وفي الحقيقة فإن موقف يوحنا كما عرضه متى غير مفهوم، لأن الروح القدس لم يكن بعد قد هبط على يسوع، ويسوع نفسه لم يكن يعرف أنه المسيح المنتظر قبل سماعه للصوت السماوي. فكيف تأتت ليوحنا هذه المعرفة المسبقة؟ يضاف إلى ذلك أن الجملة التي استخدمها كل من مرقس ومتى: «وللوقت وهو صاعد من الماء رأي السماوات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلا عليه» (مرقس، 1: 10-11) تدل على أن يسوع وحده قد رأى ما رأى وسمع ما سمع، وذلك في حالة كشف باطني لم يستشعرها أحد غيره.
هذا الحوار بين يوحنا ويسوع لم يرد عند بقية الإنجيليين؛ فيسوع لم يلتق بيوحنا عند لوقا، لأنه عمد نفسه بنفسه عندما كان يوحنا في السجن، أما مؤلف إنجيل يوحنا فقد تجاهل تماما قصة اعتماد يسوع على يد يوحنا.
نقرأ في إنجيل لوقا: «وإذا كان الشعب ينتظر والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح، أجاب يوحنا الجميع وقال: أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى مني ، الذي لست أهلا لأن أحل سيور حذائه، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار ... أما هيرودس رئيس الربع فإذا توبخ منه لسبب هيروديا امرأة فيليبس أخيه ولسبب جميع الشرور التي كان هيرودس يفعلها، زاد هذا أيضا على الجميع أنه حبس يوحنا في السجن. ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضا. وإذا كان يصلي انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس ... إلخ» (لوقا، 3: 15-22).
في هذا النص يقول لنا لوقا بأن هيرودوس ملك الجليل زج يوحنا في السجن، ثم يقول بعد ذلك «ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضا». فهل يعني هذا أن يسوع قد عمد نفسه بنفسه؟ أم أن صياغة لوقا تتضمن بعض التقديم والتأخير؟
ونقرأ في إنجيل يوحنا: «وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت؟ فاعترف ولم ينكر وأقر: إني لست المسيح.» فسألوه: إذن ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال: لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب: لا. فقالوا: من أنت لنعطي جوابا للذين أرسلونا؟ ماذا تقول عن نفسك؟ قال: أنا صوت صارخ في البرية، قوموا طريق الرب كما قال النبي إشعيا. وكان المرسلون من الفريسيين، فسألوه وقالوا له: فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟ فأجابهم يوحنا قائلا: أنا أعمد بماء ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه، هو الذي يأتي بعدي، الذي صار قدامي، الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه. هذا كان في بيت عبرة في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمد. «وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلا إليه، فقال: هذا هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم، هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي الذي صار قدامي لأنه كان قبلي، وأنا لم أكن أعرفه، ولكن ليظهر لإسرائيل لذلك جئت أعمد بالماء. وشهد يوحنا قائلا: إني رأيت الروح مثل حمامة نازلا من السماء فاستقر عليه. وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء، ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلا ومستقرا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت بأن هذا هو ابن الله» (يوحنا، 1: 19-24).
من قراءة هذا النص نخرج بالملاحظات التالية: (1)
يسوع لم يعتمد على يد يوحنا. وهذا يأتي في انسجام مع لاهوت الإنجيل الرابع الذي رفع يسوع إلى مرتبة «كلمة الله» التي كانت عنده منذ البدء. وهذا هو مؤدى قول المعمدان: «يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي» فالقادم من السماء لا يعتمد على يد رجل أرضي، إنه يعمد ولا يتعمد لأنه بلا خطيئة. (2)
كما هو الحال في رواية مرقس، فإن يسوع والمعمدان لم يتبادلا كلمة واحدة، على الرغم من أن يسوع قد جاء إلى المكان الذي كان يوحنا يعمد فيه، ورآه يوحنا مقبلا إليه. فلماذا أقبل يسوع إلى يوحنا إذا كان عازفا عن الاعتماد؟ ولماذا بالدرجة الأولى ترك موطنه في الجليل وقصده؟ (3)
تغيب من رواية إنجيل يوحنا عبارة «وصوت من السماوات قائلا هذا هو ابني الحبيب (أو أنت ابني الحبيب) الذي به سررت»، وتستبدل بها شهادة المعمدان: «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله». (4)
من مجريات روايات مرقس ومتى ولوقا، يتضح لنا أن يسوع والمعمدان لم يكونا على معرفة سابقة. ثم تأتي رواية إنجيل يوحنا لتؤكد لنا هذه الواقعة بصريح العبارة، عندما يكرر المعمدان مرتين أنه لم يكن يعرف يسوع. وهذا يتناقض مع رواية الميلاد عند لوقا الذي جعل من أليصابات أم يوحنا قريبة لمريم أم يسوع (وفي التقاليد الكنسية ابنة خالتها)، وجعل مريم تترك موطنها في الجليل عقب البشارة بالحمل، تسافر إلى أورشليم حيث مكثت عند زكريا وأليصابات مدة ثلاثة أشهر (لوقا، 1: 39-56). (5)
ناپیژندل شوی مخ