إلا أن الآثار التي خلفتها موقعة الحرة (3) كانت عميقة جدا في نفوس أهل المدينة ونفوس أجيالهم التالية، فقد علمتهم هذه الآثار أن يكونوا أكثر تعقلا بالفقه والعلم الذي يتدارسونه وهو علم يقرر أن شق عصا الطاعة والمسارعة في الفتنة من الأخطاء الكبيرة ولا يجوز تكررها على الإطلاق. لذلك لم يكن من العسير على الأمراء تحقيق الأمن وضبط الأمور في المدينة، ولم يكن هناك خطر يتهددهم أو ينذر بالفتنة على نحو ما كان في بعض الأمصار. ويصح أن نقول إن المدينة قد تحولت إلى دار سلام يجنح أهلها إلى الموادعة وتجنب إراقة الدماء ولو كانوا غير راضين عن أمرائهم، وأنهم قد اشتغلوا بالجوانب الثقافية والاقتصادية والعمرانية وزهدوا في الخلافة والسياسية.
الجانب الاقتصادي:
مما لاشك فيه أن الاستقرار السياسي في أي بلد هو طريق إلى الرخاء الاقتصادي غالبا، بينما يؤدي الاضطراب السياسي إلى اختناقات اقتصادية متوالية.
وعندما ننظر في الحالة الاقتصادية للمدينة المنورة في العهد الأموي والعباسي يجب أن نتنبه إلى أثر العامل السياسي فيها. ذلك أن انتقال مركز الدولة بعيدا عنها قد أثر على نشاطها الاقتصادي وعلى الموارد المالية التي كانت تصب فيها.
وقد رأينا أن الازدهار الاقتصادي الذي شهدته المدينة في العهد الراشدي كان له عاملان: عامل خارجي، وهو الموارد المالية من الغنائم والفيء والعطاءات وعامل محلي يتمثل في التجارة والزراعة والحرف المحلية المختلفة.
وطبيعي أن يتأثر هذان العاملان بالتحول السياسي الذي حل بالمدينة، أما الموارد الخارجية فقد اتجهت إلى العاصمة الجديدة دمشق، وأما الموارد المحلية فنجد أهمها الزراعة التي نشطت نشاطا واسعا، فازدهرت المزارع واتسعت وجاءت بغلال وافرة.
مخ ۲۹