الإبدال في لغات الأزد دراسة صوتية في ضوء علم اللغة الحديث
الإبدال في لغات الأزد دراسة صوتية في ضوء علم اللغة الحديث
خپرندوی
الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
د ایډیشن شمېره
السنة (٣٤)-العدد (١١٧) ١٤٢٢هـ
د چاپ کال
٢٠٠٢م
ژانرونه
بسم الله الرحمن الرحيم
الإبدال في لغات الأزد دراسة صوتية في ضوء علم اللغة والحديث
إعداد: د. أحمد بن سعيد قشاش
الأستاذ المساعد في كلية اللغة العربية بالجامعة
المقدمة:
الحمد لله الذي أنزل كتابه بلسان عربي مبين، وتفضل على عباده بنعمة النطق والتبيين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله أفصح العرب أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين.
وبعد:
فإن عنوان هذا البحث هو (الإبدال في لغات الأزد - دراسة صوتية في ضوء علم اللغة الحديث) .
والأزد من أعظم القبائل العربية وأشهرها، وقد حفلت كتب اللغة والنحو والقراءات والتفسير بمادة وفيرة من لغاتهم، وكانت مصدرًا مهمًا من مصادر الاحتجاج اللغوي والنحوي عند علماء العربية.
ومع نشاط دراسة لغات القبائل العربية في عصرنا الحديث، كتميم وطيئ وقيس وربيعة وهذيل، فإن لغات الأزد لم تحظ - للأسف - بعناية الباحثين المعاصرين، فلا أعلم أحدًا درسها أو خص بعض ظواهرها بدراسة مستقلة.
وفي بحث آخر أعددته عن (الأزد ومكانتهم في العربية) تبين لي ثراء اللغات المعزوة إليهم، ولكنها كانت متناثرة في ثنايا مصادر شتى لا يجمعها رباط واحد، ويتطلب تصفحها قدرًا كبيرًا من الصبر والجلد والأناة، لا سيما وأن الاهتمام بالمسائل اللغوية لم يكن هم اللغويين والنحويين وحدهم، بل شاركهم في ذلك الأدباء والمفسرون والمحدّثون والفقهاء، بل والجغرافيون والمؤرخون وغيرهم.
وقد قمت بتصفح ما أمكن تصفحه من تلك المصادر، ودونت كل ما وجدته معزوًا إلى الأزد أو إلى أحد بطونهم سواء في الأصوات أو الأبنية أو التراكيب أو الدلالة.
ولما كان كل جانب من هذه الجوانب يحتاج إلى دراسة واسعة عميقة، وإلى جهد غير واحد من المشتغلين بالدراسات اللغوية، رأيت أن اقتصر في هذا البحث على دراسة ظاهرة الإبدال في لغات الأزد، وهي ظاهرة برزت بوضوح
1 / 425
في اللغات المعزوة إليهم، وكانت من الروافد التي أثرت مواد العربية كمًا وكيفًا، وتركت ما عداها إلى أجلٍ، لعلي أوفق إلى دراستها أو دراسة بعضها في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى.
وقد أقمت هذا البحث بعد المقدمة على تمهيد وفصلين وخاتمة وثلاثة فهارس.
وفي التمهيد وضعت كلمة مختصرة تحدثت فيها عن نسب الأزد وأهم بطونهم، ومواطنهم، وفصاحتهم، وجعلتها مختصرة، استغناء بحديث مفصل عنهم في البحث السالف ذكره.
وأما الفصل الأول فكان بعنوان: الإبدال في الحروف (الصوامت)، وانتظم هذا الفصل مبحثين درست في الأول ظواهر الإبدال الملقبة في لغات الأزد، وفي الفصل الثاني ظواهر الإبدال غير الملقبة.
وكان الفصل الثاني بعنوان: الإبدال في الحركات (الصوائت) وقد جاء هذا الفصل في مبحثين أيضًا، الأول عن التبادل بين الفتح والكسر في أحرف المضارعة، والثاني عن التبادل بينهما في اللام الجارة.
وكان منهجي في هذه الدراسة وصف الظاهرة المعزوة إلى الأزد أو إلى أحد بطونهم، والتمثيل لها بشواهد من القرآن الكريم، أو الحديث الشريف، أو الشعر، أو النثر، مع محاولة تتبع الظاهرة في مؤلفات العلماء قديمًا وحديثًا، ووصلها بالظواهر التي تتفق معها في لغات القبائل الأخرى، أو اللهجات العربية المعاصرة، ثم أنهي الحديث عن الظاهرة بتفسيرها أو التعليل لها في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة، مع عدم إغفال أقوال علمائنا المتقدمين، إذا وجدت لأحدهم قولًا في تفسير إحدى الظواهر.
ثم انتهيت إلى خاتمة أشرت فيها إلى أهم نتائج هذا البحث.
وقفيتها بثلاثة فهارس: الأول فهرس الألسنة واللغات واللهجات، والثاني فهرس المصادر والمراجع، وآخرها فهرس الموضوعات.
والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 / 426
التمهيد
نسب الأزد:
تنتسب جميع قبائل الأزد إلى جدها الأكبر (الأزد)، واسمه دراء بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان١.
وكان الموطن الأصلي للأزد مأرب وما حولها من بلاد اليمن، ثم تفرقوا عن موطنهم هذا لأسباب كثيرة أهمها تهدم سد مأرب، وسوء أحوالهم الاقتصادية، كما أخبرنا بذلك ربنا في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ. فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ ٢.
وقد تفرقوا بعد رحيلهم من اليمن إلى أنحاء مختلفة من أرجاء الجزيرة العربية، فمنهم من نزل جبال السراة، وهم بنو الحجر بن الهنوء بن الأزد، وبنو قرن بن عبد الله بن الأزد، وبطون من بني نصر بن الأزد الملقب بشنوءة، ومنهم غامد وزهران، وبطون من بني مازن بن الأزد، وهم شكر وبارق ومنهم بنو عمر وبنو ناشر، وأطلق على هؤلاء جميعًا أزد السراة، ونزلت بطون من بني مازن مكة والمدينة وبلاد الشام، فنزلت خزاعة مكة، ونزل الأوس والخزرج المدينة، ونزل آل جفنة بلاد الشام، وعرف هؤلاء جميعًا بأزد غسان، ومنهم من استوطن عمان، وهم بطون من بني نصر بن الأزد وأخيه مازن، وهؤلاء أزد عمان٣.
وقد صُنفوا تبعًا لهذه المواطن الجديدة إلى أربعة أقسام:
١- أزد السراة.
_________
١ نسب معد واليمن الكبير١/٣٦٢، ونسب عدنان وقحطان٤٤، وجمهرة أنساب العرب ٣٣٠.
٢ سورة سبأ ١٥،١٦. وينظر: تفسير القرطبي ١٤/١٨٢،١٨٣، ومروج الذهب ٢/١٧٤.
٣ ينظر: سيرة ابن هشام١/١٣، وصفة جزيرة العرب٣٢٨، ٣٣٠، ومروج الذهب ٢/١٧٠-١٧٤، ومعجم البلدان ٥/٣٦-٣٧، وفي سراة غامد وزهران ٢١٥ - ٢٢٤.
1 / 427
٢- أزد شنوءة، وهم في الحقيقة من أزد السراة.
٣- أزد غسان.
٤- أزد عُمان١.
وقد تردد ذكر هؤلاء في كتب التراث، معزوًا إليهم كثير من الظواهر اللغوية، أو الحوادث التاريخية.
فصاحة الأزد:
اشتهر الأزد، ولا سيما أزد السراة، بالفصاحة والبيان، حتى عدهم بعض العلماء من أفصح القبائل العربية. قال الخليل بن أحمد: "أفصح الناس أزد السراة"٢.
وقال أبو عمرو بن العلاء: "كنا نسمع أصحابنا يقولون: أفصح الناس تميم وقيس وأزد السراة وبنو عذرة"٣.
وقال أيضًا: "أفصح الناس أهل السروات، وهي ثلاث: وهي الجبال المطلة على تهامة مما يلي اليمن، أولها هذيل، وهي التي تلي السهل من تهامة، ثم بجيلة، وهي السراة الوسطى، وقد شركتهم ثقيف في ناحية منها، ثم سراة الأزد أزد شنوءة، وهم بنو كعب بن الحارث بن كعب بن عبد اللَّه بن مالك بن نصر بن الأزد"٤.
ولم تزل الفصاحة في أهل السراة حتى بعد عصور الاحتجاج بزمن طويل، وقد لفتت فصاحتهم أنظار العلماء وأثارت إعجابهم، كابن جبير في القرن السادس٥، وابن بطوطة في القرن الثامن٦، وفؤاد حمزة في القرن الرابع عشر٧.
_________
١ معجم البلدان ٣/٣٩٦.وينظر: تثقيف اللسان١٩٦، وتصحيح التصحيف٣٨٥، ووفيات الأعيان٥/٣٥٨.
٢ الفاضل ١١٣.
٣ السابق ١١٣.
٤ معجم البلدان ٣/٢٠٥.
٥ رحلة ابن جبير ١١١،١١٣.
٦ رحلة ابن بطوطة ١٨٠.
٧ قلب جزيرة العرب ١٠٧.
1 / 428
الفصل الأول: الإبدال في الحروف (الصوامت):
توطئة:
الإبدال في الاصطلاح: جعل حرف مكان آخر مطلقًا، وهو عند علماء العربية١ قسمان:
١- إبدال صرفي، وهو الإبدال القياسي المطرد عند جميع العرب، ويقع في حروف معينة، مثل تاء افتعل إذا جاء بعدها أحد حروف الإطباق فإنها تبدل طاء، كقولهم في (اصتب): "اصطبر" وهو لا غنى عنه، تركه يوقع في الخطأ، أو مخالفة الأكثر من كلام العرب٢.
وحروفه تسعة عند ابن مالك، عبر عنها في (الألفية) و(الكافية الشافية) بقوله: "هدأت موطيا"٣ وفي (التسهيل) ٤ بقوله: "طويت دائمًا" فأسقط الهاء. وجمعها أبو علي القالي في اثني عشر حرفًا عبر عنها بقوله: "طال يوم أنجدته"٥. وهي عند الزمخشري خمسة عشر حرفًا عبر عنها بقوله: "استنجده يوم طال زط"٦. والذي ذكره سيبويه منها أحد عشر حرفًا: ثمانية من حروف الزيادة، وهي ما سوى اللام والسين، وثلاثة من غيرها، وهي الدال والطاء والجيم، يجمعها في اللفظ عبارة: "أجد طويت منهلا"٧.
_________
١ ينظر: الأمالي٢/١٨٦، وشرح الكافية الشافية٤/٢٠٧٩،٢٠٨٠، والأشموني٤/٢٨٢، وهمع الهوامع ٣/٤٢٧، والمزهر١/ ٤٧٤.
٢ شرح الكافية الشافية٤/٢٠٨٠.
٣ شرح الكافية الشافية٤/٢٠٧٧، وشرح ابن عقيل ٢/٤٨١، والأشموني ٤/٢٨٠.
٤ ص ٣٠٠.وينظر: المساعد ٤/٨٦.
٥ الأمالي٢/١٨٦.
٦ المفصل ٤٢٨.
٧ سيبويه٤/٢٣٧، والتبصرة ٢/٨١٢.وينظر: المقتضب ١/٦١، وابن يعيش ١٠/٨، والأشموني٤/٢٨٣.
1 / 431
٢- إبدال لغوي، وهو الذي يعنينا في هذا البحث، وهو سماعي غير مطرد في كلام العرب، ولكنه يختلف باختلاف القبائل، فقبيلة تقول: مدح، بالحاء، وأخرى: مده، بالهاء١. ولا يعد مخالفه مجانبًا للصواب اللغوي٢، ويقع - غالبًا - في جميع حروف المعجم٣.
ولم تقف نظرة اللغويين عند التغيير الذي يلحق حروف الكلمة، بل رأوا أن الإبدال يكون في الحركات أيضًا، وعلى هذا فيمكن تعريف الإبدال بأنه: جعل حرف مكان آخر، أو حركة مكان أخرى٤.
وقد اختلف القدماء في معنى الإبدال اللغوي وسببه على رأيين:
١- فريق يرى أن كل لفظين اختلفا في حرف واحد، واتفقا في سائر الحروف هو من باب الإبدال، ومن هؤلاء أبو الطيب اللغوي الذي كان يرى أن الإبدال بجميع صوره لا يقع إلا بين لغتين مختلفتين، وقد وضح هذا بقوله: "ليس المراد بالإبدال أن العرب تتعمد تعويض حرف من حرف، وإنما هي لغات مختلفة لمعان متفقة، تتقارب اللفظتان في لغتين لمعنى واحد حتى لا يختلفا إلا في حرف واحد.
قال: والدليل على ذلك أن قبيلة واحدة لا تتكلم بكلمة طورًا مهموزة، وطورًا غير مهموزة، ولا بالصاد مرة، وبالسين أخرى، وكذلك إبدال لام التعريف ميمًا، والهمزة المصدرة عينًا، كقولهم في أنّ: عنّ، لا تشترك العرب في
_________
١ الصاحبي٢٠٣، والإبدال ١/٣١٦.
٢ اللهجات العربية٧٢.
٣ همع الهوامع ٣/٤٢٧، والمزهر ١/٤٦١.وينظر: شرح الكافية الشافية٤/٢٠٧٩، والمساعد ٤/٨٦،٨٧، والأشموني٤/٢٧٩، ٢٨٢.
٤ اللهجات العربية٧١.
1 / 432
شيء من ذلك، إنما يقول هذا قوم، وذاك آخرون"١.
٢- وفريق آخر يشترط لكي تعد الكلمتان من الإبدال تقارب الصوتين، أي: وجود علاقة صوتية بينهما تسوغ إحلال أحدهما محل الآخر، كقول الأصمعي: "النغر والمغر. الميم بدل من النون لمقاربتها في المخرج"٢. وقد نص على ذلك صراحة أبو علي الفارسي في قوله: "القلب في الحروف إنما هو فيما تقارب منها، وذلك: الدال والطاء والتاء، والذال والظاء والثاء، والهاء والهمزة، والميم والنون، وغير ذلك مما تدانت مخارجه. فأما الحاء فبعيدة من الثاء، وبينهما تفاوت يمنع من قلب إحداهما إلى أختها"٣.
وكان تلميذه ابن جني يرى -كذلك - أن الإبدال لا يقع إلا في الأصوات المتقاربة المخارج٤.
وقال ابن سيده: "ما لم يتقارب مخرجاه ألبتّة فقيل على حرفين غير متقاربين فلا يسمى بدلًا، وذلك كإبدال حرف من حروف الفم من حرف من حروف الحلق"٥.
وفي عبارة موجزة علل الأزهري حدوث الإبدال في لغات العرب بقوله: إذا تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في اللغات"٦.
وقد وصل هذا الخلاف إلى المعاصرين، فمنهم من يرى إمكانية حدوث الإبدال في جميع أصوات العربية سواء فيما تقارب منها مخرجًا وصفة، أو ما تقارب صفة وتباعد
_________
١ الإبدال ١/٦٩، وينظر: المزهر ١/٤٦٠.
٢ النوادر لأبي زيد٢٩١.
٣ سر صناعة الإعراب ١/١٨٠.
٤ الخصائص ٢/١٤٩-١٥٢.
٥ المخصص١٣/٢٧٤.
٦ تهذيب اللغة١٠/٦.
1 / 433
مخرجًا. ومن أشهر القائلين بهذا الرأي عبد الله أمين في كتابه (الاشتقاق) ١.
ومنهم من يقول بوجوب التقارب بين الصوتين، ومن هؤلاء الدكتور إبراهيم أنيس الذي يقول: "حين نستعرض تلك الكلمات التي فُسرت على أنها من الإبدال حينًا، أو من تباين اللهجات حينًا آخر، لا نشك لحظة في أنها جميعًا نتيجة التطور الصوتي ... غير أنه في كل حالة يشترط أن نلحظ العلاقة الصوتية بين الحرفين المبدل والمبدل منه. ودراسة الأصوات كفيلة بأن توقفنا على الصلات بين الحروف وصفات كل منها. أي: أن القرب في الصفة والمخرج شرط أساسي في كل تطور صوتي"٢.
ونحن في بحثنا هذا سنأخذ برأي الفريقين في تفسير ظواهر الإبدال في لغات الأزد، سواء ما كان منها في الحروف (الصوامت) أو الحركات (الصوائت) .
_________
١ ص٣٦١.
٢ من أسرار اللغة٧٥. وينظر بعض أراء المعاصرين في وجوب التقارب: الإبدال لأبي الطيب (مقدمة المحقق) ١/٩، ودراسات في فقه اللغة٢١٧-٢١٩.
1 / 434
المبحث الأول: اللغات الملقبة:
الاستنطاء:
...
المبحث الأول: اللغات الملقبة:
نعني باللغات الملقبة، تلك الظواهر اللغوية التي خلت منها لغة قريش، وعرفت بألقاب خاصة، كالكسكسة والكشكشة والطمطمانية والاستنطاء، ونحو ذلك مما ذكره ابن فارس تحت باب (اللغات المذمومة) ١ وذكره السيوطي بعنوان (معرفة الرديء والمذموم من اللغات) ٢.
وقد عزي إلى قبائل الأزد بعض الظواهر الإبدالية الملقبة، من غير أن تنفرد بلقب واحد منها، حيث نجد بعض المصادر تنسب اللقب إلى الأزد في حين يُنسب في مصادر أخرى إلى غيرهم من قبائل العرب، وليس هذا من قبيل التعارض في النسبة، لأن بعض الظواهر اللغوية قد تنتشر بحكم المجاورة أو الاختلاط في المواسم الدينية أو الأسواق أو الحروب بين عدد كبير من القبائل العربية، فيروي كل لغوي ما بلغه منها.
وسندرس - فيما يلي - ما عزي إلى الأزد من ظواهر الإبدال الملقبة، مرتبة على حروف المعجم:
١- الاستنطاء:
يفسر اللغويون هذه الظاهرة بأنها عبارة عن جعل العين الساكنة نونًا إذا جاورت الطاء، كقولهم: "أنطى" بدلًا من أعطى٣. ومن شواهدها: ما روته أم سلمة ﵂ عن رسول الله ﷺ أنه قرأ "إنا أنطيناك الكوثر" ٤.
_________
١ الصاحبي٥٣.
٢ المزهر١/٢٢١.
٣ الإبدال لأبي الطيب ٢/٣١٨، والمزهر١/٢٢٢، والتاج (ن ط ا) ١٠/٣٧٢.
٤ سورة الكوثر ١. وينظر: المعجم الكبير للطبراني٢٣/٣٦٥ (٨٦٢)، وشواذ القرآن١٨٢، والكشاف٤/٨٠٦.
1 / 435
كما قرأ ابن مسعود والأعمش: (وأنطاهم تقواهم) ١ في قوله تعالى: ﴿وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ ٢.
ومن ذلك قوله ﷺ: "لا مانع لما أنطيت، ولا منطي لما منعت"، وقوله: "اليد المنطية خير من اليد السفلى"، ومنه كتابه لوائل بن حُجْر: "وأنطوا الثَّبَجَة" وقوله لرجل آخر: "أنطه كذا" ٣.
وفي كتابه ﷺ لتميم الداري: "هذا ما أنطى محمد رسول الله لتميم الداري وإخوته ..." ٤ قال الزَّبيدي: "ويسمون هذا الإنطاء الشريف، وهو محفوظ عند أولاده"٥. وقال ابن الأعرابي: "شرّف النبي ﷺ هذه اللغة وهي حميرية"٦.
ومن شواهدها في الشعر قول أعشى قيس:
جيادك في القيظ في نعمة
...
تُصان الجِلال وتنطى الشَّعيرا٧
وأنشد ثعلب:
من المنطيات المركب المعج بعدما ... يُرى في فروع المقلتين نُضوب٨
_________
١ شواذ القرآن١٤٢.
٢ سورة محمد ١٧.
٣ النهاية١/٢٠٦، ٥/٧٦. والثبجة: الوسط في الصدقة.
٤ مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري ١/١٧٤.
٥ التاج (ن ط ا) ١٠/٣٧٢.
٦ تهذيب اللغة ١٤/٣٠.
٧ الإبدال لأبي الطيب ٢/٣١٨، وفي ديوانه ١٤٩: (وتعطي الشعير) .
٨ اللسان (ن ض ب) ١/٧٦٣، (ن ط ا) ١٥/٣٣٣.
1 / 436
قال الخليل: "الإنطاء لغة في الإعطاء"١ وقال الجوهري: "الإنطاء: الإعطاء بلغة اليمن"٢.وعزاها ابن الأعرابي - في قوله المتقدم - وابن الجوزي٣ إلى حمير. وقال التبريزي: "هي لغة العرب العاربة من أولي"٤ وعزاها السيوطي٥ والزَّبيدي٦ إلى سعد بكر، وهذيل، والأزد، وقيس، والأنصار، وهم بطن من الأزد.
ويرى الدكتور الجندي أن قيس المذكورة ليس المراد بها قيس عيلان، وإنما هي بطن من همدان، بدليل قول الأعشى السابق، وهو من قيس القحطانية.
كما يرى أن هذيل المذكورة ليست تلك القبيلة المعروفة من مضر، وإنما هي هذيل اليمنية. قال: فتكون هذه اللغة قد خلصت لليمن بدليل وجود الأنصار والأزد في نص السيوطي، وجميعهم من اليمن٧. غير أن هذا لا يمنع من انتقالها إلى قبائل أخرى غير يمنية، فاللغات لا تعرف الثبات بل تنتقل بين القبائل بالمجاورة والاختلاط، ومن المعروف جغرافيًا أن بعض بطون هذيل وقيس كانت تجاور الأزد في السراة٨، ومن هنا يأتي التأثير، فانعكست بعض الظواهر الأزدية على قبيلة هذيل وقيس ومنهم بنو سعد بن بكر.
_________
١ العين ٧/٤٥٤.
٢ الصحاح (نطا) ٦/٢٥١٢.وينظر: الفائق ١/١٧، والنهاية٥/٧٦.
٣ غريب الحديث٢/٤١٨.
٤ البحر المحيط ١٠/٥٥٦، والدر المصون ١١/١٢٥.
٥ المزهر ١/٢٢٢.
٦ التاج (المقدمة) ١/٨، (ن ط ا) ١٠/٣٧٢.
٧ اللهجات العربية في التراث ١/٣٨١.
٨ ينظر: معجم ما استعجم ١/١٥، ومعجم البلدان ٣/٢٠٤.
1 / 437
كما أن "التوزيع الجغرافي لمواطن النطق بالصيغة (أنطى) قديمًا وحديثًا، يبين أنها كانت توجد على طرق القوافل، من الجنوب إلى الشمال، ومن ثم فإن احتمال انتقال هذه الصيغة من الجنوب، أي: من بلاد اليمن، على طول رحلتي الشتاء والصيف، احتمال مقبول"١.
ولا تزال هذه اللغة منتشرة في أماكن مختلفة من الوطن العربي، فقد سُمعت في العراق٢ وفي صحاري مصر٣ وفي غرب السودان وشرقه٤.
ولم يسمع للاستنطاء مثال آخر غير الفعل أعطى في لغة القبائل التي روي عنها، ومن هنا استبعد الدكتور رمضان عبد التواب أن تقلب العين وهي حرف حلقي إلى النون وهي حرف غير حلقي، فمخرج كل منهما بعيد عن مخرج الأخرى. قال: "ومن المعروف أن الصوت لا يقلب إلى صوت آخر إلا إذا كان بين الصوتين نوع من القرابة الصوتية في المخرج والصفة"٥ وقد أشرنا من قبل إلى رأي فريق من العلماء القدامى والمعاصرين الذي يشترط وجود علاقة صوتية بين الحرفين المبدلين تدعو إلى إحلال أحدهما محل الآخر.
ويرى الدكتور عبد الغفار حامد هلال أن تباعد مخرجي النون والعين ليس مبررًا كافيًا يمنع أن تقلب العين نونًا، فالصوتان وإن تباعد مخرجاهما إلا أن بينهما تقاربا في بعض الصفات يسوغ التبادل بينهما، كالجهر والانسفال والانفتاح، ثم هما أيضًا صوتان متوسطان بين الرخاوة والشدة٦.
_________
١ العربية ولهجاتها ٥١.
٢ دراسات وتعليقات في اللغة ١٢٥.
٣ مميزات لغات العرب ١٣.
٤ دراسات وتعليقات في اللغة ١٢٤.
٥ ودراسات وتعليقات في اللغة ١٢٦.
٦ اللهجات العربية نشأة وتطورًا ١٨٦، وينظر: مخارج الحروف وصفاتها ١٢٦، ١٢٧، وارتشاف الضرب١/١٠، وفي اللهجات العربية ١٤١.
1 / 438
ومحاولة تفسير هذه الظاهرة بإيجاد علاقة صوتية بين العين والنون أراه تكلفًا لا مسوغ له، فيكفي أن نقول: إنهما لغتان، لأن إبدال العين نونًا لم يصدر - بالتأكيد - عن ناطق واحد، بل هما - كما يقول أبو الطيب اللغوي في تفسير ظواهر الإبدال - لغتان مختلفتان هذه لقبيلة، وتلك لأخرى١.
وكان الدكتور إبراهيم أنيس يرى "أن الأمر لم يكن مقصورًا على الفعل (أعطى) بل يتعلق بكل (عين) سواء وليها طاء أو صوت آخر. فلعل من القبائل من كانوا ينطقون بهذا الصوت بصفة خاصة نطقًا أنفميًا، وذلك بأن يجعلوا مجرى النفس معه من الفم والأنف معًا، فتسمع العين ممتزجة بصوت النون وليست في الحقيقة نونًا، بل هي (عين) أنفمية. وعلى هذا فيمكن أن يقال: إن الرواة قد سمعوا هذه الصفة ممثلة في الفعل (أعطى) فأشكلت عليهم، ولم يصفوها لنا على حقيقتها"٢.
وهذا افتراض بلا دليل، ولو أن الرواة سمعوا للاستنطاء أمثلة أخرى غير الفعل (أعطى) لذكروها، لأن الأمر عندهم لا يتوقف على ظاهرة لغوية مجردة لم يحسنوا وصفها كما زعم، بل يتعلق بنص القرآن الكريم وما ورد فيه من قراءات بلغوا الغاية في وصفها وضبطها.
ويرى بعض المستشرقين أن الاستنطاء لا علاقة له ألبتة بالفعل (أعطي)، بل هو فعل سامي آخر معروف في العبرية هو (نطا) بمعنى (مد يده، ثم زيدت عليه الهمزة فصار على وزن (أفعل) في العربية، بزيادة الهمزة٣.
_________
١ ينظر: ص ١٣، ١٤من هذا البحث.
٢ في اللهجات العربية ١٤٢.
٣ في اللهجات العربية ١٤٢.
1 / 439
وذهب إلى هذا الرأي الدكتور عبد المجيد عابدين، وقال: "فـ (أنطى) في العربية أصله: نطا ينطو، أي: مدّ يمدّ، يقال: نطوت الحبل، أي: مددته، وهو من أصل يختلف عن: عطا يعطو، بمعنى: تناول، وإن كان معنياهما يتقاربان في الاستعمال، ولكل لفظ في الفصحى مادته ومشتقاته. وظن السيوطي أن العين الساكنة أبدلت نونًا، وليس هناك إبدال على الحقيقة، ولا لتسكين العين أو تحريكها علاقة بالصيغة النونية"١.
وكان أبو حيان - وهو على دراية ببعض اللغات السامية - يرى أيضًا أنهما أصلان مختلفان لا إبدال فيهما، قال: "قال أبو الفضل الرازيّ وأبو زكريا التبريزيّ: أبدل من العين نونًا، فإن عنيا النون في هذه اللغة مكان العين في غيرها فحسن، وإن عنيا البدل الصناعي فليس كذلك، بل كل واحد من اللغتين أصل بنفسها لوجود تمام التصرف من كل واحدة، فلا يقول الأصل العين، ثم أبدلت النون منها"٢.
ويرى الدكتور عبد الرحمن أيوب أن في العربية الفعل (ناط) بمعنى أسند الأمر لإنسان ما ليقوم به وهو في العبرية (ناتا) وفي الأمهرية (أمطى) مزيد عليه الهمزة كالفعل العربي (أعطى) ووجود النون في العبرية فاء للفعل والميم في الأثيوبية دليل على أن المادة الأصلية للفعل العربي (ن ط ى) ٣.
ولم يرتض الدكتور رمضان عبد التواب هذا التفسير، لأنه – في رأيه - يبعد عن المعنى العام لكلمة (أنطى) في العربية، وهو مطلق الإعطاء. ويرى أن
_________
١ من أصول اللهجات العربية في السودان ١١٢.
٢ البحر المحيط ١٠/٥٥٦.
٣ العربية ولهجاتها ٥١.
1 / 440
مقابل الفعل (أعطى) في العبرية (natan) أي: نون وتاء ونون. وفي السريانية في المضارع (nettal) مع إدغام النون الأولى في التاء، والنون الثانية في لام الجر. قال: ولعل ما حدث في لغة هذه القبائل التي روي عنها الاستنطاء، هو عملية نحت لما في هاتين اللغتين واللغة العربية، فأخذت فاء الفعل من العبرية والسريانية، وبقيت عينه ولامه كما هما في العربية"١.
وللدكتور إبراهيم السامرائي رأي طريف في تفسير هذه الظاهرة، حيث يقول: "إني لأرى فيها أن بين الفعل (أعطى) و(آتى) قرابة، والفعلان هما هما في الدلالة، قال تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ﴾ ٢، وأنا أفترض أن الثلاثي (أتى) بزيادة الهمزة يؤدي هذا المعنى. وإذا ضاعفنا التاء كان عندنا (أتّى) والمضاعف يصبح (أنتى) حين يفك التضعيف ويبدل النون من إحدى التاءين على غرار طائفة من الأفعال غير هذا الفعل، وكأن (أنتى) صار (أنطى) بإبدال الطاء من التاء. ولنا أن نقول: إن (أعطى) جاء من (آتى) بإبدال الهمزة الثانية عينًا، والتاء طاء"٣.
وهذا الرأي قريب من واقع الكلمة في بيئتها العربية، ويعضده ما عزي إلي بعض أهل اليمن أنهم يبدلون الحرف الأول من الحرف المشدد نونًا، فيقولون في الحظّ، والإجّاص، والإجّانة، والقبّرة: الحنظ، والإنجاص، والإنجانة، والقنبرة٤.
_________
١ دراسات وتعليقات في اللغة ١٢٧، ١٢٨.
٢ سورة البقرة ١٧٧.وكتبت الآية في الأصل سهوًا: "وآتى المال على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا".
٣ في اللهجات العربية القديمة ٨٠،١٩١. وينظر: دراسات في اللغة ٢١٧.
٤ الاقتضاب ٢/١٨١.
1 / 441
٢- الطمطمانية:
تتمثل هذه اللغة في إبدال لام التعرف ميمًا، كقولهم: "طاب امهواء"١. أي: طاب الهواء.
وقد عزيت هذه الظاهرة إلى الأزد، وإلى قبائل يمنية أخرى.
فعزيت إلى دوس٢، وهم من أزد شنوءة الذين نزلوا السراة، حيث روي عن أبي هريرة الدوسي ﵁ أنه قال: "قلت لعثمان - وهو محصور في الدار -: طاب امضرب يا أمير المؤمنين - أي: حل القتال - قال: عزمت عليك لتخرجن، فأطعت أمير المؤمنين"٣.
وقال أبو العباس ثعلب: "هذه لغة للأزد مشهورة"٤.
وعُزيت إلى طيئ٥، وهي في الأصل قبيلة يمنية هاجرت إلى شمال الجزيرة العربية. ومن شواهدها لدى طيئ قول بُجير بن عَنَمة الطائي٦:
ذاك خليلي وذو يعاتبني
...
يرمي ورائي بامسهم وامْسَلِمة
أي: بالسهم والسلمة.
_________
١ فقه اللغة للثعالبي ١١١، والمزهر ١/٢٢٣.
٢ المباني في نظم المعاني ٢٢٢.
٣ الكفاية في علم الرواية ١٨٤.وينظر: غريب الحديث لأبي عبيد ٤/١٩٣، وتاريخ الطبري ٢/٦٧٥، والنهاية ٣ /١٥٠.
٤ مجالس ثعلب ١/٥٨.
٥ شرح المفصل لابن يعيش ٩/٢٠، ومغني اللبيب ٧٠، والجنى الداني ٢٠٧، وشرح شافية ابن الحاجب ٣/٢١٥، وهمع الهوامع ١/٧٩.
٦ شعر طيئ١/٣٤٤، وغريب الحديث لأبي عبيد ٤/١٩٤، وشرح ابن يعيش ٩/٢٠، ومغني اللبيب ٧١، والأشموني ١/١٥٧، والصحاح (ذا) ٦/٢٥٥٢، واللسان (أم م) ١٢/٣٦، (س ل م) ١٢/٢٩٧، (ذو) ١٥/٤٥٩.والسّلِمَة: الحَجَر. الصحاح (س ل م) ٥/١٩٥١.
1 / 442
وعزيت إلى زُبيد، قال ابن الكلبي: "أنشد أشياخ بني زُبيد لعمرو بن معدي كرب الزبيدي١:
خَلِمْلِم لم أخنه ولم يخني
...
علم صمصامة ام سيف ام سلام
أي: على الصمصامة السيف السلام.
وعزاها الخطيب البغدادي إلى الأشعريين. قال: "وهي لغة مستفيضة إلى الآن باليمن"٢.
وعزاها بعض المعاصرين إلى سبأ أصل قبائل اليمن٣.
ومعظم المصادر القديمة تعزوها إلى حمير أو إلى اليمن عامة٤. وعن شمر أنه سأل امرأة حميرية فصيحة عن بلادها، فقالت: "النخل قُلٌّ، ولكن عيشنا امقمح، امفرسك، أم عنب، أم حماط، طوب، أي: طيب"٥.
ومن أمثال حمير: "لولا امعباب لم تنفق امكعاب"٦.
_________
١ جمهرة النسب ٤٥، ورواية الديوان ١٦٠:
خليلٌ لم أخنه ولم يخنّي
...
كذلك ما خِلالي أو نِدامي
٢ الكفاية في علم الرواية ١٨٤.
٣ لهجات اليمن قديمًا وحديثًا ٦٤.
٤ غريب القرآن لأبي عبيد ٤/١٩٤، والأزهية١٣٢، ١٣٣، وفقه اللغة للثعالبي ١١١، ومحاضرات الأدباء ١/٣٦، ودرة الغواص ٢٤٩، والنهاية ٣/١٥٠، وشرح ابن يعيش ٩ /٢٠، وشرح قطر الندى ١٥٨، والمزهر ١/٢٢٣، والتصريح بمضمون التوضيح١/٤٨٥ وتهذيب اللغة ١٢/٤٤٧، ١٥/ ٦٢٥، والصحاح ٥/١٩٥١، واللسان ١٢/٢٩٧ (س ل م) .
٥ تهذيب اللغة ١٠/٤٢٤، واللسان ١٠/٤٧٥.
٦ دراسة اللهجات العربية القديمة ٨٥.
1 / 443
وقال الأخفش: "وأما ما سمعنا من اليمن، فيجعلون (أم) مكان الألف واللام الزائدتين، يقولون: رأيت امرجل، وقام امرجل، يريدون الرجل"١.
وقد سمع ابن دريد هذه اللغة باليمن أيضًا، وهي الموطن الأصلي للأزد، فقال: "يقولون: رأيت امكبّار ضرب رأسه بالعَصْو، أي: بالعصا"٢.
وقد تكلم الرسول ﷺ بهذه اللغة في مخاطبة أحد وفود اليمن فقال: "ليس من امبر امصيام في امسفر"٣.
ولا تزال هذه اللغة مسموعة في جهات كثيرة من جنوب الجزيرة العربية٤ وسمعتها في منطقة الباحة في تهامة غامد الزناد، لكن الغالب عليهم إبدال الميم باء، فيقولون في امجمل (ابجمل) إلا ما كان أوله باء كالبقرة، فيقولون: (امبقرة) هروبًا من اجتماع المثلين.
ويتضح من هذه الشواهد أن أل الشمسية وأل القمرية تبدلان على السواء ميمًا إلا فيما حكاه الزجاجي في حواشيه على ديوان الأدب بأن "حمير يقلبون اللام ميمًا إذا كانت مُظْهَرة كالحديث المروي، إلا أن المحدِّثين أبدلوا في (الصوم) و(السفر) وإنما الإبدال في (البِّر) فقط"٥.
_________
١ معاني القرآن ١/٢٩.
٢ جمهرة اللغة ١/٣٢٧.وينظر: الاشتقاق٥٤.
٣ الحديث بهذه الرواية في مسند الإمام الشافعي ٢/١٥٧، والإمام أحمد ٥/٤٣٤، وغريب الحديث لأبي عبيد ٤/١٩٤، والكفاية في علم الرواية١٨٤، ونصب الراية للزيلعي ٢/٤٦١.وأخرجه البخاري في كتاب الصوم (١٨٤٤) بلفظ: "ليس من البر الصوم في السفر".
٤ ينظر: لهجات اليمن قديمًا وحديثًا٢٠، ومعجم العادات والتقاليد واللهجات المحلية في منطقة عسير ٦٤-٧٠.
٥ التصريح بمضمون التوضيح ١/٤٨٥.
1 / 444
وكذلك حكى ابن هشام عن بعض طلبة اليمن - في القرن السابع - أنه سمع في بلدهم من يقول: "خذ الرُّمح، واركب امفرس". أي أنهم لا يبدلون اللام ميمًا في أل الشمسية، وإنما يخصون ذلك بأل القمرية، قال: "ولعل ذلك لغة لبعضهم، لا لجميعهم، ألا ترى إلى البيت السابق، وإنها في الحديث دخلت على النوعين"١.
وذكر بعض المستشرقين أن بعض حمير يبدلون اللام في أل نونًا٢، فتكون أداة التعريف عندهم هي النون كما في العبرية٣، ولا يزال بعض قبائل سحار المتاخمة لخولان صعدة باليمن يقلبون أل الشمسية إلى (أنْ)، فيقولون في الصلاة والثور: انصلاة، انثور٤.
وذكر أحمد حسين شرف الدين أن المُعَرّف في اللغات اليمنية القديمة غالبًا ما يكون بالنون في آخر الاسم، مثل (ذن مسندن) أي: هذا المسند٥.
ولهذا أنكر جواد علي أن ينسب إبدال اللام ميمًا في كلام حمير، وزعم أن الحديث المروي شاهدا على هذه اللغة ضعيف أو مكذوب، قال: وقد وُضِع ليكون شاهدا على الطمطمانية المذكورة، ويرى أن تنسب هذه اللغة إلى بعض طيء٦.
وهذا القول غير مقبول، لحكمه على الحديث بلا علم، وقد رواه العلماء الثقات
_________
١ مغني اللبيب ٧١، ويعني بالبيت: (بامسهم وامسلمة) والحديث: "ليس من امبر امصيام في امسفر".
٢ دراسة اللهجات العربية القديمة ٨٥.
٣ في اللهجات العربية ١٤٢.
٤ لهجات اليمن قديمًا وحديثًا ٦٥.
٥ لهجات اليمن قديمًا وحديثًا ٢٠.
٦ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ٨/٥٧٦.
1 / 445
في مصنفاتهم، ولم يحكموا عليه بالضعف أو الوضع، كما أن قلب لام التعريف ميمًا في كلام حمير وغيرهم من أهل اليمن، كالأزد وطيء أمر مستفيض مشهور عند العلماء قديمًا وحديثًا، والشواهد على ذلك كثيرة، ذكرنا شيئًا منها فيما تقدم.
وحكم ابن جني على إبدال اللام ميمًا في هذه اللغة بالشذوذ الذي لا يسوغ القياس عليه١.وفي هذا الحكم نظر، لأنها "لغة قوم بأعيانهم ... ولا يجوز الحكم على لغة قوم بالضعف ولا بالشذوذ. نعم لا يجوز القياس بإبدال كل لام ميمًا، ولكن يتبع إن سمع"٢ كما قال في الخصائص: "الناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، وإن كان غير ما جاء به خيرًا منه"٣. أو كما قال أبو حيان: "كل ما كان لغة لقبيلة قيس عليه"٤.
وقد فسر اللغويون قلب اللام ميما في هذه اللغة بأنهما من الأصوات الذلقية الشبيهة بأصوات اللين، والمخارج متقاربة بينهما، يشاركهما في ذلك النون والراء٥.وهذه الأصوات يبدل بعضها من بعض كثيرًا في اللغات السامية٦.
ومن أمثلة قلب اللام ميمًا في العربية: "انجبرت يده على عَثَم وعَثَل، وسَمَمْت ما عنده وسَمَلت ما عنده، أي: خبرته، وأصابته أزمة وأزلة، أي: سنة، وغُرْمَة وغُرْلَة، وهي القلفة، وامرأة غرلاء وغرماء"٧.
_________
١ سر صناعة الإعراب ١/٤٢٣.
٢ لهجات العرب ١٠٥-١٠٦.
٣ الخصائص ٢/٤١١.
٤ الاقتراح١٨٦.
٥ الأصوات اللغوية ٦٣.
٦ التطور النحوي للغة العربية ٣٨، ودراسات وتعليقات في اللغة ٨٢.
٧ الإبدال والمعاقبة ٩٨.وينظر: الإبدال لأبي الطيب ٢/٣٨٧-٣٨١.
٣- المعاقبة: عرّف ابن سيده المعاقبة بأنها: دخول الياء على الواو، والواو على الياء من
٣- المعاقبة: عرّف ابن سيده المعاقبة بأنها: دخول الياء على الواو، والواو على الياء من
1 / 446