الغفلة
الغفلة
خپرندوی
مطبعة سفير
د خپرونکي ځای
الرياض
ژانرونه
الغفلة
مفهومها، وخطرها، وعلاماتها، وأسبابها، وعلاجها
الفقير إلى الله تعالى
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني
ناپیژندل شوی مخ
بسم الله الرحمن الرحيم (١)
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في: «الغفلة: خطرها، وعلاماتها، وأسبابها، وعلاجها» بيَّنت فيها بإيجاز: مفهوم الغفلة، والفرق بينها وبين النسيان، وخطر الغفلة، وأنها مرض فتَّاك مهلك، وبيَّنت علاماتها التي من اتَّصف بها فهو من الغافلين، وذكرت أسبابها،
_________
(١) أصل هذا الكتيب: محاضرة ألقيت بالدمام، بجامع الخفرة، يوم الخميس الموافق ٢٧/ ٧/١٤٢٦هـ.
1 / 3
وعلاجها، بإيجاز، والله تعالى أسأل أن ينفعني بما فيها في حياتي، وبعد مماتي، وأن ينفع بها من انتهت إليه، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم؛ فإنه خير مسؤول وأكرم مأمول وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أبو عبدالرحمن
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
حرر عشية الثلاثاء الموافق ١٣/ ٣/١٤٢٧هـ.
1 / 4
المبحث الأول: مفهوم الغفلة لغة، واصطلاحًا:
الغفلة لغة: مصدر غَفَل يغفل غفولًا وغفلةً: تركه وسهى عنه، وأغفلتَ الشيء: تركته غَفَلًا وأنت له ذاكرًا، والتغافل والتغفّل: تعمُّد الغفلة، والغُفلُ: من لا يرجى خيره ولا يخشى شره، وما لا علامة فيه (١)، وفي الحديث: «من اتبع الصيد غفل» (٢)، أي: يشتغل به قلبه ويستولي
_________
(١) لسان العرب لابن منظور ١١/ ٤٩٧، والقاموس المحيط، للفيروزآبادي، ص١٣٤٣.
(٢) وتمام الحديث: عن أبي هريرة ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: «من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلاطين افتتن، وما ازداد عبد من السلطان قربًا إلا ازداد من الله بعدًا». [أحمد في المسند ٢/ ٣٧١، ٤٤٠، وأبو داود، برقم ٢٨٦٠، وحسن إسناده العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ٣/ ٢٦٧، برقم ١٢٧٢. وللحديث شاهد عن ابن عباس ﵄ عن النبي ﷺ أنه قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلاطين افتتن» [النسائي، برقم ٤٣٠٩، وأبو داود بلفظه، برقم ٢٨٥٩، والترمذي برقم ٢٢٥٦، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ٢/ ٥٥٢، وفي غيره.
* ومعنى قوله ﷺ: «من اتبع الصيد غفل» أي لازم اتباع الصيد، والاشتغال به، غفل عن طاعة الله؛ لأن قلبه يشتغل به، ويستولي عليه، حتى يصير فيه غفلة، وربما =
= يغفل عن الجمعة والجماعة، أما من احتاج إلى ذلك ولم يشغله عن طاعة الله ﷿، فلا يدخل فيه، والله أعلم.
* ... قوله ﷺ: «من سكن البادية جفا: أي غلظ قلبه وقسا؛ لأن سكان البادية لا يخالطون العلماء إلا قليلًا، فلا يتعلمون مكارم الأخلاق، ورأفة القلب على صلة الأرحام والبر، والغالب عليهم أن طباعهم كطباع الوحوش؛ لقلة علمهم، ولبعدهم عن الناس.
* قوله ﷺ: «من أتى أبواب السلاطين افتتن» أي صار مفتونًا في دينه؛ لأنه إن وافقه في كل ما يأتي ويذر فقط خاطر على دينه، وإن خالفه فقد خاطر على دنياه، ولا شك أن المحذور في ذلك: الموافقة على ما لا يرضي الله ﷿، أو الطمع الزائد في الدنيا، أما من دخل عليهم من باب النصح والتعاون على البر والتقوى، والحذر [والتحذير] من كل ما نهى الله عنه ورسوله ﷺ، فهذا من أعظم القربات، ومن أفضل الجهاد؛ لقوله ﷺ: «الدين النصيحة» قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم» [رواه مسلم برقم ٥٥]، وقال ﷺ: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» أو «أمير جائر» [أبو داود، برقم ٤٣٤٤، والترمذي برقم ٢١٧٤ بلفظ: «إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» وابن ماجه برقم ٤٠١١ بلفظ أبي داود إلا أنه لم يذكر كلمة أو «أمير» والحديث صححه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب ٢/ ٥٧٣]. وانظر في شرح المعاني السابقة: تحفة الأحوذي للمباركفوري ٦/ ٥٣٢، وفتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود، لأمين محمود خطاب السبكي ٣/ ١١٧، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، لمحمد شمس الحق، ٨/ ٦١].
1 / 5
عليه، حتى يصير فيه غفلة (١).
_________
(١) النهاية لغريب الحديث لابن الأثير، ٣/ ٣٧٥.
1 / 6
وقيل: الغفلة: سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ (١) (٢).
والغفلة اصطلاحًا: قيل: متابعة النفس على ما تشتهيه.
وقيل: إبطال الوقت بالبطالة.
وقيل الغفلة عن الشيء: هي أن لا يخطر ذلك بباله (٣).
وقيل: غيبة الشيء عن بال الإنسان وعدم تذكره له، وقد استعمل فيمن تركه إهمالًا وإعراضًا كما قال تعالى: ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ (٤). وقد جاء هذا المعنى في آيات كثيرة (٥).
_________
(١) ألفاظ القرآن للأصفهاني ص٦٠٩.
(٢) وزاد الأصفهاني تفسير ألفاظ آيات: ق ٢٢، والأنبياء، ١، والروم ٧، ويس ٦، والأعراف ١٤٦، ١٣٦، ١٧٢، ٢٠٥، والكهف ٢٨.
(٣) الجرجاني ص٢٠٩.
(٤) المصباح المنير، ٢/ ٤٤٩، والآية ١ من سورة الأنبياء.
(٥) انظر: سورة الكهف ٢٨، والأعراف ١٧٩، ويونس ٧، و٩٢، والنحل ١٠٨، والروم ٧، ويس ٦، ومريم ٣٩، والأنبياء ١، و٩٧، وق ٢٢.
1 / 7
المبحث الثاني: الفرق بين الغفلة والنسيان:
* الغفلة: ترك باختيار الغافل.
* أما النسيان: فهو ترك بغير اختيار الإنسان.
* أما الذكر: فهو التخلص من الغفلة والنسيان (١)؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ (٢)، ولم يقل ولا تكن من الناسين؛ لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف فلا ينهى عنه؛ لقول النبي ﷺ: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» (٣).
وعن أبي ذر ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله تجاوز لي عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» (٤).
_________
(١) مدارج السالكين، ٢/ ٤٣٤.
(٢) سورة الأعراف، الآية: ٢٠٥.
(٣) ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم ٢٠٤٥، عن ابن عباس ﵄، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، ٢/ ١٧٨.
(٤) ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم ٢٠٤٣، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، ٢/ ١٧٨.
1 / 8
وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله تجاوز لأمتي عما توسوسُ به صدورها، ما لم تعمل به أو تتكلم به، وما استكرهوا عليه» (١).
_________
(١) ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم ٢٠٤٤، وانظر: صحيح سنن أبي داود للألباني ٢/ ١٧٨، وهو عند البخاري برقم ٦٦٦٤ بلفظ: «إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست - أو حدَّثت - به أنفسها، ما لم تعمل به أو تتكلم». وعند مسلم برقم ١٢٧، بلفظ: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم به».
1 / 9
المبحث الثالث: خطر الغفلة:
الغفلة مرض فتَّاك من أمراض القلوب، وقد حذر الله منها، وبيَّن عقاب من وقع فيها، ومما يدل على هذا ما يلي:
أولًا: توقع في الهلاك، قال الله تعالى في قوم فرعون:
﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ (١)، فأسباب هلاك قوم فرعون كثيرة، ولكن منها سببان: تكذيبهم بآيات الله، وتغافلهم عنها (٢).
ثانيًا: من أصيب بالغفلة الكاملة خُتِمَ على قلبه، وسمعه، وبصره، وكان أضل من الحيوان، والأنعام، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (٣). فهم لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سببًا للهداية، فقلوبهم لا يصل إليها فقه ولا علم، وأعينهم لا ينتفعون بها فلا يبصرون آيات الله، وآذانهم لا يسمعون بها ما ينفعهم، كما قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ (٤). وقال تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ (٥). وقال تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (٦). ولم يكونوا صمًّا، ولا بكمًا، ولا عميًا إلا عن الهدى، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ (٧). وقال
_________
(١) سورة الأعراف، الآيتان: ١٣٥، ١٣٦.
(٢) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (ص ٥٤٠).
(٣) سورة الأعراف، الآية: ١٧٩.
(٤) سورة الأحقاف، الآية: ٢٦.
(٥) سورة البقرة، الآية: ١٨.
(٦) سورة البقرة، الآية: ١٧١.
(٧) سورة الأنفال، الآية: ٢٣.
1 / 10
تعالى: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ (١). وقال تعالى: ﴿لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (٢).
ثالثًا: الغفلة، قرينة التكذيب بآيات الله تعالى: قال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ (٣)، فالسبب التكذيب والغفلة، فالغفلة قرينة التكذيب بآيات الله تعالى.
قال العلامة السعدي ﵀: «فردهم لآيات الله وغفلتهم عما يُراد بها، واحتقارهم لها، هو الذي أوجب لهم
_________
(١) سورة الفرقان، الآية: ٤٤.
(٢) سورة الحج، الآية: ٤٦.
(٣) سورة الأعراف، الآية: ١٤٦.
1 / 12
من سلوك طريق الغي، وترك طريق الرشاد ما أوجب» (١).
رابعًا: لعظم خطر الغفلة نهى الله عنها رسولَه ﷺ -، فقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ (٢). والغافلون الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم؛ فإنهم حُرِموا خير الدنيا والآخرة، وأعرضوا عن من كل السعادة والفوز بذكره، وعبوديته، وأقبلوا على من كلِّ الشقاوة، والخيبة، والاشتغال به» (٣).
خامسًا: الغفلة صفة من صفات أهل النار، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (٧) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (٤). فهذه حال الأشقياء الذين
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن (ص ٣٠٣).
(٢) سورة الأعراف، الآية: ٢٠٥.
(٣) انظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي (ص ٣١٤).
(٤) سورة يونس، الآيتان: ٧، ٨.
1 / 13
كفروا بلقاء الله يوم القيامة، ولا يرجون في لقائه شيئًا، ورضوا بهذه الحياة الدنيا واطمأنت إليها نفوسهم، وهم غافلون عن آيات الله الكونية، فلا يتفكرون فيها، وعن آياته الشرعية فلا يأتمرون بها (١).
سادسًا: الحذر من الغفلة؛ لأن أكثر الناس وقعوا في الغفلة، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ (٢).
سابعًا: الغفلة تغلق على العبد أبواب الخير، وتفتح له أبواب الشر، قال الله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (١٠٧) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ
_________
(١) تفسير القرآن العظيم، (ص ٦٤٢).
(٢) سورة يونس، الآية: ٩٢.
1 / 14
وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٠٨) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (٣).
ثامنًا: من أعظم خطر الغفلة أن مَن غفل عن الله عاقبه بأن يغفله عن ذكره، ويتبع هواه ويكون أمره ضائعًا معطلًا، قال الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ (٤).
تاسعًا: أهل الغفلة لهم الحسرة يوم الحسرة، قال الله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ (٥)، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر ﵄ عن النبي ﷺ أنه قال:
_________
(٣) سورة النحل، الآيات: ١٠٦ - ١٠٩.
(٤) سورة الكهف، الآية: ٢٨.
(٥) سورة مريم، الآيتان: ٣٩، ٤٠.
1 / 15
«إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادٍ: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حُزنًا إلى حزنهم» (١)، وعند مسلم عن أبي سعيد الخدري ﵁، ثم «قرأ رسول الله ﷺ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وأشار بيده إلى الدنيا» (٢).
عاشرًا: اقتراب الساعة والموت للناس وهم في غفلاتهم، قال الله تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ (٣)، فهم في غفلة عما خُلِقُوا له،
_________
(١) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم ٦٥٤٨، ومسلم، كتاب الجنة، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، برقم ٢٨٥٠.
(٢) مسلم، كتاب الجنة، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، برقم ٢٨٤٩.
(٣) سورة الأنبياء، الآيات: ١ - ٣.
1 / 16
وإعراض عما زجروا به، كأنهم للدنيا خلقوا، وللتمتع بها وُلِدُوا، وقلوبهم غافلة معرضة، لاهية بمطالبها الدنيوية، وأبدانهم لاعبة، قد اشتغلوا بتناول الشهوات، والعمل بالباطل (١). وقد نقل ابن كثير ﵀ أن أشعر الناس أبو العتاهية حيث قال:
الناس في غفلاتهم ورحا المنية تطحنُ (٢)
الحادي عشر: حذر الله تعالى الناس عن الغفلة، وبين سبحانه خطرها، فقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ (٣).
_________
(١) انظر: تيسير الكريم الرحمن (ص ٥١٨).
(٢) تفسير القرآن العظيم، (ص ٨٦٧).
(٣) سورة الأنبياء، الآيتان: ٩٦، ٩٧.
1 / 17
الثاني عشر: ذم الله تعالى الغافلين عن الآخرة، فقال تعالى: ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (١).
الثالث عشر: لخطر الغفلة فقد أرسل الله محمدًا ﷺ لإنذار الناس عن الغفلة، قال تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ (٢).
الرابع عشر: توبيخ الغافل يوم القيامة، وتقريعه، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي
_________
(١) سورة الروم، الآيتان: ٦، ٧.
(٢) سورة يس، الآيات: ٦ - ١٠.
1 / 18
الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (١).
_________
(١) سورة ق، الآيات: ١٦ - ٣٧.
1 / 19
المبحث الرابع: علامات الغفلة
الغفلة لها علامات كثيرة وأعراض عديدة، منها ما يأتي:
أولًا: التكاسل عن الطاعات، وهذه العلامة من أهم العلامات:
١ - قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ (١).
٢ - وعن أبي هريرة ﵁ يرفعه: «إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزمٌ من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» (٢).
_________
(١) سورة النساء، الآية: ١٤٢.
(٢) متفق عليه، البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، برقم ٦٤٤، ومسلم، كتاب الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، وبيان التشديد في التخلف عنها، برقم ٦٥١، واللفظ له.
1 / 20
ثانيًا: استصغار المحرمات والتهاون بها، قال عبد الله ابن مسعود ﵁: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقطع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذُباب مرّ على أنفه فقال به هكذا) فقال أبو شهاب: بيده فوق أنفه (١).
ثالثًا: ألف المعصية ومحبتها؛ لأدلة كثيرة، منها ما يأتي:
١ - حديث أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: «كل أمتي معافىً إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعملَ الرَّجلُ بالليل عملًا ثم يُصبحُ وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه» (٢).
٢ - وحديث حذيفة ﵁ عن النبي ﷺ أنه
_________
(١) البخاري، كتاب الدعوات، باب التوبة، برقم ٦٣٠٨.
(٢) متفق عليه، البخاري، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه ٦٠٦٩، ومسلم، كتاب الزهد، باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه، ٢٩٩٠.
1 / 21
قال: «تُعرضُ الفتنُ على القلوب كالحصير عُودًا عودا، فأيُّ قلبٍ أُشر بها نَكت فيه نكتةٌ سوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنكرها نُكت فيه نكتةٌ بيضاءُ حتى تصيرَ على قلبين: على أبيضَ مثل الصَّفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخرُ أسودُ مربادًّا كالكوزُ مجخِّيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرب من هواه» (١) (٢).
_________
(١) مسلم، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب، وعرض الفتن على القلوب، ١٤٤.
(٢) قوله ﷺ: «تعرض الفتن على القلوب» أي تلصق بعرض القلوب: أي جانبها، كما يلصق الحصير بجنب النائم، ويؤثر فيه شدة التصاقها به، وقوله: «عودًا عودًا» أي تعاد وتكرر شيئًا بعد شيء.
وقوله: «كالحصير» أي كما ينسج الحصير عُودًا عودًا.
قوله: «فأي قلب أشربها»: أي دخلت فيه دخولًا تامًا، وحلت منه محل الشراب، وألزمها.
قوله: «أبيض مثل الصفا» هذا يدل على قوته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل، وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه، كالصفا وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء.
قوله: «أسود مربادَّ» أي: شبه البياض في سواد.
قوله: «مجخِّيًا»: أي منكوسًا، فهذا القلب قد نُكس حتى لا يعلق به خير ولا حكمة، وقد شبه القلب الذي لا يعي خيرًا بالكوز المنكوس الذي لا يثبت الماء فيه. [شرح النووي على صحيح مسلم، ٢/ ٥٣١].
1 / 22