خلال القرون الثلاثة الأولى للميلاد كانت الميثروية المنافس الرئيسي للمسيحية على استمالة شعوب الإمبراطورية؛ وذلك بسبب التشابه الكبير في معتقداتهما. فكلاهما كان يؤمن بخلود الروح وبالبعث والعالم الآخر، وبإله مخلص يؤدي الاتحاد به إلى الخلاص من ربقة الموت. هذا التشابه في العقائد وفي الطقوس المرتبطة بها أدهش المسيحيين أنفسهم فاعتبروه من صنع الشيطان ، أما الميثرويون فكانوا يتهمون المسيحيين باقتفاء أثرهم واقتباس معتقداتهم. وفي القرن الرابع الميلادي بدأت الميثروية بالتراجع أمام المسيحية في كل مكان حتى اختفى أثرها. على أن المراقب لذروة التنافس بينهما إبان القرن الثاني الميلادي، بإمكانه القول إنه لو قيض للمسيحية أن تكبو في مسيرتها لسبب ما، لكان الغرب اليوم ميثرويا.
من هذا العرض (الموجز بما يكفي لغاية بحثنا) للمشهد الديني في الإمبراطورية الرومانية خلال القرون الثلاثة الأولى للميلاد، نلاحظ أن الوثنية المتأخرة المنفتحة على الأفلاطونية المحدثة وعلى الرواقية المتأخرة، كانت تتقارب مع المسيحية في صيغتها الغربية على الرغم من الصراع القائم بينهما. فقد كانت الوثنية تفارق التعددية في اتجاه نحو التوحيد، في الوقت الذي راح المفهوم التوحيدي الأصلي للمسيحية يعرض نفسه في صيغة تعددية: الآب، والابن، والروح القدس. في هذا الثالوث يلعب المسيح دور العقل المدبر للكون باعتباره الكلمة، أو اللوغوس الذي صدر عن الآب. أي إنه اتخذ دور الشمس كحاكم للعالم في الأفلاطونية المحدثة والرواقية المتأخرة والميثروية. وبذلك صار المناخ الفكري مهيأ للمطابقة بين المسيح وسول إنفيكتوس. وهذا ما حققه الإمبراطور قسطنطين. (7) قسطنطين والعبادة المسيحية-الشمسية
لقد لعب الإمبراطور قسطنطين (306-337م) في تاريخ المسيحية الدور الذي لعبه قورش الفارسي في تاريخ الديانة اليهودية. فبعد دخول قورش إلى بابل عام 539ق.م. ووراثته لأملاكها في مناطق غربي الفرات، أصدر مرسومه الشهير الذي سمح فيه للشعوب التي سباها البابليون ومن قبلهم الآشوريون بالعودة إلى ديارهم. وكان سبي مملكة يهوذا الفلسطينية من جملة المستفيدين من هذا المرسوم، فأخذوا بالعودة إلى أورشليم على دفعات؛ حيث أعادوا بناء المدينة والهيكل، وهي العودة التي آذنت ببداية التاريخ اليهودي الذي ترافق مع تدوين أسفار التوراة. أما قسطنطين فبعد انتصاره في معركة جسر ميلفيان التي أكسبته عرش روما، أعلن مرسوم ميلان الشهير الذي نص فيه على الحرية الدينية لجميع الطوائف في الإمبراطورية، وعلى رأسها الكنيسة المسيحية التي رد إليها أماكن العبادة والعقارات التي صودرت منها في العهود السابقة وسمح لها بالتبشير علنا دون رقيب. وكان هذا المرسوم منعطفا حاسما في تاريخ المسيحية التي تحولت بعد أقل من نصف قرن إلى ديانة رسمية للإمبراطورية. وكما أطلق المحررون التوراتيون على قورش لقب مسيح الرب على الرغم من أنه لم يكن يهوديا (إشعيا، 45: 1)، كذلك رفعت كنيسة روما قسطنطين إلى مصاف القديسين على الرغم من أنه لم يكن مسيحيا.
وتقول القصص التي تحدثت عن معركة جسر ميلفيان التي هزم فيها قسطنطين منافسه ماكسينتيوس، أنه رأى قبل المعركة على شمس منتصف الظهيرة صليبا نقشت عليه عبارة «بهذه الشارة سوف تنتصر» (قارن مع التجلي الإلهي الذي ظهر لأورليان على أبواب حمص، ونسب بعد ذلك لإله الشمس، مما أوردناه سابقا). وبعد ذلك أمر قسطنطين بصنع راية على الشكل الذي تبدى له وأضاف إليها الحرفين الأولين من اسم المسيح (= خريستوس)، رفعت بعد ذلك في المعركة، كما أمر جنوده برسم الشارة على تروسهم ودروعهم. ونحن إذا سلمنا جدلا بوجود أصل منطقي لهذه القصة، فلن نجده إلا في حلم رآه قسطنطين في الليلة السابقة للمعركة، ظهر له فيه إله الشمس التي لا تقهر «سول إنفيكتوس» في منتصف النهار (وهو الوقت المناسب لتجلي هذا الإله) في هيئة قرص الشمس وعليه شارة ما فسرت بعد ذلك بأنها الصليب المسيحي. وفي الحقيقة فإن مسيرة حياة هذا الإمبراطور تؤكد لنا هذا التفسير.
14
على عكس ما يعتقده الكثيرون فإن المسيحية لم تغد الدين الرسمي للدولة خلال عهد قسطنطين، وأول الأباطرة المسيحيين هذا لم يتلق المعمودية وهي طقس الدخول في المسيحية إلا وهو على فراش الموت. إن القصة الحقيقية لتحوله إلى المسيحية ترسم أمامنا شخصية عاهل متردد فكريا لم يكن من السهل عليها أن يتخلى عن معتقداته التي شب عليها، لا سيما عبادة الشمس الإمبراطورية، لصالح المسيح. وقد كانت مسيرته في تغيير الديانة الوطنية مسيرة حذرة راقبها كل من المسيحيين والوثنيين بوجل وترقب لما ستنجلي عنه مواقف مليكهم.
في مرسوم ميلان لم يشر قسطنطين بشكل مباشر إلى إله المسيحيين، بل اكتفى بإطلاق لقب عام على الألوهة الكونية التي دعاها «إله السماء»، وهذا اللقب ينطبق على الإله المسيحي مثلما ينطبق على إله الشمس. كما أن هذا المرسوم لم يجعل من المسيحية دينا للإمبراطور ولا دينا للدولة، وإنما ساواها مع بقية الديانات المعترف بها في الإمبراطورية وحصنها من الاضطهاد. كما أن قسطنطين لم يتبع مرسوم ميلان بأي مرسوم آخر ذي طابع قانوني يتعلق بالمسيحية والمسيحيين، وإنما كان على الناس تتبع مواقفه وتصريحاته الشخصية التي تكشف عن ميوله الخاصة لا عن مواقف رسمية حاسمة. فالإمبراطور بقي إلى ما بعد أواسط العمر مثابرا على رعاية الديانة الرومانية التقليدية وأنفق بسخاء على بناء معابد آلهتها، كما رفع أباه المتوفي إلى مجمع الآلهة وأقر له عبادة خاصة محتذيا بذلك مثال العديد من الأباطرة السابقين الذي ألهوا بعد مماتهم. وعلى الرغم من أنه أعلن في سنواته الأخيرة أنه لن يدخل معبدا وثنيا، وعمل على تشجيع كل متعمد بمنحه ثوبا أبيض وعشرين قطعة ذهبية، إلا أنه لم يتخذ خطوة واحدة في سبيل إغلاق المعابد الوثنية وصرف كهنتها كما هو متوقع من إمبراطور قرر التحول إلى المسيحية. إن كل الدلائل تشير إلى أن عقيدته الخاصة كانت مثل أورليان موجهة نحو إله الشمس الذي اشتهر في كل مكان بأنه الحامي الخاص للإمبراطور. ولكن هذا الإله كان يتوحد تدريجيا في عقله بالمسيح الذي قال عن نفسه في إنجيل يوحنا: «أنا نور العالم» (يوحنا، 8: 12). وقال: «آمنوا بالنور ما دام لكم النور، فتكونوا أبناء النور» (يوحنا، 12: 36).
ومع ذلك فقد مجدت الكنيسة فضائل نصيرها الكريم، وكان اسمه يذكر مضافا إليه لقب «المساوي للرسل»، ولكنها غضت الطرف عن عيوبه وسقطاته التي لا تتناسب مع هذا اللقب، وكانت المهمة غير المحببة لنفس أسقف روما هي التستر على فظائعه الكثيرة وتبريرها، لا سيما قتله لابنه الأكبر من زوجته الأولى المدعو كريسبوس. كان هذا الابن محبوبا من قبل الجميع لثقافته وعلمه وبسالته، وكان الشعب يهتف باسمه إلى جانب اسم أبيه. ولكن سرعان ما أثارت هذه الشعبية المحفوفة بالمخاطر انتباه الأب الذي كان في الجزء الثاني من حياته يتوجس خيفة من انقلاب موهوم عليه . وقد غذى الوشاة هذا الوهم حتى تحول في ذهنه إلى حقيقة، وكان المتهم الرئيسي في المؤامرة هو الابن التعس الذي خضع لمحاكمة سرية قصيرة وجرى إعدامه. وبعد فترة أعدم زوجته الثانية التي أنجبت له عدة أولاد بتهمة الزنا مع أحد العبيد، ولكن هذه التهمة لم تكن إلا واجهة ستر وراءها شكوكه بصلة لها بالمؤامرة المزعومة التي أثبت الزمن بعد ذلك بطلانها.
لقد كان قسطنطين يهدف على ما يبدو إلى توحيد الإمبراطورية دينيا بعد أن أعاد إليها الوحدة السياسية. وقد توجه تفكيره في البداية نحو صياغة الإيديولوجيا الإمبراطورية حول الإله سول إنفيكتوس. فالشمس في سطوعها على أصقاع الإمبراطورية هي خير رمز يعبر عن وحدتها، ثم أخذ يجد ضالته تدريجيا في النزوع العالمي للمسيحية ولكن من غير أن يتخلى عن سول إنفيكتوس، لا سيما وأن عبادة هذا الإله كانت توحيدية في جوهرها. وتعبر التماثيل التذكارية التي نصبها قسطنطين عن هذه النزعة التوفيقية التي تحكمت بتفكيره. من ذلك مثلا التمثال الذي أمر بنصبه على عمود بورفيري في عاصمته الجديدة القسطنطينية، والذي يمثل الإمبراطور على صورة إله الشمس هيليوس وهو يحمل بيده كرة العالم التي ارتفع عليها الصليب (قارن مع صور ميثرا التي أشرنا إليها أعلاه)، وعلى قاعدة العمود نقش يقول: «قسطنطين الذي يضيء مثل الشمس.» وكان نظر التمثال يتجه نحو الأعلى إلى الشمس الطالعة. وهناك ميداليات ذهبية يظهر عليها الإمبراطور وإله الشمس كتوءمين. ومنذ عام 324 أقر قسطنطين صك نقود معدنية عليها صورته وهو رافع يديه نحو الشمس، أو صورة إله الشمس وهو يظلل القيصر الذي يحمل بيده لواء الصليب، أو صورة الشمس منفردة وهي ترسل أشعتها في كل اتجاه. وعلى قوس النصر الذي بناه يظهر إله الشمس إلى جانب الإلهة فيكتوريا ربة النصر وأمامهما يقف القيصر.
ولم يبق على قسطنطين إلا أن ينتظر إعلان السلطات الكنسية رسميا ألوهية المسيح من أجل أن تكتمل في ذهنه المطابقة بين سول إنفيكتوس والمسيح، وهذا ما تم في مجمع نيقية عام 325م الذي دعا إليه الإمبراطور من أجل توحيد وتنميط العقيدة المسيحية. فقد أقر المجتمعون أن يسوع المسيح هو اللوغوس، أو العقل الكوني المنبعث عن الآب والمساوي له في الجوهر.
ناپیژندل شوی مخ