Al-Majmu' in Translation of Shaykh Al-Muhaddith Hammad ibn Muhammad Al-Ansari
المجموع في ترجمة العلامة المحدث الشيخ حماد بن محمد الأنصاري ﵀)
خپرندوی
-
د ایډیشن شمېره
الأولى
ژانرونه
المجلد الأول
ترجمة موجزة
...
ترجمة موجزة بقلم عبد الأول بن حماد الأنصاري عفا الله عنه
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى وعلى آله وصحبه أهل الوفى.
أما بعد:
فاعلم أيها القارئ الكريم: أن الوالد الشيخ حماد بن محمد الأنصاري الخزرجي السعدي - نسبة إلى سعد بن عبادة الأنصاري الصحابي الجليل ﵁ خرج من أفريقيا - وبالأخص دولة (مالي) - بسبب الاستعمار المهيمن على أفريقيا في ذلك الوقت؛ وكان هذا الاستعمار الفرنسي بطّاشا خبيثا معانِدًا، يأكل الأخضرَ واليابس ويمنع التديّن والعلم، ويهضم أهلَ الإسلام حقَّهم وغير ذلك من المعضلات والمفاسد.
فلما رأى الوالد - رحمه الله تعالى ذلك - وكان عمرُه عندها ستة عشر عامًا - عزم على الهجرة من أفريقيا إلى الحرمين، وقام بالتخطيط لهذه الهجرة مع بعض أصحابه الملاصقين به ملاصقةً قوية في طلب العلم والمرح والنزهة وغير ذلك؛ وهم: الشيخ عمّار "حفظه الله" الموجود بمكة والآن، والشيخ أُحيد الموجود ببلاد (مالي) في صحرائها التي تختلف عن صحارى الجزيرة؛ فصحراء أفريقيا يوجد فيها العلماء في كل فنّ - وبالذّات اللغة العربية وفروعها والشعر العربي الفصيح مما يشابه شعر امرئ القيس وعنترة والبحتري من شعراء الجاهلية وشعراء ما بعد الإسلام؛ فلا تكاد تخلو صحراء أفريقيا من قول الشعر، وينظم لهم شيوخهم ما يتعلّمونه من العلم الشرعي وعلوم الآلة وأصول الفقه والبلاغة بأنواعها من بيانٍ ومعاني وبديع.
فقام الوالد بالإشارة عليهم بالهجرة إلى الحرمين الشريفين لأكثر من سببٍ، من ذلك: طلب العلم على شيوخ الحرمين، والهجرة من الاستعمار الباغي، وغير ذلك.
وقد طرأت على الوالد هذه الفكرة في زهرة شبابِه وفي سنٍّ لا يكاد يُذْكَرُ
1 / 7
صاحبه في هذا الزمن إلا بلعبٍ وعبث.
وقد كان الوالد "رحمه الله تعالى" من بيت علمٍ وفضل وقضاء؛ فمنذ نعومة أظفاره وأهله مهتمّون به، ويعلِّمونه؛ فقد كان عمُّه الملقّب بالبحر عالمَ أفريقيا قاطبةً ومفتيها؛ ولقّب بالبحر لسعة علمِه ودقّة فهمه وندور مثله في صحراء أفريقيا وحاضرتها.
قام عمُّ الوالد هذا بإنشاء الوالد على حفظ القرآن مبكرًا وحفظ علوم الآلة، وكذلك الحديث، والفقه المالكي "مختصر خليل".
وقد يتساءل القارئ: أين والدُ الشيخ؟.
فأقول له: إنّ أباه مات عنه وهو ابنُ ثمان سنوات؛ فقد كان يتيمًا عاش في كنف عمِّه وأخواله ووالدته؛ فقد كان مَن حوله من أقربائه من جهة أبيه وأمه فيهم طلبة العلم والعالم والمفتي والقاضي.
فنشأ في هذه البيئة العلميّة المحضة في جوٍّ ليس فيه من أمور الحضارة الموجودة اليوم شيء لا كهرباء ولا سيّارات ولا طائرات.
عاش في بيئة من أجمل ما تكون فيها الخضرة، والغابات، والماء الصافي، والنسيم الجميل، والهواء النقي؛ فقد سمعتُه أكثرَ من مرّة يقول: "إن الوقت الذي كنت فيه في إفريقيا لا يتمنّى أحدٌ أن يخرج منها لما فيها من الخيرات التي لا تحصى من مأكل ومشرب ونزهة وغير ذلك".
حفظ الوالد "رحمه الله تعالى" القرآنَ وعمرُه ثماني سنوات، ثم أخذ في علم القراءات فعرفها، وأتقن حفظَ القرآن عليها.
وقد كان الناس في وقته يحفظون القرآن على اللوح: يكتب لهم شيخ الكتاتيب الآية والثلاثة فيذهب الطالب يحفظها ثم يُسَمِّعُها للمعلم، ثم يمحوها
1 / 8
ويكتب له المعلم غيرها، وهكذا حتى يحفظ القرآنَ كاملًا.
وبعد حفظه يذهب إلى حلقات العلم الأخرى فيحفظ من علوم اللغة وغير ذلك.
فلم يبلغ الوالد سنّ الرشد حتى أصبح يحفظ شيئًا كثيرًا من المنظومات؛ فقد كان يحفظ "الملحة" للحريري، و"الشافية" لابن مالك، و"الألفية" له؛ ويحفظ أكثرَ من منظومة في الصرف.
ويحفظ "الألفية" في أصول الفقه للسيوطي، وكذلك "جمع الجوامع" في الأصول - المتن - للسبكي، ويحفظ "المعلّقات السبع"، وقصائد الجاهليين، و"مقصورة ابن دُريد"، ويحفظ منظومة في حروف الجُمَّل؛ وهذه المنظومة لقّنها كثيرًا من طلبة العلم في هذه البلاد وشرحها لهم وكتبوها عنه.
كما يحفظ منظومةً طويلة في التنجيم، كان يذكرُ لنا من ناظمها عندما يذكرها (نسيت ما اسمه) .
ويحفظ "مختصر خليل" مثل الفاتحة.
كما كان يقول لنا: أن له "ديوان شعر" تركَه في أفريقيا لم يحضره معه لَمّا هاجر إلى هذه البلاد المباركة؛ لأنّه خرج من أفريقيا متسلّلًا لا يحمل معه سوى مصحف خوفًا من الاستعمار الفرنسي والبريطاني؛ فقد كان المستعمر لا يسمح لأحدٍ من أهل أفريقيا أن يخرج منها إلى الحرمين كما كان يذكر لنا "رحمه الله تعالى" أنه عندما جَهّزَ نفسَه للرحيل هو وزميلاه الاثنان خرج ليلًا ممتطيًا كلّ واحد منهم جملَه، فخرجوا؛ ومكثوا في رحلتهم هذه سنتين حتى وصلوا إلى ميناء جدة.
مرّوا فيها بكثيرٍ من البلاد مثل: (النيجر) و(نيجيريا) و(السودان) وغيرها.
1 / 9
وقد التقى الوالدُ "رحمه الله تعالى" ببعض أهل العلم؛ ففي نيجيريا التقى بالشيخ المجدِّد العالم السلفي عبد الله بن المحمود الشريف الحسني الذي نشر الدعوة السلفيّة في صحراء (مالي) . وأخرج الله على يده أممًا من الناس من ضلال عبادة القبور والتوسل بالصالحين والخرافات والبدع المنتشرة آن ذلك في بعض صحراء أفريقيا.
والشيخ عبد الله الذي التقى به الوالد "رحمه الله تعالى" في نيجيريا كان قادمًا من هذه البلاد المباركة المملكة العربية السعودية - حرسها الله تعالى وشرّفها ـ؛ فقد كان حياته من صغره بالمدينة النبوية، وكان إمامًا للمسجد النبوي الشريف ومدرِّسًا فيه.
وقد أفرد الوالدُ "رحمه الله تعالى" له ترجمةً بلغت في مجلّد لطيف (مطبوع) .
فلما التقى به الوالد في نيجيريا أخذ عنه نصائحَ كثيرة، أهمُّها قوله: "يا بنيّ إذا وصلتَ إلى بلاد الحرمين فعليك بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وعليك بنشر عقيدة السلف ونشر كتبهم، وعليك بتعليم الناس العقيدة والعلم".
وقد سمعتُ الوالدَ يقول: "لقد تأثّرتُ بنصيحته هذه جدًّا وأخذت بها، وبلغت من قلبي مبلغًا عظيمًا، وعزمت على العمل بها".
كما التقى بالشيخ طاهر السواكني في دولة السودان، وأخذ عنه علم الحديث، وعرف على يديه كتب الحديث؛ فقد كان الشيخ طاهر عالمًا من علماء السودان في الحديث وغيرِه، وكان له الاهتمام الكبير بعلم الحديث؛ فقد سمعتُ الوالدَ يقول: "لقد تأثّرت بالشيخ طاهر السواكني في علم الحديث؛ فقد نصحني بتعلّمه واقتناء كتبه، والسير على منهج أهلِه".
1 / 10
فكان لهاتين النصيحتين تأثيرٌ بالغٌ في حياة الوالد العلمية إلى أن انتقلَ إلى "رحمه الله تعالى".
وعندما وصل الوالدُ إلى جدة سارع إلى الذهاب إلى مكة المكرمة، وكان عمره عندما دخل هذه البلاد المباركة "بلاد التوحيد" تسعة عشر عامًا.
والتقى بالشيخ حامد فقي بمكة، وتأثّر به جدًّا من أكثر من جهة سواء بعلمه أو نشره لعقيدة السلف وحبّه لكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وكذلك كتب أئمة الدعوة بدءًا من إمامها محمد بن عبد الوهاب التميمي "رحمه الله تعالى".
وتلقّى على يده العلم في العقيدة والحديث، وتأثّر به جدًّا.
وكذلك التقى بالشيخ محمد حمزة، وأخذ عنه العلم.
وكذلك الشيخ يحيى المعلِّمي المحدِّث الجهبذ عالم عصره في علم الحديث؛ لازمَه وأخذ عنه حبّ علم الحديث وتعلّمه.
ولازم الشيخ تقيّ الدين الهلالي ملازمةً طويلة استفاد منه في أكثر من فن من فنون العلم.
وسمعتُ الوالدَ يقول: "لازمتُ الشيخ يحيى المعلّمي أثناء إقامته بمكتبة الحرم المكي، واستفدت منه كثيرً".
كما استفاد من علماء الحرم المكي وحضرَ دروسَهم، وأجازَه بعضهم ممن يهتم بالإجازات.
وكذلك استفاد من الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ في مجال العقيدة وكتبها؛ وهو الذي أشار عليه أن يذهب إلى الرياض للعمل هناك، وكتب له رسالةً إلى أخيه الشيخ محمد بن إبراهيم "رحمه الله تعالى" فيها توصية به.
1 / 11
ولما سافر إلى الرياض سنة ١٣٧٣هـ التقى بالشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ المفتي العام لهذه البلاد المباركة، فلازمَه وأحبّه وقرّبه إليه لما رأى فيه من حبّ العلم ونشره، وحثّه على أن يكون له درسٌ في الجامع بالرياض؛ فكان الوالدُ يدرِّس طلبة العلم الصغار بالمسجد الجامع، والشيخ محمد يدرس الكبار منهم؛ وكان الوالد يدرّس كتب العقيدة والحديث للصغار بأمر من الشيخ لما رأى فيه من العلم والفهم والذكاء والنباهة والغيرة للعقيدة السلفية.
وكان الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ يكني الوالد بأبي زيد ممازحًا له، وكان يقرّبه في مجلسه العام.
وكان الشيخ محمد بن إبراهيم يأمر بعض أبنائه أن يدرُس على الوالد علوم الآلة في اللغة وكذلك الحديث وغيرهما من العلوم؛ وكان الوالد يقضي الإجازة بمكة فكان الشيخ محمد بن إبراهيم يرسل أحد أبنائه مع الوالد يتلقى العلم عليه.
ومكث الوالد في الرياض إحدى عشرة سنة متعلِّمًا وعالمًا يدرس بمعهد الدعوة بالرياض، تخرّج على يده منه ناسٌ كثير جدًّا بعضهم من العلماء، بل من كبار العلماء في دار الإفتاء بهذه البلاد المباركة.
وقد تأثّر الوالد بالشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ "رحمه الله تعالى" في العقيدة والعلم، وأحبّ الوالدُ الشيخ محمد بن إبراهيم حبًا كبيرًا وكان يذكره في مجلسه العامر بالمدينة النبوية ويثني عليه، ويقول: "لم نر مثلَه في هذه البلاد علمًا، وتواضعًا، وزهدًا، وحبًّا لطلبة العلم وإحسانًا لهم".
وكذلك عندما كان الوالدُ بالمدينة قبل ذهابه إلى الرياض التقى بالشيخ ابن تركي "وهو من علماء المدينة في ذلك الوقت"، وقرأ عليه "صحيح البخاري" وفي عقيدة السلف وتأثّر به، وكان الشيخ ابن تركي فيه شدّة واضحة ظاهرة
1 / 12
للجميع، وكان عالمًا زاهدًا قلّ نظيرُه في الزهد في المدينة النبوية في ذلك الوقت كما يذكره الوالد وشيخنا الشيخ محمد أحمد بن عبد القادر القرشي الشنقيطي المتوفى سنة ١٤١٨هـ.
كما كان يحضر دروس الشيخ محمد الأمين صاحب تفسير "أضواء البيان" في المدينة، وتأثّر به وبعلمِه، وناظر الشيخ في كذا مسألة من مسائل المنطق والفلسفة مناظرة عالمٍ بهذا الفن الذي كان يحفظ فيه منظومات مع شروحها.
ودرس على عددٍ من علماء المدينة النبوية في دار العلوم الشرعية منهم: عبد الغفار حسن، والشيخ أبو بكر الشريف التنبكتي "المدرس بالمسجد النبوي الشريف قرب الروضة"، وقد أجازه الشيخان عبد الغفار وأبو بكر الشريف التنبكتي.
كما أنه درس النحو و"سنن النسائي" على الشيخ محمد الحافظ القاضي، وأجازه هو أيضًا في علم الحديث إجازة عامّة.
وكان الوالد "رحمه الله تعالى" حريصًا على أخذ الإجازة في علم الحديث عمّن كان أهلًا للإجازة من العلماء الفحول في عصره.
ومن أقدم من أجازه عمه الملقّب بالبحر عندما كان في البلاد صغيرًا في السن.
وبعد انتقاله من الرياض إلى المدينة سنة ٨٥هـ للتدريس في الجامعة الإسلامية. استقرّ من هذا العام بالمدينة النبوية إلى أن انتقل إلى "رحمه الله تعالى" سنة ١٤١٨هـ، بعد أن مكث فيها ثلاثًا وثلاثين سنة ناشرًا للعلم فاتًا قلبه ومكتبته للناس.
وقد كانت هناك بعثات من الجامعة لمن في ضواحي المدينة من أهل
1 / 13
البادية لتعليمهم شؤون الإسلام؛ فكان يشارك فيها "رحمه الله تعالى".
وسكن قريبًا من المسجد النبوي في حيّ المصانع، وفتح مكتبة متواضعةً في بيته كان يجتمع فيها مَن كان فيه حرصٌ من طلبة العلم، منهم: الشيخ صالح الفهد، والشيخ يوسف الدخيل، والشيخ عمر محمد فلاّته "رحمه الله تعالى" الذي كان بينَه وبين الوالد محبّةٌ كبرى.
وكان الشيخ عمر بن محمد فلاّته يحب الوالد ويقول: "أتمنّى أن يرزقني الله مثل علم الشيخ حمّاد الأنصاري"، قال ذلك في شريط ألقاه في ترجمة الوالد فقد "رحمه الله تعالى".
وكانت بينهما مدارسة للعلم ومعرفة لأحوال بعض معرفة كبيرة جدًّا.
وعندما توفي الوالد ذهب إليه الشيخ عمر محمد في المستشفى وكان الوالد عليه شرشفٌ أبيض مسجّى عليه فكشف عنه الشيخ عمر وعندما رأى وجهَ الوالد وهو متوفى أخذ يبكي، لم يتماسك عن البكاء والنحيب؛ فرحم الله هذين الشيخين المحبيبين لبعضهما رحمةً واسعة.
كما كان يحضر عنده في المصانع الشيخ عمر حسن فلاته، والشيخ عبد الرحمن الفريوائي، وغيرهم من طلبة العلم المحبيين للوالد ممن لا أستحضره الآن.
ومكث في المصانع قرابة عشر سنين "أو تزيد بقليل" فاتحًا مكتبته المتواضعة للناس على قلّة ذات يده في ذلك الوقت من المال.
وكان مسخّرًا ماله لشراء الكتب ووضعها في المكتبة لينتفع طلبة العلم الغرباء وغيرهم منها في القراءة والبحث.
وكان يدرس في المسجد النبوي "سنن الترمذي" حتى ختمه كاملًا، كما
1 / 14
درّس النحو، والصرف، وبعض علوم الآلة والحديث.
ثم انتقل من حيّ المصانع إلى الحرة الشرقية، ووسع مكتبته السابقة الذكر وملأها بالكتب، واستقبل طلبة العلم فيها يعلّمهم؛ وكان يحثّهم على نشر العلم وبالأخصّ علم الحديث - الذي كان في ذلك الوقت قليل طلاّبه والباحثون عنه، وكان يُعير هؤلاء الطلبة كتبه للانتفاع بها، وكان يُعيرهم حتى النادر من المخطوطات ويسمح لهم بتصوير المخطوطات؛ ولم يكن في ذلك الوقت من يهتم بالمخطوطات سواه في المدينة النبوية فيما أعلم.
وكان شرطُه في المخطوطات: أن لا يجمع منها إلاّ ما كان في علم الحديث والعقيدة السلفية وبالأخصّ المخطوط الذي لم يطبع أو المخطوط الذي طبعتُه رديئة.
ولم تمنعه قلة المال عن شراء الكتب وتصوير المخطوطات؛ فقد كان أغلب ماله مسخرًا في شراء الكتب المطبوعة وتصوير المخطوط.
وقد تسبب الوالد في نشر الكثير من كتب الحديث والعقيدة السلفية؛ فمن ذلك: كتاب "السنة" للالكائي، فهو الذي أعطى مخطوطه لمحققه بعد أن طلبه من ألمانيا من طريق نظام يعقوبي فأحضر نسخة رائعة من هذا الكتاب دفعه الوالد للمحقق فحققه وطبعه؛ وكذلك زوّد المحقق بنسخة لهذا الكتاب مكتوبة بخطِّه هو حيث إنّ الوالد قام بنسخه كاملًا من هذا المخطوط، فأعطى المحقِّق المخطوط وأعطاه هذا المخطوط منسوخًا بخطِّه الواضح المنسّق المرتّب؛ فما كان من المحقِّق إلاّ أن علّق على حواشيه ونحو ذلك فأخرجَ الكتاب وأخذ عليه الدكتواره؛ ولم يذكر هذا المحقِّق هذا المعروف من الوالد في مقدّمة تحقيق هذا الكتاب؛ والأجرُ عند الله لا عند الناس؛ والله المستعان.
ومن يفعل المعروف لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العُرْفُ بين الله والناس
1 / 15
فليعم القارئ: أن الوالد سخّر نفسَه منذ أن جاء لهذه البلاد المباركة لخدمة علم الحديث والعقيدة السلفية؛ فقد كان الوالدُ مدرِّسًا في الجامعة الإسلامية في معاهدها وكليّاتها وفي الدراسات العليا.
وكان يحثّ طلبة العلم على نشر العقيدة السلفية وتعليمِها وتعلّمها، وكان يوضّح لهم العقيدة السلفية أحسنَ توضيح وما يرد من الإشكالات حولَها، وكذلك التشكيكات، ويذكر شبه المناوئين لها ويردّ عليهم.
كما كان يلقي المحاضرات في خارج الجامعة وفي الجامعة في العقيدة السلفية والحثّ عليها؛ ويُعَرَّف عداوة غير السلفيين للعقيدة السلفية وما هم عليه، سواء من الأشاعرة أو الماتردية أو المتعصّبة من أهل المذاهب الأربعة؛ وقد أشار على تلميذه عبد الإله الأحمدي "التلميذ النبيل" أن يكتب رسالة في الدكتوراه في مسائل الإمام أحمد ومروياته في العقيدة يكون هو المشرف عليه فيها، وقد فعل وطبع الكتاب.
كلُّ ذلك من أجل نشر عقيدة أهل السنة الذي كان الإمام أحمد وأصحابه من دعاتها والذّابين عنها؛ فقد قضى الوالد "رحمه الله تعالى" عمرَه في نشر عقيدة السلف، وجمع في مكتبته من كتب السلف في العقيدة والحديث ما لم يجمعه غيرُه، كان يطلبُها حيثما تكون من الدنيا، سواء مطبوع أو مخطوط؛ ولا يخفى هذا على من كان يعرف الوالد من الملازمين له وغير الملازمنين؛ وكان يقول: "لا أسمعُ بكتاب في العقيدة السلفية أو الحديث إلاّ وأحرص على اقتنائه".
وقد جمع "رحمه الله تعالى" مؤلَّفًا في كل ما يُنسب إلى الإمام أحمد وأصحابه من كتب العقيدة السلفية فبلغت مجلّدًا كبيرًا.
وكان الوالدُ في مجلسه في مكتبته يحثُّ كلَّ من يأتيه من طلبة العلم على التمسّك بعقيدة أهل السنة ونشرها والذبّ عنها.
1 / 16
وقد كان باذلًا لمخطوطاته لمن أراد الاستفادة منها؛ فقد قامت جامعة الإمام بالرياض بتصويرها كلها، وكذلك الجامعة الإسلامية، ومركز خدمة السنة بالمدينة النبوية، وكذلك صوّرها من الأفراد الشيخ مساعد الرّاشد، والشيخ صالح آل الشيخ.
وبعد انتقاله إلى بيته في حيّ الفيصليّة توسّعت مكتبتُه وقام بزيادة الكتب المطبوع والمخطوط حتى بلغ المخطوط خمسة آلاف مخطوط كلّها بتوفيق الله جمعها بمالِه، لم يشاركه في ذلك أحدٌ؛ وكان يقول: "عندي في مكتبتي جميع أنواع علم الحديث التي ذكرها العلماء في كتب المصطلح - يعني: عندي المؤلفات فيها ـ".
وكان يرحل إليه طلبة العلم من كلّ الدنيا يطلبون منه الإجازة في علم الحديث، ويأخذون من علمه الغزير؛ فلا يوجد علم إلاّ وعندَه منه طرف حتى علم التنجيم والمنطق والجغرافيا الحديثة؛ وأما التاريخ فكان يعرفه معرفة لا نظيرَ لها، وتأتي معرفته له بعد علم الحديث والعقيدة السلفية.
وكان المشايخ في هذه البلاد المباركة يتّصلون عليه هاتفيًّا للاستفسار عن بعض الإشكالات في الحديث والعقيدة والفقه مثل الشيخ ابن باز، واللحيدان، والشيخ محمد أمان، والشيخ الجزائري، والشيخ عطيّة، والشيخ بكر أبو زيد، وكذلك القضاة في المحاكم الشرعية.
وكان واسعَ الصدر رحبه للجميع، يجلس في مكتبته لاستقبال طلبة العلم والمشايخ من بعد صلاة العصر إلى العشاء يوميًّا بدون انقطاع منذ أن دخل المدينة سنة ١٣٨٥هـ إلى قبيل مرضه بأيّام معدودة، وكان الطلاّب يأتون من كلّ مكان كُلٌّ له حاجته فيعطي هذا حاجته من المال ويشفع لهذا، وهذا حاجته من الكتب، وهكذا لا يملّ ولا يسأم.
وبجانب هذا يؤلِّف ويردّ على الرسائل التي تأتيه من دار الإفتاء في بعض
1 / 17
المعضلات والإشكالات في العقيدة والحديث، ويردّ على الاستفسارات في الهاتف التي تأتيه من كلّ مكان في الدنيا.
وكان يزوره في مجلسه الأمراء والوزراء فيخرجون من مجلسه وقد ازدادوا حبًّا له وإكبارًا له.
فليعلم القارئ: أن الوالدَ "رحمه الله تعالى" بذل ماله ووقتَه وعمرَه منذ نعومة أظفاره إلى أن لقيَ الله تعالى بعد معاناة من خطأٍ طبِّي أدّى إلى غيبوبة دامت تسعة أشهر، ثم مات ودُفن بالقُرب من قبور بنات النبي ﷺ وزوجاته في أول بقيع الغرقد على يسار الداخل إليه مخلِّفُا علماُ جماُ في صدور طلبته ومكتبة عامرة وذكرًا حسنًا.
وقد قُبر في هذا المكان من المقبرة بسعاية من الشيخ العالم عمر بن محمد فلاّته الذي كان يحبُّه ويجلّه ويعرف قدره وعلمه وسعة اطلاعه ومحبته لنشر عقيدة السلف وعلم الحديث.
كاتب هذه السطور هو: ابن المترجَم: عبد الأول بن حمّاد بن محمد الأنصاري الخزرجي "عفا الله عنه" / / ١٤٢٠هـ.
1 / 18
ما جاء في صفحة مشكاة الرأي
كلمة المشرف على الصفحة
...
ما جاء في صفحة "مشكاة الرأي"
بإشراف: عبد الرزاق الشايجي - من جريدة (الوطن) الكويتية العدد: ٧٧٩٤/٢٢٤٠ السنة ٣٦ بتاريخ: الاثنين: ٢٦/جمادى الآخرة عام ١٤١٨هـ - الموافق: ٢٧/ أكتوبر عام ١٩٩٧م.
كلمة المشرف على الصفحة: (عبد الرزاق الشايجي)
فجعت الأوساط العلمية بنبأ وفاة محمد الحجاز العلاّمة حمّاد بن محمد الأنصاري الذي توفي يوم الأربعاء المنصرم.
وكدأب (مشكاة الرأي) في التفاعُل مع الأحداث ورصدها فها نحنُ نقدِّمُ للقرّاء عامة ولطلبة العلم خاصة إصدارًا خاصًّا عن حياة الفقيد، استكتبنا فيه نخبة من طلبة العلم الذين تتلمذوا على يد الشيخ الأنصاري، ونهلوا من علمه، واستفادوا من مكتبته العامرة بالمخطوطات.
إن المآثر التي امتاز بها شيخُنا الأنصاري عن بقية أقران عصره: فتحُه لمكتبته العامرة الزاخرة بنفائس المخطوطات والكتب النادرة لأجيالٍ من طلبة العلم.
إننا إذْ نقدِّم هذا الإصدارَ وفاءً للمحدّث الأنصاري فإننا نتوجه بالشكر لكل مَن ساهم في إعداد هذا الإصدار.
تغمّد الله الفقيدَ بواسع رحمته، وألهم أهلَه وطلبتَه الصبرَ والسلوان ﴿إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون﴾ .
عبد الرزاق
1 / 21
توجُّعٌ وعزاء
بقلم: رياض الخليفي.
"العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافر". بهذا نطق رسولُ الله "ﷺ" فيما صحّ عنه، ليؤكّد على أن من أخص سمات العلماء الإعراضُ عن الدنيا والإقبال على الآخرة، وأنهم إنما يتقربون إلى الله تعالى بإشراف العبادات، ألا وهي عبادة العلم؛ ولذلك كانت منزلتهم عند الله عالية ومقاماتهم سامية كما قال تعالى: ﴿يَرْفَعُ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِيْنَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾؛ وأقرّ سبحانه شهادة العلماء تكريما لهم في أعظم قضايا الدين وأساس الملّة ألا وهي قضية التوحيد فقال ﷿: ﴿شَهِد اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَه إِلاَّ هُوَ والمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا العِلْم قَائِما بالقسط﴾ .
فالعلماء الصادقون الناصحون هم مصابيح الدجى، ومنارات الهدى بهم يهتدي السالكون إلى فهم شريعة الله والعمل بها ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْر إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾؛ وبهم يفتح الله قلوبا غُلفا وأعينا عميا وآذانا صمًّا؛ هم ركن الملة، وعضد الدين، وحرّاس شريعة رب العالمين؛ حفظ الله بهم القرآن، وصان بهم سنة خير الأنام.
ولَكَمْ كان خبرًا مفزعا ذلك الذي نعى إلينا أفول كوكبٍ ساطع في
1 / 22
السماء معدود من العلماء الأتقياء وبقية السلف الأذكياء؛ بوفاة العلامة المحدث حماد بن محمد الأنصاري.
فو الله إن القلبَ ليحزن، وإن العينَ لتدمع على فوات أولئك الأعلام؛ فبالأمس القريب فجع العالم الإسلامي بوفاة علمين جليلين هما: شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق، وفضيلة الشيخ محمد الغزالي؛ وقدّر اللهُ وفاتهما في أسبوع واحد ليعظم المصاب بفقدهما؛ وقبلهما فقدت الكويت فقيهها الأول العالم الجليل محمد بن جراح؛ ثم وفي الأسابيع القليلة الماضية فقدت الأمة حامي لغة القرآن وفارس العربية وإمام البيان العلامة محمود شاكر.
وهنا نحن اليومَ نصاب بمقتل، بوفاة مسند وقتِه، ومحدّث عصره الأنصاري؛ فإذا خلت الديار من أولئك الأحبار الأخيار فمن للعلم ومَن للفقه ومَن للحديث ومَن للغة ومَن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن عزائنا بحفظ الله لهذا الدين الذي ننتمي إليه لكبير، وإن رجاءنا في أن تنتج الأمة أمثال هؤلاء الأفذاذ لعظيم، وإن الأفق ليلوح بالبشائر والحمد لله.
وإن الواجب على الدعاة والمصلحين ألا يتخذوا من تلك النكبات عوائق، بل عليهم أن يوظفوا هذه الأقدار إلى عدة وعتاد يصنعون بها مستقبل أمتهم وينبنون أجيالًا في العلم والخلق راسخة، تحمل الأمانة وتواصل المسير بلا كلل أو سآمة؛ فلتكن سير أولئك الأعلام نماذج حية تعيش في قلوبنا ونقتدي بها في واقعنا وتشعل فينا جذوة الجلد والحرص على طلب العلم، وتوقظ فينا العزائم والهمم التي ربما ماتت لدى بعض طلاب العلم أو كادت.
إن حياة هؤلاء العلماء وتحصيلهم وصبرهم وجهادهم ثم وفاتهم لحجة قائمة على المتقاعسين الكسالى من طلاب العلم الذين طابت لهم الحياة، فركنوا إليها، وازينت لهم الدنيا فتكالبوا عليها، فلا تراهم يعبأون بضياع الأوقات، ولا
1 / 23
يكلفون بإهدار الجهود والطاقات فيما لا ينفع أو يجدي.
وإن مما يدعو إلى الأسى والحزن ما نراه من تغييب متعمّد لأولئك العلماء وسيرهم، بل وحتى وفاتهم عن واقع الإعلام المعاصر؛ فيا ليت شعري كيف يجازى أمثال هؤلاء الأعلام بهذا التجاهل المريب والصمت الغريب الذي ربما فاق صمت القبور في الوقت الذي توجع الأسماع وتشق الأبصار وتطمس الفضائل والآداب برسم القدوات الكافرة والشخصيات الماجنة المنح رفة وتخليد ذكراهم وسيرتهم، بل فجورهم وانحطاطهم.
أرأيتَ لو كان المتوفى مطرِبا لامعا ملأ الدنيا بفاحش القول ورخيص المعاني لوجدنا أن الإعلام الوفي لا يقرّ له قرار بل يندب ويصيح ويبدئ ويعيد في ذكراه، وربما أنفقت الأموال الطائلة من أجل السبق إلى إعداد برنامج خاص عن حياة المغني الفلاني.
أرأيت لو كان المتوفى فنانا ساقطا أو لاعبا فاشلًا في كل شيء إلا في اللعب، أو كاعبًا لعوبا على أدنى المستويات هل سيبخل الإعلام بساعة أو ساعات للإشادة بهذا الفالح العظيم؟، أم هل ستبخل الصحافة بالمساحات الواسعة من أجل تغطية هذه النكبة التي تمر بها الأمة من جرّاء وفاة أحد التافهين؟.
إن هذا غيضٌ من فيض الحضارة المادية وانقلاب المفاهيم الذي نعيشُه.
فحريٌّ بنا أن نقوم بواجبنا إزاء المخلصين من أبناء أمتنا من العلماء العاملين والدعاة المصلحين، فنعطّر التاريخ بسيرهم وأخبارهم، يتداولها الصغار والكبار، وتروى ولا تُطوى، وندوّنها في سجلّ الخالدين أمثلةً طاهرة نقية، يحتذى بها على مرّ السنين.
وختاما: نسأل الله العليَّ القدير أن يتقبل الفقيد بواسع رحمته، وأن يُعلي درجته، وأن يخلف له الخير في عقبه..، وأن يلهم أهلَه الصبر والاحتساب.. و﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ .
1 / 24
الأنصاري والحافظة العجيبة لمحمد المجذوب
ولاستكمال الصورة العلمية للشيخ نرى لزامًا أن نعرض للقارئ انطباعاتنا عن ثقافته بصورة أكثر تركيزًا؛ ففي رحلة جامعية صحبناه فيها إلى ينبع "على الساحل ما بين مكة والمدينة" وفي إحدى الندوات العلمية بالمخيّم استمعنا إلى فضيلته يحدّثنا عن فاتحة الكتاب.
وأشهد لقد تدفّق كالسيل الهادر يقذف أفانين الدرر.. فما تلكّأ ولا ارتج عليه، فكأنما يقرأ في كتاب، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من كنوز هذه السورة؛ فهو يتحف سامعيه من هذه الكنوز بما تتسع له المناسبة.
وربما أورد خلالَ حديث ما يتسع لأكثر من تفسير، فاكتفى بوجهة منه لا يقرّه عليه بعض الحضور، ولكنه لم يدع قلبًا هناك إلا ملأه رضىً وانفعالًا وإعجابًا.
وبعد عام أو أكثر حدّثني فضيلة الأستاذ محمد الصبَّاغ "المدرس في جامعة الرياض" عن مثل إعجابنا به؛ وذلك أنه سمعه يحاضر في مخيم الجامع عن معاني الفاتحة فسحر وبهر.
وقد لاحظت من خلال حديث الأستاذ الصبّاغ من خيّل إليّ أنني أقع على ميزة أخرى للشيخ حماد، هي قوة الحافظة التي تسعفه باستحضار كل ما يعلمه عن الموضوع الواحد في المناسبات المتباعدة؛ وهي ميزة يكاد ينفرد بها بعض المتفوقين من علماء الإسلام في أفريقية الغربية.. وهي بقية من الخصائص التي
1 / 25
عرفت في سلف هذه الأمة؛ حتى كان منهم من يحفظ نصف مليون حديث بأسانيدها.. وقصة الإمام البخاري مع علماء بغداد أشهر من أن تذكر في هذا الصدد.
وقد كان شيخنا محمد الأمين الشنقيطي صاحب "أضواء البيان" - تغمده الله بواسع برحمته - أنموذجًا عجيبًا لهذا الحفظ.
وقصارى القول في ثقافة الشيخ أنه واحد من بقية الجيل الذي نقل ولا يزال ينقل إلينا تراث الإسلام الحيّ وفق النظام التعليمي الذي امتاز به أهلُ العلم في حضارة الإسلام.
وبهذا كان أنموذجًا للرجل الذي وقف وجوده كله على خدمة العلم، فلا ينفكّ بين تحقيق لكتاب، واستنباط لحكم، واستقصاء لدليل.. حتى ليكاد ينسى حق نفسه.. بل حق أي فن آخر في هذا المضمار.
الشيخ الأديب: محمد المجذوب "رحمه الله تعالى".
1 / 26
عالمٌ فقدناه - بقلم الشيخ المحقق: محمد بن ناصر العجمي.
فجع العالم الإسلامي بعامة والحرَمان الشريفان بخاصة بوفاة شيخنا العلامة المتقن المحدّث حماد بن محمد الأنصاري. حيث وافاه أجله المحتوم بعض مرض ألمّ به منذ السنة الماضية؛ وقد صلي عليه في المسجد النبوي يوم الأربعاء ٢١ من جمادى الآخرة ١٤١٨هـ - الموافق: ٢٢/١٠/١٩٩٧م.
عرفتُ شيخنا العلامة حماد الأنصاري منذ أكثر من اثني عشر عامًا، وقد فتح مكتبته لطلاّب العلم، فما من طالب علم في المدينة النبوية أو قادم إليها من أهل العلم إلا وزار الشيخ حماد الأنصاري واستفاد من مكتبته العامرة بنفائس الكتب والمخطوطات، وكذلك طلاب الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية، بل وفي غيرها من الجامعات قلما يستغنون عن هذه المكتبة، وعن مشاورة صاحبها، فيفيدهم من فيض علمه الواسع، وينير لهم الطريق.
هذا، وقد رزق شيخنا الإطلاع الواسعَ على علم الحديث، ومعرفة صحيحه من سقيمه؛ وكان "﵀" وجهًا للسنة النبوية في المدينة المنورة؛ يشهد له بذلك أهل العلم والفضل: يقول المحدِّث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في معرض كلامٍ له: "مع اعترافي بعلمه وفضله وإفادته للطلبة وبخاصة في الجامعة الإسلامية؛ جزاه الله خيرًا". "الأحاديث الضعيفة" (٣/٣١٩) .
هذا فضلًا عن معرفته لعلوم أخرى كان مشاركًا فيها وعلى رأسِها علم التوحيد الذي كان من المبرزين فيه، كما كان "﵀" آيةً في الحرص على
1 / 27
المخطوطات وتتبّع أخبارِها وتصوير ما يمكن تصويره منها.
ولد "رحمه الله تعالى" بـ"تاد مكة" من بلاد "مالي" من عام ١٣٤٤هـ؛ وأخذ العلومَ في بلاده من مشايخ عدة، ثم رحل إلى الحرمين الشريفين، وأخذ عن علمائها؛ فأخذ في مكة عن العلاّمة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، والشيخ حسن المشّاط؛ واستجاز جماعةً من العلماء الواردين على مكة المكرمة كالشيخ المحدث عبد الشكور الهندي، والشيخ عبد الحق العمري، والشيخ محمد بن عيسى الفاداني، وعبد الحفيظ الفلسطيني، وغيرهم.
ودرَس "﵀" في دار العلوم الشرعية بالمدينة المنورة على الشيخ عمر بري، حيث درس عليه الفقه الحنفي و"صحيح مسلم" و"ديوان المتنبي" و"ألفية ابن مالك"؛ ودرس على الشيخ محمد بن تركي النجدي "الموطأ" للإمام مالك، و"المغني" لابن قدامة.
كما أن من الشيوخ الذين تركوا أثرًا في حياته: الشيخ محمد عبد الله بن محمود المدني "إمام المسجد النبوي"، والمفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ "رحم اللهُ الجميع".
عمل الشيخ حماد الأنصاري مدرسًا في المدرسة الصولتية بمكة المكرمة، ثم انتقل مدرّسًا إلى المعهد العلمي بالرياض سنة ١٣٧٤هـ، ثم في معهد إمام الدعوة سنة ١٣٧٥هـ، ثم انتقل إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام ١٣٨٥هـ؛ وقد حضر عنده الطلبة صغارهم وكبارهم إلى أن بلغ سن التقاعد عام ١٤٠٧هـ.
أما عن مؤلفات الشيخ حماد فليست على قدر علمه وإفادته للطلبة؛ فمن مؤلفاته:
1 / 28