يتحدث بولس عن «إله هذا العالم» أو «إله هذا الدهر» في إشارة خفية إلى إله التوراة يهوه في أكثر من موضع. فهو إله الهالكين من اليهود الذين رفضوا الخلاص الذي قدمه لهم يسوع: «ولكن إذا كان إنجيلنا مكتوما (= محجوبا)، فإنه مكتوم عن الهالكين الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح» (2 كورنتة، 4: 3-4). ومن المعروف أن لقب «إله هذا الدهر» هو واحد من ألقاب إله التوراة. نقرأ في سفر إشعيا على سبيل المثال: «أما عرفت، ألم تسمع؟ إله الدهر، الرب خالق أطراف الأرض، لا يكل ولا يعيا» (إشعيا، 40: 28). هذا الإله الذي يدعوه الغنوصيون بالأركون الأكبر من الكلمة اليونانية (
Archon
أي الحاكم)، يدير العالم من خلال مساعديه المدعوين أيضا بالأراكنة (
Archons )، أو الأركان بلغة بولس، وهم حفظة الشريعة: «لما كنتم تجهلون الله كنتم عبيدا لآلهة ليست بآلهة حقا. أما الآن وقد عرفتم الله، بل عرفكم الله، فكيف تعودون إلى تلك الأركان الضعيفة الحقيرة وتريدون أن تكونوا عبيدا لها كما كنتم قبلا، تراعون الأيام والشهور والفصول والسنين (إشارة إلى السبت وأعياد اليهود الدينية)» (غلاطية، 4: 8-10). «حين كنا قاصرين كنا عبيدا لأركان هذا العالم. فلما تم الزمان أرسل الله ابنه مولودا لامرأة، مولودا في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة» (غلاطية، 4: 3-6).
وهؤلاء الأراكنة هم ملائكة الحاكم الأكبر الذين بلغوا شريعته لليهود وعملوا على تطبيقها: «فما معنى الشريعة؟ إنها أضيفت بداعي المعاصي إلى أن يأتي النسل الذي جعل له الموعد (= المسيحيون)، أعلنها (أي الشريعة) الملائكة على يد وسيط (= موسى)، والواحد لا وسيط له، والله واحد» (غلاطية، 3: 19-20). وهؤلاء الملائكة من معاوني الآركون الأكبر هم أصحاب الرئاسة والسلطة الذين خلعهم المسيح: «كنتم أمواتا بزلاتكم وقلف أجسادكم، فأحياكم الله معه وصفح لنا عن جميع زلاتنا ومما ما كان علينا من صك للفرائض، وألغاه مسمرا إياه على الصليب، وخلع أصحاب الرئاسة والسلطان وعاد بهم في ركبه الظافر» (كولوسي، 2: 13-15). ومع زوال سلطة هؤلاء فقد زالت سلطة الشريعة: «فلا يحكمن عليكم أحد في المأكول والمشروب أو الأعياد والأهلة والسبوت، فما هذه كلها إلا ظل الأمور المستقبلية، أما الحقيقة فهي جسد المسيح. فلا يحرمنكم أحد إياها رغبة منه في التواضع وفي عبادة الملائكة ... فأما وقد متم مع المسيح متخلين عن أركان العالم، فما بالكم لو كنتم عائشين في العالم تخضعون لمثل هذه النواحي: لا تمس، ولا تذق، ولا تأخذ ... وتلك أشياء تئول كلها إلى الزوال بالاستعمال» (كولوسي، 2: 16-22). وهؤلاء الأراكنة هم الذين صلبوا يسوع المسيح لجهلهم بحكمة الله الخفية: «ولكن هناك حكمة نتكلم عليها بين الناضجين في الروح، وهي غير حكمة هذا العالم ولا رؤساء هذا العالم وسلطانهم على زوال، بل هي حكمة الله السرية الخفية التي أعدها قبل الدهور في سبيل مجدنا وما عرفها أحد من رؤساء هذا العالم، ولو عرفوها لما صلبوا رب المجد» (1 كورنثة، 2: 6-8).
وبخصوص المفهوم الغنوصي عن روح الإنسان باعتبارها قبس من روح الله يقول بولس: «أما تعرفون أن روح الله يسكن فيكم؟ فمن هدم هيكل الله هدمه الله، لأن هيكل الله مقدس وأنتم أهل الهيكل» (1 كورنثة، 3: 16-17). «وإذا كان روح الله الذي أقام يسوع من بين الأموات يسكن فيكم، فالذي أقام يسوع المسيح من بين الأموات يبعث الحياة في أجسادكم الفانية بروحه الذي يسكن فيكم» (روما، 8: 10-11). «فمع أن الإنسان الظاهر فينا يسير إلى الفناء، إلا أن الإنسان الباطن يتجدد يوما بعد يوم» (2 كورنثة، 4: 16). وما دام الأمر كذلك فإن هذا العالم هو بالمفهوم الغنوصي غربة للروح لأن مسكنها الأصلي هو في السماء: «ولذلك لا نزال واثقين كل الثقة، عارفين أننا ما دمنا في هذا الجسد فنحن متغربون عن الرب لأننا نهتدي بإيماننا لا بما نراه. فنحن إذن واثقون، ونفضل أن نغترب عن هذا الجسد لنقيم مع الرب» (2 كورثنة، 5: 6-8). وعلى عكس اليهود الذين يعتقدون أن وطنهم في الأرض، فإن من عرف المسيح يعرف أن وطنه الحقيقي هو في السماء: «هناك جماعة كثيرة تسلك في حياتها سلوك أعداء صليب المسيح (= اليهود). هؤلاء عاقبتهم الهلاك، وإلههم بطنهم (كناية عن شرائع النجس والطاهر في المأكل)، ومجدهم عوراتهم (كناية عن افتخارهم بالختان)، وهمهم أمور الدنيا. أما نحن فوطننا في السماء ومنها ننتظر الرب يسوع المسيح. فهو الذي يبدل جسدنا الوضيع ليجعله على صورة جسده المجيد» (فيليبي، 3: 18-21).
وهذا ما يقود بولس إلى موقف غنوصي من الجسد: «اسلكوا سبيل الروح ولا تقضوا شهوة الجسد، لأن الجسد يشتهي ما يخالف الروح» (غلاطية، 5: 16-17). وموقفه هذا من الجسد يقوده إلى موقف سلبي من الزواج على الرغم من عدم شجبه له: «أريد أن تكونوا من دون هم. فغير المتزوج يهتم بأمور الرب وكيف يرضي الرب، والمتزوج يهتم بأمور العالم، وكيف يرضي امرأته، فهو منقسم ... أقول هذا لخيركم لا لألقي عليكم قيدا، بل لتعلموا ما هو لائق وتخدموا الرب دون ارتباك» (1 كورثنة، 7: 32-35).
هذه النظرة الغنوصية إلى الجسد ينجم عنها بالضرورة عند بولس قوله بالبعث الروحاني لا بالبعث الجسدي، على ما يراه الغنوصيون أيضا: «هكذا أيضا قيامة الأموات، يدفن الجسم في فساد ويقام في عدم فساد، يدفن في هوان ويقام في مجد، يدفن في ضعف ويقام في قوة، يدفن جسما حيوانيا ويقام جسما روحانيا ... كما هو الترابي هكذا الترابيون أيضا، وكما هو السماوي هكذا السماويون أيضا. وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضا صورة السماوي. أقول لكم أيها الإخوة إن لحما ودما لا يقدران أن يرثا ملكوت الله، ولا يرث الفساد عدم الفساد» (1 كورثنة، 15: 42-50).
إن ثنائية الجسد والروح تعكس عند بولس ثنائية الظلام والنور، والخير والشر. وهو في تبنيه إلى هذه الثنائيات يستخدم مصطلح الإفاقة من نوم الغفلة ورقدة الجهالة الشائع عند الغنوصيين: «تنبه أيها النائم وقم من بين الأموات يضيء لك المسيح» (إفسس، 5: 14). «وأنتم تعرفون في أي وقت نحن. حانت ساعتكم لتفيقوا من نومكم، فالخلاص الآن أقرب إلينا مما كان يوم آمنا. تناهى الليل، واقترب النهار. فلنطرح أعمال الظلام ونحمل سلاح النور، لنسلك كما يليق السلوك في النهار» (روما، 13: 11-13). «أما أنتم أيها الإخوة فلا تعيشون في الظلام حتى يفاجئكم ذلك اليوم مفاجأة اللص، فلا ننم كسائر الناس بل علينا أن نسهر ونصحو. فإنما في الليل ينام النائمون، وفي الليل يسكر السكارى، أما نحن أبناء النهار فلنكن صاحين لابسين درع الإيمان والمحبة وخوذة رجاء الخلاص» (1 تسالونيكي، 5: 4-8). «احمدوا الآب بسرور لأنه جعلكم أهلا لأن تشاطروا القديسين ميراثهم في النور. فهو الذي نجانا من سلطان الظلمات ونقلنا إلى ملكوت ابنه الحبيب، فكان به الفداء وغفران الخطايا» (كولوسي، 1: 12-13).
فإذا انتقلنا إلى إنجيل يوحنا الذي رشح إليه الكثير من تعاليم يسوع الباطنية، لوجدنا كيف تغيب الحدود الفاصلة بين المسيحية الأولى والفكر الغنوصي، لا سيما فيما يتعلق بثنائيات الوجود: الخير والشر، النور والظلمة، الموت والحياة، والمعرفة والجهل: «أنا نور العالم، من يتبعني لا يخبط في الظلام بل له نور الحياة» (8: 12). «النور باق معكم وقتا طويلا، فامشوا ما دام لكم النور مخافة أن يدرككم الظلام؛ لأن الذي يمشي في الظلام لا يدري أين يسير. آمنوا بالنور ما دام لكم النور، فتكونوا أبناء النور» (12: 35-36). «جئت إلى العالم نورا، فمن آمن بي لا يقيم في الظلام» (12: 46).
ناپیژندل شوی مخ