Al-Hisbah - University of Madinah
الحسبة - جامعة المدينة
خپرندوی
جامعة المدينة العالمية
ژانرونه
-[الحسبة]-
كود المادة: GDWH٥١٣٣
المرحلة: ماجستير
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
ناپیژندل شوی مخ
الدرس: ١ تعريف الحسبة ومنزلتها ومقصودها وفضائلها وفوائدها
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(تعريف الحسبة ومنزلتها ومقصودها وفضائلها وفوائدها)
تعريف الحسبة لغة واصطلاحًا
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد:
أما الحسبة في اللغة: فقد جاء في (لسان العرب) الحسبة مصدر احتسابك الأجر على الله، تقول: فعلته حسبة، واحتسب فيه احتسابًا، والاحتساب طلب الأجر، والاسم الحسبة بالكسر وهو الأجر، واحتسب فلان ابنًا له أو ابنة له إذا مات وهو كبير، وافترط فرطًا إذا مات له ولد صغير لم يبلغ الحلم، وفي الحديث: «من مات له ولدًا فاحتسبه» أي: احتسب الأجر بصبره على مصيبته به، ومعناه: اعتد مصيبته به في جملة بلايا الله التي يثاب على الصبر عليها، واحتسب بكذا أجرًا عند الله والجمع الحسب، وفي الحديث «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا» أي: طلبًا لوجه الله تعالى وثوابه.
والاحتساب من الحسب كالاعتداد من العد، وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله احتسبه؛ لأنه حينئذ أن يعتد عمله، فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتد به، والحسبة اسم من الاحتساب كالعدة من الاعتداد، والاحتساب في الأعمال الصالحات، وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البر، والقيام بها على الوجه المرسوم فيها؛ طلبًا للثواب المرجوِّ منها، وفي حديث عمر ﵁: "أيها الناس احتسبوا أعمالكم، فإن من احتسب عمله كُتب له أجر عمله وأجر حسبته".
1 / 9
وأما الحسبة في اصطلاح العلماء: فقد قال فيها الإمام العالم العلامة أبو الحسن الماوردي ﵀: "الحسبة من قواعد الأمور الدينية، وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها، وجزيل ثوابها، وهي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وإصلاح بين الناس، قال الله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ (النساء: ١١٤).
فالحسبة إذًا هي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمعروف اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فيشمل الاعتقاد وهو الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، ويشمل العبادات من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، والنكاح، والطلاق، والرضاع، والحضانة، والنفقة، والعدة، وما إلى ذلك.
ويشمل النظم والتشريعات من المعاملات المالية، والحدود، والقصاص، والعقود والمعاهدات، ونحوها، ويشمل أيضًا الأخلاق من الصدق، والعدل، والأمانة، والعفة، والوفاء، ونحوها، وسمي المعروف معروفًا؛ لأن الفطر المستقيمة والعقول السليمة تعرفه، وتشهد بخيره وصلاحه. ومعنى الأمر بالمعروف: الدعوة إلى فعله، والإتيان به مع الترغيب فيه، وتمهيد أسبابه وسبله بصورة تثبت أركانه، وتوطد دعائمه، وتجعله السمة العامة للحياة جميعًا.
وأما المنكر: فهو سم جامع لكل ما يبغضه الله تعالى ولا يرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فيشمل الشرك بكل ألوانه وصوره، ويشمل
1 / 10
الأمراض القلبية من الرياء والحقد والحسد والعداوة والبغضاء ونحوها، ويشمل تضيع العبادات من الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد ونحوها، ويشمل المنكر أيضًا الفواحش كالزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف وقطع الطريق، والكذب، والحرابة، والبغي، ونحوها، ويشمل الكذب والجور والظلم، والخيانة والخسة ونحوها، وإنما سمي المنكر منكرًا؛ لأن الفطر السليمة المستقيمة والعقول السليمة تنكره، وتشهد بشره وضرره وفساده، ومعنى النهي عن المنكر التحذير من إتيانه وفعله، مع التنفير منه والصد عنه، وقطع أسبابه، وسبله بصورة تقتلعه من جذوره وتطهر منه الحياة جميعًا.
منزلة الحسبة في الدين
فقد قال ابن الأخوة فيها: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله به النبيين أجمعين، ولو طُوي بساطة وأهمل عمله وعلمه؛ لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، ونسيت الصلاة، وشاعت الجهالة، وانتشر الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، وإن لم يشعروا بالهلاك إلى يوم التناد. وقد كان الذي خفنا أن يكون فإنا لله وإنا إليه راجعون؛ إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه، فانمحق بالكلية حقيقته ورسمه، واستولت على القلوب مداهنة الخلق، وانمحقت عنها مراقبة الخالق، فاسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم، وعز على بسيط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم. فمن سعى في تلافي هذه الفترة وسد هذه الظلمة، إما متكلفًا بعلمها، أو
1 / 11
متقلدًا لتنفيذها، مجردًا عزمه لهذه السنة الداثرة، ناهضًا بأعبائها، ومشمرًا في إحيائها، كان متأثرًا من بين الخلق باحتسابه، ومستندًا بقربة ينال بها درجات القرب دون أجناس".
وقال الإمام النووي ﵀: "اعلم أن هذا الباب -أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- قد ضُيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدًّا، وهو باب عظيم، به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله بعقابه كما قال سبحانه: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النور: ٦٣).
فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله ﷿ أن يعتني بهذا الباب فإن نفعه عظيم، لا سيما وقد ذهب معظمة، ويخلص نيته، ولا يهابن من ينكر عليه بارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى قال: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ (الحج: ٤٠)، وقال ﷾: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (آل عمران: ١٠١)، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: ٦٩)، وقال تعالى: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت ١ - ٣) ".
ثم قال ﵀: "واعلم أن الأجر على قدر النصب، ولا يتاركه أيضًا لصداقته" أي: ولا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكون فلان صديقًا له، ولا يتاركه أيضًا لصداقته ومودته ومداهنته وطلب الوجاهة عنده، ودوام المنزلة لديه، فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقًّا، ومن حقه أن
1 / 12
ينصحه، ويهديه إلى مصالح آخرته، وينقذه من مضارها، وصديق الإنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه، وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه، وإنما كان إبليس عدوًّا لنا لهذا، وكانت الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم، وهدايتهم إليها ونسأل الله الكريم توفيقنا وأحبابنا وسائر المسلمين لمرضاته، وأن يعمنا بجوده ورحمته"، والله تعالى أعلم.
مقصود الحسبة في الإسلام
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: "أصل ذلك أن تعلم أن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله ﷾ إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون، قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: ٥٦)، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: ٢٥)، وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ (النحل: ٣٦) ".
وقد أخبر ﷾ عن جميع المرسلين عن جميع المرسلين أن كلًّا منهم قال لقومه: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (الأعراف: ٥٩) وعبادته ﷾ تكون بطاعته وطاعة رسوله، وذلك هو الخير والبر والتقوى والحسنات، والقربات، والباقيات الصالحات، والعمل الصالح، وإن كانت هذه الأسماء بينها فروق لطيفة ليس هذا موضعها.
1 / 13
وهذا الذي يقاتل عليه الخلق كما قال الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ (البقرة: ١٩٣)، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ﵁ قال سأل النبي ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله فقال ﷺ: «من قاتل لتكون كملة الله هي العليا فهو في سبيل الله».
وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا، ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة، ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد والناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا بد لهم من طاعة آمرٍ وناهٍ، فمن لم يكن من أهل الكتب الإلهية ولا من أهل دين فإنهم يطيعون ملكوهم في ما يرون أنه يعود بمصالح دنياهم، مصيبين تارة ومخطئين أخرى، وأهل الأديان الفاسدة من المشركين، وأهل الكتاب المستمسكين به بعد التبديل، أو بعد النسخ والتبديل مطيعون في ما يرون أنه يعود عليهم بمصالح دينهم ودنياه.
وغير أهل الكتاب منهم من يؤمن بالجزاء بعد الموت ومنهم من لا يؤمن به، وأما أهل الكتاب فمتفقون على الجزاء بعد الموت، ولكن الجزاء في الدنيا متفق عليه أهل الأرض. فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يقال: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة.
وإذا كان لا بد من طاعة آمر وناه، فمعلوم أن دخول المرء في طاعة الله ورسوله خير له، وهو الرسول النبي الأمي المكتوب في التوراة والإنجيل، الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث.
1 / 14
وذلك هو الواجب على جميع الخلق قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: ٦٤، ٦٥)، وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ (النساء: ٦٩)، وقال ﷿: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ (النساء: ١٣، ١٤).
ولقد كان النبي ﷺ يقول في خطبته الجمعة: «إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار».
وقد بعث الله تعالى رسوله محمدًا ﷺ بأفضل المناهج والشرائع، وأنزل عليه أفضل الكتب، فأرسله إلى خير أمة أخرجت للناس، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وحرم الجنة إلا على من آمن به وبما جاء به، ولم يقبل من أحد إلا الإسلام الذي جاء به، فمن ابتغى غيره دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
وأخبر ﷾ في كتابه أنه أنزل الكتاب والحديد ليقوم الناس بالقسط، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحديد: ٢٥).
1 / 15
ولهذا أمر النبي ﷺ أمته بتولية ولاة أمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، وأمرهم بطاعة ولاة الأمور في طاعة الله تعالى. ففي (سنن أبي داود) عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم»، وفي سننه أيضًا عن أبي هريرة مثله.
وفي (مسند الإمام أحمد) عن عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمَّروا أحدهم»، فإذا قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم؛ كان هذا تنبيهًا على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك؛ ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها دينًا يتقرب به إلى الله، ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان من أفضل الأعمال الصالحة، حتى قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي ﷺ أنه قال: «إن أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام جائر».
وإذا كان جماع الدين، وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث به الله رسوله ﷺ هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر، وهذا نعت النبي ﷺ والمؤمنين كما قال الله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (الأعراف: ١٥٦، ١٥٧).
وقال الله تعالى في حق المؤمنين: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ (التوبة: ٧١).
1 / 16
وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل نيابة السلطنة، والصغرى مثل ولاية الشرطة وولاية الحكم، أو ولاية المال، وهي ولاية الدواوين المالية، وولاية الحسبة.
لكن من المتولين من يقوم بمنزلة الشاة للمؤتمن والمطلوب منه الصدق، مثل الشهود عند الحاكم، ومثل صاحب الديوان الذي وظ يفته أن يكتب المستخرج والمصروف، والنقيب والعري ف الذي وظيفته إخبار ذي الأمر بالأحوال، ومنهم من يكون بمنزله الأمير المطاع والمطلوب منه العدل، مثل: الأمير والحاكم والمحتسب، وبالصدق في كل الأخبار والعدل في الإنشاء من الأقوال والأعمال تصلح جميع الأحوال، وهما قرينان كما قال الله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ (الأنعام: ١١٥).
وقال النبي ﷺ لما ذكر الظلمة «من صدقهم بكذبهم وأعانه م على ظلمهم؛ فليس مني ولست منه، ولا يرد علي الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم؛ فهو مني وأنا منه، وسيرد علي الحوض».
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحري الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الر جل يكذب ويتحري الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا».
ولهذا قال الله ﷾: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ (الشعراء: ٢٢١، ٢٢٢)، وقال سبحانه: ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَة * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ (العلق: ١٦، ١٧)، فلهذا على كل ولي أمرًا أن يستعين بأهل الصدق والعدل، وإذا تعذر ذلك استعان بالأمثل فالأمثل،
1 / 17
وإن كان فيه كذب وظلم، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم، والواجب إنما هو فعل المقدور، وقد قال النبي ﷺ: «من قلد رجلًا على عصابة، وهو يرد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين».
فضائل الحسبة
فضائل الحسبة -فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-:
وفضائل الحسبة في القرآن الكريم كثيرة، فقد قال الله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (آل عمران: ١١٣، ١١٤)، فلم يشهد لهم بالصلاح بمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر، حتى أضاف إليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبيَّن ﷾ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موجبات رحمته، فقال سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ﴾ (التوبة: ٧١)، فنعت الله تعالى المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارجًا عن هؤلاء المؤمنين المنعوتين في هذه الآية.
1 / 18
وأخبر ﷾ بأنه سيرحمهم بسبب قيامهم بما وصفهم به من الإيمان والصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موجبات رحمة الله، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موجبات اللعنة والسخط والغضب، والعذاب، قال الله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (المائدة: ٧٨، ٧٩).
وهذا غاية التشديد إذا علَّل استحقاقهم للعنة بتركهم النهي عن المنكر، وأخبر ﷾ أن هذه الأمة أمة محمد ﷺ كانت خير أمة للناس، وذلك بقيامها بالحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: ١١٠)، وهذا يدل على فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ بيَّن أن الأمة إنما كانت خير أمة أخرجت للناس بقيامها بهذه الوظيفة.
كما بيَّن ﷾ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للنجاة من عذابه إذا حلَّ بمستحقيه، فقال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ (الأعراف: ١٦٥)، فبيَّن أن الناجين إنما استفادوا النجاة بالنهي عن السوء.
وأخبر ﷾ أن التمكين في الأرض إنما يتم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال سبحانه: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (الحج: ٤١).
1 / 19
وأخبر ﷾ بأنه إنما أهلك القرون الماضية بتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال سبحانه: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ (هود: ١١٦) فبيَّن سبحانه أنه أهلك جميعهم إلا قليلًا منهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض.
ووعد ﷾ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بالأجر العظيم، فقال ﷿: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء: ١١٤).
وبيَّن ﷾ أن الفائزين بخيري الدنيا والآخرة هم القائمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال سبحانه: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: ١٠٤)، وهذه الجملة ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ تفيد عند أهل العلم باللغة العربية الحصر أي: أن الفلاح إنما يكون لهؤلاء الذي يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويدعون إلى الخير. هذا بعض ما جاء في القرآن الكريم في فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأما الأحاديث في فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي كثيرة، فقد عدَّ النبي ﷺ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صدقة، ورد ذلك في أكثر من حديث؛ فعن أبي ذر ﵁ أن ناسًا من أصحاب النبي ﷺ قالوا للنبي ﷺ: «يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال ﷺ: أو ليس قد جعل الله لكم ما
1 / 20
تصدقون: إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال ﷺ: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر».
وعن عائشة ﵂ قالت: إن رسول الله ﷺ قال: «إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجرًا عن طريق الناس، أو شوكة، أو عظمًا عن طريق الناس، وأمر بمعروف، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى؛ فإنه يمشي وقد زحزح نفسه عن النار».
وعن أبي ذر ﵁ قال قال رسول الله ﷺ: «تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظمة عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة».
وأخبر ﷺ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موجبات الجنة عن أبي كثير السحيمي عن أبيه قال سألت أبي ذر قلت: دُلني عن عمل إذا عمله العبد دخل الجنة، فقال أبو ذر ﵁ سألت عن ذلك رسول الله -صلى الله عليه سلم- فقال: «تؤمن بالله واليوم الآخر، قلت: يا رسول الله إن مع الإيمان عملًا، قال: يرضخ مما رزقه الله، قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان فقيرًا لا يجد ما يرضخ به؟ قال: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر».
1 / 21
وعن البراء بن عازب ﵄ قال: جاء أعرابي فقال: يا نبي الله علمني عملًا يدخلني الجنة، قال ﷺ: «لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة اعتق النسمة، وفك الرقبة، قال: أوليستا واحدة؟ قال: لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها، والمنحة الوكوف، والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع، واسقِ الظمآن، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك، فكفَّ لسانك إلا من الخير».
فوائد الحسبة
فوائد القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فوائد عدة نذكر منها: السلامة من العقاب الإلهي، والظفر برضوان الله تعالى وجنته، فإن الله ﵎ قال: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ (الأعراف: ١٦٥).
ومنها: الدخول في رحمة الله ﵎ والسلامة من عذابه كما قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: ٧١، ٧٢).
وقال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ
1 / 22
يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (المائدة: ٧٨ - ٨١).
ومن فوائدها: ظفر الإنسان بما يرجوه من خيري الدنيا والآخرة.
ومنها: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب الأمن والأمان، وسبب جمع الشمل وتوحيد الصف؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: ١٠٤)، ثم قال سبحانه بعد هذه الآية: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران: ١٠٥).
فالنهي عن التفرق بعد ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل عن أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببًا للتفرق، وذلك أن الناس إذا كانت لهم مشارب متعددة مختلفة تفرقوا، فهذا يعمل طاعة، وهذا يعمل معصية، وهذا يسكر، وهذا يصلي وما أشبه ذلك؛ فتتفرق الأمة، ويكون لكل طائفة مشرب، ولهذا قال ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ﴾ (آل عمران: ١٠٥).
إذًا لا يجمع الأمة إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو أن الأمة أمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، وتحاكمت إلى الكتاب والسنة ما تفرقت أبدًا، ولا حصل لهم الأمن، ولكان لهم أمن أشد من كل أمن، كما قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأنعام: ٨٢).
إن الدول الآن الكبرى منها والصغرى كلها تكرس الجهود الكبيرة الجبارة لحفظ الأمن، ولكن كثيرًا من المسلمين غفلوا عن هذه الآية، الأمن التام موجود في هاتين الكلمتين: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ فإذا تحقق الأمن في الشعب ولم يلبس إيمانه بظلم، فحينئذٍ يحصل له الأمن.
1 / 23
ومن فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: حماية الأرض أن تتحول إلى بؤرة من الشر والفساد، الأمر الذي يصعب معه تحقيق معنى العبودية لله ﷿، إذ يقول الله سبحانه: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ (البقرة: ٢٥١)، ويقول سبحانه: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ (الحج: ٤٠).
والنبي ﷺ يقول: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من، فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيدهم نجوا ونجوا جميعًا».
ومن فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إقامة الحجة على المصرين والمعاندين فإن نفرا من الناس في فطرتهم عوج والتواء وإصرار وعناد، وأمثال هؤلاء لا يفيقون إلا في وقت المحن والشدائد، والواجب نحوهم هو التذكير والتخويف حتى إذا نزلت الشدائد، وكان العقاب لا يقولون: لو وجدنا من أرشدنا ودلنا على الطريق لكنا أهدى الناس وأقومهم قيلًا، ومن ثم يتوجهون إليه بالتأنيب والتوبيخ والعتاب، ويحاجون الله ﵎، وله سبحانه الحكمة البالغة.
ولذا قال -سبحانه- عن حكمة بعثة النبي ﷺ: ﴿يَا أَهْل الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (المائدة: ١٩)، وقال سبحانه عن حكمة إرسال الرسل جميعًا: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ (النساء: ١٦٥).
1 / 24
ومن فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: تنبيه الغافلين، وانتشال الغارقين من الناس، ولا سيما المسلمين؛ فإن الإنسان خلق يوم خلق وهو ذو فطرة بيضاء نقية، لديها استعداد للخير واستعداد للشر، كما قال الخالق سبحانه: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس: ٧، ٨).
والبيئة التي ينشأ فيها الإنسان أو التي تحيط به هي التي تساعد في صنعة على شاكلتها، إن كانت خيرة كان خيرًا، وإن كانت شريرة كان شريرًا، ولذا قال النبي ﷺ: «المرء على دين خليلة فلينظر أحدكم من يخالل».
هذا، وإن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفوائد أكثر ما ذكرنا، ولكن فيما ذكرناه الكفاية عما سكتنا عنه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 25
الدرس: ٢ حكم الحسبة والحكمة منها ومراتبها
1 / 27
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(حكم الحسبة والحكمة منها ومراتبها)
حكم الحسبة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
روى مسلم وغيره عن النبي ﷺ قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان».
قال الحافظ أبو العباس القرطبي في شرح هذا الحديث: "قوله ﷺ: «من رأى منكم فليغيره بيده»، هذا الأمر على الوجوب؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الإيمان، ودعائم الإسلام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولا يعتدُّ بخلاف الرافضة في ذلك؛ لأنهم إما مكفرون فليسوا من الأمة، وإما مبتدعون فلا يُعتد بخلافهم لظهور فسقهم ووجوب ذلك بالشرع لا بالعقل؛ خلافًا للمعتزلة القائلين بأنه واجبًا عقلًا.
والأدلة من القرآن الكريم على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة؛ منها: قول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: ١٠٤)، ففي هذه الآية بيان الإيجاب، فإن قول الله تعالى ﴿وَلْتَكُنْ﴾ أمرًا وظاهر الأمر الإيجاب، وفيها بيان أن الفلاح منوطًا به؛ إذ حصر، وقال: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
ومن الآيات الدالات أيضًا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قول الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة: ٢)، وهو أمر جزم ومعنى التعاون الحث عليه، وتسهيل طرق الخير، وسد سبل الشر والعدوان بحسب الإمكان.
1 / 29