). وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ*وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (٣). وذكر النبي ﷺ أن التولي يوم الزحف من السبع الموبقات (٤).
٢ - إذا حضر العدو بلدًا من بلدان المسلمين تَعيَّن على أهل البلاد قتاله وطرده منها، ويلزم المسلمين أن ينصروا ذلك البلد إذا عجز أهله عن إخراج العدو ويبدأ الوجوب بالأقرب فالأقرب (٥)، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (٦).
٣ - إذا استنفر إمام المسلمين الناس وطلب منهم ذلك، قال الله تعالى:
_________
(١) انظر: المغني لابن قدامة، ١٣/ ٨.
(٢) سورة الأنفال، الآية: ٤٥.
(٣) سورة الأنفال، الآيتان: ١٥ - ١٦.
(٤) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ...﴾،برقم ٢٧٦٦، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم ٨٩.
(٥) الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص٤٤٨.
(٦) سورة التوبة، الآية: ١٢٣.
1 / 7
﴿انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (١)، وقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ (٢).
وعن ابن عباس ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «لا هجرة بعدَ الفتحِ ولكن جهادٌ ونِيَّةٌ، وإذا استُنْفِرْتُم فانفِروا» (٣).
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين ﵀: «ولا يشترط أن يكون إمامًا عامًا للمسلمين؛ لأن الإمامة العامة انقرضت من أزمنة متطاولة، والنبي ﷺ قال: «اسمعوا وأطيعوا ولو تأمَّر عليكم عبد حبشي» (٤)، فإذا تأمر إنسان على جهة ما صار بمنزلة الإمام العام، وصار قوله نافذًا، وأمره مطاعًا، ومن عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان ﵁ والأمة الإسلامية بدأت تتفرق، فابن الزبير في الحجاز، وابن مروان في الشام، والمختار بن عبيد وغيره في العراق، فتفرقت الأمة، ومازال أئمة الإسلام يدينون بالولاء والطاعة لمن تأمر على ناحيتهم، وإن لم تكن له
_________
(١) سورة التوبة، الآية: ٤١.
(٢) سورة التوبة، الآية: ٣٨.
(٣) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، برقم٢٧٨٣، ومسلم، في كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد، برقم ١٣٥٣.
(٤) أخرجه البخاري، في كتاب الأذان، باب إمامة العبد والمولى، برقم ٦٩٣.
1 / 8
الخلافة العامة، وبهذا نعرف ضلال ناشئة نشأت تقول: إنه لا إمام للمسلمين اليوم فلا بيعة لأحد، نسأل الله العافية، ولا أدري أيريد هؤلاء أن تكون الأمور فوضى ليس للناس قائد يقودهم؟ أم يريدون أن يقال كل إنسان أمير نفسه؟ هؤلاء إذا ماتوا من غير بيعة فإنهم يموتون ميتة جاهلية؛ لأن عمل المسلمين من أزمنة متطاولة: على أن من استولى على ناحية من النواحي وصارت له الكلمة العليا فيها فهو إمام فيها، وقد نصَّ على ذلك العلماء مثل صاحب سبل السلام، وقال: إن هذا لا يمكن الآن تحقيقه؛ ولأن الناس لو تَمرَّدُوا في هذا الحال على الإمام لحصل الخلل الكبير على الإسلام، إذ إن العدو سوف يقاتل ويتقدم إذا لم يجد من يقاومه، ويدافعه» (١).
وجنس الجهاد فرض عين: إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد. فيجب على المسلم أن يجاهد في سبيل الله بنوع من هذه الأنواع حسب الحاجة والقدرة. والأمر بالجهاد بالنفس والمال كثير في القرآن والسنة، وقد ثبت من حديث أنس ﵁ أن النبي ﷺ قال: «جاهدوا المشركين بألسنتكم، وأنفسكم، وأموالكم، وأيديكم» (٢).
_________
(١) الشرح الممتع على زاد المستقنع، ٨/ ١٢.
(٢) أخرجه أبو داود، في كتاب الجهاد باب كراهية ترك الغزو، برقم ٢٥٠٤، والنسائي، في كتاب الجهاد باب وجوب الجهاد، برقم ٣٠٩٨، وأحمد، في المسند، ٣/ ١٢٤، ١٥٣، ٢٥١، والحاكم، ٢/ ٨١، وصححه. وكذا صححه الألباني في صحيح الجامع، برقم ٣٠٩٠، وفي صحيح سنن أبي داود، ٢/ ٤٧٥.
1 / 9
وأضاف العلامة محمد بن صالح العثيمين ﵀ حالة رابعة: وهي إذا احتيج إلى المسلم في الجهاد وجب عليه (١).
_________
(١) انظر: الشرح الممتع، ٨/ ١٢.
1 / 10
المبحث الثالث: مراتب الجهاد في سبيل الله
الجهاد له أربع مراتب: جهاد النفس، والشيطان، والكفار، والمنافقين، وأصحاب الظلم والبدع والمنكرات:
المرتبة الأولى: جهاد النفس:
وله أربع مراتب:
١ - جهادها على تعلّم أمور الدين والهدى الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به.
٢ - جهادها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
٣ - جهادها على الدعوة إليه ببصيرة، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله.
٤ - جهادها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، وأن يتحمل ذلك كله لله. فمن عَلِمَ، وعَمِلَ، وصبر، فذاك يُدعى عظيمًا في ملكوت السموات.
المرتبة الثانية: جهاد الشيطان وله مرتبتان:
١ - جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.
٢ - جهاده على دفع ما يلقي إليه من الشهوات والإرادات
1 / 11
الفاسدة، فالجهاد الأول بعد اليقين والثاني بعد الصبر، قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (١)، والشيطان أخبث الأعداء، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ (٢).
المرتبة الثالثة: جهاد الكفار والمنافقين:
وله أربع مراتب:
١ - بالقلب
٢ - اللسان
٣ - المال
٤ - اليد
وجهاد الكفار أخص باليد وجهاد المنافقين أخص باللسان
المرتبة الرابعة: جهاد أصحاب الظلم والعدوان، والبدع والمنكرات:
وله ثلاث مراتب:
١ - باليد إذا قدر المجاهد على ذلك
٢ - فإن عجز انتقل إلى اللسان
٣ - فإن عجز جاهد بالقلب، فعن أبي سعيد ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم
_________
(١) سورة السجدة، الآية: ٢٤.
(٢) سورة فاطر، الآية: ٦.
1 / 12
يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (١).
فهذه ثلاثة عشرة مرتبة من الجهاد، وأكمل الناس عند الله من كمَّل مراتب الجهاد كلها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتهم في مراتب الجهاد؛ ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله محمد ﷺ خاتم أنبيائه ورسله؛ فإنه كمّل مراتب الجهاد وجاهد في الله حق جهاده (٢)، فصلوات الله وسلامه عليه ما تتابع الليل والنهار.
ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعًا على جهاد العبد نفسه في ذات الله كما قال النبي ﷺ في حديث فضالة بن عبيد الله ﵁: «ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب» (٣): كان جهاد النفس مقدَّمًا على جهاد العدو في الخارج وأصلًا له؛ فإنه ما لم يجاهد نفسه أولًا لتفعل ما أمرها الله به وتترك ما نهاها الله عنه ويحاربها في الله، لم يمكنه جهاد عدوّه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوّه والانتصار عليه وعدوّه الذي بين جنبيه غالب
_________
(١) أخرجه مسلم، في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص، برقم ٤٩.
(٢) انظر زاد المعاد لابن القيم، ٣/ ١٠ و١٢.
(٣) أحمد في المسند، ٦/ ٢١،والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، ١/ ١١،قال الألباني عن إسناد الإمام أحمد: «وهذا إسناد صحيح»، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، ٢/ ٨٩ - ٩٠، برقم ٥٤٩.
1 / 13
له وقاهر له؟ ولا يمكنه الخروج إلى عدوّه حتى يجاهد نفسه على الخروج. فهذان عدوان (١) وبينهما عدو ثالث لا يمكن للعبد أن يجاهدهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يُثبِّط الإنسان عن جهادهما ويخوِّفه ويخذله، ولا يزال يُخَوِّفه ما في جهادهما من المشاق، وفوات اللذات، والشهوات، فلا يمكنه أن يجاهد هذين العدوين إلا بجهاد هذا العدو الثالث وهو الأصل لجهادهما وهو الشيطان (٢).
_________
(١) النفس، والعدو في خارجها.
(٢) انظر زاد المعاد، ٣/ ٦.
1 / 14
المبحث الرابع: ضوابط الجهاد في سبيل الله تعالى
الضابط الأول: فقه شروط وجوب الجهاد:
قد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى شروطًا للجهاد منها ما ذكره الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى بقوله: «ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية، والسلامة من الضرر، ووجود النفقة»، ثم شرح ذلك بالتفصيل والتحقيق رحمه الله تعالى (١).
الضابط الثاني: استئذان الوالدين في الخروج إلى الجهاد:
لا شك أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام؛ لأن النبي ﷺ أخبر بذلك، ورتبه بثمَّ التي تعطي الترتيب والمهلة (٢)، فعن عبد الله بن مسعود ﵁، قال: سألت رسول الله ﷺ: أيُّ العمل أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها» قال: قلت: ثم أيٌّ؟ قال: «ثم بر الوالدين» قال: قلت: ثم أيٌّ؟ قال: «ثم الجهاد في سبيل الله» (٣)؛ ولأهمية بر الوالدين، وأنه من أعظم القربات، قال النبي ﷺ لِمَن استأذنه في الجهاد: «أحيٌّ والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد» (٤)، أيّ
_________
(١) المغني لابن قدامة، ١٣/ ٨.
(٢) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ١٠/ ٢٤٣.
(٣) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، برقم ٥٢٧، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم ٨٥.
(٤) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب الجهاد، باب الجهاد بإذن الأبوين، برقم ٣٠٠٤، ومسلم، في كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، برقم ٢٥٤٩.
1 / 15
خَصِّصهما بجهاد النفس في رضاهما (١)، وقد بيَّن الحافظ ابن حجر ﵀: أن هذا الرجل استفصل «... عن الأفضل في أعمال الطاعات؛ ليعمل به؛ لأنه سمع فضل الجهاد فبادر إليه، ثم لم يقنع حتى استأذن فيه فَدُلَّ على ما هو أفضل منه في حقه» (٢)، فقوله ﷺ: «ففيهما فجاهد»، قال الحافظ ابن حجر أيضًا: «أي إن كان لك أبوان فبالغ جهدك في برهما، والإحسان إليهما؛ فإن ذلك يقوم مقام الجهاد» (٣)؛ لأن المراد بالجهاد في الوالدين: بذل الجهد، والوسع، والطاقة في برهما؛ ولأهمية ذلك بيَّن العلماء أنه لا يجوز الخروج للجهاد إلا بإذن الأبوين بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية؛ فإن تعيّن الجهاد وكان فرض عين فلا إذن؛ لأن الجهاد أصبح فرضًا على الجميع: إما باستنفار الإمام، أو هجوم العدوِّ على البلاد، أو حضور الصف (٤)، أما إذا كان الجهاد فرض كفاية فلا يجوز الخروج إليه إلا بإذن الوالدين؛ ولهذا جاء في حديث ابن عمر ﵄ عن النبي ﷺ أنه قال: «رِضَى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد» (٥)، وجاء في حديث جاهمة
_________
(١) انظر: فتح الباري لابن حجر، ٦/ ١٤٠.
(٢) فتح الباري، ٦/ ١٤٠.
(٣) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، ١٠/ ٤٠٣.
(٤) انظر: مشكل الآثار للطحاوي، ٥/ ٥٦٣، ومعالم السنن للخطابي، ٣/ ٣٧٨، والمفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، ٦/ ٥٠٩.
(٥) أخرجه الترمذي، في كتاب البر والصلة، باب ما جاء من الفضل في رضا الوالدين، برقم ١٨٩٩، والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، ٤/ ١٥٢، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم ٥١٦، وفي صحيح الأدب المفرد، ص ٣٣، برقم ٢.
1 / 16
أنه جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أردت أن أغزوَ وقد جئت أستشيرك، فقال ﷺ: «هل لك من أُمٍّ؟»، قال: نعم، قال: «فالزمها فإن الجنة تحت (١) رجليها» (٢)، وعن أبي الدرداء ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضِعْ ذلك الباب أو احفظه» (٣)؛ ولهذه الأحاديث لا يجوز الخروج إلى جهاد التطوع، وفرض الكفاية إلا بإذن الوالدين، والبقاء معهما، والإحسان إليهما أفضل من الخروج بإذنهما، أما إذا تعين الجهاد فلا؛ لأنه أصبح فرضًا على الجميع.
الضابط الثالث: أمر الجهاد موكول إلى إمام المسلمين واجتهاده:
ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك؛ لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
_________
(١) تحت رجليها: أي نصيبك من الجنة لا يصل إليك إلا برضاها، وكأنه لها وهي قاعدة عليه، فلا يصل إليك إلا من جهتها، [حاشية السندي على سنن النسائي، ٦/ ١١].
(٢) أخرجه النسائي، في كتاب الجهاد، باب الرخصة في التخلف لمن له والدة، برقم ٣١٠٤، وأحمد في المسند، ٣/ ٤٢٩، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، ٤/ ١٥١، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ٨/ ١٣٨: «رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات»، وحسنه عبد القادر الأرنؤوط في جامع الأصول، ١/ ٤٠٣.
(٣) أخرجه الترمذي، في كتاب البر والصلة، باب ما جاء من الفضل في رضا الوالدين، برقم ١٩٠٠، وقال: «هذا حديث صحيح»، وقال عبد القادر الأرنؤوط في حاشيته على جامع الأصول، ١/ ٤٠٤: «وهو كما قال».
1 / 17
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ (١)؛ ولقول النبي ﷺ: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني» (٢)، وفي حديث حذيفة ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال له: «تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع» (٣).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: «فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمر واجبة؛ لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم: فما له في الآخرة من خلاق» (٤).
ومن طاعة ولي الأمر عدم الجهاد إلا بإذنه؛ لحديث عبد الله بن عمر ﵄ قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ يستأذنه في الجهاد فقال: «أحي
_________
(١) سورة النساء، الآية: ٥٩.
(٢) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب الأحكام، باب قول الله تعالى: ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ (رقم ٧١٣٧)، ومسلم، في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، برقم ١٨٣٥.
(٣) أخرجه مسلم، في كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، رقم ١٨٤٧/ ٥٢.
(٤) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ٣٥/ ١٦ - ١٧.
1 / 18
والداك»؟ قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد» (١)؛ ولحديث أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: «إنما الإمام جُنَّة يُقاتل من ورائه، ويُتَّقَى به، فإن أمر بتقوى الله ﷿ وعدل كان له بذلك أجر، وإن أمر بغيره كان عليه منه» (٢) ومما يُفَسِّر ذلك قول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: «وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك» (٣)، وقال الإمام الخرقي ﵀: «وواجب على الناس إذا جاء العدو أن ينفروا: المقلّ منهم والمُكثر، ولا يخرجون إلى العدوِّ إلا بإذن الأمير، إلا أن يفجأهم عدوٌّ يخافون كلبَهُ – أي شره وأذاه – فلا يُمْكِنهم أن يستأذنوه» (٤)، قال الإمام ابن قدامة ﵀: «فإذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير؛ لأن أمر الحرب موكول إليه، وهو أعلم بكثرة العدو وقِلَّتهم، ومكامن العدو، وكيدهم، فينبغي أن يُرجع إلى رأيه؛ لأنه أحوط للمسلمين إلا أن يتعذر استئذانه؛ لمفاجأة عدوهم لهم، فلا يجب استئذانه؛ لأن المصلحة تتعين في قتالهم، والخروج إليه؛ لتعيّن الفساد في
_________
(١) متفق عليه: البخاري، برقم ٣٠٠٤، ومسلم، برقم ٢٥٤٩، وتقدم تخريجه في استئذان الوالدين في الخروج إلى الجهاد في سبيل الله تعالى.
(٢) أخرجه مسلم، في كتاب الإمارة، باب الإمام جنة يقاتل به من ورائه أو يتقى به،
برقم ١٨٤١.
(٣) المغني لابن قدامة، ١٣/ ١٦.
(٤) مختصر الخرقي المطبوع مع المغني، ٣/ ٣٣.
1 / 19
تركهم، ولذلك لما أغار الكفار على لقاح النبي ﷺ (١) فصادفهم سلمة بن الأكوع خارجًا من المدينة تبعهم فقاتلهم من غير إذن، فمدحه النبي ﷺ بقوله (٢): «وخير رجَّالتنا سلمة» فأعطاه النبي ﷺ سهمين: سهم الفارس وسهم الراجل (٣)، وذكر الإمام الخرقي وابن قدامة أيضًا أنه لا يجوز حتى الخروج من العسكر إلا بإذن الأمير، ولا يحدث حدثًا إلا بإذنه (٤)؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (٥)؛ ولأن الأمير أعرف بحال العدو، ومكامنهم، ومواضعهم، وقربهم، وبعدهم فإذا خرج خارج بغير إذنه لم يأمن أن يصادف كمينًا للعدوِّ فيأخذه ...» (٦).
ولمِا تقدم لا يجوز لأحد من أفراد رعية الإمام المسلم – وإن كان عاصيًا – أن يخرج إلى الجهاد إلا بإذنه على حسب ما تقدم. قال الإمام
_________
(١) لقح: اللقحة واللقوح: ذات اللبن من النوق، والجمع لقاح. ومنه حديث أبي ذر ﵁: إنه خرج في لقاح رسول الله ﷺ. انظر: الفائق في غريب الحديث للزمخشري، ٣/ ٣٢٨.
(٢) المغني لابن قدامة، ١٣/ ٣٣ - ٣٤.
(٣) أخرجه مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها، برقم ١٨٠٧.
(٤) المغني لابن قدامة، ١٣/ ٣٧.
(٥) سورة النور، الآية: ٦٢.
(٦) المغني لابن قدامة، ١٣/ ٣٨.
1 / 20
الخرقي ﵀: «ويُغزى مع كل برٍّ وفاجرٍ»، قال ابن قدامة: «يعني مع كل إمام» (١).
ولا يجوز لأحد من رعية الإمام أن يدعو الناس إلى الجهاد بدون إذن الإمام؛ لما في ذلك من المفاسد، والأضرار، ومخالفة إمام المسلمين الذي أمرنا الله بطاعته. وعلى كل مسلم أن يسأل أهل العلم إن لم يعلم؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: «والواجب أن يُعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح، في الباطن الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، فأما أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا» (٢).
ومما يؤكد أهمية السمع والطاعة ما حصل للصحابة مع رسول الله ﷺ في صلح الحديبية حينما اشتد عليهم الكرب بمنعهم من العمرة، وما رأوا من غضاضة على المسلمين في الظاهر، ولكنهم امتثلوا أمر رسول الله ﷺ فكان ذلك فتحًا قريبًا، وخلاصة ذلك أن سهيل بن عمرو قال للنبي ﷺ حينما كتب: بسم الله الرحمن الرحيم: أكتب باسمك اللهم، فوافق معه النبي ﷺ على ذلك، ولم يوافق سهيل على كتب محمد رسول الله، فتنازل النبي ﷺ وأمر أن يكتب محمد بن عبد الله، ومنع سهيل في الصلح أن تكون العمرة في هذا العام، وإنما في العام المقبل، وفي الصلح أن من أسلم
_________
(١) المرجع السابق، ١٣/ ١٤.
(٢) الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص٤٤٩.
1 / 21