كنت أجيء بالأمس إلى هذا المكان والقيود الثقيلة تغل قدمي الضعيفتين، أما اليوم فقد جئت شاعرة بعزم يهزأ بثقل القيود ويستقصر الطريق. كنت أجيء مثل طيف طارق خائف، أما اليوم فقد جئت مثل امرأة حية تشعر بوجوب التضحية وتعرف قيمة الأوجاع، وتريد أن تحمي من تحبه من الناس الأغبياء ومن نفسها الجائعة. كنت أجلس حذاءك مثل ظل مرتجف، وقد أتيت اليوم لأريك حقيقتي أمام عشتروت المقدسة ويسوع المصلوب. أنا شجرة نابتة في الظل، وقد مددت أغصاني اليوم لكي ترتعش ساعة في نور النهار ... قد جئت لأودعك يا حبيبي، فليكن وداعنا عظيما وهائلا مثل حبنا، ليكن وداعنا كالنار التي تصهر الذهب لتجعله أشد لمعانا.
ولم تترك لي سلمى مجالا للكلام والاحتجاج، بل نظرت إلي وقد برقت عيناها، فأحاطت أشعتها بوجداني، واتشحت ملامح وجهها بنقاب من الهيبة والجلال، فبانت كمليكة توحي الصمت والتخشع. ثم ارتمت على صدري بانعطاف كلي ما عهدته فيها قبل تلك الساعة، وطوقت عنقي بزندها الأملس، وقبلت شفتي قبلة طويلة عميقة محرقة أيقظت الحياة في جسدي، وأثارت الأسرار الخفية في نفسي، وجعلت الذات الوضعية التي أدعوها «أنا» تتمرد على العالم بأسره لتخضع صامتة أمام الناموس العلوي الذي اتخذ صدر سلمى هيكلا ونفسها مذبحا. •••
ولما غربت الشمس وامحت أشعتها الأخيرة عن تلك الحدائق والبساتين انتفضت سلمى ووقفت في وسط الهيكل، ونظرت طويلا إلى جدرانه وزواياه، كأنها تريد أن تسكب نور عينيها على رسومه ورموزه، ثم تقدمت قليلا وجثت خاضعة أمام صورة يسوع المصلوب، وقبلت قدميه المكلومتين مرات متوالية، ثم همست قائلة: ها قد اخترت صليبك يا يسوع الناصري، وتركت مسرات عشتروت وأفراحها، قد كللت رأسي بالأشواك بدلا من الغار، واغتسلت بدمي ودموعي بدلا من العطور والطيوب، وتجرعت الخل والعلقم بالكأس التي صنعت للخمر والكوثر، فاقبلني بين تابعيك الأقوياء بضعفهم، وسيرني نحو الجلجلة برفقة مختاريك المستكفين بأوجاعهم المغبوطين على كآبة قلوبهم.
ثم انتصبت والتفتت نحوي قائلة: سأعود الآن فرحة إلى الكهف المظلم حيث تتراكض الأشباح المخيفة، فلا تشفق علي يا حبيبي ولا تحزن من أجلي؛ لأن النفس التي ترى ظل الله مرة لا تخشى بعد ذلك أشباح الأبالسة، والعين التي تكتحل بلمحة واحدة من الملأ الأعلى لا تغمضها أوجاع هذا العالم.
وخرجت سلمى من ذاك المعبد ملتفة بملابسها الحريرية، وتركتني حائرا ضائعا مفكرا مجذوبا إلى مسارح الرؤيا حيث تجلس الآلهة على العروش، وتدون الملائكة أعمال البشر، وتتلو الأرواح مأساة الحياة، وتترنم عرائس الخيال بأناشيد الحب والحزن والخلود.
ولما صحوت من هذه السكرة وكان الليل قد غمر الوجود بأمواجه القاتمة، وجدتني هائما بين تلك البساتين، مسترجعا إلى حافظتي صدى كل كلمة لفظتها سلمى، معيدا إلى نفسي حركاتها وسكناتها وملامح وجهها وملامس يديها، حتى إذا ما اتضحت لي حقيقة الوداع، وما سيجيء من ألم الوحشة ومرارة الشوق، جمدت فكرتي وتراخت خيوط قلبي، وعلمت للمرة الأولى أن الإنسان وإن ولد حرا يظل عبدا لقساوة الشرائع التي سنها آباؤه وأجداده، وأن القضاء الذي نتوهمه سرا علويا هو استسلام اليوم إلى مآتي الأمس، وخضوع الغد إلى ميول اليوم. وكم مرة فكرت منذ تلك الليلة إلى هذه الساعة بالنواميس النفسية التي جعلت سلمى تختار الموت بدلا من الحياة، وكم مرة وضعت نبالة التضحية بجانب سعادة المتمردين، لأرى أيهما أجل وأجمل، ولكنني للآن لم أفهم سوى حقيقة واحدة، وهي أن الإخلاص يجعل جميع الأعمال حسنة وشريفة، وسلمى كرامة كانت الإخلاص متأنسا وصحة الاعتقاد متجسدة.
المنقذ
ومرت خمسة أعوام على زواج سلمى ولم ترزق ولدا ليوجد بكيانه العلاقة الروحية بينها وبين بعلها، ويقرب بابتسامته نفسيهما المتنافرتين، مثلما يجمع الفجر أواخر الليل وأوائل النهار.
والمرأة العاقر مكروهة في كل مكان؛ لأن الأنانية تصور لأكثر الرجال دوام الحياة في أجساد الأبناء، فيطلبون النسل ليظلوا خالدين على الأرض.
إن الرجل المادي ينظر إلى زوجته العاقر بالعين التي يرى بها الانتحار البطيء، فيمقتها ويهجرها ويطلب حتفها كأنها عدو غدار يريد الفتك به، ومنصور بك غالب كان ماديا كالتراب وقاسيا كالفولاذ وطامعا كالمقبرة، وكانت رغبته بابن يرث اسمه وسؤدده تكرهه بسلمى المسكينة وتحول محاسنها في عينيه إلى عيوب جهنمية.
ناپیژندل شوی مخ