Al-Kawakib Al-Durriya on the Bayquni Poem
الكواكب الدرية على المنظومة البيقونية
ژانرونه
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
مقدِّمة الشارح
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ... وبعد:-
فقد منّ الله - جلّ وعلا - ووفق لشرح (المنظومة البيقونيّة)، ضمن الدورة التي نظمها مكتب الدعوة والإرشاد في محافظة الزلفي لعام ١٤٢٩هـ.
في مسجد " بن القيم - رحمه الله تعالى - "، وقد شُرحت في أحد عشر مجلسًا، وقد كانت إملاءً، فرغب الأخ / عبد العزيز المسعود، بكتابتها وإخراجها لينتفع بها - إن كان فيها من فائدة ـ، وقد اقترح تسميتها بـ " الكواكب الدرّية على المنظومة البيقونيّة ".
هذا وأسأل الله ﷿ أن يجعل فيها خيرًا، ومن رأى فيها خللًا أو خطأً فليصلحه ويقوّمه، والله يجزيه الجزاء الأوفى.
وصلى الله وسلم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
مقدِّمة المعتني بالشرح
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وجعل ديننا من خير الأديان، فله الحمد أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، أحمده حمدًا لست أحصي له عدًّا هو كما أثنى على نفسه.
لك الحمد مولانا على كل نعمة ... ومن جملة النعماء قولي لك الحمد
فلا حمد إلا أن تمن بنعمة ... فسبحانك لا يقوى على حمدك العبد
والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على من بعثه الله رحمة للعالمين، هاديًا وبشيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا. ... وبعد:
فإليك أخي القارئ، " الكواكب الدرّية على المنظومة البيقونية "، وهي شرحٌ لشيخنا الفاضل / سليمان بن خالد الحربي، حفظه الله، وجعل الجنّة مثواه، وسدّده في دنياه وأخرآه.
رأيت إخراجه إلى النور ليستفيد منه القراء، بعد أخذ الأذن منه، لعلّه أن يكون أساسًا وسلّمًا يرتقي من خلاله طالب العلم لعلم المصطلح، ومما يمتاز به شرح شيخنا التحرير في المسائل، وقد جاء على وفق منهج المتقدمين وتحريرات المتأخرين.
1 / 1
فاستعنت بالله على إخراجه، فأعان وأتم، وقد رغب بعض الأفاضل في إخراجه مبكرًا، لينتفع به القراء في هذه الإجازة، وإلا فإن رغبتي في إخراجه أفضل مما هو عليه الآن في عزو المسائل والأقوال وغير ذلك من التحرير والتدقيق، فإن كان من صواب فمن الله وحده فله الحمد أولًا وآخرًا، وقد تجد أخي القارئ بين ثنايا السطور أخطاءً، إما مطبعيّة أو غيرها، فلا غرو إذ الأصل فيمن خلق من عجل الخطأ والزلل.
إن تجد عيبًا فسد الخللا ... جلّ من لا عيب فيه وعلا
واللهَ أسأل أن يجعل هذا العمل المتواضع خالصًا لوجهه الكريم.
وصلى الله وسلم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
متن المنظومة البيقونية
(بسم الله الرحمن الرحيم)
أبدأُ بالحمدِ مُصَلِّيًا على ... مُحمَّدٍ خَيِر نبيْ أُرسلا
وذِي مِنَ أقسَامِ الحديث عدَّة ... وكُلُّ واحدٍ أتى وحدَّه
أوَّلُها "الصحيحُ" وهوَ ما اتَّصَلْ ... إسنادُهُ ولْم يَشُِذّ أو يُعلّ
يَرْويهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ عَنْ مِثْلِهِ ... مُعْتَمَدٌ في ضَبْطِهِ ونَقْلهِ
وَ"الَحسَنُ" الَمعْرُوفُ طُرْقًا وغَدَتْ ... رِجَالُهُ لا كالصّحيحِ اشْتَهَرَتْ
وكُلُّ ما عَنْ رُتبةِ الُحسْنِ قَصُر ... فَهْوَ"الضعيفُ"وهوَ أقْسَامًا كُثُرْ
وما أُضيفَ للنبي " الَمرْفوعُ " ... وما لتَابِعٍ هُوَ " المقْطوعُ "
وَ"الُمسْنَدُ" الُمتَّصِلُ الإسنادِ مِنْ ... رَاويهِ حتَّى الُمصْطفى ولْم يَبنْ
ومَا بِسَمْعِ كُلِّ رَاوٍ يَتَّصِل ... إسْنَادُهُ للمُصْطَفى فَ"الُمتَّصلْ"
"مُسَلْسَلٌ" قُلْ مَا عَلَى وَصْفٍ أتَى ... مِثْلُ أمَا والله أنْبأنِي الفتى
كذَاكَ قَدْ حَدَّثَنِيهِ قائِمًا ... أوْ بَعْدَ أنْ حَدَّثَنِي تَبَسَّمَا
" عَزيزٌ " مَروِيُّ اثنَيِن أوْ ثَلاثهْ ... "مَشْهورٌ" مَرْوِيُّ فَوْقَ ما ثَلاثهْ
"مَعَنْعَنٌ " كَعَن سَعيدٍ عَنْ كَرَمْ ... "وَمُبهَمٌ " مَا فيهِ رَاوٍ لْم يُسَمْ
1 / 2
وكُلُّ مَا قَلَّت رِجَالُهُ " عَلا " ... وضِدُّهُ ذَاكَ الذِي قَدْ "نَزَلا "
ومَا أضَفْتَهُ إلى الأصْحَابِ مِن ... قَوْلٍ وفعْلٍ فهْوَ "مَوْقُوفٌ" زُكنْ
"وَمُرْسلٌ " مِنهُ الصَّحَابُّي سَقَطْ ... وقُلْ "غَريبٌ" ما رَوَى رَاوٍ فَقطْ
وكلُّ مَا لْم يَتَّصِلْ بِحَال ... إسْنَادُهُ "مُنْقَطِعُ " الأوْصالِ
"والُمعْضَلُ " السَّاقِطُ مِنْهُ اثْنَان ... ومَا أتى "مُدَلَّسًا " نَوعانِ
الأوَّل الإسْقاطُ للشَّيخِ وأنْ ... يَنْقُلَ مَّمنْ فَوْقَهُ بعنْ وأنْ
والثَّانِ لا يُسْقِطُهُ لكنْ يَصِفْ ... أوْصَافَهُ بما بهِ لا يَنْعرِفْ
ومَا يَخالِفُ ثِقةٌ فيهِ الَملا ... فالشَّاذُّ والَمقْلوبُ قِسْمَانِ تَلا
إبْدَالُ راوٍ ما بِرَاوٍ قِسْمُ ... وقَلْبُ إسْنَادٍ لمتنٍ قِسمُ
وَ" الفَرَدُ " ما قَيَّدْتَهُ بثِقَةِ ... أوْ جْمعٍ أوْ قَصِر على روايةِ
ومَا بعِلَّةٍ غُمُوضٍ أوْ خَفَا ... " مُعَلَّلٌ " عِنْدَهُمُ قَدْ عُرِفَا
وذُو اخْتِلافِ سنَدٍ أو مَتْنٍ ... " مُضْطربٌ " عِنْدَ أهيْلِ الفَنِّ
وَ"الُمدْرَجاتُ" في الحديثِ ما أتَتْ ... مِنْ بَعْضِ ألفاظِ الرُّوَاةِ اتَّصَلَتْ
ومَا رَوى كلُّ قَرِينٍ عنْ أخهْ ... " مُدَبَّجٌ" فَاعْرِفْهُ حَقًّا وانْتَخهْ
مُتَّفِقٌ لَفْظًا وخطًا " مُتَّفقْ " ... وضِدُّهُ فيما ذَكَرْنَا " الُمفْترقْ "
" مُؤْتَلِفٌ " مُتَّفِقُ الخطِّ فَقَطْ ... وضِدُّهُ "مُختَلِفٌ" فَاخْشَ الغَلَطْ
"والُمنْكَرُ" الفَردُ بهِ رَاوٍ غَدَا ... تَعْدِيلُهُ لا يْحمِلُ التَّفَرُّدَا
"مَتُروكُهُ" مَا وَاحِدٌ بهِ انفَردْ ... وأجَمعُوا لضَعْفِه فَهُوَ كرَدّ
والكذِبُ الُمخْتَلَقُ المصنُوعُ ... علَى النَّبيِّ فذَلِكَ " الموْضوعُ "
وقَدْ أتَتْ كالَجوْهَرِ المكْنُونِ ... سَمَّيْتُهَا: (مَنْظُومَةَ البَيْقُوني)
فَوْقَ الثَّلاثيَن بأرْبَعٍ أتَت ... أقْسامُهَا ثمَّ بخيٍر خُتِمتْ
شرح المنظومة البيقونيّة
1 / 3
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين
(المنظومة البيقونية)
اعتنى أهل العلم في نظم العلم وتيسيره للطلبة اعتناء شديدًا، لأنهم وجدوا أن النظم يسهل التحصيل، ويسرع في فهم الطالب ويكون هذا العلم مستقرا في عقله وذهنه من خلال حفظه لهذه المنظومة، والأمام البيقوني - رحمه الله تعالى ـ، لم تسعف التراجم في ترجمة أو التعريف به فلا يكاد يوجد له ترجمة كما هي في تراجم غيره ممن ألف ونظم حتى إنهم ﵏ اختلفوا في اسمه والاختلاف هذا أيضا ليس عن يقين منهم من قال أن اسمه طه بن محمد ومنهم من قال أنه عمر بن محمد، وأنه موجود في القرن الحادي عشر في عام ١٠٨٠هـ، معلومات فقط هكذا، ليس هناك معلومات واضحة عن هذا الإمام وقد اجتهد بعض أهل العلم بقوله، بأن الأمام البيقوني حرص أن يخفي نفسه وألا يعرف بنفسه.
وهذا غير صحيح، وإن ذكره أكابر الشراح إلا أن هذا غير صحيح أن العالم يحاول أن يخفي نفسه فلا يعرف، العلم دين كيف يخفي نفسه؟! ولكن قدر الله جل وعلا هو ألا يوجد له ترجمة وألا يعرّف به وكثير من أهل العلم تراجمهم قليلة فليس هذا مقصد من الإمام البيقوني - رحمه الله تعالى - أن يخفي نفسه، هذا لا يمكن أن يكون غرضًا لهذا الإمام، ومن أظهر نفسه غير مخالف للإخلاص ليس معنى أن يعرّف نفسه أو يكتب ترجمة أن هذا مخالف للإخلاص كلا بل إنه يظهر نفسه من أجل أن يعرف، ويعرف عمن أخذ العلم، لكن هذا هو قدر الله.
وهذا فيه عدة فوائد نستفيدها من كوننا لا نعرف البيقوني:-
1 / 4
الفائدة الأولى: أن طالب العلم لا يحتقر نفسه ولا عمله، فالإمام البيقوني - رحمه الله تعالى - ليس له من العلم إلا أنه نظم بضعة وثلاثين بيتا في علم المصطلح، فقيض الله جل وعلا لها انشراح، فالشراح أكثروا من شرحها، سواء من القدماء أو من المعاصرين، لا أكاد أعلم أحد يهتم بعلم الحديث في هذا الوقت المعاصر إلا وشرح هذه المنظومة، أكاد أجزم بهذا الأمر أن كل من يهتم بعلم الحديث أن يكون قد مرّ على هذه المنظومة وشرحها لطلابه وهذا تيسير، فكم من الحسنات تجري لهذا الإمام الذي توفي ولا يعرف فلا يحتقر الإنسان نفسه لا يقول هذا الموضوع فيه عشرات الكتب، فالمنظومات كثيرة في علم المصطلح فالبيقوني لم يحتقر نفسه ولا شك أن عنده الاستطاعة كما في هذا النظم العظيم ومع ذلك انظر كيف طرح الله البركة فيها، فشرحها جمع غفير.
الفائدة الثانية: أن طالب العلم عليه أن ينوع في طريقة إيصال العلم، هذا الإمام البيقوني - رحمه الله تعالى - نظمه يدل على أنه يستطيع أن يؤلف مسألة حديثيّة وأن يؤلف مسألة فقهية وأن يؤلف مسألة أصولية من ظاهر نظمه.
فعلى طالب العلم أن ينوع، فاختصار الكتب علم، فتأتي إلى كتاب لابن تيمية أو كتاب للشيخ ابن عثيمين أو كتاب للشيخ عبد العزيز بن باز - رحمهم الله تعالى - أو كتاب للإمام الشافعي أو كتاب للإمام مالك أو أي مؤلف كتب الله له القبول لمؤلِّفه ومؤلَّفه، تأتي إليه فاختصره، كم من كتاب بقي لنا الآن المختصر ولم يبق لنا الأصل.
1 / 5
أرأيتم ذلك المختصِر لكتاب " اختلاف العلماء " للطحاوي - رحمه الله تعالى - من أعظم كتب الإسلام جاء عالم في القرن الرابع وهو أبو بكر الجصّاص الرّازي - رحمه الله تعالى - فاختصره، فلو أنه قال لنفسه وماذا يفيد اختصاري والناس تريد المطولات، فقد ضاع الكتاب الأصل، ولا يعرف ولا توجد له مخطوطة سنين طويلة، ولم يتناقل إلا هذا المختصَر فهذا شرف لهذا المختصر ويجري له حسنات كما يجري لصاحب الأصل، والأشبيلي اختصر كتاب الخلافيات للإمام البيهقي، ولم يوجد منه إلا قطعة قليلة بعض أحكام العبادات، والأصل ضاع، فجاء الإشبيلي واختصر هذا الأصل فأبقى الله مختصر الإشبيلي ولم يبقِ هذا الأصل.
ولهذا أنصح بعض الأخوة عندما يأتي لبعض الكتب الكبيرة للعلماء الكبار تجد بعض الناس لا تقوى رغبته أن يقرأ هذا الكتاب، فإذا لم يجد مختصرا له سيقرؤه.
ولهذا أكثر كتب بن تيمية مختصرة منها:-
١) منهاج السنة مختصر في أكثر من مختصر.
٢) كتاب النبوات مختصر.
٣) كتاب اقتضاء الصراط المستقيم.
٤) كتاب الفتاوى مختصرة، وكتب كثيرة.
وابن القيم – رحمه الله تعالى – له كتب مختصرة. فلماذا العلماء يختصرون الكتب؟ من أجل أن العلماء عرفوا أن طالب العلم أحيانا قد يكسل.
فالعقيدة السفّارينيّه لابن عثيمين ٧٠٠ صفحة لو جاء طالب واختصر هذه العقيدة، قد يكسل بعض الناس أن يقرأ السفارينيه، وهي لإمام موثوق، فلو جاء شخص واختصر هذا الكتاب لنفع الله به، الشاهد أن نأخذ فوائد في أن طالب العلم لا يحتقر نفسه في طريقة التأليف.
«تمهيد»
قبل أن نبدأ في هذا العلم هناك عشرة مبادئ لكل علم لابد من معرفتها، عندما تريد أن تدخل في كل علم لابد أن تعرف مبادئ العلم، جمعها الأخضري ﵀ في قوله:
إن مبادي كل علم عشرة ... الحد والموضوع ثم الثمرة
ونسبةٌ وفضله والواضع ... والاسم الاستمداد حكم الشارع
1 / 6
مسائل والبعض بالبعض اكتفى ... ومن درى الجميع حاز الشرفا
فكل علم نريد أن ندخل عليه لابد أن نذكر هذه الأبيات هذا موضوع العلم كأنه الفهرس لهذا العلم.
قال الأخضري ﵀:-
إن مبادي كل علم عشرة ... الحد والموضوع ثم الثمرة
الحد: أي تعريفه، ما هو تعريف هذا العلم؟
فما هو علم الحديث؟ وما هو حده؟ هو علم بقوانين يعرف من خلالها حال الراوي والمروي، أو إن شئت قل: حال السند والمتن، فمن دخل في هذا العلم سيعرف حال الراوي والمروي.
قال والموضوع: هو السند والمتن.
قال ثم الثمرة: ثمرة هذا العلم تمييز كلام رسول الله وتمحيصه.
ثم قال الأخضري - رحمه الله تعالى ـ:-
ونسبةٌ وفضله والواضع ... والاسم الاستمداد حكم الشارع
قال ونسبة:
ما هو نسبة علم الحديث إلى العلوم الأخرى؟
هو جزء منه، ما مقدار هذا الجزء، والعلاقة بينهما تباين من وجه وتضمن من وجه آخر.
فتباين: من حيث أن هذا علم له أبواب مختلفة عن علم الأصول وعن علم الفقه.
وتضمن: من حيث أن الإنسان لا يمكن أن يكون عالما حتى يعرف هذا العلم من العلوم.
ثم قال وفضله:
لاشك أنه من أشرف العلوم لتعلقه بكلام رسول الله ﷺ، فالتجويد نقول عنه هو من أشرف العلوم لتعلقه بكلام الله جل وعلا.
ثم قال والواضع:
من الذي وضع هذا العلم؟ هم الأئمة الأعلام كالإمام الشافعي والإمام مالك - رحمهم الله تعالى - وغيرهم فهؤلاء كلهم تكلموا في هذا العلم.
ثم قال والاسم:
ما هو اسمه؟ اسمه علم مصطلح الحديث أو علم الحديث أو علم الرواية هذه كلها من الأسماء.
ثم قال الاستمداد:
من أين يستمد هذا العلم؟ يستمد من كلام الأئمة من كلام أهل العلم، وليس من كلام اللغويين أو من كلام أهل الطب، وإنما يؤخذ من كلام أهل العلم.
ثم قال حكم الشارع:
1 / 7
ما حكم تعلم علم المصطلح؟ حكم تعلمه فرض كفاية، لأنه لا يمكن أن يمحص كلام رسول الله ﷺ حتى يعرف هذا العلم.
ثم قال الأخضري - رحمه الله تعالى ـ:
مسائل والبعض بالبعض اكتفى ... ومن درى الجميع حاز الشرفا
قال مسائل:
فمسائله تتعلق بالإسناد من حيث الاتصال والانقطاع والتدليس وما شابع ذلك، وتتعلق بالمتن من حيث القلب والشذوذ وهكذا.
ثم قال: والبعض بالبعض اكتفى: فبعض أهل العلم اكتفى عند تعريفه للعلم ببعض المسائل وقال بعضها يغني عن بعض.
ثم قال: ومن درى الجميع: أي من درى هذه الأشياء كلها وضبط المسائل.
قال: حاز الشرفا، والألف للإطلاق.
قال المؤلف - رحمه الله تعالى ـ:
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
الباء: حرف جر. والاسم: اسم مجرور، والجار والمجرور له متعلَّق محذوف مقدر: تقديره أبدأ أو أنظم، أنظم هذا النظم بسم الله.
وقولنا " أنظم " أفضل من أبدأ، لأن المؤلف - رحمه الله تعالى - قال: أبدأ بالحمد
فلا نستطيع أن نقول الآن، أبدأ بسم الله، ثم يأتينا مرة ثانية فيقول: أبدأ بالحمد.
فنقول: أبدأ بالنظم، أو أبدأ بفعلي ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم أبدأ النظم بالحمد، ولهذا بعض الشراح قال إنه لم يبسمل - رحمه الله تعالى - لأنه قال أبدأ بالحمد.
الله: لفظ الجلالة مشتق عند أهل السنة، بمعنى المألوه المحبوب المعبود، وأصل الله الإله، فحذفت الهمزة تخفيفا لأن العرب كلما أكثروا من كلمة وفيها همزة يحذفونها للتخفيف، فعندهم الهمزة ثقيلة وهي من حروف الشدة " أجد قط بكت "، فالهمزة شديدة، فحذفنا الهمزة فبقي الله - بتخفيف اللام - وعندنا قاعدة: أن لفظ الجلالة إذا سبقت اللام فيه بمفتوح تفخم اللام.
قال بن الجزري - رحمه الله تعالى ـ:
"وفخِّم اللام من اسم الله " ... .........................
فصارت الله - بتفخيم اللام ـ.
1 / 8
وهنا نكته في قوله " بسم الله ": فبعض الناس يظن أن الاسم هنا خاص، وعندنا قاعدة في علم الأصول: بأن الإضافة تفيد العموم، فقولنا بسم الله: أي أبدأ بأسماء الله كلها متبركا بها، لأن أسماء الله جل وعلا كلها مباركة، فما ذكر عند ذبيحة إلا أصبحت مباركة، ولا ذكر عند شرب إلا أصبح مباركا، ولا ذكر عند جماع إلا أصبح مباركا وهكذا.
الرحمن الرحيم: اسمان مشتقان لله جل وعلا، فالرحمن بمعنى الرحمة العامة، والرحيم بمعنى الرحمة الخاصة أو الواصلة.
قال المؤلف - رحمه الله تعالى ـ:
أبدأ بالحمد مصليا على ... محمد خير نبي أرسلا
أبدأ بالحمد: يقول المؤلف رحمه الله تعالى سأبدأ هذه المنظومة بالحمد أي أحمد الله فالحمد لله ليس لغيره.
والحمد: هو وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيما.
مصليا: حال، أي أبدأ وحالي مصليا، والصلاة هي: ثناء الله جل وعلا على عبده في الملأ الأعلى، كما قال أبو العالية - رحمه الله تعالى - في صحيح البخاري.
والمعروف عند أهل اللغة أن الصلاة بمعنى الرحمة ولهذا قالوا الصلاة من الله بمعنى الرحمة ومن الملائكة بمعنى الاستغفار، ومن المؤمنين بمعنى الدعاء.
وعندنا أن هناك إشكالا في قولهم " الصلاة من المؤمنين بمعنى الدعاء " وهو أن الدعاء لا يتعدى بعلى إلا عند الدعاء عليه فلا تقول مصليا على أي أدعو على ما يأتي وإنما أدعو لِـ، فتتعدى باللام وليست تتعدى بعلى.
هذا إشكال في قولهم بأن الصلاة بمعنى الدعاء وهناك إشكال على قول أبي العالية وهو أن قول أبي العالية قول لا يأتي إلا عن طريق الوحي فكونه يقول أن الصلاة بمعنى الثناء من الله على عبده بالملأ الأعلى، هذا يحتاج إلى دليل توقيفي، وأبو العالية لم ينسبه إلى الرسول، فهذا هو الإشكال وإن كان هذا رجحه بن القيم - رحمه الله تعالى ـ.
قال: محمد خير نبي أرسلا
1 / 9
نعم محمد هو خير الرسل وأفضلهم على الإطلاق وقد ثبت أن النبي ﷺ قال (أنا سيد ولد آدم) وإن كان هو نهى – تواضعًا – فقال (لا تفضلوني على الأنبياء) وفي رواية (لا تخيروني) وهذا منه تواضعا ﷺ، وإلا فإن الله ﷿ قال: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ الشرح٤.
فهذا خير الرسل - صلى الله عيه وسلم ـ، وهو التي تكون له الشفاعة العظمى ﷺ عندما لا يقبلها جميع الرسل.
قال: خير نبي أرسلا.
جمع بين النبوة والرسالة، وهل بينها فرق؟ خلاف بين أهل العلم.
القول الأول: بأنه ليس بينهما فرق، فالنبوة هي والرسالة هي النبوة وهو قول طائفة من المفسرين فليس ضعيفا هذا القول.
القول الثاني:أن النبوة من أوحي إليه ولم يأمر بالتبليغ،والرسول من أوحي إليه وأمر بالتبليغ.
القول الثالث: أن النبي هو من لم يوحى إليه بشرع جديد، والرسول هو من أوحي إليه بشرع جديد، إذا يجتمعان في التبليغ والوحي ويختلفان في الشرعة هذا شريعته جديده وهذا تجديد وهذا يشهد له، قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ﴾ الحج٥٢.
فقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا﴾ .
القول الرابع: وكأن شيخ الإسلام يميل إليه أن النبي من أرسل إلى قوم موافقين هناك من يوافقه على شريعته من قبله كأنبياء بني إسرائيل،والرسول هو من أرسل إلى قوم مخالفين كنوح ﵇ هو أول الرسل لأن كل الناس في جاهلية جهلاء والرسول ﷺ أرسل إلى جاهلية جهلاء فيرسل إلى قوم مخالفين، وهذا فيه إشكال أيضا في قول النبي ﷺ " يأتي النبي وليس معه أحد ".
قال أرسلا: الألف هنا تسمى ألف الإطلاق، وهذا يكثر في النظم انتبهوا له، وقد جاءت في القرآن.
1 / 10
قال تعالى: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ الأحزاب١٠، وقوله: ﴿يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا﴾ الأحزاب٦٦، وقوله: ﴿عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا﴾ الإنسان١٨، فهذه الألف تسمى ألف الإطلاق، والنحويون يسمونها تنوين الترنم - يعني يعطي صوتًا.
أقلي اللوم عاذل والعتابا ... وقولي إن أصبت لقد أصابا
وأقسام التنوين عشرة، جمعها بعضهم في قوله:
أقسام تنوينهم عشر عليك بها ... فإن تحصيلها من خير ما حرزا
مكّن وعوّض وقابل والمنكّر زد ... رنّم أو احك اضطرر غالٍ وما همزا
فالترنم نوع من أنواع التنوين.
قال المؤلف - رحمه الله تعالى ـ:
وذي من أقسام الحديث عده ... وكل واحدا أتى وحده
وذي: اسم إشارة.
قال بن مالك - رحمه الله تعالى ـ:
بذا لمفرد مذكر أشر ... وذي وذه تي تا على الأنثى اقتصر
فهذه كلها ألفاظ إشارة.
فقوله ذي: اسم إشارة، طيب أين الآن المشار إليه، لنتخيل أن البيقوني الآن ينظم فيقول وذي من أقسام الحديث عده.
فهل أمامه شيء؟، فنحن نقول ذي يشير للمكتوب لكن هو يوم يكتب ماذا يشير عليه؟
يشير إلى معهود ذهني في عقله.
وعندي لو قال المؤلف - رحمه الله تعالى ـ: إليك أقسام الحديث عدّه، لأجل أن يخرج من الإشكالات، لأن كل شارح لابد أن يعترض على الناظم.أما إليك فلا يأتي عليها إشكال.
قال المؤلف - رحمه الله تعالى ـ:
وذي من أقسام الحديث عدّه ... ............................
أي هذه الذي سأتلو عليك من أقسام الحديث "ومن" تبعيضية أوبيانية، والأقرب أنها تبعيضية لأنه لم يذكر إلا ٣٢ نوعا من أقسام الحديث، بينما ابن الصلاح - رحمه الله تعالى - ذكر بضعة وستين نوعا من أقسام الحديث فالمؤلف قد ترك النصف.
فقوله: وذي من أقسام الحديث عده، "مِنْ" تبعيضية، و" مِنْ " لها اثنا عشر، جمعها بعضهم في قوله:
1 / 11
أتتنا " مِنْ " لتبيينٍ وبعضٍ ... وتعليلٍ وبدءٍ وانتهاءِ
وإبدال وزائدة وفصل ... ومعنى عن وفي وعلى وباء
... قوله أقسام الحديث: أي أسماء وأوصاف الحديث عند أهل الفن فالأقسام هنا على تقسيم أهل الفن ليس على تقسيم الناس.
قال عدّه: أي كثيرة جدا.
قال: وكل واحد أتى وحدّه: أي كل واحد من هذه الأقسام أتى - أي سيأتي - فالماضي هنا بمعنى الفعل المضارع، قال تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ النحل١، فقال: ﴿أَتَى﴾، وهو لم يأت إلى الآن، إذًا لماذا يستخدم العرب الفعل الماضي بمعنى الفعل المضارع؟ من أجل سرعة الوقوع أي سيقع قريبًا.
قال وحدّه: إعراب "حدّه ": مفعول معه، أي أتى مع حدّه، فكل واحد يأتي، سيأتي مع حدّه، فإذا جاء الصحيح سيأتي بحدّه وإذا جاء المنقطع سيأتي بحدّه وإذا جاء المرسل سيأتي مع حدّه.
قال بن مالك - رحمه الله تعالى ـ:
ينصب تالي الواو مفعولا معه ... بنحو سيري والطريق مسرعه
إذا قوله: وكل واحد أتى وحدّه، أي سيأتي كل قسم مع التعريف.
" الحد " ما هو؟ الحد لغة: المنع.
واصطلاحًا: هو الجامع المانع.
حد الشيء: أي ماهية الشيء، فالحد هو الجامع المانع: الجامع لأوصاف الماهية، المانع لأن يدخل غيره فيه.
فإذا قلت: الإنسان " حيوان ناطق"، لم يدخل المعز لأنه حيوان غير ناطق.
فالجامع المانع: جامع لأوصاف المحدود برسمه وذاته، مانع في أن يدخل ماليس من جنسه.
قال الناظم:
الجامع المانع حد الحد ... أوذو انعكاس إن تشأ والطرد
يعني ينعكس ويطرد، فإذا وجدت هذه الأوصاف فهو المحدود وإذا لم توجد فليس المحدود، فإذا وجدت شيئا في غير حدك وينطبق عليه الماهية فمعناه أنه ليس بحد، فلو قلت: الإنسان رجل ذكر، فجئت للمرأة فهي إنسان، إذا هل هذا منعكس ومطرد؟ لا،لأنه وجد شيئا ليس في الحد.
1 / 12
وقد اختلف الأصوليون هل يمكن أن يحدّ شيء؟ هل يوجد حد لذات ما أو لشيء ما؟ هناك خلاف طويل بين الأصوليون.
(الحديث الصحيح)
قال المؤلف - رحمه الله تعالى ـ:
أولها الصحيح وهو ما اتصل ... إسناده ولم يَشُِذّ أو يعل
ابتدأ المؤلف - رحمه الله تعالى - بأول أقسام الحديث، وهو (الحديث الصحيح) .
فأهل الفن قسموا الحديث باعتبار القبول والرد إلى قسمين: مقبول، ومردود.
وأنا ذكرت لكم في درس سابق بأن التقسيم بالاعتبار فأسألك ماهو اعتبارك عندما تسألني ما أقسام الحديث؟ فتقول باعتبار القبول والرد.
فأقول باعتبار القبول قسمين: صحيح، وحسن.
أو تقسيمه باعتبار الطرق ينقسم إلى ثلاثة أقسام: متواتر، ومشهور، وآحاد.
وباعتبار الرد إلى عدة أقسام، فأهل العلم قسموا الحديث إلى ثلاثة أقسام: الصحيح والحسن والضعيف، باعتبار القبول والرد.
والإمام البيقوني - رحمه الله تعالى ـ، عرف الصحيح بشروطه وأوصافه، وهذا نوع من أنواع الحدود، أن يذكر التعريف بذكر الشروط، وأحيانا يكون التعريف بالمثال، وأحيانا يكون التعريف بالماهية، وكلها صحيحة في تقريب العلم.
الصحيح: لغة: هو ضد المريض.
اصطلاحا: عرفه المؤلف بقوله:
أولها الصحيح وهو مااتصل ... إسناده ولم يشُِذّ أو يعل
يرويه عدل ضابط عن مثله ... ..........................
قال وهو: ما اتصل.
الاتصال هو أول أوصاف للصحيح وأول رسم له، وهو أن يكون متصلا، يخرج ما انقطع.
ما معنى الاتصال؟ هو أن يروي كل راوٍ عمن سمعه.
يخرج: أن يروي عمن لم يسمعه منه مطلقا بأي نوع من عدم السماع.
إذا يخرج المنقطعات بأنواعها كما سيأتي، فمن أنواع المنقطعات: المنقطع، والمرسل، والمدلَّس، والمعضل، والمعلق، فهذه كلها منقطعات فليست متصلة.
ثم قال إسناده:
الإسناد: هو جملة الطريق الموصلة إلى الحديث. فكل طريق توصلك إلى الحديث يسمى إسنادا.
1 / 13
والإسناد عند أهل الحديث يطلق على عدة إطلاقات:-
الإطلاق الأول: ما رفع إلى النبي ﷺ، فكل حديث يروى بإسناد إلى النبي ﷺ، فإنه مسند، فإذا كان يروى بإسناد إلى أبي هريرة فليس بمسند، وإذا كان يروى بإسناد إلى بن سيرين فليس بمسند.
الإطلاق الثاني: كل طريق يوصلك إلى حديث مرفوع أو موقوف، وهذا ذكره ابن الصلاح - رحمه الله تعالى ـ.
الإطلاق الثالث: كل حديث يوصلك إلى النبي ﷺ ويكون متصلا، وهذا رجحه الحاكم، فلا بد أن يكون إلى النبي ﷺ، ويكون متصلًا، فالمرسلات ليست مسنده على هذا القول.
الإطلاق الرابع: المسند كل طريق يروى بطريق التحمل، فلو جاءنا مثلا الإمام أحمد ويروي عن الزهري وبينهما راوٍ فهذا يسمى مسندًا، فتقول روى الإمام أحمد بالإسناد أو تقول رواه أحمد مسندا إلى الزهري، وهذا الإطلاق أعم وأشمل وهو أكثر في الإطلاق.
ثم قال المؤلف: ولم يَشُِذّ.
يصح أن تقول يَشُذّ أو يَشِذّ، شذّ يَشُذّ يَشِذّ فقط، من باب فَعِلَ يأتي منها يَفْعِلُ ويَفْعُل هذا قياسي، وأما يَفْعَل فهو سماعي ليس على القياس.
ورأيت في بعض النسخ: ولم يُشَذّ، وعندي أنها ضعيفة - ضعيف هذا الضبط - فليس هناك داعيًا في أن نجعلها مبنية للمجهول.
قال المؤلف: ولم يشُِذّ.
هذا هو الوصف الثاني للحديث الصحيح، ولم يشُِذّ: أي أن هذا الإسناد لم يكن شاذا، والشذوذ هو المخالفة أو هو الإنفراد، وسيأتي زيادة بيان - إن شاء الله - على معنى الشذوذ، عند قول المؤلف - رحمه الله تعالى ـ:-
وما يخالف ثقة به الملا ... فالشاذ.....................
فالشذوذ عند أهل اللغة: الإنفراد، وقال بعضهم إن الشذوذ هو المخالفة، وهذا الخلاف سينبني عليه الخلاف العظيم في معنى الشذوذ.
هل الشاذ هو المخالف أو هو المنفرد؟
1 / 14
بناءً على اختيارنا سينشأ الخلاف، فلو جاء حديث لم يخالف، لكنه مفرد، فإنه يكون شاذًا إذا قلنا أن بأن الشاذ هو التفرد.
قال الحافظ العراقي - رحمه الله تعالى ـ:-
والحاكم الخلاف فيه ما اشترط ... وللخليلي مفرد الراوي فقط
فالخليلي انتزع معنى الإنفراد من اللغة، فقال الشاذ هو المفرد، فعنده يلزم أن يكون حديث (إنما الأعمال بالنيات) حديث شاذًا.
جاء الإمام الشافعي وقال: الشاذ هو المخالف، وهو له أصل في اللغة، فيلزم من التفرد المخالفة هكذا قال، فلا يطلق على الإنسان أنه تفرد إلا إذا تميز ولا يتميز إلا إذا روى شيئا لم يروه غيره أو خالفهم، إما بمتن أو إسناد، وسيأتي تحرير الكلام - إن شاء الله - في معنى الشذوذ.
إذا نقول الشاذ: قيل بأنه التفرد وهذا رجحه الخليلي، وقيل بأنه المخالفة وهذا رجحه الشافعي - رحمه الله تعالى ـ، والحاكم - رحمه الله تعالى - لم يشترط المخالفة أيضا.
قال الحافظ العراقي - رحمه الله تعالى ـ:
والحاكم الخلاف فيه ما اشترط ... ..............................
مثال على الشذوذ:
روى الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - في صحيحه من حديث سفيان عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه " أنه رأى بلالًا يؤذن فتتبع فاه وجلس يلتفت يمينًا وشمالًا في الحيعلتين ". رواه عن سفيان جماعة منهم بن المبارك ووكيع وجماعة كثيرة من الأئمة فكل طبقة سفيان يروون هذا الحديث كل تلاميذ سفيان الثوري يروون هذا الحديث، وهي رواية البخاري، جاء عبد الرزاق وهو إمام من الأئمة فزاد " ووضع أصبعيه في أذنيه " فعبد الرزاق ذكر هذه اللفظة وعشرة لم يذكروها عن سفيان، فنحن الآن بين روايتين، رواية جماعة لم يذكروا " ووضع أصبعيه في أذنيه " ورواية عبد الرزاق ذكر" ووضع أصبعيه في أذنيه " فنحن الآن أمام زيادة وتفرد وأمام مخالفة.
1 / 15
وقولنا " أمام مخالفة " هنا معترك النقاش الذي سنذكره - إن شاء الله - هل هو خالف؟ بعضهم هو خالف وبعضهم يقول هو لم يخالف بل زاد، فيقول بعضهم لا هو زاد فهذا يترجم الزيادة بالتفرد، وهذا يقول لكنه خالف فهذا يترجم الزيادة بالمخالفة.
فإذا قلنا بأن الشذوذ هو المخالفة: فإننا سنصنف زيادة عبد الرزاق بالشذوذ، وسيأتي زيادة بيان عند مسألة زيادة الثقة، وأن زيادة الثقة وأن الشذوذ وأن المخالفة كلها تدور في باب واحد.
قال الحافظ العراقي - رحمه الله تعالى ـ:
وذو الشذوذ ما يخالف الثقة ... فيه الملا فالشافعي حققه
فعبد الرزاق خالف الملا، وكيع وبن المبارك وغيرهم فهؤلاء أئمة، وعبد الرزاق لنا فيه نظر آخر وهو أنه فقيه فلما يتكلم تؤثر فيه لغة الفقهاء، فليس هو فقط حافظ بل يسمع كلامًا للتابعي "بأنه وضع أصبعه في أذنيه "، ويسمع كلامًا للإمام " بأنه وضع أصبعه في أذنيه " فيتأثر، ولهذا رواية الفقهاء المحدثين تختلف عن رواية المحدثين الخلّص، فرواية المحدثين الخلّص أحيانا قد تكون أقوى من رواية الفقهاء المحدثين، وأحيانا تكون رواية الفقهاء المحدثين أقوى من رواية المحدثين الخلّص.
فمتى تكون رواية الفقيه المحدث أقوى؟ ومتى تكون رواية المحدث الخالص أقوى؟
تكون رواية الفقيه المحدث أقوى عندما يكون الخلاف في مسألة تنبني على مسألة فقهية في اللفظ، فإن الفقيه يكون حذِرا عند ذكره للرواية فيعرف ما الذي يلزم منها إذا قال كذا فيلزم منها كذا، فيلتزم بالرواية بالنص، أما المحدثين الخلص يتوسعون في الرواية بالمعنى أحيانا المحدث لا يبالي فيظن اللفظة هذه مثل اللفظة هذه، فيروي الحديث كما يفهمه من الحديث فقط، فهنا تكون رواية الفقيه أقوى.
1 / 16
وتكون رواية المحدث أقوى من الفقيه المحدث في مثل المثال المذكور - زيادة عبد الرزاق - فإذا وجدنا أن المحدثين رووى هذا اللفظ ولم يذكروا زيادة فقهية بينما هذا الفقيه زاد لفظة فقهية فتقول اقتبسها من فقهه ولم يقتبسها من الحديث فهنا تكون رواية المحدث الخالص أقوى.
قال المؤلف: ولم يُعلّ.
هذا هو الوصف الثالث للحديث الصحيح أن لا يكون معلّلًا.
العلة: الأصل هي المرض.
اصطلاحًا: هي " وصف يقع في الإسناد أو المتن لا يدركه إلا جِلّة - أي خواص - المحدثين "، فليست العلة سهلة واضحة، فليست العلة هي الانقطاع فقط، ما يقصدون هذا مع أن الانقطاع جزء من أجزاء العلة لكن هم لا يقصدون هذا، هم يقصدون العلة الخفية.
فمثلًا يقولون فلان لم يسمع من فلان هذا الحديث، أو فلان يخالف هذا الحديث، أو فلان أدخل متنًا في متن، فهذا كيف نعرفه.
نضرب مثالًا: لو أتينا لحديث سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ﵁ - كما عند أبي داود - عن النبي ﷺ قال: " من أدخل فرسا بين فرسين " - يعني وهو لا يُؤمن أن يُسْبَق - " فليس بقمار، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وقد أمِنَ أن يُسْبَق فهو قمار " فهذا من حديث السبق.
فهذا إسناد ظاهره الصحة، وسلسلة الزهري هذه رواها البخاري ومسلم - رحمهما الله تعالى ـ، وسفيان هذا من رجال مسلم، جاء أبو حاتم الرازي - رحمه الله تعالى - وأعلّ هذا الحديث بطريقة عجيبة فقال: " لا يشبه أن يكون عن النبي ﷺ وأحسن أحواله أن يكون من كلام سعيد ".
فسفيان ماذا فعل قد تداخلت الأسانيد عليه فأدخل هذا الإسناد لهذا المتن، هذا رأي أبو حاتم الرازي - رحمه الله تعالى ـ.
وقال أبو داود - رحمه الله تعالى ـ: رواه معمر وشعيب وعقيل، عن الزهري، عن رجال من أهل العلم، وهذا أصح عندنا.
1 / 17
وقال يحيى بن معين - رحمه الله تعالى - عن هذا الحديث: باطل وخطأ على أبي هريرة ﵁.
فهؤلاء لم يجلسوا مع بعض ولم يتفقوا، فهذه علّة خفيّة وليست واضحة، فهذه ليست ميسّرة لنا أبدًا.
ولهذا بن مهدي - رحمه الله تعالى - يقول: " كلامنا على الأحاديث عند الجهال كهانة "، هذا طبعًا إذا حسنوا اللفظ ولم يقولوا تخرصًا، وقال بعض الحفاظ: " معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل ".
إذًا نقول العلة المقصود بها: العلة الخفية وليست العلة الظاهرة، وهناك احتراز آخر وهو: أن تكون العلة قادحة، فليست أي علة تقدح في الحديث، فقد يكون الحديث فيه علة ولكنه ليس ضعيفا بل صحيحا، فمثلا فلان يروي عن فلان وأحاديثه ضعيفة، لكن هذا الحديث جزم أهل العلم بأن هذا الراوي قد سمع من شيخه هذا الذي كان ضعيفا فيه وضبط هذا المتن.
إذًا نجعل وصفين لقوله " أويعل ":
الوصف الأول: أن تكون علة خفية.
الوصف الثاني: أن تكون علة قادحة.
مسألة:
بين العلة والشذوذ عموم وخصوص مطلق، فكل شذوذ علة وليس كل علة شذوذًا، إذا الشذوذ نوع من أنواع العلة، فليست كل علة شذوذ.
قد يقول قائل: لماذا المؤلف جاء بهذا الوصف " الشاذ " مادام أن الشاذ داخل في العلة، وجزء من أجزائها؟
نعم، هذا اعتراض قال به بعض أهل العلم وله وجاهته، ولكن من قال به أجاب عن هذا الإيراد بقوله: ذكر الشذوذ بسبب ارتباطه في الإسناد والمتن، لأجل ذلك ذكره المؤلف وأفرده، فإذا وجد شذوذ في المتن لابد أن يكون هناك شذوذ في الإسناد، وإذا وجد شذوذ في الإسناد لابد أن يكون هناك شذوذ في المتن، هكذا أجاب.
قال المؤلف - رحمه الله تعالى ـ:
يرويه عدل ضابط عن مثله ... معتمد في ضبطه ونقله
ذكر المؤلف - رحمه الله تعالى - الوصف الرابع للحديث الصحيح وهو " أن يكون عدلًا ".
قال عدل: العدالة هي صفة تبعث صاحبَها على ملازمة التقوى والمروءة.
1 / 18
فقولنا " ملازمة التقوى ": يخرج الكافر فهو ليس بعدل إذا من شروط الرواية أن يكون مسلما، وبعض الناس يقول أين اشتراط الإسلام؟ نقول يؤخذ من صفة العدالة.
وقولنا " المروءة ": يخرج من تنخرم مروءته بفعل معصية أو بمخالفة عرف، هكذا عند المحدثين.
فإن قلّت هذه العدالة قلّت درجة الصحة، فإذا كان الراوي غير ملازم للتقوى تماما لكنه مسلم ويفعل الطاعات ويترك بعض المحرمات لكنه يقارف بعضها، نقول تقلّ درجة العدالة الآن فتقلّ درجة صحة حديثه، لا ينزل إلى مرتبة الرد ولا يرتفع إلى درجة الصحة التامة بحيث يكون حديثه صحيح تام.
ثم قال المؤلف - رحمه الله تعالى ـ: ضابط، هذا هو الوصف الخامس للحديث الصحيح وهو" أن يكون ضابطًا ".
الضبط: " هو إيصال الحديث كما سمعه من شيخه "، فإذا روى الراوي بمثل ما رواه شيخه فإنه يكون ضابطًا.
وصفة الضبط لها طريقان:-
الطريق الأول: أن يكون ضابطا ضبط الفؤاد " ضبط الصدر "، فما سمعه يحفظه ويتقنه فلا يعرف عنه أنه كثير الخلل في مروياته، وقولنا " ضبط الصدر": ليس معناه أنه لا يخطئ فليس هناك أحد ما يخطئ، كل الأئمة حفظ عنهم الخطأ، ولكن الخطأ عنده قليل.
الطريق الثاني: ضبط كتاب، وهذا هو أقوى الضبط.
وصفة ضبط الكتاب: هو أن يحمي كتابه من أن يحرّف وقلمه من أن يغيّر، فكتابه مضبوط، ما عرف عنه أن كل من أتاه يطلب كتابه أعطاه إياه، سواء كان عدلا أم لا، وللأئمة كلام كثير في ضبط الكتاب.
قال بن حبان - رحمه الله تعالى ـ: كاتب الليث منكر الحديث جدًا يروي عن الأثبات ما ليس من حديث الثقات وكان صدوقًا في نفسه وإنما وقعت المناكير في حديثه من قبل جارٍ له كان يضع الحديث على شيخ عبد الله بن صالح ويكتب بخط يشبه خط عبد الله ويرميه في داره بين كتبه فيتوهم عبد الله أنه خطه فيحدث به.
فإذا لابد أن يكون هناك ضبط كتاب أو ضبط صدر.
1 / 19
إذا تحصل لنا خمسة شروط للحديث الصحيح كما ذكرها المؤلف قال:
" ما اتصل " الاتصال. ١)
. " لم يَشُذ " عدم الشذوذ ٢)
. " لم يعل " عدم العلة ٣)
" يرويه عدل " أن يكون الراوي عدلا. ٤)
" ضابط " أن يكون الراوي ضابطا. ٥)
: ... ونستطيع أن نرتبها ترتيبا أحسن من هذا فنقول
الحديث الصحيح هو: " ما اتصل إسناده برواية عدل تام الضبط من غير شذوذ ولا علة قادحة "، هذا هو أكثر ما يعرف به العلماء، ولكن مع النظم أحيانا لا تستطيع أن ترتب.
مسألة: أين توجد هذه الأحاديث الصحيحة بهذه الأوصاف؟
هذه الأوصاف توجد فيما حكم عليه الأئمة بالصحة، فكل ما حكم عليه الأئمة بالصحة، فإن هذه الأوصاف فيه ومظانها في الصحيحين.
مسألة: هل استوعب الصحيحان الأحاديث الصحيحة؟ كلا، لجوابين:
١) أن البخاري - رحمه الله تعالى - هو نفسه ذكر بأنه لم يتعهد بأن يذكر كل الأحاديث الصحيحة في هذا الكتاب.
٢) أن البخاري - رحمه الله تعالى - نفسه سئل عن عشرات من الأحاديث فيقول " صحيح "، وهو غير موجود في الصحيح، فلو قلبت سنن الترمذي مثلا لوجدت أن البخاري يُسأل عن كثير من الأحاديث فيقول " صحيح " وهو غير موجود في الصحيحين.
إذًا اعتراض بن عبد البر - رحمه الله تعالى - الكثير - حقيقة - على البخاري في قوله عن بعض الأحاديث حينما يسأل عنها وهي غير موجودة في الصحيحين " هو حديث صحيح " فيقول الإمام بن عبد البر، ولماذا لم يذكره في صحيحه إذًا، فهذا إلزام غير لازم، لأن البخاري نفسه قال أنا لم أتعهد أن أذكر كل الأحاديث الصحيحة، فهذا ملحظ مهم جدًا، فمظان الأحاديث الصحيحة في الصحيحين لكنها غير حاصرة فتجد أحيانًا الصحيح في سنن أبي داود وعند الترمذي وعند الحاكم وعند أحمد وعند بن ماجة وغيرهم، لكن مظانها الأكثر في الصحيحين، فهذا أمر مهم يجب أن ننتبه له.
1 / 20