17

Al-Wajiz fi Fiqh al-Imam al-Shafi'i

الوجيز في فقه الإمام الشافعي

پوهندوی

علي معوض وعادل عبد الموجود

خپرندوی

شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم

د ایډیشن شمېره

الأولى

د چاپ کال

۱۴۱۸ ه.ق

د خپرونکي ځای

بيروت

ژانرونه

فقه شافعي

تتمُّ بعلْمٍ وعملٍ، وكان حاصلُ عملهم قطع عقباتِ النّفْسِ، والثَّتُّه عن أخلاقِهَا المذمومَةِ، وصفاتِها الخبيئةِ، فعلمْتُ يقيناً أنهم أرباب أحوالٍ، لا أصحابُ أقوالٍ، وأن ما يمكنُ تحصيله بطريقِ العلْمِ فقد حصَّلته، ولم يبقَ إلا مالا سبيلَ إِلَيْه بالسمَاعِ والتَعْلِيمِ، بلْ بالذَّوْقِ والسُّلُوك، وكان قد حصل مَعِي من العلومِ الشرعيَّةِ والعقليَّة إيمانٌ يقينيٌّ باللَّه تَعالَى وبالنُّوَّة، وباليومِ الآخِرِ، فهذه الأصولُ الثلاثَةُ من الإيمانِ، كانت قد رَسَخَتْ في نفسي لا بدليلٍ معيَّن محرَّر، بل بأسبابٍ، وقرائنَ، وتَجَارِبَ، لا تدخلُ تحت الحَضْرِ تفاصيلُهَا.

وكان قد ظهر عندي؛ أنه لا مَطْمَعَ لي في سعادةِ الآخرِة إلا بالتقْوَى، وكَفِّ النّفْسِ عن الهوَىُ، وأنَّ رأْسَ ذلك كلِّه قَطْعُ علاقةِ القَلْب عن الدنيا بالتجافِي عن دارِ الغُرُور، والإنابةِ إلَى دار الخلود، والإقبالِ بكُنْهِ السُّهْمَةِ على اللَّه تعالَىُ، وأن ذلك لا يتمُّ إلا بالإعراضِ عن الجَاهِ، والحَالِ، والهَرَبِ، عن الشواغلِ والعلائقٍ، ثم لاحَظْتُ أحوالي، فإذا أنا مُنْغَمِسٌ في العَلَائِقِ، وفد أَحْدَقَتْ بي من الجوانِب، ولاحظْتُ أعمالي، وأحسنُهَا التدريسُ والتعْلِيمُ، فإذا أنا فيها مُقْبِلٌ على علومٍ غير مُهِمَّةٍ، ولا نافعةٍ في طريقِ الآخرة.

ثم تفكّرْتُ في نيَّتي في التدْرِيس، فإذا هي غَيْرُ خَالِصَةٍ لوجْه اللَّه تعالَى، بل باعثها ومحرِّكُها طَلَبُ الجَاهِ، وانتشارُ الصِّيتِ.

فتيقَّنت أني علَى شفا جُرْفٍ هَارٍ، وأنى قد أشْرَفْتُ على النَّار، إن لم أشْتَغِلْ بتلافي الأحوال، فلم أزلْ أتفكّرُ فيه مدَّة، وأنا بعْدُ على مقامِ الاختيارِ أصمِّمُ العَزْم على الخروج من ((بَغْدَاد))، ومفارقةٍ تلك الأحوالِ يوماً، وأحلُّ العزْمَ يوماً، وأقَدِّمُ فيه رِجْلاً، وأوخِّر عنه أخرَى، لا تَصْدُقُ لي رغبةٌ في طلب الآخرة بُكْرَةً، إلاَّ وتَحْمِلُ عليها، جُنْدُ الشِهْوَةِ حَمْلَةً فَتَفْتُرْهَا عَشِيَّةً، فَصَارَتْ شهواتُ الدنْيَا تُجَاذِبُنِي سَلَاَسِلُهَا، إلى المقام، ومُنَادِي الإيمانِ ينادي: الرَّحِيلَ، الرَّحِيلَ فلم يبقَ من العُمْرِ إلا القليلُ، وبيْن يَدْيكَ السفر الطويلُ، وجميع ما أنت فيه من العلْمِ والعملِ رِيَاءٌ وتَخْبِيل.

فإنْ لم تستعدَّ الآن للآخرةِ، فمتَى تستعدُّ؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائقَ، فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعثُ الذَّاعيَةُ، وينجزم العَزْمُ على الهرَبِ والفِرَار، ثَم يعودُ الشيطانُ، ويقول: هذه حالةٌ عارضةٌ، إيّاك أن تطاوعها، فإنَّها سريعةُ الزوال، فإن أذعنْتَ لها، وتركْتَ هذا الجَاه العريضَ، والشأنَ المنظومَ الخاليَ من التكرير والتنقيص، والأمرَ المسلَّمَ الصافِيَ عن منازعة الخصومِ، ربَّما اٌلْتَفَتَتْ إلَيْه نفسُك، ولا يتيسّر لك المُعَاوَدَةُ.

فلم أزل أتردّدُ بين تَجَاذُبِ شهواتِ الدنيا، ودواعي الآخرةِ قريباً من سنَّة أشهرٍ، أولها رجَبٌ سنةً ثمانٍ وثمانينَ وأربَعِمِائَةٍ، وفي هذا الشهْرِ جاوَزَ الأمرُ حَدَّ الاختيارٍ إلى الاضطرارِ، إذْ أقفل اللَّهُ عَلىَّ لسانِي حتَّى أعتقَلَ عن التدريسِ، فكنت أجاهدُ نفسي أن أدَرِّس يوماً واحداً تطْييباً للقُلُوب المختلفةِ إلىّ، فكان لاَ ينْطِقُ لساني بكلمَةٍ واحدةٍ، ولا أستطيعُها ألبتَّة، ثم أوْرَثَتْ هذه العُقْلَةُ في اللسانِ حُزْناً في القَلْبِ، بِطَلَتْ معه قُوَّةُ الهَضْمِ، ومَرَاءَةُ الطعامِ والشرابِ، فكان لا يَنْسَاغُ لي ثَرِيدٌ، ولا يَنْهَضِمُ لي

17