ثم إن بطرس قال لزملائه: أنا ذاهب لأتصيد. فقالوا له: نذهب نحن أيضا معك. فدخلوا السفينة وألقوا بشباكهم ولكنهم لم يمسكوا شيئا. فلما طلع الصباح وقف يسوع على الشاطئ ولكن التلاميذ لم يعرفوه. فقال لهم: أيها الفتيان، أعندكم شيء يؤكل؟ أجابوه: لا. فقال لهم: ألقوا الشبكة إلى يمين السفينة تجدوا. فألقوا ولم يقدروا على سحبها من كثرة السمك. عند ذلك: «قال التلميذ الذي كان يسوع يحبه لبطرس: هو الرب. فلما سمع بطرس أنه الرب ائتزر بثوبه لأنه كان عريانا وألقى نفسه في البحر.» ولما وصلوا إلى الشاطئ، وكانوا قريبين منه نحو مائتي ذراع، قال لهم يسوع: هلموا إلى الطعام ثم أكل معهم. وبعد الطعام قال يسوع لبطرس: «يا سمعان بن يونا، أتحبني أكثر من هؤلاء؟ فأجابه: نعم يا رب. أنت تعرف أني أحبك. فقال له: ارع غنمي ... ثم قال له اتبعني. فالتفت بطرس فرأى التلميذ الذي كان يسوع يحبه يسير خلفهما، ذاك الذي اتكأ على صدر يسوع وقت العشاء وقال: يا سيد من هو الذي يسلمك؟ فلما رآه بطرس قال ليسوع: وهذا ما هو مصيره؟ فأجابه يسوع: لو شئت أن يبقى إلى أن أعود فماذا يعنيك؟ فشاع بين الإخوة أن هذا التلميذ لا يموت، مع أن يسوع لم يقل لبطرس أنه لا يموت، بل قال له: لو شئت أن يبقى إلى أن أعود فماذا يعنيك، وهذا التلميذ هو الذي يشهد بهذه الأمور ويدونها، ونحن نعلم أن شهادته صادقة» (يوحنا: 21). (1) التلميذ الذي لا يموت
وصناعة الإنجيل الرابع
إن الجملة التي قالها مؤلف الإنجيل في سطوره الأخيرة: «فشاع بين الإخوة أن هذا التلميذ لا يموت» لذات أهمية في استقصائنا هذا. فهذا التلميذ قد عاش حياة مديدة، وأدرك مطلع القرن الثاني الميلادي، وفق ما نقله إلينا مصدر مسيحي موثوق وهو بوليكراتيس أسقف إفسوس، في رسالة له موجهة إلى أسقف روما في أواخر القرن الثاني الميلادي، لم تصلنا ولكنها وردت مقتبسة من قبل أوزيب القيساري في كتابه «التاريخ الكنسي». وقد أمضى هذا التلميذ وفق بوليكراتيس العقود الأخيرة من حياته في مدينة إفسوس اليونانية بآسيا الصغرى ودفن فيها بعد موته. وفي سنيه الأخيرة أقنعه داعية مسيحي كان ناشطا في مطلع القرن الثاني يدعى يوحنا الشيخ (أو القس) بأن يملي عليه ذكرياته باعتباره آخر تلاميذ يسوع الأحياء والشاهد المتبقي على أحداث الإنجيل.
5
وهكذا ظهر الإنجيل الرابع الذي جاء نتيجة لتلاقي ذكريات التلميذ الحبيب وأسلوب يوحنا الشيخ في صياغتها وطريقة فهمه لما سمعه من أحداث وأقوال. ولكن بوليكراتيس يدعو هذا التلميذ يوحنا، وذلك انسجاما مع الفكرة المسيطرة آنذاك بأن مؤلف الإنجيل الرابع هو يوحنا بن زبدي، ولكننا ندعوه لعازر وأثبتنا وجهة نظرنا بالقرائن.
كان التلميذ الحبيب يملي ذكرياته على يوحنا الشيخ بعد مضي نحو 65 عاما على الأحداث المروية. ولهذا يجب أن نتوقع أنه عانى بعض الصعوبة وعدم اليقين التام في تذكر وقائع معينة وفي التحديد الدقيق للأزمنة والأمكنة. ومع ذلك فقد أبدى في سرده معرفة صحيحة بطبوغرافية أورشليم وفلسطين لا تجدها عند غيره، وأورد لنا أحداثا مهمة لم ترد في بقية الأناجيل، وأتى على ذكر شخصيات ذات شأن لم يتعرض لها الآخرون. والأهم من ذلك أنه كان يتحدث في كثير من الأحيان كشاهد عيان على ما يروي، وأنه أوصل إلى يوحنا الشيخ الكثير من التعاليم السرية التي كان يسوع يبيحها للحلقة الداخلية الضيقة من تلاميذه. وهذا هو السبب في احتواء الإنجيل الرابع على ملامح عامة من هذه التعاليم التي توضحت فيما بعد بشكل أكثر دقة في فكر مرقيون مؤسس الكنيسة البديلة (راجع بحثنا السابق عن مرقيون). وفي الحقيقة فإن هنالك ما يشير إلى صلة غامضة بين التلميذ الحبيب ومرقيون. وبعض الموروثات المسيحية تقول: إن مرقيون كان المبادر إلى الاتصال بالتلميذ الحبيب، وأنه أخذ بالفعل بتدوين ذكرياته عن يسوع قبل أن يختلف الاثنان، ويقرر التلميذ إيقاف تعاونه معه وقبول يوحنا الشيخ بدلا عنه.
6
هذا التلميذ الذي نقل إلينا تعاليم يسوع السرية، كان واحدا من القلة التي اطلعت على الأسرار بعد المرور بطقس استسراري عظيم كان يسوع يقوده من أجل المختارين من تلاميذه، وهو طقس الموت الرمزي الذي يليه الانبعاث إلى حياة لا ترى الموت، طقس موت التلميذ عن نفسه ثم الحياة الأبدية في يسوع المسيح. وقد كان تلاميذ يسوع تواقين إلى ممارسة هذا الطقس، ولهذا قال توما لزملائه عندما قال لهم يسوع بأن لعازر قد مات: «لنذهب نحن أيضا ونمت معه» وهذا ما سوف نبسطه في البحث المقبل عن: «طقوس الاستسرار ولغز إحياء لعازر».
على أن السؤال المحير الذي قد لا نستطيع إيجاد جواب شاف عليه هو: لماذا تجاهلت الأناجيل الإزائية وجود التلميذ الحبيب على الرغم من دوره البارز في إنجيل يوحنا، لا سيما إنجيل مرقس الذي كان المصدر الرئيس للإنجيلين الآخرين؟ فمرقس كان مقربا من بطرس وعلى يديه تتلمذ وسمع من فمه أخبار يسوع وأقواله، حتى إنه كان يدعوه ابني مرقس (رسالة بطرس الأولى، 5: 13). وعندما هرب بطرس من السجن لم يجد مكانا آمنا يلجأ إليه سوى بيت مريم أم مرقس (أعمال، 12: 12-17). وقد رافق مرقس بطرس في بعض رحلاته. ويؤكد الموروث المسيحي على أن مرقس كان مترجما لبطرس وأنه كتب إنجيله بإشرافه وتوجيهه. فكيف لم يرو له عن أحداث الأسبوع الأخير من حياة يسوع الواردة في إنجيل يوحنا، حيث نجد بطرس والتلميذ الحبيب معا في أربعة مواقف مهمة. فهو الذي أومأ للتلميذ الحبيب أثناء العشاء الأخير ليسأل يسوع عن هوية الخائن. وبعد القبض على يسوع تبعه الاثنان معا إلى بيت الكاهن الأعلى حيث توسط له التلميذ بالدخول. وإليهما جاءت مريم المجدلية تخبرهما بفقدان جثمان يسوع من القبر، فركضا معا وسبقه التلميذ الآخر إليه. وفي آخر ظهور ليسوع بعد قيامته يسأله بطرس عن الدور الذي سيلعبه التلميذ في المستقبل. فهل كان التلاميذ وعلى رأسهم بطرس يغارون من محبة يسوع للعازر وتفضيله عليهم؟ وهل كانت هذه الغيرة وراء تعمية بطرس على شخصية التلميذ الحبيب وإسقاطه له من روايته؟ أسئلة تبقى مفتوحة على المجهول.
طقوس الاستسرار
ناپیژندل شوی مخ