ولكن هل أخفت شدة النقد يوما فضل المنتقد عليه؟ وهل ضن الزمان على المنتقدين بما هم أهل له من الحرمة والمكانة؟ وكيف ذلك، والنقد ليس إلا أداة لإظهار الحقائق واضحة جلية؟
ولئن كان للناقد فضل في إظهار خطأ المنتقد عليه، فلقد كان لهذا الفضل بسبقه إلى موارد العلم، وخوضه في مسائل كانت سببا في يقظة هذا الباحث الأخير.
إلا أنه يجمل بنا حين ننظر في كتب المتقدمين، الذين يخالفوننا في أساليب البحث، ومناهج التفكير، أن نتمثل أنفسنا في أزمنتهم، وأمكنتهم، وأن نتمثل ما استخدموه للحصول على الحقائق من مختلف الأدوات، لكي نلتمس لهم العذر، إذ رأيناهم لم يصلوا إلى الأغوار البعيدة التي ينبع منها الماء صافيا نقيا.
وما أبعد الفرق بين من يدخل الهيجاء بما سلحته به العصور الخوالي من سهام ونبال، وبين من يدخلها مدرعا بما ابتدعته العصور الحديثة من معدات النزال، وما أكثر الفرق بين الضوء ينبعث من زيت المصباح، وبين النور يتفجر من ثريات الكهرباء، ولكننا مع ذلك أيها الأخر العزيز نعجب بأصحاب القسي والنبال؛ إذ لم تنقصهم الشجاعة، ولم يفتهم الثبات، ونحمد الأضواء الضيئلة التي تنبعث من زيوت المصابيح؛ لأنها على ضآلتها تصدع جوانب الظلام.
فإذا رأينا الغزالي غفل عن حقيقة تنبهنا نحن إليها، أو أغلق عليه موضوع فتحت له أبوابه، أو أدركه وهن في الرأي، أو تناقض في فهم فكرة، فجدير بنا أن نقدر ظروف زمانه ومكانه، وأن نذكر كيف كانت وسائله إلى الفهم والإدراك، قبل أن نصب عليه جام اللوم والتثريب.
إن أهل تلك الأعصر الخالية، كانوا يعتمدون كثيرا على ذاكرتهم، وكانوا في الوقت نفسه يتناولون كثيرا من الموضوعات؛ لأن فكرة الإحصاء وتوزيع الأعمال، لم تكن مألوفة لديهم على نحو ما هي اليوم، وكانوا يرون الجد في طلب العلم طاعة لله، فمن ثم حفظوا كثيرا، وكتبوا كثيرا، ولكن ضاق وقتهم ، ووهنت قوتهم، فلم يستطيعوا ترتيب ما كنزوا من العلوم الكثيرة، فخلطوا الغث بالسمين، وعرض لهم الضعف، والتناقض، والاضطراب.
وكذلك كان من أكبر الخدمات أن يتناول الشباب المثقف كتب المتقدمين، فيدرسها، ويفهمها، ويحللها، ثم يبين ما فيها من الخطأ والصواب.
ومن أولى بذلك من طلبة الجامعة المصرية، التي أنشئت لوصل القديم بالجديد، وحث الخلف، على الانتفاع بميراث السلف، وإنقاذ الجيل الحاضر من غلطات الجيل الغابر؟
لا يخطئ من يتناول كتب المتقدمين بالدرس، والتمحيص، والتهذيب، بل ذلك حق وواجب؛ لأن فيه حياة لما يجب أن يحيا من الأفكار، وموتا لما يجب أن يموت من الأوهام، ولأن في النقد الصحيح تهذيبا للمشاعر، وتنويرا للعقول، وإنما يخطئ من يبالغ في حب المتقدمين، فينسي سيئاتهم، مع أن لهم سيئات، أو يبالغ في بغضهم، فينسى حسناتهم، مع أن لهم كثيرا من الحسنات، والنقد الحق يرتكز على سرد المحاسن والعيوب، بلا جور ولا محاباة، وقد يذهب بصاحبه إلى التوفيق بين الآراء المختلفة، فيجعل من الزوايا المتعددة التي ننظر منها إلى الحقائق شكلا واحدا منسجم الترتيب ننظر من نواحيه إلى تلك الحقائق. فأعداء النقد ليسوا فقط أعداء لحرية الآراء، ولكنهم أعداء لمنازع التوفيق. •••
وأنت يا أخي درست مؤلفات الغزالي، وفهمتها، وحللتها، وبينت ما فيها من الخطأ والصواب، فماذا ينقم الناس منك، وقد ذكرته بالخير، حين رأيت أن يذكر بالخير، وذكرته بالملام، حين رأيت أن يذكر بالملام، وما كان الغزالي بأكبر من أن يخطئ، ولا كنت أنت بأصغر من أن تصيب.
ناپیژندل شوی مخ