29

آخر دنیا

آخر الدنيا

ژانرونه

ولكن الشاب لم ينسحب ... وقف مسمرا في بلكونته إلى ساعة متأخرة من الليل علها تظهر. وخيل إليه في الصباح أنه أخيرا أحب، ومن يدري قد تكون هي الأخرى أحبته. وهكذا قضى الجزء الأكبر من اليوم التالي، ولا عمل له إلا التحديق في الستارة علها تختلج مرة أخرى وتنفرج. وكلما كان الهواء يداعب قماشها ويحركه، كان الدم يسخن في عروقه ويعتقد أنها هي، ويركز بصره كله عله يستطيع أن يتبينها.

وفي نفس ذلك اليوم التالي لم يكن وحده الذي يحدق في الستارة المختلجة، كان بهيج الزوج عائدا من عمله يلقي ببصره كما تعود ناحية الستارة ليطمئن عليها أولا، ثم يعود ليختلس نظرة خاطفة إلى بلكونة الجار ليطمئن على خلوها منه.

وفي ذلك اليوم حين وجد بهيج القماش يتحرك لم يعلق على حركته أهمية، ولكنه حين وجد الأعزب واقفا في البلكونة قد صوب نظراته المحمومة إلى الستارة المختلجة، عاد ينظر بسرعة إلى حيث كان ينظر، وبدوي أعنف دق قلبه، وأيقن بلا أدنى جدال أن الستارة لا تختلج عبثا، وأن وراءها عينين تنظران وجسدا ... وراءها سنسن.

وفي لمح البصر كان قد أصبح في الشقة، ولم يخل عليه أنه وجدها في المطبخ، فلا بد أنها لمحته وفرت. وفي لمح البصر كان قد أطبق عليها طالبا منها أن تعترف. وحين حاولت الكلام أجابها بصفعة قوية من يده الأخرى أعقبها بأخرى مدوية من اليسرى. وإمعانا جرها إلى البلكونة، وأزاح الستارة بغل ليريها الشريك الآخر واقفا لا يزال يحدق ... الشريك الذي ما إن أزيحت الستارة ورأى المشهد حتى اختفى في التو وذاب برعونة، وبكل جبن المذنب المتلبس.

وكانت الصفعتان إشارة البدء لعاصفة من تلك العواصف التي كثيرا ما تجتاح حياة الأزواج والزوجات، تقتلع الضعيف منها وتهدد القوي، فقد تبعها كلام صارخ محموم عن شرفه وطعنات حادة قاتلة إلى شرفها، ونعوت بشعة ويمين طلاق ألقي. والزوجة تحاول الدفاع والاستشهاد بالخادمة، ويصرخ قائلا إنه رأى الستارة بعينه تهتز، فتستنجد قائلة: ربما الهواء. فيعود يهم بصفعها أو ركلها، وهو يقرنها بالهوى وبنات الهوى.

عاصفة قذفت بالزوجة تلك الليلة إلى بيت أبيها، وقذفت به إلى الخمارة ... وهطلت آخر الليل دموع. وفي اليوم التالي تدخل الأهل والأصدقاء، وبدأ الزوج يراجع نفسه قليلا. وبعد أن كان رافضا ألبتة أن يصغي أو يناقش، بدأ يخفض رأسه ويستمع، ويلمح حرقة الصدق في كلام كان الزوج في حاجة إليه، فحتى بعد أن رأى بعينيه كان أهون عنده أن يشك في عينيه ولا يشك فيها، فحياتهما معا وعشرتهما واندماجهما بطريقة كادا معها أن يصبحا جسدا واحدا، بطريقة يعرف كل منهما عن الآخر أكثر مما يعرف الآخر عن نفسه، ويثق بالآخر أكثر مما يثق بنفسه ... هذا كله فوق التجربة التي قام بها وسطاء الخير، وأعادوا تمثيل ما حدث أمام الزوج ونفخوا في الستارة لتختلج. وراقبها الزوج من أسفل ليعرف إن كانت اختلاجاتها تشبه اختلاجة الأمس، وليثوب إلى نفسه حينئذ، ويطلب الصفح وتنتهي العاصفة نهاية لا يتوقعها أحد فوق فراشهما، وهو يحتضنها ويقبل عينيها الدامعتين، وتصل حرارة الحب بينهما حد أن ينسيا تماما ما حدث وسبب الحكاية، ويستمتعا باللحظة والسهرة، وكأنها أول لقاء. وفي أحيان تصل العواطف بينهما حد معاودة الاعتذار. بل تأكيدا لندمه وتوبته وإمعانا في ثقته بها يعلن لها أنه خلاص قرر أن تفتح الستارة باستمرار، وحين تأبى هي يقسم هو ويلحف في القسم، ويؤكد لها أنها بعد تلك اللحظة حرة في أن تدخل وتخرج وتغلق البلكونة أو تفتحها وتقف فيها، أو تتطلع منها على أية هيئة وبأية ملابس ولأي وقت تشاء.

وبينما كان الدفء يشع من فراشهما، كان الجار الأعزب في فراشه يرتجف من البرد. ومن بعض ما تيسر من تأنيب الضمير ومن خوف كثير على نفسه وحياته، وكان يتوج هذا كله بقرار صارم ألا يقف بعد هذا في بلكونته أبدا، ولا يتطلع إلى جارة أو غير جارة، وأن ينهمك مرة أخرى في مشاغله. •••

وجاء الصباح التالي لتعود الحياة سيرتها وقد تغير شكلها قليلا؛ فالستارة في بلكونة بهيج قد فتحت على آخرها، وبلكونة الأعزب مغلقة وكأنما دقت فيها مسامير. ومع هذا فلم تظهر سنسن في البلكونة، ولا حتى وجدت لديها حماسا لأن تفعل شيئا آخر بالمرة. كان ما حدث لا يزال ساري المفعول في نفسها تأبى أن تصدق أنه حدث، وإذا صدقته غامت عيناها بالدموع.

وحتى بعد أن مضت أيام وزالت كل آثار العاصفة، ظلت سنسن غير شديدة الحماس لكل هذه الحريات التي أصبحت تملكها ... تقف في البلكونة فلا تحتمل الوقوف، تجوب الشارع وواجهات العمارات المقابلة بعيون قد انطفأ فيها البريق. أي متعة للبلكونة الواضحة المكشوفة بعد متعة اختلاس النظر من الشقوق؟ وبأي نفس تقبل المتعة وهي قد عاشت التهمة وذلها ونالت العقاب؟ الحقيقة كل ما كان يشغل بالها إذا وقفت في البلكونة أن تواتيها الفرصة لتدافع هي عن نفسها وشرفها أمام الأعزب الشاب، الشرف الذي أهدره زوجها، وهو يدافع عنه. كانت تريد أن تلقي عليه درسا وتريه أنها ليست كما ظن هو أو ظن زوجها. ولكن الفرصة لم تكن تواتيها؛ ففي كل مرة تجد بلكونته مغلقة وتجده غير موجود.

ولكن مهما طال الزمن؛ فلا بد أن سيأتي اليوم الذي يوجد فيه. غير أنه حين جاء وخرجت هي إلى البلكونة، ووجدته واقفا أمامها عبر الشارع دق قلبها بالانفعال. وللمرة المائة استعادت ما كانت قد انتوته، فهي ستظل ساكتة إلى أن يبدأ يتطلع إليها، حينئذ سوف تواجهه بقسوة وتبصق في وجهه أو تقذفه بما في يدها، ثم تدخل وتصفق وراءها الباب، ولكنها ظلت واقفة أكثر من ساعة دون أن يتطلع إليها أو يبدو أن في نيته أن يتطلع إليها. وكان من المستحيل عليها أن تقبل الهزيمة حتى لو أدى بها الأمر لمحاولة جذب انتباهه ورفع صوتها تطلب من الخادمة أن تحضر لها شيئا. وحتى حين ضغطت على نفسها وفعلت. لم يبد عليه أي اهتمام، أكثر من هذا بعد قليل وجدته ينسحب إلى الداخل، ويمد يده ويغلق الشيش.

ناپیژندل شوی مخ