الشاذ والمنكر وزيادة الثقة - موازنة بين المتقدمين والمتأخرين

Abdelkader El Mohamedi d. Unknown

الشاذ والمنكر وزيادة الثقة - موازنة بين المتقدمين والمتأخرين

الشاذ والمنكر وزيادة الثقة - موازنة بين المتقدمين والمتأخرين

خپرندوی

دار الكتب العلمية

د ایډیشن شمېره

الأولى

د چاپ کال

١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٥ م

د خپرونکي ځای

بيروت - لبنان

ژانرونه

الشاذ والمنكر وزيادة الثقة موازنة بين المتقدمين والمتأخرين تأليف الدكتور عبد القادر مصطفى المحمدي أستاذ الحديث وعلومه الجامعة الاسلامية - بغداد دار الكتب العلمية - بيروت ٢٠٠٥ م الطبعة الأولى

ناپیژندل شوی مخ

المقدمة الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وبعد: فإنّ الجهد العظيم الذي بذله الأئمة المتقدمون من علماء الحديث النبوي الشريف في غربلة المرويات، وتفتيش الأسانيد، وبيان أحوال الرواة في مصنفاتهم ومسانيدهم، وفي كتب العلل والتواريخ وما خلفوه لنا من تراث ضخم، يعد مفخرة لهذه الأمة المحمدية، وتتجلى العناية الربانية لها في تهيئة رجال حُفِظَت بهم السنة النبوية كالإمام مالك، وأحمد، والشافعي، والبخاري، ومسلم، وأبي حاتم، وغيرهم ﵏ أجمعين. ولما كان في الأغلب من صنيعهم عدم التصريح بالأسباب التي ارتأوا من خلال ترجيح رواية راوٍ على آخر أو تضعيف حديث فلان في مكان، وتصحيحه في مكان أخر، إذ لم يبينوا لنا أسباب ذلك إلا في بعض الأحاديث التي تعد قليلة الى جنب ما سكتوا عنه، وإنما كانت تلك القرائن والأسباب قد وقرت في نفس الناقد حسب. ولما انقضى عهد الأئمة الجهابذة المتقدمين نحو نهاية المائة الثالثة جاء المتأخرون فحاولوا استقراء صنيع الأئمة المتقدمين من خلال مصنفاتهم، وحاولوا وضع قواعد في علم مصطلح الحديث يسيرون عليها، فظهر أول كتاب في مصطلح الحديث هو كتاب: "المحدث الفاصل" للرامهرمزي (ت٣٦٠هـ)، ثم كتاب "معرفة علوم الحديث " لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري (ت٤٠٥هـ)،ثم تلاه كتاب "الكفاية في علم الرواية "للخطيب البغدادي (ت ٤٦٣هـ)، وهلمّ جرًا. ولما كان منهج الأئمة المتقدمين منهج عمليًا تطبيقيًا، إذ لم يصرحوا دائمًا بمنهجهم في اختيار الأحاديث أو في انتقاء الأسانيد، ولم يبينوا لنا الأسس التي بموجبها اختاروا أحاديث مصنفاتهم كان استقراء الأئمة المتأخرين ظنيًا اجتهاديًا في الأعم الأغلب؛ ودلالة ذلك هو اختلافهم في كثير من أبواب المصطلح وتعريفاته، كاختلافهم في تعريف

1 / 7

الحديث الحسن حتى قال ابن الصلاح معقبًا على أقوال أهل العلم: " كل هذه مُستبهم لا يشفي الغليل، وليس فيما ذكره الترمذي والخطابي ما يفصل الحسن عن الصحيح " (١). وكاختلافهم في تعريف المنكر والشاذ، فبعضهم سوى بينهما، وبعضهم غَفّلَ من سوى بينهما. وكاختلافهم في قبول زيادة الثقة، أو ردها، فبعضهم قبلها مطلقًا، وبعضهم ردها مطلقًا، وبعضهم فصل في ذلك، وهلمّ جرا. وهذا الاختلاف يدلل على كون الاستقراء لم يكن تامًا، وأنه كان اجتهاديًا تختلف فيه مناظير العلماء وآراؤهم، ولو كان تامًا ثابتًا قائمًا على أسسٍ بينةٍ واضحةٍ لا تقبل الشك والجدل لما اختلفت الأقوال إلى هذا الحد فنرى واحدًا يثبت والأخر ينفي، من نحو تعارض الوصل والإرسال مثلًا، فبعضهم قدم الوصل مطلقًا والآخر قدم الإرسال مطلقًا فأيهما هو صنيع الأئمة المتقدمين؟! إذن: "القواعد المقررة في مصطلح الحديث منها ما يذكر فيه خلاف، ولا يحقق الحق فيه تحقيقًا واضحًا، وكثيرًا ما يختلف الترجيح باختلاف العوارض التي تختلف في الجزئيات كثيرًا، وإدراك الحق في ذلك يحتاج إلى ممارسة طويلة لكتب الحديث والرجال والعلل مع حسن الفهم وصلاح النية " (٢). ولما كانت الحقيقة واحدة لا تتجزأ، ثم تختلف فيها الآراء فهذا يعني أن يكون أحد هذه الآراء صوابًا، أو تكون كلها خطأً لان الحقيقة لا تكون اثنين!! فإذا كانت كتب المصطلح قد كُتبت على وفق استقراء ظني اجتهادي ثم ما برحت أن تحولت تلك الآراء الظنية إلى قواعد يُحاكم عليها الأئمة المتقدمون، فنجد حينئذٍ من يقول: إن الإمام أحمد يُسوّي بين الفرد المطلق والمنكر؟! وكذا الحافظ أبي بكر البرديجي؟! وهو - عندهم - يناقض صنيع الأئمة الآخرين من أقرانه كالإمام البخاري وأبي حاتم، وغيرهما الذين يفرقون بينهم!! ثم أسهبوا في هذا الأمر وطولوا.

(١) مقدمة ابن صلاح ص٢٩، وللمزيد: انظر شرح علل الترمذي، ابن رجب ٢/ ٥٧٤، والنكت على ابن الصلاح، ابن حجر ١/ ٤٢٤ - ٤٢٩. (٢) المعلمي اليماني، مقدمة تحقيق الفوائد المجموعة للإمام الشوكاني ص٩.

1 / 8

ولما كان هذا المنهج استقرائيًا ظنيًا اجتهاديًا تجد - مثلًا- في الكتاب المتأخر من كتب المصطلح زيادة أبواب أو مصطلحات على ما تقدمه، من ذلك مثلًا: مصطلح "منكر": فالحاكم لم يبوبه في كتاب "معرفة علوم الحديث"؟ أو الخطيب البغدادي وإنما أول من عده نوعًا مستقلًا هو "ابن الصلاح". ومصطلح "شاذ" تجد أن أبا عبد الله الحاكم قد بوب له بابًا، وعده نوعًا من أنواع علوم الحديث، وعرّفه، في حين لا تجد ذلك عند من سبقه كالحافظ الرامهرمزي. ثم من يتأمل في تعريفه يجده يختلف تمامًا عن تعريفه عند علماء المصطلح من بعده. ولا أريد أن ألج في تفصيلات هذه المسائل، وإنما قصدي: أنّ كتب مصطلح الحديث ُبنيت على الاستقراء الظني الاجتهادي، وليست هي قواعد متفق عليها يعد مخالفها شاذًا مخالفًا، إذ الاختلاف بين علماء المصطلح يدلل على ذلك. يقول الشيخان الفاضلان الدكتور بشار عواد وشعيب الأرنؤوط: " إن القواعد التي وضعها مؤلفو كتب المصطلح اجتهادية، منها ما هو مبني على استقراء تام، ومنها - وهو في أغلبها - ما هو مبني على استقراء غير تام. وكذلك الحكم على الرواة في الغالب، لم يبن على الاستقراء التام، فالأحكام الصادرة عن الأئمة النقاد تختلف باختلاف ثقافاتهم، وقدراتهم العلمية والذهنية، والمؤثرات التي أحاطت بهم، وبحسب ما يتراءى لهم من حال الراوي تبعًا لمعرفتهم بأحاديثه ونقدهم مروياته، وتبيّنهم فيه قوة العدالة أو الضبط أو الضعف فيهما، وقد رأينا منهم من ضعف محدثًا بسب غلط يسير وقع فيه لا وزن له بجانب العدد الكثير من الأحاديث الصحيحة التي رواها، ووجدنا منهم من يوثق محدثًا مع كثرة أوهامه وأخطائه، قال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني صاحب " سبل السلام " في رسالته: " إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد ": " قد يختلف كلام إمامين من أئمة الحديث في الراوي الواحد، وفي الحديث الواحد، فيضعف هذا حديثًا، وهذا يصححه، ويرمي هذا رجلًا من الرواة بالجرح، وآخر يعدّله، وذلك مما يشعر أن التصحيح ونحوه من مسائل الاجتهاد التي اختلفت فيها الآراء " (١).

(١) تحرير التقريب ١/ ٢٥.

1 / 9

ومن هنا تأتي أهمية البحوث الحديثة فكل شيء فيه اختلاف ينبغي أن تعاد دراسته بموجب مناهج البحث العلمي الحديثة، التي وفرتها الوسائل الحديثة، والتي لم تكن دائما متوفرة عندهم؛ كالطباعة، والفهارس، ووسائل الاتصال المتطورة، والحاسوب الذي بإمكانه اختصار الزمن على الباحث فهو قد يدلك، او يعينك على الوصول الى طريق يكلفك شهرًا دونه! وهذه البحوث التي تقوم على الاستقراء التام لصنيع أئمة النقد لا تعني بداهة إنكار جهود العلماء من المتأخرين، إنما هو استمرار في خدمة هذا العلم الشريف؛ فلو قدر للحافظ ابن حجر العسقلاني أو السخاوي مثلا الحياة في مثل هذه الظروف وأتيحت لهم مثل هذه الوسائل فإنهم بالتأكيد سيتعلمونها ويستخدمونها في خدمة علم الحديث أعظم استعمال، ويخرجون بنتائج عظيمة؛ وإلا فانهم رغم صعوبة الوسائل آنذاك وعسرها كانوا يتناقشون الآراء ويرجحون ما يرونه صوابًا على وفق القرائن التي بين أيديهم، ويخالفون سالفيهم. وهذا كله ليس بمقدور أي أحد الخوض فيه ألا من سلك جادة العلم الشرعي، وشمر عن ساعديه، وأفنى عمره في خدمة هذا العلم الشريف ومارسه، وتعرف على طرائق الأئمة المتقدمين وعلى أقوالهم وصنيعهم في كتب الراوية والعلل. ثم ارتأيت بعد استخارة الله تعالى أن اختار أهم هذه الموضوعات في نظري، وهو "الشاذ والمنكر وزيادة الثقة موازنة بين المتقدمين والمتأخرين "، وهو دراسة لتطور مفهوم هذه المصطلحات الثلاثة ثم تغير معانيها عند المتأخرين، موازنًا بها مع أقوال الأئمة المتقدمين وتطبيقاتهم في مصنفاتهم. وضم الكتاب بابين وتمهيد لكل باب. جعلت الباب الأول: في مفهوم الحديث الشاذ والمنكر وزيادة الثقة في مصطلح الحديث، وقارنته بصنيع الأئمة المتقدمين وخرجت بنتيجة تلك الموازنة، وتضمن الباب فصولًا ثلاثة: أفردت الفصل الأول منها إلى مفهوم الحديث المنكر، وقسمته إلى مباحث ثلاثة، خصصت المبحث الأول منها لتعريف الحديث المنكر لغةً واصطلاحًا، وجعلت الثاني: لتقسيم آرائهم إلى مفاهيم. أما المبحث الثالث: فقد استعرضت فيه صنيع بعض الأئمة المتقدمين في مفهومهم

1 / 10

للحديث المنكر، ثم خرجنا بنتيجة مفادها: أن المتقدمين لم يطلقوا تلك العبارات إطلاقًا اصطلاحيًا وإنما أرادوا بها المعاني اللغوية. وتناولت في الفصل الثاني مفهوم الحديث الشاذ عند علماء المصطلح موازنًا مع مفاهيم الأئمة المتقدمين، وجعلته في أربعة مباحث، ففي المبحث الأول عرفنا بالحديث الشاذ لغةً واصطلاحًا، وفي المبحث الثاني استعرضت مفاهيم المتأخرين. أما المبحث الثالث: فقد استعرضنا فيه صنيع بعض الأئمة المتقدمين وخرجنا بنتيجة مهمة، وتحقق عندنا أن المتقدمين استعملوا مصطلح الشاذ استعمالًا لغويًا حسب. وأما المبحث الرابع: فقد خصصناه لعلاقة الشاذ بالمنكر، وهي دراسة قادتنا إلى: أن الحديث الشاذ والمنكر عند الأئمة المتقدمين وجمهور المتأخرين بمعنىً واحد وان الأئمة المتقدمين إنما أطلقوا هذه الألفاظ (شاذ، منكر، غير محفوظ، غير معروف)،وغيرها إطلاقًا لغويًا إذ قصدوا به الحديث الخطأ. ثم أفردت الفصل الثالث إلى الكلام على مفهوم زيادة الثقة عند أهل المصطلح، واقتضت طبيعة الدراسة أن يكون هذا الفصل في خمسة مباحث، حيث عَرّفت في المبحث الأول الزيادة لغةً واصطلاحًا. واستعرضت في المبحث الثاني مفهوم الزيادة عند الأئمة من المتأخرين. وناقشت في المبحث الثالث الأمثلة التي استدل بها أهل المصطلح على قبول الزيادة، وبينّا أنها أمثلة غير دقيقة في الأغلب الأعم، فإن أكثرها من قبيل اختلاف الرواة في الحديث الواحد. وأما المبحث الرابع: فقد استعرضت فيه أقوال الأئمة المتقدمين في مفهوم زيادة الثقة. كما تناولت في المبحث الخامس آراء بعض علماء أصول الفقه في هذه المسألة، لأن كُتّاب المصطلح تطرقوا في مباحثهم إلى أقوال الأصوليين في هذه المسألة. وكانت خلاصة هذا الفصل: أن علماء المصطلح خلطوا بين زيادة الثقة وبين الشاذ والمنكر، وأن زيادة الثقة مقبولة عند أئمة الحديث من المتقدمين ولكن بمفهوم يختلف عما اصطلح عليه كثير من المتأخرين. وأما الباب الثاني: فقد أفردته لمعرفة مذهب الأئمة المتقدمين في قبول الزيادة أو ردها بالرجوع إلى صنيعهم في كتبهم الحديثية أو في كتبهم التي ألفوها لبيان علل الحديث،

1 / 11

فاقتضت الدراسة أن يكون هذا الباب على فصلين. أولهما: استقرأت فيه صنيعهم من كتب الرواية واخترنا أبرز مصنفاتهم: كالموطأ للإمام مالك ابن أنس، وصحيح الإمام البخاري، وصحيح الإمام مسلم، وسنن أبي داود، وجامع الترمذي، وسنن النسائي، وصحيح ابن خزيمة. أما في الفصل الثاني: فقد استقرأت صنيعهم في كتب العلل واخترنا أبرز كتب العلل: ككتاب علل ابن أبي حاتم، وعلل الترمذي، والتمييز للإمام مسلم، واخترنا من كتب المتأخرين أبرز كتاب في العلل وهو كتاب علل الحديث للإمام الدارقطني. ومما يجدر التنبيه عليه أننا أولينا مفهوم زيادة الثقة اهتمامًا أكثر من الشاذ والمنكر وذلك لما حصل فيه من الخلط ولما له من صلة وطيدة بينه وبين الشذوذ والنكارة، ولما رأينا من صنيع بعض المعاصرين من تصحيح مئات الأحاديث الشاذة والمنكرة بحجة أنها زيادة ثقة والزيادة من الثقة مقبولة، كما فعل الشيخ ناصر الدين الألباني ﵀ في كتابه " سلسلة الأحاديث الصحيحة " حيث صحح على هذه القاعدة عشرات الأحاديث الضعيفة مما أخطأ فيه الرواة. والحق أنّ أسّ دراستنا هذه تتعلق بهذا الموضوع الخطير، فنحن حينما فصلّنا القول في هذا الباب ليس لكونه مبحثًا أو قضية تتعلق بزيادة الثقة حسب، ولكنه يتصل في حقيقته اتصالًا وثيقًا بالشذوذ والنكارة أيضًا. وأخيرًا أقول: من خلال دراستي في هذا الموضوع استفدت فوائد عظيمة، إذ قد اطلعت على كتب ومصنفات شتى، يعلم الله بعَدَدَها وعُدَدِها، وعرفت علمًا بعد جهل، أن الأئمة المتقدمين هبة الله لهذه الأمة حفظ بهم الدين؛ قال الخطيب في كفايته:" ولولا عناية أصحاب الحديث بضبط السنن وجمعها واستنباطها من معادنها والنظر في طرقها لبطلت الشريعة وتعطلت أحكامها إذ كانت مستخرجة من الآثار المحفوظة ومستفادة من السنن المنقولة " (١)،وتبين لي أن بعض المتأخرين ولا سيما المعاصرين نأوا بعيدًا عن منهج الأئمة المتقدمين، وكل التناقضات التي يتهم المغرضون بها الحديث وأهله هو جريرة هذا البعد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ﷺ.

(١) الكفاية ص ٥ - ٧.

1 / 12

الباب الأول: مفهوم الحديث المنكر والشاذ وزيادة الثقة

1 / 13

تمهيد أولًا: مفهوم مصطلح " المتقدمين " و" المتأخرين ": يُذكر مصطلح: " المتقدمون " في غالبية كتب المصطلح وكتب الحديث عامة، ويختلف فهم المقصود من إطلاقهم هذا، فما المراد من هذا المصطلح؟ ذهب الإمام الذهبي في مقدمة "الميزان " إلى أنّ الحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر هو رأس سنة ثلاثمائة (١)، وذكر في "التذكرة " أن بداية نقص علوم السنة، وبداية ظهور العلوم العقلية، وتناقص الاجتهاد، وظهور التقليد في آخر الطبقة التاسعة، فقال واصفًا تلك الطبقة:" فان المجلس الواحد في هذا الوقت كان يجتمع فيه أزيد من عشرة آلاف محبرة يكتبون الآثار النبوية ويعتنون بهذا الشأن وبينهم نحو من مئتي إمام قد برزوا وتأهلوا للفتيا، فلقد تفانى أصحاب الحديث وتلاشوا وتبدل الناس بطلبه يهزأ بهم أعداء الحديث والسنة ويسخرون منهم وصار علماء العصر في الغالب عاكفين على التقليد في الفروع من غير تحرير لها، ومكبين على عقليات من حكمة الأوائل وآراء المتكلمين من غير أن يتعقلوا أكثرها، فعم البلاء، واستحكمت الأهواء، ولاحت مبادئ رفع العلم وقبضه من الناس " (٢). وكذلك فعل أبو عمرو بن المرابط ت (٧٥٢) هـ في إطلاقه إلى أول القرن الرابع فقال: "قد دونت الأخبار، وما بقي للتجريح فائدة، بل انقطعت من رأس الأربع مئة " (٣). وأما ما ذهب إليه الدكتور حمزة المليباري إلى أنهم أهل الرواية، وهم أصحاب الفترة الممتدة من عصر الصحابة الكرام، وإلى نهاية القرن الخامس الهجري، وجعل الميزة أنهم يروون المرويات بالأسانيد؟ (٤)،فهذه الميزة غير منضبطة بضابط مستقيم، فالرواية بالإسناد ممتدة إلى يوم الناس هذا، ثم البون شاسع في المنهجية، والأسلوب بين الإمام البخاري ت (٢٥٦) وبين أهل القرن الرابع كأبي عبد الله الحاكم ت (٤٠٥) - مثلا -. والذي أراه أن كلام الإمام الذهبي ومن تابعه أدق بكثير، فلا بد من اعتبار المدة

(١) انظر ميزان الاعتدال ١/ ٤. (٢) تذكرة الحفاظ ٢/ ٥٢٩ - ٥٣٠، وانظر المنهج المقترح، العوني ص ٦٢. (٣) فتح المغيث، السخاوي ٣/ ٢٧١،وانظر الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التأريخ، له ص ٩٢ و١٠٦. (٤) نظرات جديدة في علوم الحديث ص١١.

1 / 15

الزمنية التي عاشها الطرفان - المتقدمون والمتأخرون - ففي ذاك الزمان، في القرن الأول والثاني والثالث، استقرت الروايات وغُربلت الأحاديث فتبين صحيحها من سقيمها، ودونت المصنفات وعرفت الطرق والمخارج، وكل من جاء بعدهم فهو عيال عليهم. ومما يدلل على ضعف الرواية بعد القرن الثالث ما قاله عالم جهبذ عاش في تلك الحقبة هو الإمام ابن حبان ت (٣٥٤) هـ إذ قال في مقدمة كتابه " التقاسيم والأنواع " ما نصه: " وإني لما رأيت الأخبار طرقها كثرت ومعرفة الناس بالصحيح منها قلّت لاشتغالهم بكتبة الموضوعات وحفظ الخطأ والمقلوبات حتى صار الخبر الصحيح مهجورًا لا يكتب والمنكر المقلوب عزيزًا يستغرب وأن من جمع السنن من الأئمة المرضيين وتكلم عليها من أهل الفقه والدين أمعنوا في ذكر الطرق للأخبار وأكثروا من تكرار المعاد للآثار قصدًا منهم لتحصيل الألفاظ على من رام حفظها من الحفاظ، فكان ذلك سبب اعتماد المتعلم على ما في الكتاب، وترك المقتبس التحصيل للخطاب ... ." (١). وقال أبو عبد الله الحاكم ت (٤٠٥) هـ:" نبغ في عصرنا هذا جماعة يشترون الكتب فيحدثون بها وجماعة يكتبون سماعاتهم بخطوطهم في كتب عتيقة في الوقت فيحدثون بها فمن يسمع منهم من غير أهل الصنعة فمعذور بجهله فأما أهل الصنعة إذا سمعوا من أمثال هؤلاء بعد الخبرة ففيه جرحهم وإسقاطهم إلى أن تظهر توبتهم، على أن الجاهل بالصنعة لا يعذر فإنه يلزمه السؤال عما لا يعرفه وعلى ذلك كان السلف ﵃ أجمعين " (٢). هذا أحد علماء القرن الرابع، هو الحاكم النيسابوري نص على تخفف شروط العدالة والضبط لأهل زمانه، فلم يذكر في الضبط إلا ما يتعلق بضبط الكتاب، وقد أشار الى هذه المسألة قبله الإمام الرامهرمزي، في كتابه المحدث الفاصل (٣)،وهذا يدلل على الفرق الكبير بين منهج القرن الثالث، ومنهج القرن الرابع. وقد نبّه الحافظ ابن الصلاح على هذه المسألة فقال:" وقد سبق إلى نحو ما ذكرناه

(١) الإحسان ١/ ١٠٢. (٢) معرفة علوم الحديث ص ١٥ - ١٦. (٣) انظر المحدث الفاصل ١٥٩ - ١٦٢، والمنهج المقترح، العوني ص ٥٣.

1 / 16

الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي ﵀، فإنه ذكر فيما روينا عنه توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه الذين لا يحفظون حديثهم ولا يحسنون قراءته من كتبهم، ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد أن تكون القراءة عليهم من أصل سماعهم، ووجه ذلك بأن الأحاديث التي قد صحت أو وقفت بين الصحة والسقم قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم، وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها، قال - يريد البيهقي -: فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه، ومن جاء بحديث معروف عندهم فالذي يرويه لا ينفرد بروايته والحجة قائمة بحديثه برواية غيره والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلاُ بحدثنا وأخبرنا وتبقى هذه الكرامة التي خصت بها هذه الأمة شرفًا لنبينا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والله أعلم" (١). وقد تكلمنا على هذه المسألة في صفحات من هذا البحث، وبينا الفرق الشاسع بين منهج علماء القرن الثالث وعلماء القرن الرابع من خلال الأمثلة التي سقناها في الفصل التطبيقي (٢). وعلى كل حال فالذي نقصده بالمتقدمين في هذه الأطروحة هم علماء الحديث في القرون الثلاثة الأولى، أي إلى رأس سنة (٣٠٠) هجرية، وتشمل علماء الحديث الأئمة الأوائل: كالليث، والأوزاعي، والسفيانين، ومالك، وابن معين، وابن المديني، وأبي حاتم، وأبي زرعة الرازيين، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي وابن خزيمة، وغيرهم. فهؤلاء جميعهم هم من طبقة القرن الثالث وعلمائها. وقد أدخلنا معهم الإمام النسائي وابن خزيمة، وإن كانا قد توفيا مطلع القرن الرابع وذلك لأسباب: ١ - إنهما عاشا حياتهما العلمية في القرن الثالث وإن توفي النسائي سنة ٣٠٣هـ، وابن خزيمة سنة ٣١١ هـ. ٢ - من المرجح الذي يكاد أن يكون مؤكدًا أنهما ألفا كتابيهما في أواخر المئة الثالثة.

(١) مقدمة ابن الصلاح ص ١٠٤. (٢) انظر مثلًا ص ٣٢١و٣٧٠ من هذا الكتاب.

1 / 17

٣ - إنهما شاركا أصحاب الكتب الستة في عدد كبير من شيوخهم، فقد شارك النسائي البخاري ومسلمًا في بعض شيوخهما، مثل محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، وقتيبة بن سعيد، وغيرهم (١). ٤ - تلقي الأمة لكتاب النسائي بالقبول وعده من كتب السنة المعتمدة، فأعطي المرتبة الخامسة بعد جامع الترمذي، وقبل سنن ابن ماجه، الذي توفي قبله سنة (٢٧٣) هـ (٢)،وقد بالغ بعض الأئمة في امتداحه حتى أطلقوا عليه اسم الصحيح (٣)، وهذا من باب المبالغة في المدح والثناء على الكتاب. ٥ - أمّا الإمام ابن خزيمة ت (٣١١) هـ فقد شارك الشيخين في بعض شيوخهم، مثل إسحاق ابن راهويه، ومحمود بن غيلان، وأحمد بن منيع، ويونس بن عبد الأعلى، وغيرهم (٤)، وكان الإمامان البخاري ومسلم يعرفان قدره وعلمه فرويا عنه خارج صحيحهما (٥)، وهذا من قبيل رواية الأكابر عن الأصاغر. فالإمامان النسائي وابن خزيمة خاتمة ذلك الجيل العظيم جيل الرواية المتقنة، والدراية المحصنة. أمّا ما نعنيه - هنا - بالمتأخرين فهم كل من جاء بعد ابن خزيمة وإلى يومنا هذا من المعاصرين، وهم وإن كانوا يتفاوتون في المنهجية والفهم والضبط؛ إذ مما لا شك فيه أن ابن حبان ت (٣٥٤) يختلف عن السيوطي ت (٩١١)، ومنهجية الدارقطني ت (٣٨٥)، والتي هي أقرب إلى منهجية المتقدمين تختلف عن منهجية الحاكم النيسابوري (٤٠٥) هـ، وقد تجد ابن رجب الحنبلي (٧٩٥) هـ أقرب لمنهجية المتقدمين من كثير ممن سبقه، إلاّ أنهم يشتركون في كونهم يمثلون مرحلة ما بعد الاستقرار، أعني استقرار الرواية ومعرفة الطرق والمظان (٦)، فهم يمثلون مرحلة الاستقراء

(١) انظر مقدمة عمل اليوم والليلة، فاروق حمادة ص ١٨. (٢) انظر الإرشاد، الخليلي ١/ ٤٣٦. (٣) انظر الإرشاد ٢/ ٧٦٧ - ٧٦٨، والتقييد، ابن نقطة ١/ ١٥١، وانظر علل الحديث وتطبيقاتها، محمد محمود سليمان ص٤٤. (٤) انظر سير أعلام النبلاء، الذهبي ٢/ ٧٢١. (٥) مصدر سابق. (٦) انظر ص ٢٢٢ من هذا البحث.

1 / 18

بعد الاستقرار، ومرحلة المستدركات بعد الأصول، ومرحلة المستخرجات على الطرق والشيوخ فهم تبع لأولئك الأوائل، ويندر أن يخلص لهم حديث فات الأوائل - المتقدمين -، كما قال الحافظ ابن الصلاح، وسيتضح هذا الأمر طيًا في مباحث هذه الرسالة إن شاء الله تعالى. ثانيًا: منهج النقد الحديثي بين المتقدمين والمتأخرين: أولًا: عند المتقدمين يقوم منهج النقد عند الأئمة المتقدمين على مرحلتين: المرحلة الأولى: وتقوم على نقد المتون، ومن خلالها يتم الكلام في الرواة جرحًا أو تعديلًا، وتمتد هذه المرحلة من عصر الصحابة حتى نهاية النصف الأول من القرن الثاني الهجري، ويتمثل هذا المنهج برد الصحابة بعضهم على بعض حينما يستمعون إلى متون الأحاديث المروية والأحكام المتصلة بها، تلك المتون التي يرونها تعارض بعض المتون الأخرى، كاعتراضات أم المؤمنين عائشة ﵂ على بعض الصحابة، أو اعتراضات ابن مسعود، أو ابن عباس ﵃ أجمعين. والمرحلة الثانية: وهي تمثل مرحلة التبويب والتنظيم من خلال جمع ودراسة أحاديث كل محدث والحكم عليه من خلال تلك المرويات، ويظهر ذلك في الأحكام التي أصدرها الأئمة على الرواة كعلي ابن المديني، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، وأضرابهم. ولا يساورنا شك أن بعض العلماء المتقدمين قد تكلموا في الرواة ممن عاصروهم أو لاقوهم جرحًا أو تعديلًا، كالإمام مالك بن أنس، والسفيانيين، وشعبة بن الحجاج، وحماد بن زيد، والأوزاعي، ووكيع بن الجراح، ثم أن العلماء من الطبقة التي تلت هؤلاء قد تكلموا في الرواة الذين أخذوا عنهم واتصلوا بهم. والسؤال الذي يطرح نفسه: هو كيف نفسر كلام كبار علماء النقد ممن عاشوا في المئة الثالثة في رجال لم يلحقوا بهم من التابعين ومن بعدهم، ولم يؤثر للمتقدمين فيهم جرح أو تعديل حتى نقول: إنهم اعتمدوا أقوال من سبقهم فيهم؟ الجواب: إنهم أصدرا أحكامهم عن طريق تفتيش حديثهم المجموع، واستنادًا إلى ذلك.

1 / 19

وسأضرب لذلك أمثلة:" قال ابن أبي حاتم في ترجمة أحمد بن إبراهيم الحلبي: " سألت أبي عنه، وعرضت عليه حديثه فقال: لا أعرفه، وأحاديثه باطلة موضوعة كلها ليس لها أصول، يدل حديثه على أنه كذاب" (١)، وقال في ترجمة أحمد بن المنذر بن الجارود القزاز: " سألت أبي عنه فقال: لا أعرفه، وعرضت عليه حديثه فقال: حديث صحيح " (٢). وقال أبو عبيد الآجري في مسلمة بن محمد الثقفي البصري: " سألت أبا داود عنه قلت: قال يحيى (يعني ابن معين): ليس بشيء؟ قال: حدثنا عنه مسدد أحاديث مستقيمة، قلت: حدث عن هشام، عن عروة، عن أبيه، عن عائشة: إياكم والزنج فإنهم خلق مشوّه. فقال: مَنْ حدث بهذا فاتهمه " (٣). فهذه الأمثلة الثلاثة واضحة الدلالة على أن أبا حاتم الرازي وأبا داود لم يعرفا هؤلاء الرواة إلا عن طريق تفتيش حديثهم المجموع، وأنهما أصدرا أحكامهما استنادًا إلى ذلك. وقل مثل ذلك في قول الإمام البخاري (ت ٢٥٦) في إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي المدني (٨٣ - ١٦٥): منكر الحديث، وقول أبي حاتم الرازي (ت ٢٧٧هـ) فيه: شيخ ليس بقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به، منكر الحديث، وقول النسائي (ت ٣٠٣هـ) فيه: ضعيف. "فهؤلاء العلماء الثلاثة لم يدركوه ولا عرفوه عن قرب ولا نقلوا عن شيوخهم أو آخرين ما يفيد ذلك، فكيف تم لهم الحصول على هذه النتائج والأقوال؟ واضح أنهم جمعوا حديثه ودرسوه، واصدروا أحكامهم اعتمادًا على هذه الدراسة " (٤). ويرى الواقف على أقوال الأئمة المتقدمين، وصنيعهم في المصنفات والجوامع

(١) الجرح والتعديل ٢/ ٤٠ ترجمة (٥). (٢) الجرح والتعديل ٢/ ترجمة (١٧٠) قلت: ومن أمثلته أيضا: قال في ترجمة أحمد بن بحر العسكري: " سألت أبي عنه وعرضت عليه حديثه فقال: حديث صحيح. وهو لا يعرفه " الجرح والتعديل ٢/ ٤٢ (١٥). (٣) تهذيب الكمال ٧/ ١١٢ (٦٥٥٤). (٤) مقدمة تحرير التقريب، د. بشار عواد، والشيخ شعيب الأرنؤوط ١/ ١٨ - ٢٠، وانظر مقدمة تأريخ الخطيب، د. بشار عواد معروف ١/ ١٣٧ - ١٣٨.

1 / 20

والسنن ونحوها، وكذا كتب العلل والتواريخ أنهم يتعاملون مع الحديث بشكل شمولي، غير مجزأ ولا مخل، مستعملين أوجز العبارات التي يفهمها أهل الصنعة، كقولهم: (غير محفوظ)، (منكر)، (وهم)، (خطأ).وإنما استعملها النقاد هكذا دون تفصيل - في الأغلب - لأنهم خشوا أن تلتبس الأحاديث على غير المحدثين إذا ما طولوا ببيان علل كل حديث، أو لأنهم اكتفوا بتقديم النتائج من غير بيان الأدلة التي حدت بهم إلى ذلك في الأغلب الأعم دفعًا للتطويل وطلبًا للاختصار (١)،والتي أصبحت فيما بعد غامضة، خاصة عندما ضعف علم الحديث، وتوسع بعض الفقهاء في قبول الأحاديث الضعيفة، فأصبحت تلك العبارات كأنها طلاسم، يفسرها كل محدث، أو فقيه (من المتأخرين) بنحو فهمه ومذهبه!!. كما أثرت مناهج الفقهاء والأصوليين وحاجتهم المتزايدة إلى قبول الأحاديث من أجل الاستدلال بها في هذا المنحى، فمثلا: قال ابن الصلاح: " الحديث الذي رواه بعض الثقات مرسلا وبعضهم متصلا: اختلف أهل الحديث في أنه ملحق بقبيل الموصول أو بقبيل المرسل؟ مثاله حديث:" لا نكاح إلا بولي "، رواه إسرائيل بن يونس في آخرين عن جده أبي إسحاق السبيعي عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى الأشعري عن رسول الله ﷺ مسندا هكذا متصلا، ورواه سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي ﷺ مرسلا هكذا، فحكى الخطيب الحافظ أن: " أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل "، وعن بعضهم أن الحكم للأكثر وعن بعضهم أن الحكم للأحفظ، فإذا كان من أرسله أحفظ ممن وصله فالحكم لمن أرسله، ثم لا يقدح ذلك في عدالة من وصله وأهليته، ومنهم من قال: من أسند حديثا قد أرسله الحفاظ فإرسالهم له يقدح في مسنده وفي عدالته وأهليته، ومنهم من قال: الحكم لمن أسنده إذا كان عدلا ضابطا فيقبل خبره وإن خالفه غيره سواء كان المخالف له واحدا أو جماعة، قال الخطيب: هذا القول هو الصحيح قلت وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله" (٢). قلت: تأمل قوله: "أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل، وعن بعضهم أن الحكم للأكثر وعن بعضهم أن الحكم للأحفظ" ثم يرجح ماذا؟: " قال

(١) انظر مقدمة جامع الترمذي، د. بشار عواد معروف ١/ ٣٣، ونظرات جديدة، المليباري ص ٩٥. (٢) مقدمة ابن الصلاح ص ٥٩.

1 / 21

الخطيب: هذا القول هو الصحيح، قلت: وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله " (١). فرجح ابن الصلاح رأي محدث متأخر مثل الخطيب وأتبعه بأن هذا هو مذهب الفقهاء والأصوليين. ثم جاء بعده الإمام النووي، وهو من كبار الفقهاء ليطلق قبول الزيادة إذا كانت من ثقة، وليصبح قاعدة عريضة للمحدثين من بعده؟ ومن ذلك أيضًا تقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد وإدخال ذلك في كتب الحديث، رغم أنَّ ذلك هو من صنيع الفقهاء والأصوليين. وهذا وإن كان محمودًا بيد أنه غريب عن منهج المحدثين، إذ جلَّ اهتمامهم هو صحة نسبة الحديث إلى النبي ﷺ، سواء أكان آحادًا، أم متواترًا، ويعد الخطيب البغدادي أول من صرح بتقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد بالمفهوم الذي استقر عليه علماء المصطلح من بعده، يقول ابن الصلاح: " ومن المشهور المتواتر، الذي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص وإن كان الخطيب البغدادي قد ذكره، ففي كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث، ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم ولا يكاد يوجد في رواياتهم" (٢). وقال الفقيه ابن أبي الدم الشافعي ت ٦٤٢هـ: " اعلم أن الخبر المتواتر: إنما ذكره الأصوليون دون المحدثين خلا الخطيب أبا بكر البغدادي، فإنه ذكره تبعًا للمذكورين، وإنما لم يذكره المحدثون لأنه لا يكاد يوجد في روايتهم، ولا يدخل في صناعتهم " (٣). ولا أريد أن أخوض في جزيئات الاصطلاح، لأن ذلك يطول ويحتاج إلى تسويد صفحات أمثال هذا الكتاب. والذي يهمنا هنا أن منهج النقد عند المتأخرين نحا منحىً آخر عنه عند المتقدمين، وأصل هذا: أن المتقدمين حين جمعوا الحديث وغربلوه عرفوا صحيحه من سقيمه استنادا إلى قواعد نعرف بعضها، ونجهل الكثير منها، لكن من أبرزها موافقته لما عرفوه من

(١) انظر شرح علل الترمذي ٢/ ٦٣٨، والنكت على ابن الصلاح ٢/ ٦٠٧ - ٦٠٨، والمنهج المقترح، العوني ص٢١٧. (٢) مقدمة ابن الصلاح ص٢٦٥. (٣) لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة، الزبيدي ص١٧، وانظر المنهج المقترح، العوني ص٩٢.

1 / 22

القواعد الكلية للشريعة الإسلامية، في حين اعتمد المتأخرون على كتب المصطلح القائمة أصلا على معرفة الرواة فكان جل حكمهم ينصب على الأسانيد لا على المتون فتكون الأسانيد حاكمة على المتون، وقد مر قول ابن أبي حاتم في ترجمة أحمد بن إبراهيم الحلبي: " سألت أبي عنه، وعرضت عليه حديثه فقال: لا أعرفه، وأحاديثه باطلة موضوعة كلها ليس لها أصول، يدل حديثه على أنه كذاب" (١). وقد كان الحديث عند المتقدمين يعتمد على قواعد ثلاث: رواية -أعني من حيث السند أو المتن -، والدراية، والفقه. يقول علي بن المديني:" التفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم" (٢). فليس العالم الذي يتعلم نصفًا، ويدع النصف الثاني، فتنزلق قدمه، وقد تُدقُ عنُقهُ! قال عبد الله بن وهب: "لولا الله أنقذني بمالك والليث لضللت. فقيل له: كيف ذلك؟ قال: أكثرت من الحديث فحيّرني، فكنت أعرض ذلك على مالك والليث فيقولان لي: خذ هذا ودع هذا " (٣). وقال قتادة بن دعامة السدوسي: " من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه " (٤). وقال سفيان الثوري:" لو كان أحدنا قاضيًا لضربنا بالجريد فقيهًا لا يتعلم الحديث، ومحدثًا لا يتعلم الفقه " (٥). وقال أيضًا: " تفسير الحديث خير من الحديث " (٦)، أي خير من سماعه، وحفظه كما ورد عن أبي أسامة: " تفسير الحديث خير من سماعه " (٧). وهذا يعني فهم فقه الحديث ومعناه.

(١) الجرح والتعديل ٢/ ٤٠ ترجمة (٥). (٢) سير أعلام النبلاء، الذهبي ١١/ ٤٨. (٣) ترتيب المدارك، القاضي عياض ٢/ ٤٢٧، وأصل النص عند ابن حبان في المجروحين ١/ ٤٢ بلفظ قريب. (٤) جامع بيان العلم، ابن عبد البر ٢/ ٤٦، وانظر نظرات جديدة في علوم الحديث، المليباري ص٥٥. (٥) نقله الكتاني في مقدمة نظم المتناثر من الحديث المتواتر ص٣. (٦) أدب الإملاء، السمعاني ص١٣٥، وانظر نظرات جديدة، المليباري ٥٦. (٧) مصدر سابق.

1 / 23

ويقول الإمام أحمد: " إن العالم إذا لم يعرف الصحيح والسقيم والناسخ والمنسوخ من الحديث لا يسمى عالمًا " (١). وروى الخطيب البغدادي بسنده إلى مغيرة الضبي، قال: " أبطأت على إبراهيم فقال يا مغيرة ما أبطأ بك؟ قال قلت: قدم علينا شيخ فكتبنا عنه أحاديث، فقال إبراهيم: لقد رأيتنا وما نأخذ الأحاديث إلا ممن يعلم حلالها من حرامها وحرامها من حلالها، وإنك لتجد الشيخ يحدث بالحديث فيحرف حلاله عن حرامه وحرامه عن حلاله وهو لا يشعر" (٢). فالجهابذة من المتقدمين من لم يفصلوا متن الحديث عن سنده، ولا هذين عن فقهه ومعناه، فإذا جاءهم الحديث فأول ما ينظرون إلى معناه هل هو موافق للشرع أم لا؟ ثم هل هو موافق للمحفوظ أم لا؟ فلعل راويه قد أخطأ فيه، أو وهم في متنه، أو لعله خالف ما عند الناس. فالناقد حينما ينظر إلى الحديث لتقييمه يعتبر بالسند والمتن لمعرفة هل حدّث هذا الراوي بهذا الحديث؟ وتتم المعرفة بجمع الطرق وضم بعضها إلى بعض مع الدقة في الفهم والمعرفة. ويذكر الدكتور حمزة المليباري: " أن الجوانب الفقهية ومعرفة الصحيح والسقيم لم تكن محل عناية كافة المحدثين في المرحلة الأولى، بل إن الكثيرين منهم لا تهمّهم إلاّ عملية الرواية، وضبطها وحفظها، غير أن هؤلاء كفوا عن الخوض في نقد الأحاديث، وأمّا النقاد فيختلفون عنهم في التكوين العلمي بصورة واضحة وحفاظ الحديث الذين تمكنوا من علوم الحديث بشقيها - فقه الحديث، ومعرفة الصحيح والسقيم - هم وحدهم الذين سبروا أغوار النقد، وهم بعينهم اعتبارنا في البحث، وإنَّ تصحيح الأحاديث وتعليلها لا يتأتى لأحد دون التكوين العلمي المزدوج " (٣). قلت: رغم صحة هذا الكلام لكن قوله: " إن الكثيرين منهم لا تهمّهم إلاّ عملية الرواية، وضبطها وحفظها ... "،ربما يفهم منه أنه يريد بذلك " كثيرًا " من كبار علماء

(١) معرفة علوم الحديث، الحاكم ص٦٠. (٢) الكفابة ص ١٦٩. (٣) نظرات جديدة ص٦١.

1 / 24

الحديث، وما أخاله قصد ذلك، فإن جل كبار المحدثين الجهابذة المعروفين كانوا على دراية تامة بذلك، ومما لا شك فيه أن المقياس في هذا هو كتابة العلل، فالإمام مالك لم يدون لنا كتابًا مستقلًا في العلل ولكنه إمام العلل في زمانه، ولم يصل إلينا أن سفيان بن عيينة أو الثوري أو شعبة أو ابن مهدي مثلًا لهم مصنفات مستقلة في العلل، فهل هذا يعني أنهم لم يحسنوها؟! بل بلا منازع هؤلاء - وغيرهم - هم رجالات العلل والنقد!! هذا فضلًا عن أن كتب الأئمة المتقدمين في السنن أو العلل حينما تقتضي منهجيتهم ذلك، كما فعل الإمام الترمذي مثلًا في " الجامع الكبير " لأنه إنما ألف هذا الكتاب من أجل النقد وبيان عمل الفقهاء (١)، أو يكون الكتاب مخصصا ً للعلل كما في كتب العلل. وهكذا فإنّ نقد المحدّثين في المرحلة الأولى نقد علمي متكامل بجميع عناصره، لا يفصل الإسناد عن المتن، ويقوم أسهُ على المعرفة الحديثية والفقهية (٢). وسأوضح منهجية المتقدمين من خلال المراحل الآتية:- فلو جئتهم بحديث مسند مرفوعٍ بمتن معين فإنهم: ١ - ينظرون إلى متن الحديث هل يخالف نصًا شرعيًا أو يخالف الواقع؟. وهذه القنطرة الأولى. ومن أمثلته: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل:" سمعت أبي يقول حدثنا عباد بن العوام عن محمد بن إسحاق بن يسار عن عمران بن أبي أنس أن رجلًا كان له كلب صائد قد أعطيه به عشرين بعيرا فخطب امرأة وخطبها معه رجل من قومها فقالت: لا أنكحك إلا على كلبك فنكحها وساق الكلب إليها فعدا عليه الآخر فقتله فترافعوا إلى عثمان بن عفان فغرمه عشرين بعيرًا، سمعت أبي يقول: هذا باطل نهى النبي ﷺ عن ثمن الكلب " (٣). ٢ - هل هذا المتن محفوظ عند أئمة الحديث أو لا؟

(١) انظر مقدمة جامع الترمذي، تحقيق د. بشار عواد معروف ١/ ٩. (٢) انظر: نظرات جديدة، المليباري ص٩٧ - ٩٨. (٣) العلل ومعرفة الرجال ١/ ٤٠٨ (٢٦٦١) وللمزيد انظر الأحاديث (٤٥٩و٦١٨ و٦٩٤و ٦٩٥ و٦٩٨ و٧٠٠ و٧٤٩ و٦٦٢).

1 / 25

قال ابن أبي حاتم:" سألت أبي عن حديث أوس بن ضمعج عن ابن مسعود عن النبي ﷺ؟ فقال: قد اختلفوا في متنه، رواه فطن والأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أوس بن ضمعج عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، ورواه شعبة والمسعودي عن إسماعيل بن رجاء لم يقولوا: أعلمهم بالسنة، قال أبي: كان شعبة يقول: إسماعيل بن رجاء كأنه شيطان من حسن حديثه، وكان يهاب هذا الحديث يقول: حكم من الأحكام عن رسول الله ﷺ لم يشاركه أحد، قال أبي شعبة أحفظ من كلهم، قال أبو محمد: ليس قد رواه السدي عن أوس بن ضمعج؟ قال: إنما رواه الحسن بن يزيد الأصم عن السدي وهو شيخ أين كان الثوري وشعبة عن هذا الحديث؟! وأخاف أن لا يكون محفوظًا " (١). وقال: " سألت أبي عن حديث رواه ابن عيينة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن حسان بن بلال عن عمار عن النبي ﷺ في تخليل اللحية؟ قال أبي: لم يحدث بهذا أحد سوى ابن عيينة عن ابن أبي عروبة، قلت: صحيح؟ قال: لو كان صحيحًا لكان في مصنفات ابن أبي عروبة، ولم يذكر ابن عيينة في هذا الحديث وهذا أيضًا مما يوهنه " (٢). ٣ - هل هذا الحديث تفرد به راويه عن بقية الرواة فزاد فيه ما لم يحفظ عند بقية الرواة فإذا كان قد زاد ولم يحفظ استنكر عليه. فمثلًا: قال الإمام أحمد:" كنت أتهيب حديث مالك " من المسلمين " يعني حتى وجدته من حديث العمريين، قيل له: أمحفوظ هو عندك: " من المسلمين "؟، قال: نعم " (٣). ومنه: قال ابن المديني باب: " علل حديث منزلنا غدًا إن شاء الله بخيف بني كنانة ". قال علي: حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ: " منزلنا غدًا إن شاء الله بالخيف عند الضحى ". رواه الزهري فاختلف على الزهري في إسناده. فرواه الأوزاعي وإبراهيم بن سعد والنعمان بن راشد وإبراهيم بن إسماعيل بن مجمع كلهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. إلاّ أنَّ معمرًا أدرجه في حديث علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد:" وهل ترك لي عقيل منزلًا "، فأدرج عنه: " منزلنا غدًا ".وقد رواه

(١) علل ابن أبي حاتم ١/ ٩٢ (٢٤٨). (٢) علل ابن أبي حاتم ١/ ٢٣ (٦٠). (٣) شرح علل الترمذي، ابن رجب ٢/ ٦٣٢.

1 / 26