Al-Mahsool fi Sharh Safwat Al-Usul
المحصول في شرح صفوة الأصول
خپرندوی
دار البرازي (سوريا)
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٣٧ ه
د خپرونکي ځای
دار الإمام مسلم (المدينة المنورة)
ژانرونه
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ أما بعد:
فقد منَّ الله بدرس أسبوعي في شرح متن (صفوة أصول الفقه) للعلَّامة عبد الرحمن بن سعدي ﵀، وقد كنت أُمليه، فقام أحد أخواننا الأفاضل بكتابته وتوثيق النقولات، فراجعته بعد ذلك على عُجالة، وأسميته:
المحصول في شرح صفوة الأصول
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن يتقبله وهو الرحمن الرحيم، وأن يغفر للإمام العلامة ابن سعدي ﵀.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
د. عبدالعزيز بن ريس الريس.
١٦/ ١١ / ١٤٣٦ هـ
1 / 6
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد:
فإنَّ علم أصول الفقه: علم مهم ومفيد وسهل، وحاجة المجتهد إليه ماسَّةٌ.
وقبل البدء بالتعليق على هذه الرسالة، أقدِّم بمقدِّمات:
المقدِّمة الأولى:
أهمُّ علوم الآلة على الإطلاق هو علم أصول الفقه، وهو الشَّرط الأساس لكلِّ مجتهد، ولا يُتَصَوَّر مجتهد ليس ذا علم بأصول الفقه، ذكر هذا أبو المظفر السمعاني (^١)، والرازي (^٢)، والشوكاني (^٣).
المقدِّمة الثانية:
علم أصول الفقه علمٌ سهل؛ لأنَّه علم عمليٌّ والذي صَعَّبه في الغالب ما يلي:
_________
(^١) قواطع الأدلة (١/ ١٨).
(^٢) المحصول (٦/ ٢٥).
(^٣) إرشاد الفحول (٢/ ٢٠٩).
1 / 7
الأمر الأول: أنَّه أصبح أرض معركة بين المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة.
الأمر الثاني: أنَّه أُدخِل فيه كثير من المسائل النَّظرية التي لا يترتب عليها عمل.
الأمر الثالث: أنَّ بعض مَنْ كتب فيه كتب بأسلوب صَعْب، وكأنَّه كتَبَه مُسْوَدَّة، كابن قدامة في روضة النَّاظر، فإنَّه يكتب بعبارات مغلقة، وأحيانًا يُدخل مسألتين في مسألة.
المقدِّمة الثالثة:
ينبغي لدارس علم أصول الفقه أن يعتمد المسائل الأصولية بدليلها، وألَّا يتبنى المسائل تقليدًا؛ لأنَّ المسألة الأصولية الواحدة ينبني عليها مسائل فقهية كثيرة، ولأنَّ علم أصول الفقه أساسٌ لكلِّ مجتهد، فكيف يكون مجتهدًا وقد بنى اجتهاده على تقليد؟!.
المقدِّمة الرابعة:
أنَّ هناك فرقًا بين علم أصول الفقه، وعلم الفقه، وعلم القواعد الفقهية؛ فأصول الفقه هو الأساس وهو آلةُ معرفةِ الفقه، فمنه ينتج الفقه، فإذا كثرت المسائل الفقهية وأمكن جمعها في قاعدة بحيث ترجع هذه الأجزاء والمسائل الكثيرة إلى قاعدة كلية، فتُسمى هذه القاعدة حينئذٍ بالقواعد الفقهية، فالأصوليُّ يبحث في الأدلة الإجمالية فَيقرِّرُ أنَّ الأمر يقتضي الوجوب، ويذكر الدليل على ذلك، والفقيه يُطبِّق هذه المسائل الأصولية على المسائل الفقهية فردًا فردًا، فهو
1 / 8
محتاجٌ إلى الأدلة الإجمالية، وعلماء القواعد الفقهية يُلَخِّصُون هذه المسائل الكثيرة في قاعدة ترجِعُ إليها مسائل كثيرة، وتُسمَّى بالقاعدة الفقهية.
تنبيهان:
التنبيه الأول:
ينبغي لدارس القواعد الفقهية أن يُفرِّق بين القواعد المذهبية والقواعد التي ذُكرت بالنَّظر للدَّليل؛ فإنَّ كتب القواعد الفقهية المذهبية تَذْكُر القاعدة التي ترجع إليها مسائل المذهب، ولو لم يكن كاتبها مقتنعًا بهذه القاعدة من جهة الدليل.
التنبيه الثاني:
لا يصح أن تُرَدَّ الأدلة الشرعية بكلِّ ما يُدّعى أنَّها قاعدة فقهية، وكم رُدَّتْ الأدلَّة بمثل هذا، ذكر هذا ابن القيم (^١)، والشوكاني (^٢).
لذا ينبغي لمن أراد أن يتبنَّى قاعدة؛ أن يتبناها بعد النَّظر في دليلها، وكم رَدَّ أهل البدع من الماضين والمعاصرين، من الحَرَكِيين وغيرهم الأدلة الشرعية؛ بحُجَّةِ أنَّ معهم قاعدة.
_________
(^١) إعلام الموقعين (٢/ ٢٥٢).
(^٢) أدب الطلب ومنتهى الأدب (ص ١١٢ - ١١٣).
1 / 9
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال المصنِّف ﵀:
«الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه ..
اللهم صلَّ على محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد:
فإن أصول الفقه علم شريف مهم، يحصل بمعرفته لطالب العلم ملكة يقتدر بها على النظر الصحيح في أصول الأحكام، ويتمكن من الاستدلال على الحلال والحرام».
تقدم في المقدمة الأولى: أن علم أصول الفقه شرط أساس لكل مجتهد، ولا يصح أن يكون الرجل مجتهدًا إلا بعد دراسة علم أصول الفقه.
قَوْلُهُ: «ويستعين به على استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة، ويَعْرِفُ بذلك كيفية ذلك كلِّه وطريقه».
علم أصول الفقه يقوم على أُسُسٍ ثلاثة:
1 / 11
الأساس الأول: الأدلة الشرعية، والمراد بها الأدلة المُجْمَع عليها والمخْتَلَف فيها.
الأساس الثاني: كيفية التعامل مع هذه الأدلة، وذلك إذا تعارض عامٌّ وخاصٌّ فيقدَّمُ الخاصُّ .. وهكذا.
الأساس الثالث: حال المستفيد، وذلك بأن ينظر في شروط المجتهد، والمسائل التي يجتهد فيها، وينظر في حال المستفيد وغيره، ذكر هذه الأسس الثلاثة المرداوي (^١)، والسبكي (^٢).
قَوْلُهُ: «وهذا مختصر انْتَقَيْتُهُ من كتب أصول الفقه، اقتصرت فيه على المهم المحتاج إليه، واجتهدت في توضيحه؛ لأن الحاجة إلى التوضيح والبيان أشد من الحاجة إلى الحذف والاختصار».
جمع المؤلف ﵀ في هذا المتن بين أمرين:
الأول: الاقتصار على المهم المحتاج إليه.
الثاني: الاجتهاد في التوضيح والبيان، ولو ترتب على ذلك شيء من الإطالة، فإن التوضيح والبيان أهم من الاختصار والحذف.
_________
(^١) التحبير (١/ ١٨٠).
(^٢) الإبهاج في شرح المنهاج (١/ ٢٤).
1 / 12
قَوْلُهُ: «وأرجو الله تعالى الإعانة والسداد، وسلوك أقرب طريق يوصل إلى الهدى والرشاد بمنه وكرمه. آمين.».
هذا ما فَعَلَهُ المؤلِّف في هذه الرسالة النافعة، فإنَّها مع اختصارها قد جمعت مسائل كثيرةً عمليةً.
قَوْلُهُ: «اعلم أنَّ أصول الفقه هي: الأدلة المُوصِلة إليه، وأصلها الكتاب والسنة والإجماع والقياس».
سيذكر المصنف هذه الأدلة والمسائل المتعلقة بها.
واشتهر تعريف علم أصول الفقه بتعريفات ترجع إلى أنَّه: معرفة الأدلة الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد.
تنبيه:
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رَدِّه على المناطقة أنَّ مما عند المناطقة من الأخطاء: أنَّهم يُغَالُون في الاشتِغَال بالتَّعاريف والحدود، ثُمَّ ذكر أنَّ كثيرًا من المتأخرين من الفقهاء وقَعُوا في هذا، واشتغلوا بالتَّعاريف، بخلاف الفقهاء الأولين، كمالك والشافعي وأحمد.
لذا من الخطأ أن يُشتغل بالتَّعاريف. هذا معنى كلامه (^١).
_________
(^١) ينظر: مجموع الفتاوى (٩/ ٤٥) وما بعده.
1 / 13
وقد يقال: إنَّه يصِحُّ الاجتهاد في التَّعاريف في حالة، وهو إذا كان التعريف ضابطًا وقاعدة، فليس الاجتهاد فيه؛ لأنَّه تعريفٌ وحَدٌّ، وإنَّما لأنَّه قاعدة.
قَوْلُهُ: «والأحكام الشرعية خمسة».
اشتهر تسمية هذه الأحكام الخمسة بالأحكام التكليفيَّة، وهذه التَّسمية فيها نَظَرٌ، وأصلها من المعتزلة، وقد أنكرها شيخ الإسلام ابن تيمية (^١)، وابن القيم (^٢)، وسيأتي بيان هذا أكثر عند التعليق على رسالة ابن عثيمين ﵀ في أصول الفقه.
والأصوليُّون يَجعلون الأحكام الشرعية قسْمَين:
الأوَّل: أحكام تكليفيَّة.
الثاني: أحكام وضعيَّة.
والأحكام التكليفية هي الأحكام الخمسة المشهورة.
قَوْلُهُ: «الواجب وهو: ما أُثيبَ فاعله وعوقب تاركه».
الذي ينبغي معرفته في الواجب: أنَّه ما طلبت الشريعة فعله، بحيث إذا لم يُفعل أثم صاحبه، ولا ينبغي أن يُشتغل بتعريف الواجب، وإنما يُكتفى بفهم معناه.
_________
(^١) مجموع الفتاوى (١/ ٢٥).
(^٢) إغاثة اللهفان (١/ ٣١).
1 / 14
وأيضا - والله أعلم - لا ينبغي أن يُدَقَّق فيُقال في تعريفه: ما أثيب فاعله، أي: امتثالًا، وعوقب تاركه، أي: استحقاقًا؛ لأنَّ هذا تحصيل حاصل.
ثم إنَّ كلَّ ما يدلُّ على الواجب فهو من الدَّلائل الدَّالة على الوجوب، فكلُّ ما دلَّت الأدلة على أنَّ تركه إثم فهو واجب.
وذلك مثل قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾، فالصلوات الخمس المفروضة واجبة.
قَوْلُهُ: «والحرام يقابِلُه».
أي: يقابل الواجب، فكلُّ ما دلَّت الشريعة على أنَّ فعلَه إثمٌ فهو مُحرَّم، وكلُّ ما دلَّ على ذلك من الدلائل والصيغ فهو مما يدُلُّ على المُحرَّم، وسيذكر المصنِّفُ شيئًا من ذلك كالنَّهي.
وذلك مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾، فالزنا مُحرَّم.
قَوْلُهُ: «والمسنون وهو ما أُثِيبَ فاعلُه ولم يُعاقَب تاركُه».
المسنُونُ: هو كلُّ ما أثابت الشريعة على فعله، ولو تُرِك لم يؤثم تاركه.
ويعرف المسنون: بكلِّ فعلٍ امْتَدَحَتْهُ الشريعة بأيِّ دلالة، ولو تُرِكَ هذا الفعل لم يأثم تاركه، كأن تَذْكُر فضلَ فِعلٍ، أو تَجعلَه مِن شعب الإيمان .. وهكذا.
1 / 15
وذلك مثل: صلاة السنن الرواتب؛ لما أخرج مسلم (٧٢٨) عن أم حبيبة ﵂ قالت: سمعت رسول الله ﷺ، يقول: «مَنْ صلَّى اثنتي عشرة ركعة في يومٍ وليلةٍ، بُني له بِهِنَّ بيتٌ في الجنة».
قَوْلُهُ: «وضِدُّه المكروه».
أي: ضِدُّ المسنون المكروه، وهو: كلُّ فعلٍ أَثابت الشريعة على تَرْكِه، ولو فعله المسلم المكلف لم يأثم، وكلُّ ما يدُلُّ على ذلك فهو مكروه.
وذلك مثل: الشرب قائمًا؛ لما أخرج مسلم (٢٠٢٤) عن أنس ﵁، عن النبي ﷺ: «أنَّه نَهى أن يشرب الرجل قائمًا».
قَوْلُهُ: «والمباحُ ما لَا يتعلَّقُ بِهَ مدْحٌ ولا ذمٌّ».
أي: المباح وسط لم تطلب الشريعة فعله ولا تركه.
وذلك مثل النَّوم فإنَّه مباح.
وينبغي أن يُتنبه فيما يتعلق بالأحكام إلى أمور:
الأمر الأول: أنَّ العبادة هي: فعلُ ما يُحبُّه الله أو تركُ ما يُحبُّ الله تركه، وهذا معنى قول ابن تيمية أنَّها: «اسم جامعٌ لِكلِّ ما يُحبُّه الله ويرضاه من
1 / 16
الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة» (^١)، وهو معنى قوله في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: «أنَّ العبادات لا تكون إلَّا واجبة أو مستحبة» (^٢).
فعلى هذا التعبُّدُ بالمباح لذاته بدعة، ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية (^٣)، ولا يُتعبد بالمباح إلا إذا استُعِينَ به على طاعة الله، ذكر هذا ابن تيمية (^٤)، وابن القيم (^٥).
وقد جاء في صحيح البخاري (٤٣٤١) عن معاذ ﵁ قال: «أحتَسِبُ نَومَتي كما أحتسب قَوْمَتي».
الأمر الثاني: إنَّ من تحريف الكلِم أن تُفسّر الأدلة الشرعية بالاصطلاحات الحادثة، ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية (^٦)، وابن القيم (^٧)، وعلى هذا أمثلة:
_________
(^١) مجموع الفتاوى (١٠/ ١٤٩).
(^٢) (ص ٢٠٠).
(^٣) الاستقامة (٢/ ٣١٠)، مجموع الفتاوى (٢٧/ ٣٣٥)، وانظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص ٢٥).
(^٤) مجموع الفتاوى (١٠/ ٥٣٣ - ٥٣٥).
(^٥) إعلام الموقعين (٢/ ١٢٢).
(^٦) قاعدة جليلة (ص ١٦٤).
(^٧) الصواعق المرسلة (٢/ ١٠٢).
1 / 17
المثال الأول: إنَّ معنى الواجب اصطلاحًا هو ما تقدَّم ذكره، أما شرعًا فيطلق على المعنى الاصطلاحي وعلى السنَّة المؤكدة، قال ﷺ: «غسل يوم الجمعة واجبٌ على كلِّ مُحتلم». والمراد بالوجوب في هذا الحديث السنَّة المؤكدة، ذكر هذا ابن المنذر (^١)، وابن عبد البر (^٢)، ويُطلق الواجب أيضا على المعنى الاصطلاحي، وذلك كما في صحيح مسلم (٤١٢) لما سُئل الرَّسول ﷺ عن الحجِّ في كلِّ عامٍ؟ فقال ﷺ: «لو قلت نعم لَوَجَبَت ولما استطعتم».
المثال الثاني: لفظ المكروه، له معنى اصطلاحي تقدَّم ذكره، أما شرعًا فيطلق بمعنى التحريم غالبًا، كقوله تعالى: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾. قاله ابن القيم.
ويُطلق بمعنى الكراهة الاصطلاحية، وذلك كحديث المهاجر بن قنفذ ﵁ أن الرسول ﷺ قال: «إنِّي كَرِهْتُ أن أذكرَ الله ﷿ إلَّا على طُهْرٍ. أو قال: على طَهَارة» أخرجه أبو داود (١٧).
المثال الثالث: الرُّخصة، لها معنى اصطلاحي سيأتي، لكن لابدَّ في المعنى الاصطلاحي للرخصة أن تكون مسبوقة بِحَظْرٍ، وهذا بخلاف المعنى الشرعي، فإنها بمعنى السُّهولة واليُسر، ولا يلزم أن تكون مسبوقة بحظرٍ.
_________
(^١) الأوسط (٤/ ٤٢).
(^٢) التمهيد (١٠/ ٧٩)، حيث قال: «وقد أجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على أن غسل الجمعة ليس بفرض واجب».
1 / 18
قال ابن القيم: «وقولُكم إنَّ الرُّخصة لا تكون إلا بعد النهي باطلٌ بنفس الحديث، فإنَّ فيه رَخَّصَ رسول الله في القبلة للصَّائم، ولم يتقدَّم منه نهي عنها، ولا قال أحد إنَّ هذا التَّرخِيص فيها ناسخ لمنعٍ تَقدَّم» (^١)، وبمثله قال الصنعاني (^٢).
قَوْلُهُ: «وإذا وردَ الأمر في الكتاب والسنَّة فالأصل أنَّه للوجوب».
دلَّ على هذا الأدلة وإجماع الصحابة، أما الأدلة فقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وأما إجماع الصحابة فقد حكاه أبو يعلى (^٣)، وابن قدامة (^٤)، والعلائي (^٥).
وذلك مثل قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ فإنَّه أمر، والأصل في الأمر أنَّه يقتضي الوجوب، ولا صارف.
قَوْلُهُ: «إلا بقرينةٍ تصرِفُه إلى النَّدب».
وذلك مثل: صلاة الوتر فقد أمر بها الرسول ﷺ، أخرج الخمسة عن علي ﵁ أنَّ الرسول ﷺ قال: «أوتروا يا أهل القرآن؛ فإنَّ الله وتر يحبُّ الوتر» (^٦).
_________
(^١) تهذيب السنن (٦/ ٣٦٤، عون المعبود).
(^٢) سبل السلام (٢/ ٥٠٩).
(^٣) العدة (١/ ٢٣٥).
(^٤) روضة الناظر (١/ ٥٥٦).
(^٥) تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد (ص ١٢٩).
(^٦) أخرجه أحمد (٢/ ٢٢٣)، وأبو داود (١٤١٦)، والترمذي (٤٥٣)، والنسائي (١٦٧٥)، وابن ماجه (١١٦٩).
1 / 19
فهذا أمر للاستحباب؛ لأنَّ له صارفًا، وهو ما أخرجه الشيخان (^١) عن ابن عباس ﵁ في قصة إرسال الرسول ﷺ معاذًا ﵁ لليمن وفيه: «أنَّ الله افترض عليهم خمس صلوات في كلِّ يومٍ وليلة»، فكلُّ صلاة متعلقة باليوم والليلة غير الخمس المفروضات فهي للاستحباب ومنها صلاة الوتر.
قَوْلُهُ: «أو الإباحة إذا كان بعد الحظر غالبًا».
أي: أنَّ الأمر بعد الحظر يرجع إلى حكم الأمر قبل الحظر، عزا شيخ الإسلام ابن تيمية هذا إلى السلف والأئمة (^٢)، ورجَّحه ابن كثير (^٣)، وابن رجب (^٤)، والشنقيطي (^٥).
فقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ هذا أمر بعد حظر؛ وذلك أنَّ الاصطياد مباح، فلما أَحْرَم المسلم صار محرَّمًا، فلما تحلَّل أُمِر به، فرجع إلى حكمه إلى ما قبل الحظر، أي: قبل الإحرام وهو الإباحة، ولَعلَّ قول المصنف هنا: «غالبًا»: يريد أنَّه يرجع إلى حكمه قبل الحظر غالبًا، كما أشار لذلك في تعليقاته على هذه الرسالة.
_________
(^١) أخرجه البخاري (١٤٩٦)، ومسلم (١٩).
(^٢) الرد على الإخنائي (ص ٩٢).
(^٣) تفسير ابن كثير (١/ ٥٨٧).
(^٤) فتح الباري (٢/ ٦٢).
(^٥) أضواء البيان (١/ ٣٢٧ - ٣٢٨).
1 / 20
تنبيه:
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ هذا على وجه التهديد لا على التخيير، وقد دَرَجَ على هذا العلماء والمفسرون، فمن استدل به على جواز ترك دين الاسلام إلى غيره فقد تزنَّدق؛ ويدلُّ لذلك سياق الآية، فإنَّه قال بعد ذلك ﴿... إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا﴾ فهو سِياق تهديد.
قَوْلُهُ: «والنَّهي للتَّحريم إلا بقرينة تصرفه إلى الكراهة».
ومن القرائن أنَّه إذا نهى الرسول ﷺ عن أمرٍ ثم خالفه وفعله، أو أَقَرَّ أحدًا خالفه، فإنَّ النَّهي ينتقل من التحريم إلى الكراهة، وذلك مثل نهي الرسول ﷺ عن الشرب قائمًا، أخرجه مسلم (٢٠٢٤) عن أنس ﵁، ثُمَّ فعله وشرب من زمزم وهو قائم، أخرجه البخاري (٥٦١٥) عن ابن عباس ﵁، فدلَّ هذا على أن النَّهي للكراهة لا للتَّحريم.
قَوْلُهُ: «ويتعين حمل الألفاظ على حقائقها دون ما قالوا أنَّه مجاز».
هذا مبنيٌّ على أنَّ في الكلام مجازًا، وتُفهَم هذه القاعدة بمعرفة معنى المجاز، وهو ما جمع أركانا أربعة:
الركن الأول: الوضع الأول، وهو الوضع الحقيقي.
الركن الثاني: الوضع الثاني، وهو الوضع المجازي.
1 / 21
الركن الثالث: القرينة، وهي التي منعت حمل الكلام على المعنى الحقيقي، وكانت سببًا لحمله على المعنى المجازي.
الركن الرابع: العلاقة بين الوضع الأول والوضع الثاني.
فإذا قال قائل: رأيت أسدًا على فرسٍ شاهرًا سيفه. فيُقال: الوضع الأول للأسد هو: الحيوان المعروف، والوضع الثاني للأسد هو: الرجل الشجاع، والقرينة التي منعت حمله على الوضع الأول، وأوجبت حمله على الوضع الثاني هي: أنه على فرسٍ شاهرٌ للسيف، وهذا لا يكون في الحيوان المفترس، فلا بدَّ أن يُحمل على الرجل الشجاع.
أما العلاقة: فهي القوة والإقدام؛ لذا أُطلِق على الرجل الشجاع أنَّه أسد، هذا خلاصة معنى المجاز.
وقد أجمع العلماء على أنه إذا لم يكن هناك قرينة توجِبُ حمل الكلام على المعنى المجازي، فإنَّ الكلام محمول على الوضع الأول وهو الحقيقي، حكاه إجماعًا ابن تيمية (^١) والرازي (^٢)، وغيرهما.
إذا تبيَّنَ هذا فإنَّه إذا حصل تردد في كلام هل يراد به المعنى المجازي أو الحقيقي، فإنَّ هذا الكلام يُحمل على المعنى الحقيقي، ومن أمثلة ذلك ما أخرجه
_________
(^١) مجموع الفتاوى (٦/ ٣٦٠).
(^٢) المحصول (١/ ٣٤١).
1 / 22
الشيخان عن ابن عمر وحكيم بن حزام ﵃ أنَّ الرسول ﷺ قال: «البيِّعان بالخيار مالم يتفرقا» (^١).
قال بعضهم: المراد بالتفرق هنا: التفرق المجازي، وهو: التفرق بالكلام، وقال بعضهم: المراد بالتَّفرُّقِ هنا: التَّفرُّق الحقيقي، وهو التَّفرُّق بالأبدان، فيحمل هذا الحديث على التَّفَرُّق الحقيقي؛ لأنَّه الأصل، وهو التفرق بالأبدان.
قَوْلُهُ: «وعلى عمومها دون خصوصها».
أي: أنَّ الأصل في الكلام أن يُحمل على عمومه، ولا يُخَصَّصُ إلَّا بدليل، فقوله سبحانه: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ هذا عامٌّ في كلِّ الإنسان، ولا يُخَصَّصُ منه أحدٌّ إلا بدليل.
وقول الرسول ﷺ: «عُمرة في رمضان حجة». أخرجه البخاري عن ابن عباس ﵁ (١٧٨٢)، هذا لفظ عامٌّ باقٍ على عمومه؛ لأنَّ لفظ «عمرة» نكِرةٌ في سياق الامتنان فتفيد العموم.
قَوْلُهُ: «وعلى استقلاله دون إضماره».
أي أنَّ الكلام يُحمل على صورته الظاهرة من غير تقدير محذوف، ولا يُقدَّرُ محذوف إلا بدليلٍ أو قرينةٍ، فقوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾. محمولٌ على الاستِقْلال،
_________
(^١) أخرجه البخاري (٢٠٧٩)، ومسلم (١٥٣٢).
1 / 23
دون تقدير محذوف أو إضمار، فمن قال: إنَّ المعنى: وجاء أمر ربك. فهذا خلاف الأصل، فلا يُعَوَّل عليه.
قَوْلُهُ: «وعلى إطلاقه دون تقييده».
الكلام فيه كالكلام في العموم، ومثاله: قوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ فإنَّ الأيام مطلقة، وكقوله تعالى: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ فإنَّ الأيام مطلقة أيضًا؛ لأنَّها نكرة في سياق الإثبات.
قَوْلُهُ: «وعلى أنَّه مُؤَسِّسٌ للحكم لا مُؤّكِّد».
أي: إذا حصل تردد في لفظ، هل هو مؤكد لغيره، أو مبتدأ لحكم لمعنى جديد، فإنَّه يُحمل على التأسيس والابتداء لمعنىً جديد؛ لأنَّ الأصل في كلِّ لفظ أنَّه دالٌّ على معنى جديد
وذلك كقوله ﷺ: «إنَّما الأعمال بالنِّية، وإنّما لكلِّ امرئ ما نوى» (^١)، فقد تنازع العلماء في قوله: «وإنّما لكلِّ امرئٍ ما نوى» هل هو مؤكِدٌ لمعنى «إنما الأعمال بالنية» أو مُؤَسِّسٌ لحكم جديد؟
على أصحِّ الأقوال: أنَّه مُؤَسِّسٌ لحكمٍ جديدٍ، وهو أنَّ معنى قوله: «إنَّما الأعمال بالنِّية» أي: أنَّ كلَّ عمل واقعٌ بإرادةٍ فهو بنيِّة، سواءٌ أَكان في أمور
_________
(^١) أخرجه البخاري (٦٦٨٩)، ومسلم (١٩٠٧)
1 / 24
الدين أم الدنيا، وقوله: «وإنّما لكل امرئ ما نوى» مبيِّنٌ للحكم الشرعي، إن أراد خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
قَوْلُهُ: «وعلى أنَّه متباين لا مُترادف».
أي: إذا اختُلِف في لفظين، هل الثاني مرادِفٌ للأول أو مغاير له ومختَلِف؟
فالأصل أن يُقال: إنَّه مختلف ومغاير له؛ لأنّ الأصل في كل لفظ أنَّ له معنى.
وذلك مثل: ما أخرجه مسلم (٤٣٢) عن أبي مسعود البدري ﵁ أن الرسول ﷺ قال: «لِيَلِني منكم أُولوا الأحلام والنُّهى».
تنازع العلماء هل أولوا النُّهى هم أولوا الأحلام أم بينهما فرق؟
والأصحّ أنَّ بينهما فَرْقًا؛ لأنَّ الأصل التباين، وأن يقال: إنَّ معنى أولي الأحلام أي: البالغون، ومعنى أولي النُّهى أي: أهل العقول، ذكر هذا ابن علان (^١)، وأشار لذلك السيوطي (^٢).
قَوْلُهُ: «وعلى بقائه دون نَسْخِه».
أي: إذا حصل تردُّد واختلاف: هل هذا الحكم منسوخ أم غير منسوخ، ومحمول على حال أخرى؟
_________
(^١) دليل الفالحين (٣/ ٢٠٦ - ٢٠٨).
(^٢) قوت المغتذي على جامع الترمذي (١/ ١٣٤ - ١٣٥).
1 / 25
فالأصل أن يُحمل على حال أخرى، ولا يُقال بالنسخ.
وذلك مثل: آيات القتال والسَّيف مع آيات الصبر، فلا يقال: إنَّ آيات السيف نَسخت آيات الصبر، بل يُقال آيات السَّيف في حال القوة وآيات الصبر في حال الضعف، ذكر هذا ابن جرير في تفسيره (^١)، وابن تيمية (^٢).
قَوْلُهُ: «إلَّا بدليل يدل على خلاف ما تقدم».
أي: إنَّه يُنتَقل إلى خلاف الأصل إذا وُجِد دليل أو قرينة.
قَوْلُهُ: «وعلى عُرف الشارع إن كان كلامًا للشارع».
المراد بالشارع: الله ورسوله، وَيُطلق الشارع على الله من باب الإخبار، ويُطلق على الرسول ﷺ، وقد دَرَج العلماء على ذلك من الأصوليين وغيرهم، واستعمل ذلك ابن تيمية.
والمراد بهذه القاعدة: أنَّه إذا ورد لفظ في كلام الشارع فيُحمل المعنى على عُرف الشارع، فمثلًا لفظ الشارع «لا ينبغي» يدلُّ على التَّحريم، بخلاف ألفاظ الناس.
_________
(^١). جامع البيان (٨/ ١٤٦) (١٨/ ٤٢٠)، وللفائدة يراجع كلام ابن كثير في تفسيره
(٤/ ٨٤).
(^٢). الجواب الصحيح (١/ ٢١٨).
1 / 26