Al-Mustatab fi Asbab Najah Dawat al-Imam Muhammad ibn Abd al-Wahhab Rahimahullah
المستطاب في أسباب نجاح دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
خپرندوی
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
ژانرونه
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وجنده، وبعد:
فإن الحديث عن الدعوة السلفية النجدية الإصلاحية، التي قام بها، ودعا الناس إليها، الإمام المجدد لما اندرس من معالم الدين، في القرن الثاني عشر، الإمام محمد بن عبد الوهاب ﵀ حديث طيب مبارك، ترتاح له أفئدة أهل الإيمان، وتطمئن به نفوس أهل الصدق والإحسان، لما يرونه ويعلمونه من أثرٍ مبارك صادق لهذه الدعوة، في مشارق الأرض ومغاربها، ولما يوقنون به من عظيم نفعها، وكبير وقعها.
1 / 1
ولا شك أن كل منصف ملتمس للحق وسواه، وباحث عن الخير وهداه، يدرك أن ثمة أسبابًا جعلت هذه الدعوة دعوة متبعة عالمية ناجحة في مقاصدها وأطرها وغاياتها، واليوم الأمة تعيش في حالة من المراجعة لذاتها، والتصحيح لأخطائها وزلاتها، والعودة إلى الصدق مع نفسها، كان لزامًا على أنصار هذه الدعوة وأتباعها، ممن هيأ الله لهم قوة العلم، وثاقب النظر، أن يبينوا للأمة جمعاء مزايا هذه الدعوة المباركة وأسباب نجاحها واستمرارها، وازدهارها وانتشارها، حتى تعود الأمة إلى أصل نبعها، وأول سيرتها، ورأس أمرها "ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها".
فأحببت من هذا المنطلق السامي في غايته، العظيم في مقصده ونيته، أن أكتب كلمات تنبئ البصير الحاذق، وتنبه الباحث الصادق، عن أسباب نجاح دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب ﵀.
1 / 2
- وعلم الله - وددت أن غيري ممن هو أقدر مني كلمًا وبيانًا، وفصاحة ولسانًا لو كفاني هذه الأمانة، وأزاح عني ثقل المؤونة، فلم أجد أحدًا إلا قد اعتذر عن ذلك بكثرة أشغاله وأموره الخاصة، فلما رأيت ذلك توكلت على الحي القيوم مستعينًا به في زبر هذه الأوراق، وتقييد معالمها وأسسها، علّ بها بيانًا صادقًا للناس، وإيضاحًا للحق، ودعوة الخلق، للرجوع إلى المنبع الأصيل كتابًا وسنة على فهم سلف الأمة، ومازال الأمل معقودًاَ وقائمًا على ثلة من أهل الفضل والعلم من أنصار هذه الدعوة وأبنائها على الكتابة فيها وفي أسباب نجاحها، وما عملي وكتابتي إلا جهد المقل، فالله أسأل أن يتقبله بقبول حسن ويجعله من العلم النافع والعمل الصالح إن ربي لسميع الدعاء.
وقد سرت في كتابي هذا على خطة هاك تفصيلها:
أ - المقدمة: وفيها الباعث على تأليف الكتاب.
ب - كلمة فيها بيان: لماذا نحب هذه الدعوة ولماذا نجحت واستمرت؟!!
ج - الأسباب المجملة.
د - الأسباب المفصلة.
هـ - الخاتمة.
1 / 3
علمًا بأني راعيت في كتابتي سهولة العبارة، ولطافة الإشارة، ووضوح المعنى، وبيان المقصود، وذكرت الأصول، دون التطرق إلى كثير من الفروع؛ مهتمًا بكليات الأسباب وجزئياتها، دون تطويل ممل، ولا تقصير مخل.
هذا؛ والله أسأل أن ينفعني بما كتبت، وينتفع قارئه بما سطرت، وحسبي الله عليه توكلت وإليه أُنيب، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
وكتب ذلك حامدًا ومصليًا ومسلمًا
عبد الرحمن بن يوسف الرحمة
في الرياض غرة شهر رمضان المبارك
لعام ١٤٢٣هـ
1 / 4
كلمة فيها بيان: لماذا نحب هذه الدعوة ولماذا نجحت واستمرت؟!!
هذا سؤال عريض لا بد من الإجابة عليه إجابة وافية المقصود، بينة العبارة، واضحة الأسلوب، حتى يتضح الصبح لكل ذي عينين: إن هذه الدعوة المباركة أحببناها ونجحت واستمرت لأنها تجديد لأصالة الدين، وروح الملة، ومعدن الشريعة، إنها رجوعٌ بالناس إلى رأس الأمر، وأصل النبع، وأساس النهر، وأول المسيرة، وهي إلغاء لطقوس الكهنة، ومصطلحات مشايخ الطرق، عبدة الجاه، وسدنة الناموس بين البرية.
أحببناها ونجحت لأنها دعوة لم يقم بها العسكر تحت رصاص البنادق، وزحف الدبابات، فهي لا تؤمن بالاختلاس والنهب، هي دعوة لم تتبنَّ حمايتها الأحزاب الخاسرة التي ترفع شعارات تؤمن بها في الأوراق، وتكفر بها في الميدان؛ ولأنها ليست دعوة سياسية صرفة مقصدها الوصول إلى كرسي الحاكم، وابتزاز عصا السلطان، وتصدر الجموع، إنها دعوة أصلها ثابت من الدليل الشرعي، والاقتداء بالمعصوم ﷺ والدعوة على بصيرة، وفرعها في السماء من العطاء المبارك، والنفع العام، والأثر المحمود.
1 / 5
إن هذه الدعوة لم تدلف تحت هتافات الغوغاء، والشعارات الجوفاء، ولم تقم بأغلبية الأصوات، ونتائج صناديق الاقتراع، لم تفعل ذلك لأن هذه الدعوة توقد من شجرة الوحي المبارك، لا شرقية ولا غربية، بل سُنِّيّة سلفية ربّانية.
أحببناها واستمرت لأنها دعوة بدأت من المسجد، وانطلقت من المحراب، وهبّت من المآذن علنية، تعلن مبادئها على المنبر، وتشرح مواثقها في العامة، ليست سرية لها رموز لا يفكها إلا خاصة الخاصة، وليست غامضة لا يفهم مقاصدها إلا أساطينها؛ بل دعوة بينة بيان الحق، ساطعة سطوع الحقيقة، ظاهرة ظهور الفجر.
إنها بإيجاز تدعو لأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، وتعبد الناس لخالقهم ورازقهم، لا ترى التقليد، ولكنها لا تجرح الأئمة، ولا تقر الجور، ولكنها لا تخرج على الحاكم المسلم، وترفع شعار الجهاد، ولكن لإعلاء كلمة الله.
1 / 6
نجحت واستمرت لأنها دعوة سهلة ميسرة، ومن ينظر في كتب الإمام المجدد، وأبنائه وأحفاده، وأئمة الدعوة، يلمس يسر الشريعة، وسماحة الملة، وسهولة الدين، وكذلك عمرت هذه الدعوة، وأينعت، وطاب قطافها، واستوت على سوقها؛ عملٌ بالكتاب والسنة، على فهم سلف الأمة - صحابة وتابعين - وتقديمٌ للدليل مع احترام أهل العلم، وتحاكم للنص مع عدم مصادرة جهود الخيرين، وبناء دولة مع تقديم الآخرة، وإصلاح القلب مع الاهتمام بالجسم، لم تحش أذهان أتباعها بزبد الخطابة المجردة، والعواطف المجنحة، ووجهات النظر، واستحسانات الفلاسفة، ورغوة علماء الكلام، وجدل المناطقة، ووله الشعراء.
ولم تضع وقت طلابها في مطاردة قصاصات مقالات الصحفيين، الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون.
ولا في تتبع أطروحات المفكرين الذين يتبعون الظنَّ وإن هم إلا يخرصون، ولا في حفظ حروز المتصوفة، الفارغين من النقل، الهائمين في أودية الخيال.
نجحت واستمرت لأن هذه الدعوة ربانية أولى وآخرة، دنيا ودولة، جسدٌ وروح، شكل ومضمون، رواية ودراية، خبر وإنشاء، قولٌ وعملٌ، وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلًا.
1 / 7
إنها لم تأت بطرح صوفي يقدس عمامة الشيخ، ويتمسح بثوب الغوث والقطب، ويقبل تراب أقدام الأوتاد والأبدال.
لم تفد بمشروع خارجي يكفر بالكبيرة، ويعلن التمرد لمجرد مخالفة، ويستبيح دم المسلم بالمعصية ويدعو إلى الثورة عند الخطأ؛ ولم تبزغ بوجه رافضي يتبرأ من الصحابة، ويحمل الضغينة على الأبرار، ويأفك في المنهج، ويفتري على الله ورسوله، يضل في المعقول، ويجهل المنقول، يرفض الثوابت.
وصلت للناس كما يصل الماء العذب الرقراق إلى الشفاه، وكما يطلب نور الفجر على الآفاق، ومثلما يهبط الغيث من السماء، فأحيا به الأرض بعد موتها، وإذا الناس بها يستبشرون.
1 / 8
لقد قامت قبلها ومعها وبعدها دعوات، وحركات، وشعارات، ولكنها لم تكن مثلها، ولم تفعل فعلها، ولم تؤثر أثرها، فهذه الدعوات: إما دعوة دموية مصادمة انتهت بقطع الرؤوس، وبحيرات الدم، وأعقبت الخوف، والتشريد، والتنكيل من الجلد، والحبس والإعدام، أو دعوة سلبت الإنسان حقه في الحياة، فحرمت عليه الطيبات، ومنعته من المناهج، وحشرته في زاوية، يهمهم ويتمتم، على أوراد بدعية، وأعمال شركية، يطوف بالقبر كالحمار بالرحى، ويتمرغ عند الضريح كالثور في المسناة، بهم تطمس إشراقات الملة، وبهم تنطفئ أنوار الشريعة.
أو دعوة بنيت على مذهب اللملمة، تقبل السلفي والرافضي والخارجي والاشتراكي والعلماني، بحجة رص الصف، وجمع الكلمة.
1 / 9
أما دعوة الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب ﵀ وأجزل له الأجر والثواب وأدخله الجنة بلا حساب ولا عذاب - فهي دعوة واضحة المعالم، ثابتة الخطى، متميزة الطرح، بينة الخصائص قامت على التوحيد أصل الأصول، ودعوة الأنبياء، ومهمة الرسل، وأول الواجبات، وأعظم الفرائض، فدعت إليه قولًا وعملًا، ونصرها الله بسيف الشرع، وقوة العلم، وكتائب الجهاد، وأحفاد الفاتحين، فشرَّقت وغربَّت، وآتت أُكلها ضعفين بإذن ربها، كان من حسناتها - وهي حسنات كلها - الاهتمام بحِلق الذكر، ودروس المسجد، وبث الوعي، ونشر العلم، وهي سنة سنها رسول الله رسول الهدى ﷺ ثم أميت من قرون سلفت، فجاءت هذه الدعوة لبعثها من جديد وإحيائها.
وليت المساجد يعود لها ذاك الزخم المضيء النير في أيام دعوة المجدد، ليعي الناس أمر دينهم، لأن الدراسة المنهجية النظامية، وحدها لا تفي بمهمة المسجد، مع ضآلة ما قرر للدين من حصص، وما قطر لمادة التوحيد من محاضرات، مع هزال المدرس، ونعاس الطالب، وملل الرتابة، وكثرة الصوارف.
1 / 10
إن المكان المبارك لنشر عقيدة السلف الصالح، وميراث الرسول ﷺ وتركته هو المسجد ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [النور: ٣٦] .
ويوم أصبحت عقيدة السلف تعلم بالكمبيوتر، وصار علم الشرع يؤخذ من القنوات الفضائية، صار الطرح باردًا، والذهن كالًا، والجيل عاطلًا، والعلم ممجوجًا.
1 / 11
الآن حصص الحق، ولكل نبأ مستقر، وأدرك العقلاء أن الدعوة التي تتقبلها القلوب، وتنشرح لها الصدور وتوافقها الفطر، وتصدقها العقول، هي الدعوة الموافقة لدعوة المعصوم ﷺ المتبعة لا المبتدعة، الربانية لا النفعية، الأثرية لا المخالفة، الوسطية لا الغالية ولا الجافية، وهي دعوة عبرت القرون، واخترقت حاجز الزمن، ونفذت من بوابة الدهر، يحمل علمها محمد ﷺ وأصحابه، وأئمة السلف كمالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، ومع هذا الموكب المبارك نريد أن نسير، ومع هذه الطائفة المنصورة الناجية الباقية نتمنى أن نُحشر، ومع هذا النبع العبّ الثر نريد أن نعبَّ ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ [الإنسان: ٦] .
وخاتمة للكمة أقول: اللهم إن هذا الشجن مما نفح به الخاطر، وشهد به القلب، وزكاة الضمير، لم يحاب فيه شخص، ولم يتزلف به إلى هيئة، وكلنها شهادة تؤدى يوم تكتب شهادتهم ويسألون، وعقيدة تعتنق، ومذهب يحب، وأمنية غالية، يلهج بها.
1 / 12
ذلكم مما نفث به القلم المصدور على عجل من أمره، وفي المطولات عن هذه الدعوة غنية وكفاية، ولكنها زكاة نصاب الواجب علي لهذه الدعوة، ولا يسعني السكوت، فإن لم يصبها وابل فطل:
ليت الكواكب كانت لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضى لكم كلمي
1 / 13
الأسباب المجملة
هذه أسباب إيضاحها وإبرازها وتفصيلها يحتاج إلى مزيد وقت وميسرة من زمن ومدة، أسوقها في ثنايا هذا العرض علّ الله أن ينفع بها، ولئن فسح الله في العمر والمدة، سأتعرض لها ببيان وافٍ لها، وشرح لأصولها؛ وتوضيح لمضامينها، فأقول وبالله التوفيق؛ الأسباب المجملة هي على النحو الآتي:
١- التزامها بالحكمة والموعظة الحسنة والرفق واللين واليسر والتبشير وبُعدها عن العنف والغلظة والتنفير والعسر.
٢- محاربتها للبدع والمُحدثات والتحذير منها والتنفير عنها.
٣- الشمولية العامة للدعوة.
٤- التوازن الوسطي في الطرح والأخذ.
٥- التقدير المتزن لعلماء الأمة وأمناء الملة دون الغلو والجفاء.
٦- البعد عن الحزبية الضيقة، والجاهلية المنتنة، والعصبية المقيتة.
٧- الاقتداء التام بالسلف في سائر الأمور كافة.
٨- قوة الإيمان وصدق العزيمة لدى علماء الدعوة وأئمتها بدءًا بالإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب ﵀.
٩- الاحتساب والبذل والاجتهاد لنصرة هذه الدعوة.
١٠- ظهورها في زمان الفساد والكساد والاندراس لمعالم الإسلام والانحراف عن جادة الحق والصواب مما هيأ لها قبولًا عظيمًا، ورواجًا واسعًا.
1 / 14
١١- وجودها في بيئة بسيطة في العلم قوية في الأخلاق والتحمل والقوة والشجاعة.
١٢- عدم تأثرها بالثقافات الأجنبية والأطروحات الغربية والمناهج الكلامية المبتدعة.
١٣- قيامها بإبراز شعائر الملة الحنفية ودعائم الدين القويم ومظاهره الواضحة.
١٤- تمسكها بالأصول العامة وإحيائها وإفهامها.
١٥- وجود الخلافة العلمية والورثاء الشرعيين للأئمة من طلابهم وتلاميذهم.
هذه بعض أسباب النجاح المجمل للدعوة، وهي غيض من فيض وقليل من كثير، والله المعين.
1 / 15
الأسباب المفصلة
السبب الأول: دعوتها إلى التوحيد واهتمامها به:
إن الدعوة السلفية الإصلاحية دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهّاب ﵀ اعتنت بالتوحيد وجعلته محور أمرها، ومرتكز دعوتها، ونقطة انطلاقتها لأن التوحيد، أساس الملة، وأصل الدين، وقاعدة الإسلام، فمن أجله أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب، وجُردت السيوف، ومن أجله حصل الولاء والبراء، والمنع والعطاء، والحب والعداء، ومن أجله انقسم الناس إلى مؤمن ومشرك، شقي وسعيد؛ ولأن التوحيد هي القضية الكبرى التي عُنِيَ بها المرسلون والأنبياء، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦] وقال جلّ ذكره: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥] .
1 / 16
والتوحيد هو الغاية العظمى من خلق الله للخلق ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] وهو أول مأمور به في القرآن الكريم ﴿يا أيها النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١] وهو فاتحة القرآن الكريم وخاتمته ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾ [الناس: ١-٣] وهو البداية لدعوة إمام الموحدين، وسيد المرسلين، وإمام الدعوة الصادقين محمد رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: «يا قوم قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا» والتوحيد هو النهاية الحميدة، والعاقبة السعيدة، لمن سار عليه علمًا وعملًا وتعليمًا، اعتقادًا وسلوكًا، سبيلًا وسنة، منهجًا وحياة ومماتًا ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ﴿لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٢-١٦٣] . وقال ﷺ: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله»، وقال صلّى
1 / 17
الله عليه وسلّم: «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة» .
أخي القارئ الكريم: فإذا فُهِمَ هذا الأصل العظيم، وتقرر في القلوب وقبلته النفوس، عُلِمَ مدى أهمية العناية بالتوحيد والدعوة إليه، ومن هنا كانت عناية دعوة الإمام ﵀ بالتوحيد وبُعدها عن الشرك والتنديد، وتحذيرها أشد التحذير من كل ما يخل بذلكم الأصل العظيم.
لقد جاءت هذه الدعوة في زمن اشتدت فيه غربة الإسلام وارتكست فيه الأفهام؛ بل إن عُرى الإسلام - أغلبها - منتقضة، والناس - جُلّهم - عبدوا الكواكب والنجوم، وعظموا القبور، وبنوا عليها المساجد، وعبدوا تلك الضرائح والمشاهد، معتمدين عليها في المهمات والملمات، سائلين ومستغيثين عندها رفع الدرجات، ودفع الكربات، وقضاء الحاجات، وشفاء المرضى، وإغاثة الهلكى، زاعمين - كذبًا وزورًا - أنها تبلغهم أسنى المطالب، وأرفع المراتب، وتحقق لهم قضاء المآرب، وغير ذلك من عظائم الأمور، الموجبة للويل والثبور.
1 / 18
فلما رأى ذلك إمام الدعوة ﵀ وأيقن بحصول الشرك وازدهاره، ونمو الكفر وانتشاره، قام بالدعوة إلى التوحيد اتباعًا لمنهاج الأنبياء، واقتداءً بالربانيين من العلماء، ورأى ﵀ أن ذلك من أهم المهمات، وآكد الواجبات، فشمر عن ساعد الجد والاجتهاد، ودعا إليه ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، وأعلن أن ذلك من النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين فأثمرت دعوته أعوانًا وأنصارًا، بعد أن وصل التوحيد الصافي إلى سويداء قلوبهم، وغرس جذوره في أعماق نفوسهم، فتحولوا معه إلى الصفاء والنقاء، والطهر والإخلاص لرب السماء، فكانت دعوة عظيمة، ومنَّة كريمة، صافية المشرب، سهلة الموردن خلّصت الناس من لوثات الجاهلية العمياء، وضلالات الوثنية الشوهاء.
1 / 19
ومن هنا يعلم - كل منصف حصيف - سر نجاح هذه الدعوة واستمرارها ومضي أمرها - ولله الحمد والمنّة - وما زلنا نعيش تحت دوحتها المباركة؛ ونتفيأ ظلالها، وننعم بطيب عبيرها وأريجها، إنني أقول بملء فيّ لو سار الدعاة - في كل مكان من العالم الإسلامي عامة وهاهنا خاصة - على أسسها وقواعدها، لتغير حال الأمة في جميع مناحي الحياة، ولاجتمع المسلمون على كلمة سواء، لأن التوحيد توحيد للكلمة وأساس مكين للاجتماع، وما الذي استفادته الأمة من دعوات وجماعات، أطلت برأسها وفكرها في زمننا المتأخر بعضها دعوتها مندرجة تحت مظلات سياسية، وأفكار واقعية، وبعضها اهتمت ببعض القضايا الزهدية والوعظية، دون العناية بالتأصيلات العلمية والعملية والعقدية، فتمادت بالجميع السنون، وتوالت عليها الأيام، وقدمت لها الأرواح، وبذلت من أجلها الأموال ثم انتهت إلى الفشل والزوال، وكم من جماعات أخرى وحركات حثيثة فاسدة روت طريقها بالدماء، وتبارت في ضروب الفداء، فسقطت دون وصولها إلى أمل منشود، أو هدف مرغوب، ومن فرض القول أن يعلم المؤمن علم يقين أن كل دعوة للإسلام لا تقوم على التوحيد الخالص لله تعالى، ولا تأخذ طريقها إلى منهج السلف الصالح فهي تائهة
1 / 20