أن أبا نواس كان يتعشق ابن فورك اللهبي، وكان حسن الوجه بارع الجمال مطواعا، يواتيه أنى شاء، وربما شرب معه في الحانات، فافتقدناه أياما كثيرة فسألنا عنه جميع إخوانه وطلبناه في مظانه فلم نعرف له خبرا بتة، واشتد لذلك غمنا فقلت في نفسي ليس حق أبي نواس علي الحق الذي أضيعه فلا أرعاه، والله لأجتهدن في طلبه والبحث عنه والفحص عن خبره أنى توجه ولو بمشقة علي شديدة، وأشفقت أن يكون قد نيل منه، أو اغتيل بسوء من جهة من كان يبغيه، فقلت لأخي عبيد - وعنده من أصحابه عدة -: هل تساعدني على طلب أبي نواس حيثما كان؟ فقالوا: نعم نحن نسبقك إلى هذا ونساعدك بأجمعنا، فقلت له: الرأي أن نبدأ بباطرنجي فإني سمعته قبل افتقادي إياه يذكرها ولا أحسبه تعداها، فلما خرجنا نحوها لقينا بعض المكاريين مع قوم قد حملوهم منها فقلنا له: هل تعرف أبا نواس؟ فقال: ومن لا يعرفه؟ إني لأحسب حماري هذا يعرفه. وهل يخفى القمر؟ قلنا: فهل رأيته؟ قال: نعم رأيته خارجا من باطرنجي في حية الحمام الشارع على الطريق وهو سكران لا يعقل وقد اجتمع عليه الصبيان يعطعطون به ويضحكون منه، فقلنا: إنا لله، هلك والله إن لم ندركه، فأسرعنا نحوه فوافيناه قد أخرج من الحية وهو مطروح على وجهه لا يتحرك ولا ينبض له عرق ولا يعقل سكرا، فسألناه عن خبره وأين كان يشرب في أيامه، فقال: في هذه الحانة فحملنا إليها، وسألنا الخمار عن قصته، فقال: كان يشرب عندي مع غلام جاء معه من أهل بغداد حسن الوجه يقال له ابن فورك، وحرص الغلام على الانصراف غير مرة وهو يمنعه وأقاما اثني عشر يوما، كل ذلك يمنعه من الانصراف ويرغب إليه في المقام، فلما كان هذا اليوم سكر أبو نواس هذا السكر المفرط فقام الغلام كأنه يريد حاجة فراوغه وشخص متوجها نحو بغداد فرارا منه، فلما أبطأ عليه خرج وهو يتثنى سكرا، لا تقله رجلاه ولا ينطلق لسانه للجواب، وذلك أنه ما نام منذ ثلاث ليال يشرب دائما ويغالب النبيذ، فمنعته من الخروج فلم يصغ إلي، وضربته الريح وهزته على ما كان منه من السكر. فلمنا الخمار وعنفناه وقلنا: ألا اتبعته أو وجهت من يراعيه ويحفظه؟ قال: قد فعلت، وأنا أخرجته من الحية وقد كنت على حمله إلى ههنا. فانتظرنا أبا نواس إلى أن أفاق فلما عاد إليه عازب عقله وصحا من سكره ملنا عليه ميلة واحدة وقلنا له: ويحك أما تستحي أما ترعوي أما تخاف الله وتراقبه؛ أما تأنف لنفسك من هذه المساقط الدنية في الأماكن الخسيسة، مع طلب الخليفة إياك وتشوقه إليك ونزاعه إلى قربك وأثرتك عنده وعند الأشراف؟ فإلى كم يكون هذا الإغراق والإفراط فيما يسخط الله عليك، ويذهب بدينك ويثلم دنياك، ويذهب بقدرك وأدبك؟ كل يوم مع غلام وقحبة، وفي حانة منبطحا سكرانا، وقد جعلت ما يجب عليك من الصلاة وراء ظهرك استهانة بوعد الله ووعيده، مع الذي لا يؤمن من حضور أجلك ومعافضتك على أسوأ حالاتك؛ ويوشك من أدام الشرب أن ينقص اعتداله ويفسد مزاجه، وتصل سوره إلى كبده فيقدح ذلك في صحته، ويعرضها للاستحالة عن جهتها، ثم تقيم مع غلام قد خرجت لحيته وتشوهت خلقته بضعة عشر يوما حتى صرت ضحكة وأحدوثة ولعبة للصبيان والنسوان. فقطع علينا الكلام ثم انشأ يقول مجهشا مسترجعا بصوت شج:
يا بني حمالة الحطب ... حربي من ظبيكم حربي
حرب في القلب برح بي ... ألهبته مقلة اللهبي
ما أحل الله ما صنعت ... عينه تلك العشية بي
فتنت أسبابها كبدي ... بسهام للردى صيب
لم يجرني البيت منه وقد ... عذت بالأركان والحجب
صيغ هذا الخلق من حمأ ... وبراه الله من ذهب
عجبا ... لم يثنه حرج
دون قتلي
عف عن سلبي
1 / 9