إهداء الكتاب
كلمة في الترجمة
مقدمة عن حياة المؤلف
الرسالة الأولى
الرسالة الثانية
الرسالة الثالثة
الرسالة الرابعة
الرسالة الخامسة
الرسالة السادسة
الرسالة السابعة
الرسالة الثامنة
الرسالة التاسعة
الرسالة العاشرة
الرسالة الحادية عشرة
الرسالة الثانية عشرة
الرسالة الثالثة عشرة
الرسالة الرابعة عشرة
الرسالة الخامسة عشرة
الرسالة السادسة عشرة
الرسالة السابعة عشرة
الرسالة الثامنة عشرة
الرسالة التاسعة عشرة
الرسالة العشرون
الرسالة الحادية والعشرون
الرسالة الثانية والعشرون
الرسالة الثالثة والعشرون
الرسالة الرابعة والعشرون
الرسالة الخامسة والعشرون
الرسالة السادسة والعشرون
الرسالة السابعة والعشرون
الرسالة الثامنة والعشرون
الرسالة التاسعة والعشرون
الرسالة الثلاثون
الرسالة الحادية والثلاثون
الرسالة الثانية والثلاثون
الرسالة الثالثة والثلاثون
الرسالة الرابعة والثلاثون
الرسالة الخامسة والثلاثون
الرسالة السادسة والثلاثون
الرسالة السابعة والثلاثون
الرسالة الثامنة والثلاثون
الرسالة التاسعة والثلاثون
الرسالة الأربعون
الرسالة الحادية والأربعون
الرسالة الثانية والأربعون
الرسالة الثالثة والأربعون
الرسالة الرابعة والأربعون
الرسالة الخامسة والأربعون
الرسالة السادسة والأربعون
الرسالة السابعة والأربعون
الرسالة الثامنة والأربعون
الرسالة التاسعة والأربعون
الرسالة الخمسون
الرسالة الحادية والخمسون
الرسالة الثانية والخمسون
الرسالة الثالثة والخمسون
الرسالة الرابعة والخمسون
الرسالة الخامسة والخمسون
الرسالة السادسة والخمسون
الرسالة السابعة والخمسون
الرسالة الثامنة والخمسون
الرسالة التاسعة والخمسون
الرسالة الستون
الرسالة الحادية والستون
الرسالة الثانية والستون
الرسالة الثالثة والستون
الرسالة الرابعة والستون
الرسالة الخامسة والستون
الرسالة السادسة والستون
الرسالة السابعة والستون
الرسالة الثامنة والستون
الرسالة التاسعة والستون
الرسالة السبعون
الرسالة الحادية والسبعون
الرسالة الثانية والسبعون
الرسالة الثالثة والسبعون
الرسالة الرابعة والسبعون
الرسالة الخامسة والسبعون
الرسالة السادسة والسبعون
الرسالة السابعة والسبعون
الرسالة الثامنة والسبعون
الرسالة التاسعة والسبعون
الرسالة الثمانون
الرسالة الحادية والثمانون
الرسالة الثانية والثمانون
الرسالة الثالثة والثمانون
الرسالة الرابعة والثمانون
من المؤلف إلى القارئ
الرسالة الخامسة والثمانون
الرسالة السادسة والثمانون
الرسالة السابعة والثمانون
الرسالة الثامنة والثمانون
الرسالة التاسعة والثمانون
الرسالة التسعون
الرسالة الحادية والتسعون
الرسالة التسعون: تتمة
الرسالة الثانية والتسعون
الرسالة الثالثة والتسعون
الرسالة الرابعة والتسعون
إهداء الكتاب
كلمة في الترجمة
مقدمة عن حياة المؤلف
الرسالة الأولى
الرسالة الثانية
الرسالة الثالثة
الرسالة الرابعة
الرسالة الخامسة
الرسالة السادسة
الرسالة السابعة
الرسالة الثامنة
الرسالة التاسعة
الرسالة العاشرة
الرسالة الحادية عشرة
الرسالة الثانية عشرة
الرسالة الثالثة عشرة
الرسالة الرابعة عشرة
الرسالة الخامسة عشرة
الرسالة السادسة عشرة
الرسالة السابعة عشرة
الرسالة الثامنة عشرة
الرسالة التاسعة عشرة
الرسالة العشرون
الرسالة الحادية والعشرون
الرسالة الثانية والعشرون
الرسالة الثالثة والعشرون
الرسالة الرابعة والعشرون
الرسالة الخامسة والعشرون
الرسالة السادسة والعشرون
الرسالة السابعة والعشرون
الرسالة الثامنة والعشرون
الرسالة التاسعة والعشرون
الرسالة الثلاثون
الرسالة الحادية والثلاثون
الرسالة الثانية والثلاثون
الرسالة الثالثة والثلاثون
الرسالة الرابعة والثلاثون
الرسالة الخامسة والثلاثون
الرسالة السادسة والثلاثون
الرسالة السابعة والثلاثون
الرسالة الثامنة والثلاثون
الرسالة التاسعة والثلاثون
الرسالة الأربعون
الرسالة الحادية والأربعون
الرسالة الثانية والأربعون
الرسالة الثالثة والأربعون
الرسالة الرابعة والأربعون
الرسالة الخامسة والأربعون
الرسالة السادسة والأربعون
الرسالة السابعة والأربعون
الرسالة الثامنة والأربعون
الرسالة التاسعة والأربعون
الرسالة الخمسون
الرسالة الحادية والخمسون
الرسالة الثانية والخمسون
الرسالة الثالثة والخمسون
الرسالة الرابعة والخمسون
الرسالة الخامسة والخمسون
الرسالة السادسة والخمسون
الرسالة السابعة والخمسون
الرسالة الثامنة والخمسون
الرسالة التاسعة والخمسون
الرسالة الستون
الرسالة الحادية والستون
الرسالة الثانية والستون
الرسالة الثالثة والستون
الرسالة الرابعة والستون
الرسالة الخامسة والستون
الرسالة السادسة والستون
الرسالة السابعة والستون
الرسالة الثامنة والستون
الرسالة التاسعة والستون
الرسالة السبعون
الرسالة الحادية والسبعون
الرسالة الثانية والسبعون
الرسالة الثالثة والسبعون
الرسالة الرابعة والسبعون
الرسالة الخامسة والسبعون
الرسالة السادسة والسبعون
الرسالة السابعة والسبعون
الرسالة الثامنة والسبعون
الرسالة التاسعة والسبعون
الرسالة الثمانون
الرسالة الحادية والثمانون
الرسالة الثانية والثمانون
الرسالة الثالثة والثمانون
الرسالة الرابعة والثمانون
من المؤلف إلى القارئ
الرسالة الخامسة والثمانون
الرسالة السادسة والثمانون
الرسالة السابعة والثمانون
الرسالة الثامنة والثمانون
الرسالة التاسعة والثمانون
الرسالة التسعون
الرسالة الحادية والتسعون
الرسالة التسعون: تتمة
الرسالة الثانية والتسعون
الرسالة الثالثة والتسعون
الرسالة الرابعة والتسعون
أحزان فرتر
أحزان فرتر
تأليف
يوهان فولفجانج جوته
ترجمة
أحمد رياض
جيته
Goethe .
إهداء الكتاب
إلى التي ربتني صغيرا وعبدتني كبيرا، إلى التي زرعت في حب العمل وأنبتت بنفسي الإقدام، إلى التي فتحت فؤادي للشجى، وعلمتني الآلام. إلى مهبط شقائي ومستقر عذابي، إلى الزهرة الزكية الذابلة، إلى الآمال الكبيرة الذاوية، إلى اليد التي قادتني في طريق النجاح، إلى الضحية على مذبح الحب الأخوي، إلى القلب الذهبي، إلى الروح السموي.
إلى «روح أختي المقدس» أقدم كتاب «الأحزان».
10 مايو سنة 1919
أحمد رياض
كلمة في الترجمة
الترجمة نقل كتابة أو كلام من لغة إلى أخرى، وشعارها الأول «الأمانة»، وهي إما عادية أو أدبية؛ ففي الأول يطلب فهم الأصل جيدا، ثم نقل معناه بدقة وعناية، وفي الثانية يزاد على هذا حفظ الأسلوب بملازمة الأصل.
وعلى ذلك، ففي الترجمة الصحيحة القيمة يجب أن يظهر الناقل روح المؤلف، وشكل كتابته وأسلوبه ومعناه جهد المستطاع؛ حتى تشبه ترجمته الأصل من كل الوجوه.
ولذا، فليس للمترجم أن يزيد من عنده قولا أو ينقص معنى، مما يبيحه لنفسه بعضهم ويسميه بالتصرف، ولا نجد له اسما في عرفنا إلا التقصير وخيانة المؤلف، كما في ترجمة بوب لهومر، وكما في ترجمة أكثر الكتب التي بين أيدينا في مصر، وهي جناية يجب الضرب من أجلها على يد المترجمين، وقد ضج منها كثير من الكتاب مثل دكتور صامويل جونسون، وغيره من رجال اللغات المفكرين.
تلك كلمة صغيرة في الترجمة، نرجو أن يتفهمها القارئ جيدا، ويتبين معناها قبل أن يطالع الكتاب ويحكم عليه.
المعرب
مقدمة عن حياة المؤلف
جوهان وولفجانج جيته، نابغة الألمان وشاعرهم الكبير، فحل عصره وعبقري زمانه. تمخضت به ألمانيا، فأهدت للعالم رجلا هو الفلسفة والشعر، هو العلم والفن، أو الحقيقة والخيال، بل هو العظمة والجمال. جاد به الدهر بعد أخيه شاكسبير، ومضى بين أفول النجم الأول وسطوع الثاني قرنان، هما من حياة أوروبا كالفترة ما بين غروب وشروق، أو بين مساء وصباح، وهو القائل فيه كارليل: «لا يذكرني رجل في العالم كله بشاكسبير إلا جيته، فهما فرسا رهان في النظر إلى الحقائق واكتناه البواطن.» حياته كحياة الزهرة كلها معان وجمال، أفاد العالم ردحا من الزمن، كما تعطر الزهرة النسائم وتبهج العيون، ثم عصفت به ريح الموت، فهوت زهرته الفياحة، وانهصر عوده اللدن ، خالد العمل ممجد الذكر.
ولد جيته بمدينة فرنكفورت، في الثامن والعشرين من شهر أغسطس عام 1749، من والد مثر عشاق للمال، عباد للسلطة، ظفر بوظيفة مستشار في حكومة بلاده، خشن الطبع جاف الفؤاد؛ وأم هي والأب على طرفي نقيض، موسيقية الطبع سامية الروح، فولد لها جيته صورة من نفسها، شاعرا بالفطرة، تواقا للفنون، فسعى إليها حتى ظفر ببغيته، ونبغ على أساتذته من مهرة الإسرائيليين بمسقط رأسه. ثم انتظم في سلك جامعة ليبزيج، وهناك شعر وفكر وأحب، ثلاثة هي الحياة. وتعلم الحفر ووقعت له - ولم يتم الحلقة الثانية - عشرون أغنية من نظمه بليبزيج. وفي عام 1770 يمم شطر ستراسبورج ليدرس الحقوق، وفي السنة التالية نال درجة «الدكتوراه»، ودرس العلوم الطبيعية، ورافق هردر
1
الذي كان له على أخلاقه تأثير جليل، ونثر درره الغالية في جريدة فرنكفرتر جلرتن أنزيجبن
Frankfurter Gleherten Anzeigen
فأتحف بها ألمانيا كلها زمنا ليس بالقليل. وفي عام 1772 أتم رواية جوتز فون برلشنجن
Gottz Von Berlichingen
اتبع فيها أسلوب شاكسبير وروحه الحرة، نابذا تقيدات أدباء الفرنسيس حينذاك، فتلقتها الأمة بالترحيب، وهي في ذلك الوقت ناقمة على المبدأ القديم
Classique ، ثائرة ضد السلطة التي أخذت تنحدر في مهاوي السقوط، وفي الرواية من الغمز والطعن في تقاليد وعادات ذلك العصر ما فيها. وفي نفس هذه السنة ألقى عصاه بمدينة وتزلار ليتدرب على الأعمال القانونية، وهناك أحب شارلوت رف
Charlotte Ruff ، صبية حسناء، يتيمة الأم، ناهد في ميعة الشباب، خلبت فؤاد الشاعر - دون أن تدري - عيناها الجميلتان، وكانت خطيبة هركاستنر كاتم أسرار إحدى السفارات بهانوفر، فيئس جيته من حبه العقيم، وفر هاربا إلى بلده دامي الفؤاد، قريح الجفن، مسلوب اللب، ينثر من عينه الدمع، ومن قلمه الشعر، فألف هذه القصة التي بين أيدينا اليوم، وأسماها «أحزان فرتر»
Die Leiden des Jungen Werthers . وما أتمها حتى كانت شارلوت في شهر العسل مع كاستنر، فأهدى كلا منهما نسخة منها، طالبا أن يكتبا إليه برأيهما منفردين، وفي أكتوبر عام 1774 طبعت «أحزان فرتر»، فتلقاها الشعب الألماني وأوروبا كلها بالإكبار، وبلغ بها جيته ذروة مجده، وصافحت شهرته شهرة أبطال العالم العظماء، وعنه قال كارليل بعد قراءة الرواية: «لقد شعر تماما في قلبه الحساس بما يخفق له كل فؤاد، ثم أبرزت عبقريته كشاعر هذا الشعور في صورة ملموسة وبيان جلي، وكذا صار خطيب جيله المفوه، وما فرتر إلا صرخة الألم العميق الذي انحنى تحته كثير من المفكرين والعظماء في عصر ما، بل هو صورة الشقاء، وأنة الشكوى المرة التي تجاوبها الأصوات، ويرن صداها في القلوب من جميع أنحاء أوروبا.»
وله غير فرتر رواية «فوست
Faust
عام 1775»، و«أجمونت
Egmont
عام 1778»، و«أفيجيني
Iphigenie
عام 1778»، و«تركاتو تاسو
Torquato Tasso
عام 1790»، و«داي ناتورليش توشتر
Die naturliche Tochter
عام 1804» وهي تمثيلية، و«زرمورفولوجي
Zur Morphologie
عام 1817-24»، وغيرها من الكتب والروايات الممتعة.
وفي الثاني والعشرين من مارس عام 1832 ببلدة ويمار
Weimar
مات الرجل العظيم، فسكت ذلك المقول الذرب، ووقف القلم الفياض، وأطلقت الروح الكبيرة من قفصها الهيولي، فطارت إلى أشباهها في السماء، تنشد الملائك وتصدع بالسحر الحلال.
الرسالة الأولى
4 مايو عام 1770
أنا مسرور لافتراقنا، على أنني أعجب جدا من جلدي أمام فراق الرجل الذي كان رفيق صباي المحبوب، ولم يزل شطرا من نفسي، والذي تلائمني أخلاقه وميوله كل الملاءمة. أواه! ما أشد عجزنا عن تفهم القلب البشري! إنه يبحث عن الراحة حيث لا راحة ولا نعيم! أنا واثق من عفوك يا صديقي، إن كل ما ظننته سعادة وهناء، وبنيت عليه الأماني والآمال قد أراده القدر أن يكون أصل الشقاء، ومنبع العذاب.
مسكينة ليونورا! بيد أنني بريء مما أصاب فؤادها الحساس، من أجل إعجابي بمحاسن أختها، ولكن هل أنا حقيقة بريء؟ أليس من الجائز أنني كنت أزيد في نيرانها حين أظهرت سروري المتناهي بكل مظاهر شغفها؟ إيه أيها الإنسان، ما أشد دأبك في تعذيب نفسك بالآثام والشرور الخيالية! ولكن لا تفزع أيها الصديق، سأفرغ مجهودي في التغلب على هذه الكآبة، وبدلا من تذكري الآلام الماضية، وابتئاسي بتلك الأحزان المرافقة للحياة، سأدع الكل للنسيان، يفعل به كيف شاء، ثم أغتبط أنا بحاضري. تلك نصيحة صديقي وإنها لقيمة؛ فإن المرء يتعذب عذابين بتذكره الماضي المؤلم الذي احتمل غصصه فيما فات.
أعلم أمي أنني سأوافيها قريبا بما يتم في المهمة التي أسندتها إلي، والتي سأنهض بها جهدي. أما خالتي فقد حادثتها، فلم أر فيها تلك المرأة الغشوم التي كانوا يصفونها لي، نعم إن طباعها جافة، ولكنها طيبة القلب، وقد نكصت عن خطتها، ورضيت بشروط بينتها؛ أن ترد لأمي أكثر مما أطلبنا من الممتلكات التي منعناها زمنا طويلا، فأكد لأمي أن هذه المهمة ستنتهي كما تبغي وتريد. وإنني - أيها الصديق - لأستخلص من هذه الحادثة التافهة أن سوء التفاهم والإهمال يخلقان قلقا ومشاكل بين الناس، أكثر مما تسبب المماذقة والخداع، أو على الأقل تكون عواقبهما أعم وأكبر.
مسكني هنا رائع لطيف، وإنني لأجد في هذه الجنة الأرضية بلسم النفوس الحائرة، الوحدة الحلوة - أيها الصديق - التي طالما كانت مسرة البائس المسكين. إن الربيع الجميل ليطرب فؤادي وينعش جسمي، والطبيعة تظهر فرحة في كل حقل، في كل شجرة، والهواء معطر شذي، والطيور تغرد مرحبة بالصباح، وفيلوميل
1
يترنم في المساء مودعا النهار المتراجع.
ما أعظم الفرق بين المدينة والخلاء! في هذه البلدة لا أجد ما يشوقني، أما فيما يحيط بها فهناك أعظم الجمال، جمال الطبيعة وبهاؤها الجليل. وعلى قمة أحد التلال التي تزيد في رونق هذه المناظر الخلوية تقوم حديقة أنيقة بسيطة للمرحوم مركيز موبرلي، وإن نظرة واحدة إليها لتحملنا على الاعتقاد بأن الذوق الطبعي قد حل هنا محل المهارة الصناعية، وأن هذه الحديقة لم تنمقها فقط يد بستاني، بل يد رجل شاعر ذي عواطف. وهناك على قبر تحت مظلة مهجورة منذ قريب كادت تذهب بها يد الأيام، أطلقت الدمع في ذكرى صاحبها الراحل، وقد علمت أن هذا المكان كان معتزله المحبوب، كما أنه مجلسي الآن، وأنا واثق أنني سأخلفه؛ فقد اكتسبت وداد البستاني الذي سأحفظ له بعناية خدماته لي.
الرسالة الثانية
10 مايو
ما أهدأ عقلي الآن! فهو ساكن سكون الفجر الذي يزيد في حلاوة هذه العزلة. إنني أبدأ حياتي وحيدا في هذا الفضاء الذي خلق لقلوب مثل قلبي، وإن هذه الوحدة لتروح عن نفسي كثيرا حتى أرى الحياة الآن ألذ وأشهى من العمل؛ فقد أهملت الدرس، وطرحت كل أسباب مسراتي السابقة، وكذلك نبذت ريشتي، ومع ذلك فإنني أجيد التصوير أكثر من ذي قبل. وحين تنفح الغمامة أغصان وادي الصغير برذاذها اللؤلئي، وحين تحجبني الأشجار المحيطة بي عن شمس الظهيرة، التي ترسل قبسا من أشعتها ينير محرابي المحبوب؛ أتمشى أحيانا تحت القباب المظلة مفكرا، ثم أتمدد على الحشائش الطويلة بقرب الهدير الهامس، معجبا بمختلف الأنواع من أبناء الطبيعة، فهنا آلاف من النباتات الصغيرة، وثم آلاف من الحشرات الضئيلة التي تعيش عليها.
إن هذه الكائنات التي كانت يوما ما أدنى من أن تلفت نظري، صارت الآن مسرح عنايتي، فأومن بتلك القوة الإلهية التي خلقتنا، والتي ترعانا عنايتها الأبدية. وإذا ما خيم الظلام ساحبا أذياله على هذه المناظر، استعدت كل ما مر بي من عجائب الكون، حتى ليفعل بي التأثير ما يفعله مرأى صورة عشيقة محببة، فيملؤني بفرح خفي، كثيرا ما ينقلب فجأة إلى تعبد وصلاة.
آه أيها الصديق! إنني لأود أن يطاوعني البيان، فأشرح تماما ما يجول بخاطري، وأعبر عما أشعر به وأحس، ولكن عبثا ما أحاول، إن الكلمات الحقيرة لتعجز عن التعالي إلى هذه الأفكار، فإن سموها يدهش ويلجم.
الرسالة الثالثة
12 مايو
كل ما حوالي يشعر بقداسة سماوية، والعامل في ذلك أحد اثنين: إما قوة سحرية فتانة خفية، أو تأثير شعور حي دقيق. وإن حسنا لا يقاوم يجرني جرا إلى لزوم ينبوع ماء صاف، يتفجر من صخر في مغار يهبط إليه بنحو العشرين درجة من أسفل تل؛ فإن جدار الماء المتداعي، وأشجار الصنوبر التي تحنو عليه فتظله، والنسيم المنعش، وخرير الماء، وتداعب الأغصان الموسيقي الحلو؛ كل هذا يحرك في فؤادي أسمى وأرقى العواطف، فأقضي هناك ساعة من كل يوم. وإلى هذه العين تفد الفتيات من البلدة ليحملن الماء - عمل قد اشترك فيه قدما بنات العامة وبنات الملوك، فما أطهر وما أنفع! وأنا أتصور الآن كل عادات العصور المنقرضة، فيخيل إلي أنني أشهد أسلافنا يبرمون المعاهدات والمحالفات بجانب النوافير، بدافع حب الخير المزعوم، ويخيل إلي أنني أرى الحاج الفقير، وقد نال منه قيظ الصيف وملكه الجهد، يستريح على ضفة الجدول، أو يغتسل بمائه البلوري، فينعش جسمه ويسترد قواه.
أعلم أيها الصديق أن الرجل قد أنهكته رحلة صيف سحيقة ركب فيها قدميه، ثم أطفأ جذوة ظمئه بشربة باردة من الينبوع، لا يختلف عني في شيء من شعوري وأفكاري.
الرسالة الرابعة
13 مايو
تبعث إلي بكتب! كلا يا صديقي العزيز، إنني أشكر لك جد الشكر عنايتك بي، ولكنني ألح عليك في الإقلاع عن عزمك. لقد قيدت كثيرا، وهيجت وحمست طويلا؛ ولذا أريد الآن أن أكون حرا، وأن أتمتع بأفكاري، وليس ينقصني إلا أغان مهدئة، وهذه أجدها في شعر هومر.
طالما اجتهدت أن أسكن دمي الثائر، وأن أصد فؤادي عن رغباته ومشتهياته، ولكن أأنا في حاجة لإخبار صديقي بكل هذا؟ لقد شهدت في انقلابات فجائية جمة، فرأيتني حينا مفكرا حزينا، وحينا مجنون فرح وطرب، خامل الروح هادئا، ثم ثائرا لا يقر لي قرار.
إن هذا القلب كطفل معتل، يجب أن أترك له العنان، بيد أنني لا أجهر بذلك؛ فإن العالم يأخذ علي هذا الضعف، ويعنف الرجل الذي يضحي عقله في سبيل أهوائه.
الرسالة الخامسة
15 مايو
لقد عرفني وأحبني عامة الناس هنا، وخصوصا الأطفال، مع أنهم عند بدء تكلمي معهم وتعرفي بهم شكوا في إخلاصي، وعاملوني بجفاء، ولكنني لم أتعال عن التقرب إليهم وخطب مودتهم. من هذا تحققت شيئا طالما لاحظته، وهو أن الطبقة العالية تميل كثيرا لأن تجعل بينها وبين من هم أقل منها مسافة وبينا، كما لو كان تواصل الطرفين مفسدا لعظمة الأولين هادما لأبهتهم. ولكن ما أكبر صلف، بل جهل، ذلك السيد النبيل، يتنازل من عليائه في وقت ما، فيتواضع مع الرجل العامي البسيط، ثم يهمله ويحتقره في أوقات أخرى! إن هذه الحياة لن تعرف المساواة، بل إن الرجل الذي يظن أنه يحرز ميزة خاصة ومركزا واحتراما بتجنبه غيره، لهو أحط شأوا من الجبان، يتفادى العدو خوف وثوبه عليه.
في ذات يوم كنت عند الينبوع، فرأيت فتاة على الدرج الأسفل ودلوها بجانبها، تنتظر إحدى رفيقاتها لتعاونها في رفعه إلى رأسها، فابتدرتها بالتحية قائلا: «اسمحي لي يا عزيزتي أن أعاونك في رفعه.» فاحمرت خجلا وأجابت متأدبة: «كلا يا سيدي.» ولكنني نبذت التقاليد والعادات وساعدتها، فشكرتني بابتسامة كانت لي خير جزاء.
الرسالة السادسة
17 مايو
لي هنا الآن معارف كثيرون، بيد أنني لا أزال في حاجة إلى الاجتماع، ولست أدري سببا في التفاف الأهلين حولي وسرورهم بمرافقتي في رياضتي، وأسفي عند اضطراري لمفارقتهم. أنت تسألني أي نوع من الناس هم، إذا فاسمع الجواب، إنهم أناس كالذين تجدهم في كل مكان، إن عمل الطبيعة واحد أبدا، ولكن الحظوظ هي التي تخلق الفروق والاختلافات. إن السواد الأعظم من الناس ملزم بوقف الجزء الأكبر من حياته على العمل، ليحصل على حاجاته الضرورية، بينا تجد الشطر الباقي من وقته يظهر مجهدا مملا، حتى إنه يعمل للخلاص منه، كذلك خلق الإنسان.
على أنني مسرور بمعارفي الجديدين، ماذا؟ إن المتعجرف يقول: «إنني أنسى نفسي.» ولكنني أؤكد له أنني «أمتع نفسي» بجلوسي إلى مائدة تجمع بين الكرم وطيب الأخلاق، وسروري بالموافقة على ما يقترح رفاقي من سير أو رقص أو أضرابهما من أنواع اللهو، ولكن ما يجبه سروري حقيقة هو اضطراري أحيانا للاستخفاء عنهم، لئلا يكون وجودي سببا في خجلهم متى شعروا بضعتهم.
ثم أذكر بعد هذا صديقتي الراحلة، صديقة صباي التي لم يقدر لي أن أعرفها إلا لأبكيها، إيه يا للذكرى المؤلمة! لقد ذهبت وتوارت أمامي في القبر، والعالم الآن موحش قفر، ولكن يكفي، يكفي.
لقيت منذ أيام المهذب هرب؛ شاب طلق المحيا، بارق الثغر، ترك منذ عهد قريب جامعة أبسالا
Upsala ، ولكنه لا يختال بما أوتي من علم مع شعوره بتفوقه على جل البيئة التي هو فيها، على أن اجتهاده وجده يظهر أنهما يفوقان مداركه ومواهبه العقلية، زارني إذ علم بمعرفتي اليونانية وولعي بالتصوير - شيئان يعتبران أعجوبة في هذه الأرجاء - فأفرغ أمامي في أثناء الحديث جعبته مما وعى من العلوم، ومن سيرة المؤلفين الذين درسهم، وقال إنه قرأ كل القسم الأول من نظرية سالتزر
Sultzer
وإنه يملك نسخة خطية من «دراسة الآثار لهينز
Heynes »، وعلى العموم فقد كان لطيف المجلس، طيب الإيناس. تعارفت أيضا مع شخص جليل، هو نائب أعمال الأمير، ترفعه ميوله الراقية الكريمة ونفسه الشريفة إلى مستوى سام عند الجميع، له من الأطفال تسعة، وما أجمل منظرهم حين يلتفون به ويحيطون! والقوم هناك يثنون على ابنته الكبرى كثيرا، وقد دعاني لزيارته، وسأتحين أول فرصة أقدم له فيها احتراماتي الشخصية. أما منزله الذي يبعد عن مسكني نحو فرسخ ونصف؛ فقد كان منزل صيد للأمير، وقد منحه إياه عند وفاة زوجته المحبوبة؛ لأنه لم يتحمل البقاء فيه بعدها.
عرفت أيضا أشخاصا آخرين، كان استيائي بمعرفتهم معادلا لسروري بمعرفة سابقيهم، حشروا أنفسهم في رفعتي حشرا، وارتدوا ثوبا من الفظاظة بتأدب جاوز الحد، وثوبا من السخرية بادعائهم المراتب والأعمال.
الرسالة السابعة
22 مايو
يقولون إن هذه الحياة كحلم النائم، وإنني أيضا لأقول بذلك حين أفكر في القيود والأغلال التي تضيق على الروح العاملة النشيطة في الإنسان، وأرى أن كل قواه تتحرك وترمي إلى غاية واحدة، هي نشد القوت لإطالة حياة مرة تاعسة، وأن اهتمامه الظاهر بمسائل خاصة ما هو إلا انقياد ورضوخ أعمى، وأن كل همه وسروره هو أن ينقش على جدران سجنه أوهاما خادعة، وآمالا كاذبة، مع أن الحدود التي تحبس عنه حريته ما زالت قائمة أمام عينيه. آه أيها الصديق! حين أفكر في كل ذلك أفحم وأسكت، ثم أفكر ثانية أكثر من ذي قبل، باحثا في خفايا القلب، ولكن إلى أي نتيجة أصل؟ أشباح خيالية، وخزعبلات كاذبة، ووهم فارغ أكثر من اعتقاد ثابت أو حقيقة أو صدق. أن الأمر كله مشوش مختلط، وزيادة على ذلك فإن التيار الذي يدفع بغيري في هذه الجهالات يجترفني أيضا، وكذلك يزيد عدد الجهلة الحالمين.
اتفق الباحثون في أن الطفل يعمل بلا محرك ولا دافع، ولكنهم لم يتمكنوا من الاتفاق في الحقيقة الجلية الواضحة، كما أرى، وهي أن الأطفال «الكبار» يعمهون في بيداء هذه الحياة، كما كانوا «صغارا» جاهلين أصولهم ومميزاتهم بلا قانون مشروع أو سنة موضوعة يسيرون عليها، اللهم إلا التشويق إلى الجزاء والإنذار بالعقاب، كما يرغب الأطفال بالحلوى ويرهبون بالعصا. إنني أحزر جواب صديقي على هذا، وإنني لأقر أيضا بأن أسعد السعداء هم الذين لا يفكرون في الغد، بل يلهون بحاضرهم كالأطفال يتمتعون بالألاعيب ويصيحون طالبين ما يشتهون، فإذا أعطتهم إياه أمهم الحنون صاحوا وطلبوا المزيد. هؤلاء هم الناعمون، يقنعهم القليل ويرضون باليسير، بل إن هناك أناسا يحسدون حقيقة! كل مرادهم وغايتهم في الحصول على الرتب الساقطة والألقاب الفارغة، يحسبون أنفسهم آلهة الناس، وأرباب العالم أجمع!
إن الرجل الذي يشعر بلا شيئيته، ويرقب سخف هذا كله، بتؤدة المفكر وعقل الحكيم، يستخلص أن الأغنياء الذين لا يألون جهدا ليجعلوا هذه الأرض جنتهم، والفقراء الذين يعملون بنصب وانكباب وذل لتحصيل عيش ضئيل، سواء في حب إطالة هذه الرواية التي يعاملون تحت تأثيرها بلا عدل أو مساواة. ربما كان المرء راضيا سعيدا يحمل لقب «الإنسان»، ويعلم أن مسرحه محدودة نواحيه، ولكن عقله متشبع بتلك الفكرة المعزية؛ فكرة الحرية التي تؤكد له أنه متى أصبح التقييد لا يطاق، وجد مفتاح السجن في جيبه.
الرسالة الثامنة
26 مايو
أنت تعرف تعلقي بأماكن خاصة، وحبي للمعتزلات المنفردة، وولعي بتنظيم هذه المناظر وجعلها موافقة لطباعي وأميالي. وجدت هنا بمقاطعة والهيم، على بعد فرسخ من المدينة، مسكنا صغيرا هو طبق مشتهاي، يقوم على جانب تل جميل يشرف على كل الخلاء المجاور؛ أما ربة الدار فعجوز طيبة غريبة الأطوار، تقدم لي النبيذ والجعة والقهوة والشاي، ولكن ما يأخذ بمجامع قلبي هنا شجرتا زيزفون أمام الكنيسة، تظللان بفروعهما المنتشرة الممشى الصغير الذي يحيط به جم مناظر خلوية رائعة، بل إنك لا تستطيع أن تتصور مكانا أشد عزلة وأكثر جمالا، وإنني لأرسل لصاحبة الدار في طلب مقعد ومنضدة، وهنا في هذه الوحدة الحلوة أشرب قهوتي وأقرأ هومر.
إلى هذا المكان المهجور قادتني الصدفة أثناء تجولي بعد ظهر يوم ما، وكان يوما جميلا، والفلاحون منتشرون يعملون في حقولهم، وكان هناك صبي صغير في حوالي الرابعة من سنيه، جلس على الأرض يحمل طفلا لم يجاوز شهره السادس، وقد احتضنه إلى صدره، وجعل له من ساعديه مقعدا، وكان يجيل عينيه السوداوين البراقتين فيما حوله من خضرة ونضرة، محتفظا بجلسته كي لا يقلق وديعته الصغيرة، أخذ مني هذا المشهد الجامع بين الطهر والحب، فاقتعدت محراثا قبالته، وأخذت - يملؤني السرور - أصور بقلمي الرصاص هذه الصورة الجميلة، صورة الحنان الأخوي. ثم أضفت إليها ما عرض لي هناك من سياج، وباب مخزن للحبوب، وبعض أدوات للفلاحة غير منتظمة، فوجدت أنني قد أخرجت في ساعة صورة ناطقة كاملة الحسن، دون أن أستعين بتفنن أو ابتكار، وهذا ما يقوي في عزيمتي السابقة، وهي الالتجاء إلى الطبيعة؛ فهي مع بساطتها لا يفنى كنزها، ولا يفرغ بهاؤها، بل إنها لقادرة أبدا على أن تمنح المصور، وتلهم الشاعر موضوعات جديدة، وأن تعلي وتزيد من قدر ما يخرجان. إن أسباب التقيد بالقواعد ضعيفة ضعف أسباب التمسك بقوانين الاجتماع، دعني أسلم أن الفني الذي يتمشى على القاعدة لا ينتج قط شيئا رديئا جدا أو قبيحا، كما أن الرجل المقيد بالقانون وقواعد التربية لا يقترف ذنبا ضد المجموع أو ضد جاره. ولكن ليقل الناس ما يشاءون في الدفاع عن القواعد والقوانين، إنهم يحاولون أن يفسدوا ويحجبوا وجه الطبيعة الحقيقي ومظاهرها الصحيحة، ربما تقول إنهم يقلمون الأفرع الزائدة عن الحاجة، فيمنعون تشوه الشكل، فاعلم أنني يجب أن أصر على القول بأنهم يحبسون النبوغ، وأن خسارة هذا الجمال الذي يفسدونه لا يعدله بوجه من الوجوه الخطأ الذي يصلحونه.
لنقارن العقل بالحب، ولنفرض أيها الصديق أن شابا أحب فتاة وأخلص لها، فجعل أفكاره وقفا عليها، ووهبها كل عنايته، وبذل غاية المجهود وكل الوسائل ليبرهن لها على أنها متمناه الوحيد، ومركز ولهه وشغفه، ثم جاءه فيلسوف ربما ناطحت شهرته الجوزاء، فنصح له قائلا: «يا صديقي الصغير، الحب عاطفة تطفر من الطبيعة، ولكنها يجب أن تحد وتقيد ، وإن وقتك جله يجب أن يستنفد في أمور الحياة، أما ساعات فراغك فتلهبها لحبيبتك، ولتكن هداياك متناسبة مع دخلك وفي أوقات معينة.» فإذا قبل الشاب هذه النصيحة الحكيمة حبذ رأيه، وصوب عمله، ولكن لم يبق لحبه إلا ظل ضئيل، وهكذا حال المصور المحفوف بالقواعد، وقد يكون عمله صحيحا ولكنه لا يكون ممتلئا بالروح والحياة.
والعبقرية تيار جارف، تنحدر أمواجه المتدافعة إلى أمام فتذهل الناس، ولكن رجالا ذوي حيلة ومكر يمتلكون الشواطئ، فيرابطون عليها، ويعترضون الأمواج بما لهم من قوة المقاومة، وهم هنا قد شيدوا المباني وزرعوا الحدائق، ولكنهم خافوا تفوق الغير، فاضطروا أن يدافعوا عن عملهم المنظم بالخنادق والسدود، وأن يصدوا كل جدير مستحق، وبذلك يقون أنفسهم الخراب والسقوط.
الرسالة التاسعة
27 مايو
أضلتني حالتي الخيالية التي كنت فيها بالمجازات والفلسفة الكلامية، فنسيت كل النسيان أن أتمم الحديث الذي أردت أن أدلي به إليك في رسالتي الماضية. جلست ساعتين كاملتين على المحراث، مأخوذا بتلك الأفكار والتصورات التي فاضت بها رسالتي، وجاءت قبيل المساء امرأة في مقتبل العمر تعتضد سلة، تبحث عن الطفلين اللذين لم يبرحا مكانهما، فنادت من بعيد: «فيليب! إنك لصبي وديع.» ولحظتني، فتقدمت إليها متسائلا عما إذا كان الطفلان المحبوبان ولديها، فأجابت: نعم. ثم نفحت أكبرهما بكعكة، وأخذت الأصغر بين ذراعيها، فقبلته بحب أموي صادق، والتفتت إلي قائلة: «قد استودعت فيليب هذا الصغير يا سيدي، ريثما أذهب إلى البلدة مع ولدي الآخر لأبتاع خبزا وسكرا وهذا الإناء الفخار، لأصنع فيه حساء لعشاء الطفل الصغير، فإن أخاه الشقي الأكبر قد كسر الإناء القديم أمس بينما كان يتخاصم مع فيليب على قطعة من الفطير كانت فيه.» فسألتها عن ولدها الآخر، وبينا كانت تخبرني أنه يجتاز المراعي ببعض الإوز إلى البيت، ظهر الولد يثب فرحا حاملا لأخيه غصنا من شجرة بندق، وقد فهمت أثناء حديثها أنها كانت ابنة ناظر مدرسة القرية، وأن زوجها سافر إلى هولندا بعد وفاة عمه، ليضع يده على ممتلكات له هناك قائلة: «لأنه لم يصله رد قط على ما كان يرسل من الكتب بخصوص هذا الأمر، فخاف ضياع ماله بلعبة أو حيلة، ورأى لزوم وجوده هناك، فرحل ولم أتلق منه للآن خبرا.» وفارقت هذه المرأة الصالحة آسفا، وأعطيتها كروتزر
1
لتبتاع به كعكة للصغير، وأعطيت آخر للولدين.
حقا أيها الصديق، ليس ثمة شيء يهدئ الفكر المضطرب كرؤية مثل هذه الأم السعيدة، التي مع ضيق دائرة حياتها تعيش بهدوء حلو لا تعنى بالماضي أو المستقبل، بل توجه كل همها إلى الحاضر. تتوالى عليها الأيام دون أن تترك أثرا، والأوراق المتساقطة لا توحي إليها إلا فكرا واحدا هو اقتراب الشتاء.
ترددت منذ ذلك الحين على هذا المكان، وعرفت الأولاد وعرفوني جيدا، فإذا ما تناولت قهوتي أعطيتهم قطعة من السكر، وفي المساء أشركهم في اللبن والخبز والزبدة، وأنفحهم في كل يوم أحد بكروتزر، وإذا كنت منصرفا إلى الصلاة، أعطتهم إياه ربة الدار بناء على أمري، وقد حزت ثقتهم، فهم يسرون إلي كل أمورهم ومطالبهم، ويدهشونني بصفائهم، خصوصا إذا كان معهم رفاق لهوهم الصغار. وخشيت أمهم في بداءة الأمر أن يكونوا علي متطفلين، ولكنني أقنعتها بعكس ما تظن، وجعلتها بعد عناء قليل تمنحهم ملء حريتهم، فتتركهم يسرون ما يشاءون.
الرسالة العاشرة
30 مايو
رأيي في الشعر كرأيي السابق في التصوير، فدعامتهما القدرة على فهم الجمال، وطريقة حسنة للتعبير. كان أمامي اليوم منظر يمكن أن يكون موضوعا بديعا لشعر بدوي، ولكن ما الحاجة إلى الأوصاف الشعرية والأناشيد؟ أيجب أن يقص كل معجز في الطبيعة في بيت أو وزن؟
أنت مخطئ في ظنك، إذا كنت تنتظر من وراء هذه المقدمة شيئا فخما. إن موحي هذه العواطف الحية فلاح ...
سأقصها على غير وجه كامل، كما هي عادتي، ولو أنك ستقول، كما هي عادتك، إن الصورة ملونة فوق اللازم، إن هي إلا قصة والهيم.
اتفق جماعة من تلك القرية على الاجتماع لتناول القهوة تحت أشجار الزيزفون، ولم تسرني رفقتهم، فاعتذرت عن الحضور، وكان المحراث الذي اقتعدته يوم التصوير قد كسر، فجاء شاب من الجهات المجاورة ليقوم بإصلاحه، وسرني شكله فجاذبته الحديث، حتى وثق بي بعد وقت قصير، فسألته عن شئونه، فقال إن حبيبته أرملة وأثنى عليها كثيرا. ولاحظت أن حبه لم يكن «عبودية»، وقال من طرف خفي إنها متقدمة في السن، وإنها آلت على نفسها ألا تتزوج؛ لما نالها من إهانة وسوء معاملة من زوجها القديم، وكان كلامه جله تعبيرات حلوة كثيرة، صورت آماله ورغباته الشديدة في غسل الشقاء الذي جلبه عليها زواجها، وقال إنه ليطيل كثيرا إذا أراد أن يصور تماما شغفه وحبه، بل إنني يجب أن أستعين بنيران الشعر لأصف تلكم النظرات المتلألئة في عينيه وهو يتكلم، عبثا أصف أن صديقي ليستطيع أن يتصور ما أجد روايته محالا.
ورأى في أثناء اعترافه بحبه أن يتفادى ذكر أي عسر مالي طفيف قد يؤثر في سمعة السيدة، وخشي أن أرتاب في استقامتها، فأفاض يتكلم - بلهجة حب صحيح لا تزال تسرني ذكراه - عن كمالها ومناقبها، وأنها وإن كانت قد قطعت مرحلة الشباب إلا أنه قد بقي لها كل جمالها القديم. لم أشهد قط من قبل حبا صادقا كهذا، تلك عاطفة قلب مخلص، فلا تهزأ مني أيها الصديق إذا صرحت بأنني قد افتتنت بهذا الحب والثبات اللامثيل لهما، وقد نال مني حديثه الخالص وأثر في، حتى لأحسب نفسي في بعض الأوقات ثملا بنشوة هذا الغرام الذي صرح به.
سأنتهز فرصة قريبة أرى فيها هذه السيدة المحبوبة، على أن تجنب ذلك ربما كان أكثر تعقلا وحزما؛ فإن هذه السجايا الجميلة الوصف قد تختفي إذا رأيتها، قد لا تكون لي عين الحبيب، ولو أن بي آراؤه؛ وعلى ذلك فسأضيع جمال التصور، وأفقد السرور الذي أتمتع به الآن.
الرسالة الحادية عشرة
30 مايو
لماذا لا أكتب إليك؟ أنت حازم مفكر، وتسأل مثل هذا السؤال البسيط! قد تكون حسبتني سعيدا، وإنني بالاختصار قد وجدت شخصا آخر، صديقا أعز منك، وإنني لقيت، لست أدري من ...
من الصعب جدا أن أخبرك بالتفصيل كيف عرفت أقدس بنات جنسها، إنني سعيد، سعيد فوق الوصف؛ فلذا لا أستطيع أن أحدثك بكل شيء.
هي ملك، بل معبودة، ولكن ... هذه ألقاب ستقول إن كل محب يهبها جزافا لحبيبته، إنها الكمال كله، ولكنني لا أستطيع وصف هذا الكمال، ولا أقدر أن أصف مبلغ افتتاني به.
هذه البساطة مع فهم يبز صفاؤه كل صفاء! هذا اللطف وهذه الرشاقة! هذه الدعة وهذه العواطف. كلا كلا، إن هذه إلا تعبيرات واهية لا تظهر في ثناياها حقيقة طبيعتها في المستقبل، ولكن لا الآن، فربما لن تسنح لي فرصة أخرى.
بل اسمع الحقيقة، إنني منذ بدأت أكتب هممت مرارا بإلقاء القلم والإسراع إلى إلقائها، عقدت نيتي هذا الصباح على إمضاء سحابة اليوم بمنزلي، على أنني بالرغم من هذا طالما نظرت من النافذة لأرى إذا كانت الشمس لا تزال طالعة.
عبثا أحاول العمل بالعكس، ذهبت لزيارتها، نعم يا صديقي وعدت الآن، والآن سأتتبع كتابتي وأنا أتناول طعام الإفطار. آه ما أجمل رؤيتها مع إخوتها وأخواتها الصغار، رؤيتها ... ولكنني إذا استمررت على هذا الحال فسوف لا تعلم شيئا، بل ستكون في النهاية كما كنت في البداءة، سأحاول أن أصلح هذا التخبط، وأن أخبرك الخبر بنظام، فأعرني التفاتك:
ذكرت لك في كتاب ماض تعرفي إلى نائب الأمير ودعوته إياي لزيارة مملكته الصغيرة، كما أسمي بحق مسكنه الحالي، ولقد تأخرت زيارتي طويلا، حتى إنني لم أكن لأقوم بها لولا الصدفة التي كشفت لي عن الكنز الذي يخبؤه هذا المكان. وافقت على الاشتراك في حفلة قروية إجابة لطلب بعض شبان البلدة، واتفقت مع فتاة على أن تكون رفيقتي، وهي لطيفة المحضر ذات حسن عادي، ولو أنها تفخر به كثيرا. واتفقنا على أن أصحب رفيقتي وإحدى قريباتها في مركبة، ونمر بشارلوت التي وعدت بحضور المرقص. وفي الطريق إلى بيت النائب أخبرتني صاحبتي أن علي الآن انتهاز الفرصة لرؤية فتاة جميلة جدا، قائلة: «سأقدمك إليها يا سيدي.» فقالت قريبتها: «ولكن حذار من الافتتان بها!» فسألتها: «ولم؟» فأجابت صاحبتي: «لأنها مخطوبة إلى شاب هو في الحقيقة جدير بها، وقد توفي والده فجأة، فذهب ينظم شئونه ويسعى وراء مركز في البلاط.» فلم أعبأ بكل هذا؛ لأنني أيها الصديق لم أمل لامرأة قط منذ فقدت ليونورا، ولما وصلنا المنزل كانت الشمس تتوارى وراء قمم الجبال، واشتدت الحرارة واحتبس النسيم، وتجمع في الأفق غمام ينذر بدنو العاصفة، وأدركت السيدتان الخطر وخافتا أن تشوب صفوهما المنتظر شائبة، وكان علي أن أقشع مخاوفهما، فتظاهرت بالسكون وعدم المبالاة، وهدأتهما قائلا إنني أدرى بتقلبات الجواء، وإنه لن يقع شيء مما يرهبان. وتركت المركبة، وجاءت وصيفة ترجونا انتظار مولاتها قليلا، ولما تخطيت الساحة المؤدية إلى الدار المنفردة، وصعدت بعض درجات قادتني إلى الردهة، شهدت بها ستة أطفال لا يتجاوز أكبرهم الحادية عشرة، ويبلغ أصغرهم عامين، يلعبون ويتواثبون حول فتاة متوسطة القامة، رشيقة الهندام، ترتدي ثوبا بسيطا أبيض ذا أشرطة قرنفلية يضرب لونها إلى الصفرة، وكان بيدها رغيف من الخبز تقسمه مع قطعة من الزبدة بين الصغار أقساما متناسبة بطريقة حلوة شيقة، وكان كل منهم يبسط يده ينتظر نصيبه فيأخذه ويصيح: «شكرا لك، شكرا لك.» ثم يسرع إلى الباب ليرى الجماعة والمركبة التي ستحمل عنهم شارلوت، ورأتني فاعتذرت بأدب لتأخرها قائلة: «إنني آسفة جدا يا سيدي لأنني حملتك مشقة النزول من المركبة، وحملت السيدتين عبء الانتظار، ولكن تأهبي السريع لارتداء ملابسي قد أنساني بعض شئون منزلية، والأطفال لا يرضون بالعشاء إلا إذا تناولوه من يدي.» فتمتمت مجيبا ببضع كلمات لا أذكر منها شيئا؛ فقد أخذت بحديثها ورنات صوتها وتناسق شكلها، ولم أفق عن دهشتي حتى أسرعت إلى غرفة أخرى تطلب المهواة والكفوف. وكان الأطفال أثناء غيابها يسترقون النظر إلي ويتهامسون، فاقتربت من أصغرهم، وكانت تلوح عليه علائم الذكاء، فتجنبني، وكانت شارلوت إذ ذاك عائدة، فقالت له: «تعال يا لويس. اقترب ولا تخف من ابن عمك.» فمد يده إلي وقبلته بانعطاف، وفي طريقنا إلى المركبة التفت إليها قائلا: «ابن عم! وهل تعدينني إذا جديرا بشرف الانتساب إليك؟» فابتسمت ابتسامة ذات معنى قائلة: «لي أولاد عم عديدون، وإنه ليسوءني إذا كنت أقلهم جدارة واستحقاقا.» ولما هممنا بالرحيل طلبت إلى صوفيا - وهي البنت الكبرى - أن تعنى بالأطفال، وأن تجلس إلى والدها، بمجرد وصوله إلى المنزل. ثم أمرت الصغار أن يطيعوا صوفيا كما يطيعونها هي، فأذعنوا ووعدوا بالطاعة، إلا فتاة صغيرة ذكية الفؤاد، لم تتجاوز السادسة، فإنها قالت عابسة: «ولكن الأخت صوفيا ليست بالأخت شارلوت، ونحن يجب أن نحب الثانية أكثر من الأولى.» ووثب الصبيان الكبيران فتمسكا بمؤخر المركبة، وأذنت لهم شارلوت إجابة لرغبتي بمرافقتنا إلى آخر الغابة، على شريطة ألا يزايلا مكانهما، وأن يبقيا متأدبين، ولكنا لم نكد نأخذ مقاعدنا ويحيي السيدات بعضهن بعضا، حتى استوقفت شارلوت المركبة، وطلبت بلطف إلى أخويها أن يتركاها، ورجواها أن يقبلا يدها قبل الرواح فأذنت لهما، وكانت قبلة الأكبر ملأى بحب ابن الخامسة عشرة، وقبلة الأصغر بحنو وانعطاف يليقان بسنيه، ثم سألتهما أن يذكراها لدى الباقين.
وسارت المركبة، واستفسرت قريبة صاحبتي من شارلوت عن رأيها في الكتاب الذي بعثت به إليها أخيرا، فأجابتها قائلة: «لم ينل من استحساني أكثر مما نال أخوه الذي تفضلت به علي من قبل؛ وعلى ذلك فسأرده سريعا.» فتساءلت عن اسمه، ودهشت إذ قالت: «قصر أترانتو.» وكان يتجلى في كل ما تقول وفرة الحجا وسداد الرأي، بل إن كل كلمة كانت ذكاء يتوقد، وكل نظرة بيانا ساحرا، وكان يزداد بريق محياها من الرضى بموافقتي إياها على رأي أو قول. وبعد يسير قالت: «كنت أسر كثيرا فيما مضى بقراءة الروايات، وكانت كل لذتي بعد ظهر أيام الآحاد أن أخلو بنفسي في غرفة منفردة، فأقرأ إحدى تلك السير العجيبة، ولكن سرعان ما قل حبي ل «الغير المحتمل»، وحل محله حب الحياة البيتية. وكنت أتتبع بشغف واهتمام نجاح بطلة الرواية أو خيبتها، ولا أزال أحب من السير أمثال جرانديسون
Grandison
وكلاريسا هارلو
Clarissa Harlowe ، وليس لدي الآن من الوقت ما يسمح لي بالمطالعة. وعلى ذلك فإن القليل الذي أطالع عادة هو مجموعة فصول من تلك الحياة التي تعودتها، وإنني لأفضل المؤلفين الذين يضعون الطبيعة نصب أعينهم، ويذكرونني بهذه المسرات المنزلية، هذه المناظر المحبوبة التي أراها وأحتك بها في أسرتي.»
وأذهلتني دقة ملاحظاتها، وصواب أحكامها، فلم أستطع إخفاء عواطفي؛ لقد اشتعلت الجذوة في فؤادي، وأخاف أن يذهب بها لهبها قريبا. ثم أخذت تبدي آراءها في مؤلفات أخرى، خصوصا «كاهن واكفيلد» بسداد وحصافة أظهرت بلا ريب تحمسي في الموافقة على أقوالها وتحيزي لذلك، ولكنها وحدها قد امتلكت لبي حتى لم أعد أشعر بوجود غيرها في المركبة، ومع ذلك فإن شارلوت كانت توجه الحديث إلى السيدتين. ونظرت إلي قريبة صاحبتي نظرات معنوية، أفصحت عن ريبها وشكوكها، بيد أنني لم أبال بها. ثم انتقل الحديث إلى الرقص، فقالت شارلوت إنه وإن كان نوعا من اللهو يندد به الكثيرون، ولكنها شخصيا تميل إليه، فإذا ما انتابها قلق أو هم عارض أسرعت إلى آلتها العازفة، فدقت عليها بعض رقصات ريفية تسترجع بها الصفاء والنشاط. يا لله! لقد سحرني جمالها، فلم تتحول عيناي عنها، بل إن نغمات صوتها العذب قد أسكرتني فلم أفقه شيئا، وطاش بلبي إعجابي بعينيها المتلألئتين وقدها الرشيق، ولما وقفت المركبة نزلت منها فاقد الحس ضائع العقل، ولم أفق إلا في غرفة الاجتماع؛ حيث وجدت نفسي في وسط المدعوين، ورافق شارلوت والسيدة الأخرى صاحباهما اللذان كانا ينتظرانهما بالباب، وصحبت كذلك رفيقتي، ثم بدأ المرقص بعد دقائق، وتناوب السيدات الرقص معي، ولاحظت أن الدميمة والعادية كانتا أشدهن كلفا بالإطالة، وبدأت شارلوت ترقص مع صاحبها رقصة ريفية، ثم أتت لترقصها معي. آه! إنه ليستحيل عليك أن تتصور مقدار السرور الذي فاض علي، بل آه لو رأيتها راقصة! فشهدت الخفة والسهولة اللازمتين لكل راقص، ورأيت ذلك القوام البديع، والحركات الرشيقة المنتظمة!
ورغبت أن تتكرم فتعيد الكرة معي، ولكنها اعتذرت متلطفة، مؤكدة لي أنها على موعد من آخر، ثم تفضلت واعدة بتقديم يدها إلي في الدور الثالث، قائلة بصراحة حلوة إنها تحب نوع الألليماند
Allemandes ،
1
ومن الشائع هنا أن يرقصها كل رفيقين، ولكن صاحبي لم يتعودها، ويرجو أن يعفى منها، وأنا أدري أيضا أن صاحبتك كارهة لها، وقد أقنعتني مظاهر رقصك أنك قادر على إجادة هذا الضرب، فإذا تفضلت فاسأل رفيقتي السماح كما أسأل رفيقتك. وهكذا سويت المسألة، واتفقت مع صاحب شارلوت أن يلزم صاحبتي في تلك الأثناء، وبدأنا رقصنا باشتباك الأذرع، وصاحبتي تظهر في كل حركة حياة وبهاء. ولما غيرت الفترة
2
اختل نظام الجماعة، وقد كان عليهم أن يلتف كل منهم حول الآخر كالأكر، ولكننا مع ذلك تجنبناهم بحذق حتى انسحب من ارتبك، فأخذنا مكانينا السابقين مع اثنين آخرين، ورفيق شارلوت الأول مع صاحبتي القديمة، وأذكر أنني لم أرقص قط في حياتي بسرور ورضى كما فعلت هذه المرة؛ فقد حسبت نفسي أسمى من البشر؛ إذ ملأت ذراعي بأجمل مخلوقة تحت السماء، ذرعت معها الغرفة مسرعا كالبرق لا أرى شيئا سواها. هل أعترف لك أيها الصديق؟ لقد عقدت النية حينذاك - حتى في ذلك الوقت - أن المرأة التي أحبها وأعتزم زواجها لن ترقص تلك الرقصة مع رجل غيري وما عشت، ولكن أنت بلا ريب تفهم ما أعني ...
وسرنا في الغرفة جيئة وذهابا مرتين أو ثلاثا لنروح عن نفسينا، ثم جلست شارلوت، وكنت قد أتيتها بآخر ما تبقى من البرتقال في خزانة المائدة؛ حيث كانوا يصنعون شرابا من خمر إسبانية، فكان لها ذلك مرطبا نافعا، ودفعها أدبها لتقديم ما أوتيت إلى سيدة بجانبها، فأخذت منه أكثره، ومع أنها امرأة فقد حسدتها لنوالها منحة من تلك اليد الجميلة. وعدنا إلى الرقص، وكنا الرفيقين الثانيين في الرقصة الريفية الثالثة، وبينا كنت أدير صاحبتي حولي، متأملا بملء الابتهاج تكلم النظرات الحلوة، والحركات الساحرة الرائقة التي توحي السرور وتبعث على الجذل، ابتسمت لشارلوت سيدة مسلف
3
قد لفتني من قبل لطفها ورقتها، رافعة إصبعها إذ مررنا بها مرتين، قائلة بصوت جلي مؤثر: «ألبرت!» «ألبرت؟ وهل أجرؤ فأسألك من هو ألبرت؟» وكادت شارلوت تجيبني فتشفي غلتي، لولا أن اضطررنا أن نفترق بحكم نظام الرقصة، ولاحظت عند التقائنا ثانية غما طارئا يظلل محياها، ولما تناولت يدها لأصحبها إلى الخارج أعدت السؤال فأجابت: «ليس ثمة داع لكتمان الحقيقة، إن ألبرت سيد نبيل قد عقد لي عليه.» فذكرت الآن ما خبرتني عنه السيدتان في المركبة، على أنه لم يؤثر في حينذاك؛ لأنني لم أكن رأيت شارلوت بعد، ولم تمر ببالي تلك الفكرة التي طعنت فؤادي، وتملكتني الحيرة، وعلتني كآبة أنستني ما أنا فيه، فأحدثت ارتباكا كبيرا في نظام جماعة الراقصين بأغلاط كثيرة كانت تستدركها شارلوت بحذق ومهارة، فتعيدنا إلى الصواب.
واعترض رقصنا بعد ذلك برق يأخذ بالأبصار، هو ما قرأناه من قبل في جبين السماء، وما حاولت أن أصوره للسيدتين نتيجة الحر الشديد، وعلا هزيم الرعد صوت الموسيقى فأخفاه، وهلعت سيدات ثلاث فتركن المرقص هاربات وتبعهن رفاقهن، ثم عم المكان الذعر وساد الهرج فصمتت الموسيقى. ومن المعلوم أننا ننظر إلى الخوف بأكثر من حقيقته إذا فاجأنا في ساعة سرور؛ لأن الذهن الذي كان منصرفا إلى الحبور واللهو يصبح سريع التأثر بالمزعج المفاجئ، متهيئا للانفعالات؛ ولذا فإن الانقلاب من الفرح إلى الحزن يكون هائل الأثر فيه؛ فلا بدع إذا إن ازدادت مخاوف السيدات باشتداد العاصفة وتقدمها، وجلست أثبتهن جنانا مولية ظهرها إلى النافذة، وجعلت أصابعها في أذنيها، تتقي قعقعة الرعد وخطف البرق كأنما ذلك مجديها نفعا، وركعت ثانية أمام الأولى، وتمتمت صلاة قصيرة، ثم أخفت وجهها في حجرها، وأسرعت ثالثة فتوسطتهما ممسكة بهما، والدموع تهطل من عينيها، وكان بعضهن يتوق إلى الروح لبيوتهن، واستطير لبهن روعا، حتى صمت آذانهن عن سماع نصائح رفاقهن الذين كانوا يسترقون من بين شفاههن تلك التنهدات الواهية الرقيقة الصاعدة إلى السماء، وانسحب رجال أنذال ليدخنوا غير عابثين بشيء، وتمالك باقي الجماعة روعهم أخيرا، فتلوا تلو ربة الدار، وتبعوها إلى مخدع قد أحكم إغلاق نوافذه فلا يسمع فيه الدوي الهائل إلا ضئيلا. ولما دخلناه صفت شارلوت المقاعد في دائرة ودعتنا للجلوس، مقترحة دعابات صغيرة، يكون لنا فيها تسلية ولهو، وكان تكلف بعض السيدات في إجابة الاقتراح ظاهرا، كما كان البعض يتوق إلى البدء فيه، واتفقنا على لعبة العد التي بينتها شارلوت قائلة: «سأسير من اليمين إلى اليسار وأنتم جلوس، فتعدون متواترين مسرعين، وجزاء من يقف أو يخطئ لطمة على أذنه.» وبدأت تدور منبسطة الذراعين، فكان عملها مسريا الهم، مروحا عن البال، فصاح الأول: «واحد»، وتلاه الثاني: «اثنان»، فالثالث: «ثلاثة» وهكذا، حتى انتظم خطاها، ثم أوضعت في سيرها، ففرطت من أحدنا غلطة كان جزاؤها لطمة، وضحك آخر فأصابه ما أصاب أخاه، وهكذا ظلت شارلوت ترسل اللطمة إثر اللطمة، وهي تزيد في سرعتها تدريجا، فكان من نصيبي لطمتان سررت بهما كثيرا؛ لأنني تصورتهما «أشد» من غيرهما. ثم فاض الضحك على الجميع فغلبهم، واختلط عليهم العد، وبذلك انتهت الدعابة دون أن ندرك الألف.
وكانت العاصفة قد هدأت كثيرا، وبدأ المدعوون يكونون شراذم عدة، وكانت أفكاري لا تزال منصرفة إلى منحى واحد، فتبعت شارلوت إلى غرفة الاجتماع، وحدثتني في الطريق قائلة إن اللطمات التي جادت بها على اللاعبين نتيجة هفوة أو إغفال لم يقصد بها إلا تبديد مخاوفهم، وتسكين روعهم، وإنها وإن كانت من قبل أيضا فزعة منزعجة، إلا أنها بتشجيعهم قد شجعت نفسها.
وذهبنا إلى النافذة، وكان الرعد لا يزال يدوي دويا هائلا، مع أن المطر أخذ يتساقط رذاذا على بعد منا، يروي المراعي الخضراء، ويعطر النسيم البليل. وأسندت شارلوت رأسها على ذراعها الجميل، ثم أرسلت عينيها الممتلئتين بالمعاني في الفضاء المحيط بنا، ورفعتهما إلى السماء، ثم هبطت بهما علي فرأيتهما مغرورقتين بالدموع، ووضعت يدها برفق على يدي، ثم صاحت بصوت قوي: «آه يا كلوبستوك!»
4
وخفق فؤادي لهذا الاسم، وشعرت بألف عاطفة، وفاض علي شعره السموي، واضطرمت شعلة حبي لتلك المخلوقة التي تتفق عواطفها وعواطفي أيما اتفاق، وخارت قواي، فلم أتمالك أن صحت مرددا: «آه يا كلوبستوك!» ثم انحنيت، فطبعت على يدها الجميلة قبلة شغف وانعطاف، وحدقت بوجهها الحلو، فرأيت دموعها تنهمل عليه، فقلت: «يا كلوبستوك المجيد! لم لا تشهد تألهك في وجه هذا الملك؟ لم لا تسمع اسمك الذي طالما دنس ينطق به هذا الصوت السحري؟ وهل يجرؤ غيره على النطق به؟»
الرسالة الثانية عشرة
19 يونيو
إلى أين انتهيت في رسالتي الماضية؟ آه يا صديقي، لقد نسيت كل ما قلت، ومبلغ ما أذكر أنني وصلت إلى منزلي وانطرحت على فراشي في الساعة الرابعة صباحا، ولو كنت قادرا على تحديثك بدل الكتابة إليك، لظللت أفعل طول الصباح. هل خبرتك بما حدث في أوبتنا من المرقص؟ ليكن، فليس في التكرار بأس، ولكن عفوك الآن وغفرانك أيها الصديق! إنني سأقف وقتا آخر على خدمتك، فإن الحب لم يمح الصداقة.
كان الصباح باسما بهيجا، وقد بددت العاصفة رطوبة الليل، وظهرت الطبيعة فرحة منتعشة، وكان الندى يتساقط كاللؤلؤ من أغصان الأشجار، وأطبق النعاس عيون السيدتين اللتين رافقتانا، وسألتني شارلوت عما إذا كنت أرغب في الراحة، قائلة إنها ترجو ألا يكون وجودها مضيقا علي، فأجبتها محدقا بمحياها المحبوب: «إن وجودك يحتم علي اليقظة، بل إنه ليستحيل علي أن أغمض جفني وعيناك مفتوحتان.» فصبغت وجنتيها حمرة الخجل، وسرعان ما عاودهما إشراقهما المعتاد، وتجاذبنا الحديث حتى وقفت المركبة ببيتها، وفتح الباب بهدوء خادم أجاب على أسئلة شارلوت المتوالية بأن الأسرة كلها بخير، ولم تهب بعد من فراشها، ولما استأذنت بالانصراف، وعدتها بزيارتها قريبا، وإنني موف بوعدي.
منذ ذلك اليوم لم أعبأ بالكواكب ولم أحفل بالساعات، والزمن يمر دون أن أدري. إن العالم كله لا شيء إذا لم تكن شارلوت أمامي، ولكنه ينقلب جنة ونعيما متى حضرت.
إلى الملتقى يا صديقي فيجب أن أراها الآن.
الرسالة الثالثة عشرة
21 يونيو
حقا إن أيامي الآن سعيدة ممتعة، تشبه الآخرة التي يوعدها المتقون، خل المستقبل يأتي كما يشاء، ولكن علي الآن أن أعترف بأني قد نعمت في حاضري بأكمل هدوء وأتم سلام. أنت تعرف قرية والهيم، فاعلم أنني أسكن بها الآن، على بعد ثلاثة أميال تقريبا من شارلوت، وإنني في عزلتي هذه لأفخر بسعادة لم يظفر بأكثر منها إنسان، ولم يكن يخطر ببالي من قبل حين اخترت هذا المكان ليكون معتزلي ومأواي، أنه يحوي هذه الجوهرة العظيمة، وطالما رأيت في جولاتي هذا المقعد الخلوي، الذي أرتاح له وأغتبط به الآن، لقد تطلعت إليه أحيانا من قمة الجبل، ورقبته من الحقول على ضفة النهر المقابلة، ولشد ما فكرت كثيرا في دأب الإنسان وسعيه دون فائدة أو جدوى، يعمى عن كنوز بلاده وجمالها؛ فيشرئب إلى البعيد، ويضرب في الأرض منقبا عن كل مكتشف جديد، ولكن هذه البدع سرعان ما تفقد بهاءها، فينقلب راكضا إلى السعادة التي غادرها وراءه، فإذا ما عاد قنع بحياته الأولى لا يهمه بقية العالم فتيلا.
أحببت هذه البقعة الرائعة لأول مرة رأيتها، ممتلئة بمحاسن الطبيعة من مناظر بهيجة للغابات والجبال والصخور، آه! من لك بأن تراها أيها الصديق!
بيد أنني مع ذلك لم أقنع بما وجدت، بل تركته، وأنا كما كنت من قبل. وا حسرتاه! إن المستقبل أيها الصديق كطريق غامض لم نطرقه بعد، أمامنا ظلمات حالكة مخيفة، لا يستطيع الفكر سبر غورها، إننا نغتبط بالصور التي يدبجها خيالنا، فنجد وراءها بلهف وشوق، ولكن إذا حسرت الحقيقة عنها القناع، غاض ذلك السرور وتلاشى، وهكذا يتوق الغائب إلى وطنه، فيجد بين جدران كوخه، مع زوجه وأطفاله، سعادة بيتية، وهناء لم يذقهما في أسفاره السحيقة.
أنا سعيد في عزلتي هذه، أصحو مع الشمس فأجمع البسلة بيدي، وأجلس لأنزع قشرها، وأقرأ هومر، ثم أضعها في القدر وأغطيها، وأحركها متى غلى ماؤها. ثم أتصور أمامي عشاق بنيلوب
1
ينحرون ماشيتهم، ويطهون الطعام.
ما ألذ هذه الإحساسات التي تفيض علي حين أفكر في حياة البطارقة! وإنني لأقول دون فخر أو غرور إنني أحيا هذه الحياة، إنني أشعر بكل تلك السعادة البسيطة الحقيقية المتمثلة في حياة الفلاح، يرى على مائدته الكرنب الذي أنبتته يداه، وبينا هو يلذ بطعامه إذا هو يتمتع بذكرى ذلك الصباح الجميل الذي زرعه فيه، والمساء الذي فيه رواه ورضاه في الأيام المتوالية، وهو يراه يزكو وينتعش.
الرسالة الرابعة عشرة
29 يونيو
جاء طبيب البلدة أمس الأول ليزور نائب الأمير، فوجدني والأطفال في فناء الدار صاخبين صائحين، ألعب معهم وأمازحهم، وكان الطبيب معروفا بالجمود والرصانة المتناهية، وقد وقف طول الوقت يتحدث ويصلح طيات ثيابه، ساحبا أهدابها في ختام الحديث، حتى ذقنه، معتبرا سلوكي غير لائق بمقام الرجال.
وقد ترجمت نظرته عن استهجانه بوضوح تام، ولكن لم يثنني جبينه المقطب، ولا حديثه الوقور عما أنا فيه، فأخذت ثانية أقيم بيوت الورق التي هدمها الأطفال، وقد أخبر هذا السيد كل إنسان أن أطفال النائب كانوا من قبل غير مهذبين، والآن سيفسدهم فرتر كل الإفساد. بلى أيها الصديق إنني أحب الأطفال، أحبهم جهدي، ولكن بعد شارلوت.
إنني حين أشهد في هذه المخلوقات الصغيرة بذور الفضائل والقوى العقلية تنمو وتترعرع، وأراها ستصبح موطدة الدعائم أصيلة في نفوسهم، حين أتبين في الشجاع منهم الثبات في المستقبل، والجلد على الشدائد، وفي اللعوب الضحوك ذلك النشاط وخفة الروح التي ستقاوم عبوسة الطالع، فتسلك طريقها في الحياة سهلا مرضيا، بل حين أراهم طهرا مجسما ورقة تسيل؛ أذكر كلمات معلمنا
1
السموية: «إلا أن تكونوا كواحد من هؤلاء الأطفال.»
على أننا أيها الصديق نميل إلى امتهان الأطفال وقد يكونون أعظم منا، نحن نعاملهم كالأرقاء إذا عهد بهم إلينا، وننكر عليهم ما يحبون ويشتهون! أليست لنا نحن رغائب ومشتهيات؟ إذا فأنى لنا حق المنع والحرمان؟ أمن طول السنين وحنكة الأيام؟ إن لهذه حسابا كما تنص الشرائع في السماء، ولكنها لا تعتبر فوق الغبراء! إنهم الآن ما كنا نحن، ولكن الوداع أيها الصديق، سوف لا أفرغ صبرك ولا أوهن قواي.
الرسالة الخامسة عشرة
أول يوليو
أصيبت سيدة مسنة محبوبة في البلدة بمرض عضال، اشتد حتى قطع الطبيب من شفائها الرجاء، ورغبت السيدة إلى شارلوت أن تقضي معها دقائقها الأخيرة؛ وعلى ذلك ذهبت إليها، وإنني لواثق كل الوثوق بقدرتها على أن تمنح السلوى والعزاء للمريضة، وقد جربت هذا بنفسي حين كنت منحرف المزاج.
صحبت شارلوت في الأسبوع الفائت إلى قسيس كنسية القديس، في قرية بين الجبال تبعد عن هنا نحو ثلاثة أميال، وكانت أخته صوفيا معنا، فوصلنا هناك حوالي الساعة الرابعة، ودخلنا الفناء الذي تظلله شجرتا جوز، فرأينا الشيخ النبيل جالسا على مقعد أمام الباب، ولم يكد يرى شارلوت حتى نسي شيخوخته وهراوته، فخف مسرعا للقائها، ولكنها كانت أسرع منه فأقعدته ثانية، وجلست إلى جانبه، ثم قدمت له احترامات أبيها، وأخذت تقبل صبيا صغيرا بادنا يحبه الشيخ كل الحب. آه أيها الصديق، لو رأيتها وشهدت عنايتها بذلك الشيخ الواهي، وهي ترفع من صوتها لتسمعه على صممه؛ إذ تقص عليه نبأ كثير من الهانئين قضوا في شرخ شبابهم، ثم تمتدح له حمامات كولستادت، وتحبذ عزمه على تجربة مياهها في الصيف القابل، وتؤكد له في نفس الوقت أن صحته تحسنت كثيرا مذ رأته لآخر مرة. وقضيت تلك الفترة في تحديث السيدة زوجته، وهي تقل عنه بضع سنوات، وكانت تلوح على أسارير الشيخ علامات السرور، وبينا كنت أعجب بجمال شجرتي الجوز اللتين نتفيأ ظلهما الظليل، بدأ يشرح لنا بتطويل تاريخهما، فقال: «أما الأولى فلست على علم تام بأصلها، فالبعض يقول إن قسيسا ما زرعها، ويقول البعض الآخر إن خليفة ذلك القسيس هو الزارع. وأما الثانية التي في هذا الركن فعمرها يساوي تماما عمر زوجتي؛ أي إنها ستبلغ الخمسين في أكتوبر القادم؛ فقد غرسها أبوها في الصباح، وولدت له زوجتي في المساء، وهو سلفي مباشرة في هذا المكان. أما شغفه بالشجرة فلا يوصف، وإنني وايم الحق لأحبها أيضا، فتحتها وجدت امرأتي لأول مرة وطئت قدماي هذا المكان، جالسة على كتلة من الخشب تخيط بعض الثياب، وكنت في ذلك الحين - أي منذ سبع وعشرين سنة - معلما فقيرا.» وهنا سألته شارلوت عن فتاته فردريكا، فقال إنها ذهبت إلى المراعي مع هرسمث؛ لتشهد عملية تجفيف البرسيم، ثم عاد يكمل حديثه، فقص علينا استمالته سلفه وتحببه إلى ابنته، وكيف أنه عين نائبا له ثم خليفة بعد موته، ولم يتم قصته حتى دخلت فتاته يصحبها هرسمث الذي حيا شارلوت تحية مشتاق ودود. أما الفتاة فسمراء اللون، دمثة الأخلاق، رشيقة الحركات، ترضي الزوج الريفي كل الرضى. أما هرسمث فلم يخف تقربه منها وإعجابه بها، سيد حسن البزة، حلو المنظر، قليل الكلام، يقرب طبعه من الجمود. وحاولت شارلوت مرارا اجتذابه إلى حلبة الحديث فلم تنجح، وساءني منه ذلك؛ لأنني شعرت أن صمته لم يكن عن عجز أو خمول في الذهن، بل عن جمود في الحس وجفاف في الطبع، وقد برهنت الحوادث سريعا على صحة رأيي، فبينا كنا نتمشى جاذبت الحديث فردريكا، فتغيرت سريعا سحنته العابسة بطبيعتها وتجهم وجهه، حتى إن شارلوت جذبت ردني تلفتني بلطف إلى ذلك. إنما يؤلمني في أعماق قلبي أن أرى الرجال يناوئ بعضهم بعضا، خصوصا في زهرة الشباب، وصدر السعادة، فينهبون هذه الأيام القصيرة العمر، أيام الشمس والنور، في منافسات باطلة، ولا يشعرون بخطئهم إلا وقد سبق السيف العذل.
وأثر في هذا تأثيرا كبيرا، حتى لم أعد أتحمل السكون، فانتهزت فرصة الحديث على طعام المساء عن هناء الحياة وشقائها، لأذم الخلق السيئ والطبع النكد، فقلت: «من القضايا الشائعة أن أيام السعادة أقل من أيام الشقاء، على أنه يخيل إلي أن هذه الشكوى لا أساس لها؛ فإننا إذا تمتعنا بما أسبغ الله علينا من نعم، سالكين في ذلك سبيل الرضى والقناعة، كانت هذه الرقة في الطبع، والجلد على المشاق، خير ممهد لطريق الحياة الوعر، وأكبر باعث على احتمال آلامها التي لا مناص منها ولا مهرب.» فقالت زوجة القسيس: «ولكننا لا نستطيع دائما أن نسيطر على طباعنا، وجل السبب يرجع إلى فطرة الإنسان نفسه، وإذا اعتل الجسم تبعه العقل.» فأجبتها: «حسن يا سيدتي، فلنعتبر هذا الطبع أو المزاج نوعا من المرض، ولننقب عن علاجه.» فقالت شارلوت: «هذا هو عين الصواب، وإنني لأرى القسم الأكبر من العلاج متوقفا علينا أنفسنا، وعن نفسي فإنه إذا طرأ علي ما يعكر مزاجي، اندفعت أتمشى في الحديقة، فأغني طرفا من الأناشيد المنعشة، وبهذه الوسائل الفعالة يعاودني هدوئي وسكينتي.» فقلت: «هذا ما أعني تماما، إن الجهومة تقارن بالكسل والقعود؛ فهي دون ريب ضرب من الخمول، والإنسان بطبيعته خامل متوان. ولكنا إذا انتصرنا على هذه العادة السيئة، تقدمنا بسرور، شاعرين برضى خفي عن جهادنا هذا.»
وكانت فردريكا كلها آذان صاغية، وقال هرسمث معترضا: «ولكن سيطرتنا على أنفسنا ضعيفة، وأضعف منها كبحنا لعواطفنا وأميالنا.» فأجبت: «بأن تلك العادة السيئة موضوع بحثنا الآن، شيء يرغب كل امرئ في التملص منه، وإننا لا نقدر قوانا إلا بعد تجربتها، فإن المريض يستشير الأطباء ويصدع، دون اعتراض، بتناول التافه من القوت، والكريه من الدواء ليسترد قوته وصحته.»
ورأيت أن الشيخ يحني رأسه ليسمع حديثنا، فرفعت من صوتي موجها إليه الحديث: «إنه وإن كان نقد الواعظين على المنبر، وذمهم لكل رذيلة عظيما، إلا أنني واثق كل الوثوق أنه لم يقم قائم فيندد بالحقد والضغينة.» فأجاب: «هذا موضوع يعنى به من يعظ في المدن فقط، فإن بيئة القرى لا تفهمه، على أننا لا نهمل إدخاله إلى هنا حينا بعد حين، ولو من أجل امرأتي ونائب الأمير.» وأضحكنا تهكمه هذا ضحكا طويلا شاركنا فيه، ففاجأته نوبة سعال دام زمنا ما.
ثم جدد هرسمث الموضوع ثانية، فقال: «أراك يا سيدي تبالغ في اعتبار الجهومة رذيلة.» فأجبت: «كلا، فإن ما يضر بنا وبالغير يستحق اسم الرذيلة، ألا يكفينا شقاء أن نعجز عن إسعاد بعضنا بعضا دون أن يحاول كل منا أن يحرم الآخر من ذلك السرور الضئيل، الذي إذا ترك لنا فقد نستطيع التمتع به؟ أرني الرجل الذي يستمرئ العبوسة ثم يخفيها عن الناس، الذي يحمل عبأها كله على كاهله وحده، دون أن يعكر سلام من حوله، إن هذه العبوسة تنشأ عن شعور بالقصور والنقص، وطمع يترادف مع الحسد، يغذوها غرور باطل وأبهة كاذبة؛ فإننا لا نحتمل أن نرى غيرنا سعيدا دون أن يكون لنا في تلك السعادة نصيب.» وألفت شارلوت الحماس الذي كان يلهب كلماتي، فنظرت إلي باسمة، وسقطت دمعة كبيرة من عين فردريكا شجعتني على الاستمرار، «بل إنني لأدعو لهم بالحرمان من السرور، أولئك القساة يستبدون بالقلوب الرقيقة فيسلبونها سعادتها وهناءها الذي خلق لها وخلقت له، فليس ثمة من هدية مهما عظمت أو عطف مهما كبر يستطيع أن يعوض الهناء والراحة اللذين أفسدهما الحسد والظلم.»
وهاجت عواطفي، وتمثلت أمامي ذكريات الماضي المؤلمة، وامتلأت عيناي بالدموع : «في كل يوم يجب أن نسأل أنفسنا: ماذا نصنع لننفع أصدقاءنا؟ فلا نحاول فقط ألا نقلق من راحتهم، بل نجتهد أن نزيد في هنائهم باشتراكنا معهم فيه؛ لأنه إذا ما عصفت بالنفس العواصف الشديدة، أو أحرق الفؤاد الحزن المر، فليس في مقدرنا أن نمنحهم مسحة من السلوى، وحين ينشب المرض القتال مخالبه في البائس المسكين، الذي فتح له القبر دون الأوان، حين يتمدد متهالكا ضنى، يرفع عينيه المظلمتين إلى السماء، وعرق الموت البارد يرفض من جبينه؛ هناك تقف أمامه كمجرم قد اتهم نفسه وحكم عليها، فيتجلى لك جرمك، ولكن ... سبق السيف العذل، فأنت تعلم أن قد فات الوقت، وعجزت عن العون، بل أنت تحس من أعماق نفسك أن كل عطاياك وحسناتك لا تجدي الآن، فلا هي برادة الحياة، ولا واهبة بعض العزاء الوقتي للنفس الراحلة.» وذكرت وأنا أنطق بالكلمات الأخيرة مشهدا كهذا كنت حاضره، فأثر في نفسي بكل قواه، فتناولت المنديل أكفكف العبرات، وانسحبت فجأة، فلم أفق إلا على صوت شارلوت يستحثني للرواح.
آه ما أعذب لومها لي في الطريق! فقد أخذت تبين لي أن ذلك الحماس، والتأثر العميق الذي يهزني حين أدخل في جدال لا يلائمني، بل يضر بي. ثم طلبت إلي برفق أن أخفف من تلك الحدة التي تأكل جسمي وتقصر أيامي.
لبيك يا شارلوت الحبيبة! إنني سأعنى بنفسي، وسأعيش من أجلك.
الرسالة السادسة عشرة
6 يوليو
لم تزل شارلوت مع صاحبتها المريضة؛ فهي اللطيفة المحبوبة أبدا، تخفف الألم أين حلت، وتمنح الهناء. خرجت بعد ظهر الأمس تتمشى مع أخواتها الصغيرات، وأخبرت الخبر فتبعتها حالا، ورافقتها نحو أربعة أميال، وفي عودتنا وقفنا بذلك الينبوع القريب من البلدة، الذي أحببته فيما مضى، وقد تضاعف حبي له الآن بلا مراء، واقتعدت شارلوت حائطه، ووقفنا أمامها، فأخذت أفكر، ممتعا نفسي بما أمامي، وذكرت تلك الساعات الطويلة التي كنت أقضيها هنا وحيدا؛ إذ كان قلبي حرا طليقا، ثم فكرت قائلا: «أيها الينبوع العزيز، منذ ذلك العهد لم أر أمواهك المنعشة الصافية التي طالما أشعرتني السرور.» وبينما كنت تائها في أفكاري وأنا أحدق بالينبوع، لمحت إحدى الصغيرات تصعد الدرج مسرعة، تحمل كوبة من الماء، فنظرت إلى شارلوت، وهناك أفعم قلبي حياة وشعورا، واقتربت الصغيرة بالماء، ودنت منها أختها ماريان لتأخذه منها، فصاحت الصغيرة قائلة بلهجة حب كبير: «كلا! لتشربن الأخت شارلوت أولا.» فلم أتمالك أن حملتها بين ذراعي، وقبلتها قبلة حب جزاء حنوها الجلي، فأخذت تبكي، وأخبرتني شارلوت أنني تسرعت فيما فعلت، فأسفت لذلك، ثم أمسكت الصغيرة بيدها، وهبطت معها الدرج قائلة: «والآن يا إمليا، اغسلي وجهك يا حبيبتي فيزول كل شيء.» وخفت إلى ذلك مطيعة، فغمست يديها الصغيرتين في الماء، وأخذت تمسح خديها بشدة معتقدة أنها تزيل بذلك أثر القبلة، فلا يصبح ثمة خطر من لحية تنبت لها، وأكدت لها شارلوت أنها قد فعلت ما فيه الكفاية، ولكنها ظلت تمسح متصورة أنها كلما فعلت كلما أمنت الخطر.
آه أيها الصديق! إنني لم أعر قط طقوس المعمودية التفاتا أو احتراما كما أعرت هذا المنظر. ولما صعدا كدت انطرح على قدمي شارلوت، فأقدسها كما يقدس ولي قد طهر الأمة جمعاء.
وحدثت بالخبر في المساء سيدا اشتهر بشدة الذكاء، ولكنني رأيت من النادر اجتماع الفهم وسلامة الذوق؛ فقد طاش رأيي في الرجل؛ إذ أنحى باللوم على شارلوت لسلوكها مسلك غير ذي حزم، قائلا: «لقد أخطأت بتشجيعها الطفلة على التمادي في الضعف والأوهام؛ أباطيل لا يمكن استئصالها في الأيام الأولى.» وقد علمت أن الرجل صار أبا منذ بضعة أيام، وربما كان يبتدع طرقا جديدة في التربية.
وعلى هذا لم أحفل بسفسطته؛ لاعتقادي أننا أنفسنا نسر بملاهينا الصغيرة ولو تاخمت الجهل والحمق؛ فعلينا إذا أن نطلق للأطفال العنان ليسروا بسخافاتهم كما يشاءون.
الرسالة السابعة عشرة
8 يوليو
ما أبلهني! لم أجد هذا الوجد وأتحرق شوقا إلى نظرة واحدة منها؟! ما أخرق هذا! كنا في والهيم، وقد ذهبت السيدات في مركبة تركنها بعد ليسرن في الحديقة، ولما ظننت أن عيني شارلوت المتلألئتين ... ولكنني أشط بعيدا، وعلي أن أقتضب القول لأنني نصف نائم. لما عدن إلى المركبة وقفت مع الصغار ويليست وسلفسترادت وأندران نكلمهن من النافذة، وكان الرجال كلهم جذلا مغتبطا، ورقبت عيني شارلوت، وخيل إلي أنهما ترمقان الكل، الواحد بعد الآخر، إلا أنا. نعم إلا أنا الذي وقفت كالتمثال - رغم جولانهما المتواصل - لا أرى غيرها، وكان قلبي يمطرها حبا وتوديعا، وهي لا تلقي إلي بنظرة واحدة.
وسارت المركبة، وتبعتها عيناي مغرورقتين بالدموع، ثم أخرجت شارلوت رأسها من النافذة والتفتت إلى وراء، وا حسرتاه! لمن كانت تلك النظرة؟ أهي لي أنا؟ ما أشد حيرتي! ولكن الشك قد يكون بردا وعزاء، إن هناك ما يبعث على الأمل بأن النظرة كانت لي.
عم مساء، إنني أشعر بضعفي.
الرسالة الثامنة عشرة
10 يوليو
أنت لا تستطيع أن تتصور يا صديقي بأي مظهر سخري أظهر حين يذكر أمامي اسم شارلوت، وخصوصا حين أسأل عن ميلي إليها. ميلي إليها! لست أحتمل هذا التعبير الثلجي، فمن يكون الرجل يميل إلى شارلوت ولا يجن بمحاسنها الساحرة؟ «أميل» إليها! هكذا سألني بعضهم منذ أيام عن «ميلي» لشعر أوسيان
1 ...
الرسالة التاسعة عشرة
11 يوليو
لم تزل المريضة التي تعودها شارلوت بالبلدة في حالة سيئة، ولا أفتأ أصلي لأجلها باستمرار أرجو الله شفاءها؛ فإن مرضها يسلبني صحبة شارلوت. وقد حظيت برؤية المريضة اليوم؛ إذ كانت تكشف عن سر غريب، فبعلها بخيل صالت الزند، ولم يعط امرأته قط ما يكفي حاجاتها، وقد أحزنها ذلك وأمضها، رغم محاولتها جهدها أن تقنع بحالتها، ولما يئس الطبيب من شفائها، طلبت أن ترى زوجها، فأجيبت إلى رغبتها، ودنا الرجل من فراشها، وكانت شارلوت حاضرة، فخاطبته الزوجة قائلة: «إنني أريد أن أكشف الستار عن أمر قد يجلب كتمانه بعد موتي ارتباكا كبيرا؛ لقد بذلت أقصى جهدي لأكون مقتصدة بقدر الإمكان، ولكنني كنت مسوقة إلى خديعتك مدى هذه الثلاثين عاما. في أول عهد زواجنا كان المرتب الأسبوعي ضئيلا جدا، وزادت الأسرة ولم تفكر في زيادته، بل بقي كما هو حتى في أحرج الأوقات، واحتملت كل ذلك صابرة، وعشت غير متذمرة ، ولكنني كنت مضطرة إلى أخذ ما زاد من الدخل الأسبوعي لمعمل اللبن، فلا تظنن بي الظنون، ولا يقال إنني أنفقت مالا كان مدخرا موفورا، فلم يكن ما صنعت إلا لحاجة لازمة، لا لإسراف وتبذير، ولو دفن معي هذا السر في قبري، لعالجت سيدة بيتك الآتية مصاعب شتى، وخصوصا إذا تمسكت بأن زوجتك الراحلة كان يكفيها المرتب الذي كنت تنفحها به.»
وكانت تعليقات شارلوت على هذا السلوك الذي اضطر المسكينة أن «تسرق بطرس لتعطي بول» صائبة مؤثرة؛ فقد قالت: ربما كان يظن أن فضائل زوجته تزيد من المرتب الضئيل، وتمده بحسنات جديدة.
الرسالة العشرون
13 يوليو
لست مخطئا؛ إنني أقرأ في عينيها ما يسكن قلبها من العناية بي، ذلك واضح جلي، وإن فؤادي ليؤيد تلك الفكرة المشجعة، هامسا في أذني: هل أجرؤ على التلفظ بالأمل المحبوب؟ إنها «تحبني!» «تحبني!» إنني لأشعر بنفسي جليلا ساميا حين تخطر لي الفكرة، ما - نعم إنني سأقدم، فأخبر صديقي لأنه يفهم ما أعني - ما أشد إكباري لنفسي منذ شرفني عطفها وودادها، وهل يعد هذا تيها وكبرا؟ كلا بل هو شعور بالحقيقة. من ذا الذي ينازعني حبها؟ آه! ومع هذا فإنها حين تذكر اسم ألبرت، تذكره باحترام وانعطاف. وا حسرتاه! هناك أشعر كأنني ضابط طماح جم الآمال، قد جرد من رتبته، وانتزع منه شرفه، ففقد حوله وطوله واضطر أن يسلم سيفه.
الرسالة الحادية والعشرون
16 يوليو
إذا لمست يدها عفوا خفق فؤادي، وغلى الدم في عروقي، وإذا التقت قدمي بقدمها تحت المائدة أسرعت كل الإسراع فسحبتها، ثم دفعني شيء خفي فأعدتها مكانها الأول، وشعرت بأغرب الإحساس. أنا أمينها وصديقها، ولكن يا للنفس الطاهرة! إنها لا تدري ما تسومني من عذاب وألم، حين تسر إلي أنباء زواجها المزمع! وحين تضع يدها في يدي، ثم يملؤها الحديث حماسا فتدني مقعدها مني، حتى لأحس بأنفاسها العطرة، آه يا للسماء! إن كهرباء البرق ليست بأشد من هذه في شيء.
وا أسفاه أيها الصديق! هل أجرؤ يوما ما على احتقار هذه الثقة؟ بيد أنك تعرف فؤادي، إنه ليس بالفاسد المخادع ولكنه ضعيف، نعم ضعيف واه، والضعف بذرة الفساد. إنني أقدسها، إن قربها كل أملي، إنني أراها فأشعر بأعظم الابتهاج.
وهي مولعة بأغنية بسيطة، ملأى بالعواطف والبيان، توقعها على آلتها الموسيقية بتفنن وقوة وإبداع، فإذا ما بدأتها بدد الحزن وأبعد الأسى، فبرز أمامي برهان ناطق على ما يقال من تأثير الموسيقى وسحرها وقدرتها على تشتيت الكآبة والهموم، وفي الوقت الذي تحمل فيه الأفكار السوداء مشيرة إلى الموت والانتحار، تأتي هذه الأغنية الحلوة الرقيقة، فتحيي الميت من الوجدان، وتشتت سحب الخوف والفزع، وتحول عبوسة اليأس إلى ابتسام الفرح والسرور.
الرسالة الثانية والعشرون
18 يوليو
ماذا يفيد امتلاك العالم قلبا خاليا من الحب؟ مثل هذا القلب كمثل المصباح السري لا نور فيه، حتى إذا ما أضاء ظهرت الصور العديدة علعلمت ألاى اللوحة البيضاء، وما آثار الحب وإن كانت كهذه الخيالات الزائلة! ومع ذلك فإنها تشعرنا بالسعادة، إذا كنا نسر بالتصورات اللذيذة كما تسر الأطفال.
لن أرى شارلوت اليوم، فثم بعض رفاق لم أكن أنتظرهم ولا يمكنني التخلي عنهم الآن؛ وعلى ذلك فقد فكرت في إشخاص خادمي إليها، حتى يكون في جوابها بديلا عن شخصها أمام عيني، وانتظرت ذلك الجواب بصبر فارغ، حتى إذا ما جاء تناولته بفرح كبير، ولشد ما كابدت في إخفاء عواطفي عن الخادم!
يقال أيها الصديق إن حجارة بولونا
1
إذا عرضت لضوء الشمس اجتذبت أشعتها فحفظتها، حتى إذا ما وضعت في الظلام، أخذت تشع ما اكتسبته من الضوء لمدة طويلة، وما أشبه هذا بجوابها! فقد عكس إلي بريق تلكم العينين اللتين استخدمتا في كتابته، وبياض تلك اليد التي أسلمته إلى الرسول؛ فهو عندي الأعز المحبوب، ولست أبدل به الكنوز.
أمسك عن ابتسامك أيها الصديق، فليس ثمة شيء يزيد من سعادتنا ويصح أن يدعى وهما وغرورا.
الرسالة الثالثة والعشرون
19 يوليو
استيقظت هذا الصباح، وفتحت النافذة بكل هدوء لأشهد بزوغ الشمس، قائلا: «سأراها.» أجل سأرى شارلوت، ليس لي من أمنية غير هذه أقطع بها اليوم، إن تحت هذا الأمل العذب ينطوي كل شيء.
الرسالة الرابعة والعشرون
20 يوليو
لست أحبذ بحال من الأحوال نصحك لي في قبول اقتراح السفير لمصاحبته إلى فينا، إنني أحتقر أن أكون مرءوسا وأحتقر المظاهر، والكل يعرف هذا الرجل عبوسا متعجرفا، تقول إن أمي تريد أن أشغل وظيفة ما، فاعلم أنني أبسم من هذا الرأي، ألا أعمل وأدأب دائما؟ ألا يعد تقشير البسلة كتقشير الفول؟ إن هذا العالم مطوي على الشقاء، وإن من يطلب أن يرضي الدنيا أكثر مما يرضي نفسه فيسعى إلى المال والجاه بطريق لا يلتئم وميوله، لهو في عرفي غر أبله.
الرسالة الخامسة والعشرون
24 يوليو
استمع جوابي الصريح على أسئلتك المتوالية عن تقدمي في التصوير؛ إنني لم أعن به في الأيام الأخيرة إلا قليلا.
كان أمامي منذ أيام قطعة تاريخية، فلم أتقدم فيها مطلقا، أو فعلت يسيرا، والحقيقة أنني الآن أميل إلى الطبيعة، فلا أستطيع أن أحيد عنها، إنني أفهمها أكثر من غيرها، وهي قدوتي في مختلف ما تخرج، ولكن الثابت أن حالتي العقلية الآن تسلبني قوة المثابرة والعناية اللازمتين لتصوير دقائق جمالها حق التصوير، كل محاولة يعوزها الإنجاز، وكل بداية تحتاج إلى إتمام، والأصباغ تختلط أمام ناظري، وربما أنجح أكثر من الآن إذا استعنت بشيء ما، ولو دام هذا المزاج لكان مقالي التالي طينا وشمعا.
بدأت صورة شارلوت ثلاث مرات، لم تفلح ريشتي في إحداها؛ فإن ما أرسم الآن ليس في شيء من حسن سابقه، ولست أفهم سبب هذا الانحطاط الغريب الذي يقلقني كثيرا، على أنني قد صورت منظرها الجانبي، فلأقنع به الآن.
الرسالة السادسة والعشرون
26 يوليو
كل ما تطلب حبيبتي شارلوت مقضي كما تريد، وإن أوامرها المقبلة لتزيدني سعادة وهناء. مري بما تهوين سيكون آخر أوامرك أحبها إلي. ولكن لي طلبة أزجيها إليك، هي ألا تستعملي الرمل لتجفيف مداد رسائلك؛ فقد كنت أقبل بشغف كتابا منك اليوم فدخل الرمل بين أسناني.
الرسالة السابعة والعشرون
27 يوليو
طالما عقدت العزم على الإقلال من رؤيتها، ولكن ما أوهى عزم المحب! وا حسرتاه أيها الصديق، إن القول لأسهل بكثير من العمل. كل يوم أخضع للإغواء، ولو أنني أقول كل ليلة: «لن أراها غدا.» على أنه متى جاء الغد ساقني إليها شيء لا يقاوم. ولا تحسبن هذه «الأشياء» فارغة من البواعث، هبها قالت عند الافتراق: «آمل أن تزورني غدا.» فهل أستطيع القعود عن الذهاب؟ أو إذا عهدت إلي القيام بمهمة فقد أجد من الضروري أن أعود بنفسي حاملا النتيجة، وقد يطلع اليوم شيقا جميلا، فأسير متريضا إلى والهيم، وإذا ما صرت هناك وجدت نفسي على ميلين فقط من بيتها، وعلي أن أتقدم في طريقي، فهل أنكص وأنا منها قريب؟ هذا مستحيل.
أذكر قصة عتيقة كانت تحدثنا بها جدتي عن جبل من المغناطيس، وكانت جاذبيته هائلة، حتى إذا ما دانته سفينة انجذبت روابطها الحديدية إلى الجبل، وراح بحارتها المساكين بين ألواحها المشتتة. إن صديقي يفهم دون ريب ما أشير إليه، إن عالما كاملا من هذه الجبال لا يباري شارلوت في قوة الجذب.
الرسالة الثامنة والعشرون
30 يوليو
جاء ألبرت فوجب على فرتر الرحيل، ولو كان أشرف وأفضل بني الإنسان وكنت دونه في كل شيء، لما احتملت أن أراه يمتلك كل هذا الجمال النسائي والكمال.
يمتلك! أجل؛ فهو زوجها في المستقبل.
وهو رجل مهذب كامل الأخلاق، يجب أن يقدره الجميع ويحترموه. لم أشهد لقاءهما الأول لحسن حظي، ولو فعلت لمزق فؤادي، أما هو فقد استنفد وسعه كي لا يظهر أمامي شغفه بشارلوت، فليسبغ الله عليه بركاته، وعلي أيضا أن أحترمه وأكبره؛ لأنه يجل فتاتنا السموية، وهو يعطف علي كل العطف، على أنني واثق أن عنايته هذه ناشئة من تحدث شارلوت عني، وما أمهر النساء في التوفيق بين المزاحمين، وهن قد يفشلن أحيانا، ولكن التجربة لازمة؛ لأنها إذا نجحت كان جل الخير في مصلحتهن.
وإنني رغم كل شيء لا أغمط ألبرت قدره؛ فإن هدوء طبعه يناقض تماما حدة خلقي، التي أحاول عبثا إخفاءها، هذا إلى عظيم إحساسه وشعوره الحق بالكنز الثمين الذي يحرزه في شارلوت، ولم أر منه قط ما يؤخذ عليه من فظاظة أو سوء خلق، وهما - كما تعلم - أشد ما أمقت. ويظهر أنه يعدني حسن الذوق، ذكي الفؤاد، كما أرى أن تعلقي بشارلوت واغتباطي بمصاحبتها يسره ظاهرا، ويزيد من شغفه بها، ولا يمكنني الجزم بأن شوائب الغيرة لا تعكر صفو الدقائق التي يقضيانها منفردين، على أنني واثق أنني لو كنت مكانه لما أظهرت هذا السكون والراحة.
آه أيها الحب! ما أقسى عذاب من يدينون بك!
وكيفما كان مركز ألبرت، فإن تلك السعادة التي أذاقنيها وجود شارلوت بجانبي يجب أن تتلاشى الآن. أضعف هذا أم حب وافتنان؟ ادعه كما تريد. وا حزناه! إنني أعلم أنني أشعر بالحقيقة؛ لقد علمت قبل مجيء ألبرت ما أعلم الآن، علمت أن لا حق لي فيها، ولم أزعم لي ملكا؛ لأن كل سلوكي - اللاحق لي فيه - كان أثرا من آثار محاسنها القاهرة. والآن ما أشد دهشتي، بل ما أشد حمقي حين ظهر صاحب الكنز الحقيقي، واضطررت أن أنفض يدي مما لم يكن لي قط في يوم ما. إنني أندب حظي وأحتقر ضعفي، ولكنني أمقت كل المقت هؤلاء الناس الذين قد بردت طباعهم، يلحون وهم جادون هادئون بوجوب التسليم والصبر، متى لم نجد لدائنا دواء. إنني لا أحتمل هؤلاء الفلاسفة المدعين، هؤلاء الوعاظ المضحكين.
أذهب هائما في الغابات، ثم أعود متعبا إلى شارلوت فأجدها مع ألبرت، تحت خميلة من الزهر داخل الحديقة، فأذهل وآتي فعال الأطفال، وألعب من المضحكات ألف دور، وقد قالت لي شارلوت اليوم: «بالله عليك! ألا هدأت من نفسك، إن عواطفك الهائجة مزعجة مثيرة.» بل أنا أعترف لك أيها الصديق أنني أرقب في الأيام الأخيرة حركات ألبرت، فإذا ما دعاه داعي العمل، انسللت إلى شارلوت، وهناك حين أجدها منفردة أشعر بسعادة لم أعرفها قط.
الرسالة التاسعة والعشرون
8 أغسطس
ثق أيها الصديق أنني حين أنحيت على هؤلاء الذين قد يقدمون نصيحتهم الباردة، وقلت إنني لا أطيق هؤلاء الوعاظ المضحكين، لم أكن أحسبك واحدا منهم، ولكن هناك بعض الحق فيما تقول. وعلى أية حال، فلدي اعتراض واحد: إذا اقترح طريقان متضادان ندر أن يسلك أحدهما. إن أعمالنا وآراءنا تختلف اختلافا بينا، اختلاف أشكالنا وملامحنا، فلا يسوءنك أن أعترف بصحة استنتاجاتك، ثم أسلك طريقا وسطا لأتجنب العمل بها. أنت تقول إنه إما أن يكون لي أمل في الوصول إلى شارلوت أو لا، إذا فما هي النتيجة؟ في الحالة الأولى علي أن أواصل السعي، فلا أترك فرصة تفوتني للحصول على طلبتي، وفي الحالة الثانية، تقول إن علي أن أكون رجلا فأنسى ارتباطا منكودا كهذا، خاتمته هلاك مؤكد. كل هذا أيها الصديق حق لا ريب فيه، ولكن اسمح لي أن أقول لك ما أسهل القول بالتنازل والتسليم، وما أصعب العمل به! وهل تطلب من شقي فان، قد أضنته السقام تحت في كيانه على مر الأيام، أن يختم شقاءه دفعة واحدة بجرعة سم أو طعنة خنجر؟ أليس المرض الذي يحرمه القوة الجسمية هو نفسه الذي يحرمه أيضا ذلك الثبات العقلي الذي يعوز العمل الجريء؟ قد تقابل هذه المقارنة بتشبيه جديد، فتقول ومن يحجم عن بتر عضو منه في سبيل سلامة حياته؟ قد يكون ذلك، فلست أدري بماذا أجيب. بل اعلم أيها الصديق أنني صممت مرارا على الابتعاد عن الخطر، ولكنني لم أجد ما ألجأ إليه.
بقية
رأيت من مذكراتي التي أهملتها منذ وقت ما ثم فتحتها صدفة، أنني كنت ألاحظ كل حادث صغير وأعنى بدقائقه، وإنني لتدهشني تلك الحدة في الذهن، لاحظت بها كل شيء، وتلك الطفولة في أعمالي، إن آرائي باقية كما هي، ولكنني لا أرى لي في الشفاء أملا.
الرسالة الثلاثون
10 أغسطس
ما أجمل المنظر الذي أمامي الآن، في استطاعتي الآن، إذا كنت قادرا على التمتع به! من النادر جدا أن تجتمع ظروف حسنة في حياة امرئ ما لتهيئ من سعادته، ولكن وا أسفاه! إنني أشعر شعورا عميقا بأن السعادة والهناء يتوقفان على حالة الإنسان الفكرية، وليس على المنافع والمصالح. يرونني هنا جامعا لأسرة من خير الأسر المجيدة؛ فالنائب يعدني كولده، والأطفال كأخ لهم ، وكذا شارلوت وألبرت أيضا، هذا الشاب اللطيف، الذي يلقاني بوجه الصديق المخلص الباسم، ويقدرني بعد خطيبته مباشرة، ولو سمعت حديثنا إذ نترافق السير، وامتداحنا المتبادل لشارلوت لجذلت واغتبطت، ولست أرى أغرب من هذه الصلة بيننا، على أن بها ما يسيلني دموعا في كثير من الأحايين. ويحدثني عن أم شارلوت، تلك السيدة الفاضلة، ويصف لي دقائقها الأخيرة، وذلك المنظر المؤثر جد التأثير؛ إذ عهدت إلى فتاتها المحبوبة بمستقبل أطفالها وأسرتها، ويصور لي عناية شارلوت واقتصادها مذ حلت محل أمها، وإدارتها شئون البيت، وحنوها على إخوتها وأخواتها حنو الأم، وهي مع قيامها بهذه الواجبات الشاقة كل يوم، لا تزال حافظة لبهائها ونشاطها.
وأسير بجانبه فأجمع الأزهار طول الطريق، وأصنع منها باقة أبذل فيها عنايتي، ثم ألقي بها في أول جدول نلقاه، وأنظر إليها تنزلق على الماء، ثم تغرق وأنا لا أدري ما أصنع.
لا أذكر إن كنت أنبأتك أن ألبرت قد نال مركزا هنا؛ فقد وظف في البلاط، والكل يحترمه ويحبه، وأرى أن قليلا ممن عرفت من الرجال يعنى عنايته بعمله، ويقوم به حق القيام.
الرسالة الحادية والثلاثون
12 أغسطس
ليس في العالم شخص ألطف من ألبرت، كان حديثنا أمس مفيدا متفردا في موضوعه، وكنت زرته لأستأذنه في السفر إلى الجبال؛ إذ عزمت على قضاء بضعة أيام بها، وها أنا أكتب إليك منها الآن، فبينما كنت أتمشى في مخدعه لمحت مسدساته، فسألته إعارتي إياها في سفرتي، فأجاب: «لك ما تريد، بملء السرور، إذا تفضلت فحشوتها؛ لأنني أعلقها هنا لمجرد الزينة فقط.» فأخذت أتأمل أحدها. واستتبع هو حديثه فقال: «كدت ذات مرة أدفع ثمنا غاليا لتيقظي وحذري، ومن ذلك الحين لم أبق عندي سلاحا ناريا محشوا.» فسألته بيان الحادثة، فقال: «أقمت عند صديق لي يسكن الخلاء نحو ثلاثة شهور، ولم يعكر صفو راحتي فيها شيء، ولو أن أسلحتي لم تكن محشوة، فبعد ظهر يوم ممطر لم يكن لدي ما أعمل، وخطرت لي فكرة أن البيت قد يهاجم في الليل ويسطى على ما فيه، وأن هذه الأسلحة قد تفيد، وأن وبالإجمال، فأنت تعلم ما يفعل الإنسان حين ينزل به الخمول؛ وعلى ذلك ناولتها إلى خادمي لينظفها ثم يحشوها، فأخذ هذا بلا تفكير يخيف الخادمة مداعبا إياها، فانطلقت رصاصة من أحدها بطريقة لا يعلمها إلا الله دون أن يرفع الضاغط، فأصابت المسكينة في يدها اليمنى وأطارت إبهامها، ويسهل عليك الآن أن تتصور تأثير تلك الحادثة، وما كلفته من نفقات الجراح الذي عهد إليه بالعلاج، ومنذ ذلك الحين لم أبق في غرفتي مسدسا محشوا، وفي الحقيقة أن حذر الإنسان وتيقظه تعلل لا فائدة منه؛ فهو لا يتنبأ بالمستقبل، ولا يمكنه اجتناب الخطر المداهم.» محبب لدي كل شيء في ألبرت إلا «في الحقيقة»، وعلى أية حال، فأنت تدري ألا قاعدة بدون شواذ، وهو كامل الخلق بلا مراء، وإذا ما أراد أن يدفع عن قضية عامة معروفة، أو مسألة لا تزال قابلة للريب، جاء بكل رقيق اللفظ والتعبير، تسوقه إلى ذلك صراحة في الرأي مع خشية من إساءة أحد ما، حتى إذا ما قارب الختام نسي أصل قضيته وضاع. وكان في حديثنا، حسب عادته، مكبا على الموضوع مهتما به، وعلى هذا صارت المناقشة مملة، فحولت عنها التفاتي وحصرته كله في أفكاري، وبينا كنت كذلك أمسكت بالمسدس فسددته إلى جبهتي، وما كدت أفعل حتى اختطفه ألبرت من يدي صارخا: «ماذا أنت فاعل؟» فأجبت: «إنه ليس محشوا»، فاحتدم محتجا: «وبعد؟ ولم تقدم على هذا العمل، ولو أنه ليس محشوا؟ إنني لأعجب كيف ينقلب امرؤ ما إلى مجنون فيقتل نفسه، بل إنني لأرتعد لمجرد تصور ذلك.» فأجبت: «كيف يمكن رجلا وهو يتكلم عن عمل ما أن يجزم بجنون فاعله أو حزمه، باعتداله أو عدمه؟ وما معنى هذه التصريحات الطائشة؟ فهل اعتبرت ودرست الحوادث الخفية على هذه الأعمال؟ أنى تنشأ؟ ولم يستحيل الخلاص منها؟ ولو فكرت في ذلك ونقبت لما أصدرت حكمك بهذه السرعة.» فقال ألبرت: «ولكنا لا نستطيع أن ننكر أن بعض الأعمال - دون نظر إلى منشئها وبواعثها - تعد جرائم بطبيعتها.» فوافقته على ذلك دون اهتمام، ثم أكملت حديثي: «على كل حال يجب أن يكون هناك شواذ؛ فالسرقة تعتبر جريمة، ولكن هل يستحق العقاب أم الرحمة ذلك البائس الشقي، يسوقه فقره المدقع، فيأخذ القليل من الغني المكثر؛ لينجو بنفسه وأسرته المحتضرة جوعا؟ بل من يدعو الزوج الذي يذهب بنفس زوجته الخائنة وخليلها الغادر، في اللحظة الأولى تلحقه فيها الإهانة الحقة، قاتلا راغبا في القتل؟ من يدعو تلك المرأة الساذجة، أغرتها الأماني والوعود، فأسلمت نفسها لإغواء النذل المخادع، خليعة فاجرة؟ إن قوانيننا نفسها على ما بها من قسوة وصرامة، تتمسك بالرحمة في هذه المواقف، فتتنازل عن العقاب.» فقال ألبرت: «ولكن هذه الأمثلة لا تنطبق تماما على الحقيقة، إن الرجل الذي يندفع فجأة وراء العواطف الهائجة لا يستطيع أن يفكر في شيء، وعلى هذا وجب اعتباره سكرانا أو مجنونا.» فصحت وعلى شفتي ابتسامة استياء: «إيه! أيها الأخلاقيون، بأية سكينة، بل بأي جمود تحكمون وتتكلمون عن الاندفاع والسكر والجنون! ولكنكم عقلاء رصينون، تحتقرون السكران، وتتجنبون المجنون، فتنتقلون إلى الجانب الآخر كالرهبان، ثم تحمدون الله كالفريسيين
1
إذ لم تكونوا مثلهم! لقد ذقت أكثر من مرة تأثير الخمر، فارتكبت في تلك الأويقات أشد الحمق وأكبره، ولست أخجل من التصريح؛ فقد كان لي في ذلك درسا أن كل من يظهر مواهب عالية، أو أعمالا تتعدى العرف المألوف يعد سكرانا أو مجنونا، وأن هذه الخواطر الخاملة الهامدة لتسود حتى في حياتنا الخاصة. وماذا يقول العالم عن شاب كبير الشجاعة واسع الكرم، إلا أنه سكران أو معتوه؟ ألا فاخسئوا أيها الفلاسفة، أيها الأخلاقيون! واخجلوا، اخجلوا!» فقال ألبرت: «هذا مثل من خواطرك الروائية، إنك أبدا تخرج عن الحد، وإنك لشاط كثيرا عن موضوعنا الآن؛ إذ تشبه الانتحار بأعمال البطولة، ذلك الضعف البين؛ لأن الموت رغم ما به من أهوال أهون بكثير من الحياة المنكودة التاعسة، نلقى فيها المصائب بجلد وصبر جميل.»
وكدت هنا أترك الموضوع لأنه لا يفرغ صبري شيء أكثر من هذه الآراء التافهة العادية الخالية من المعنى، تحشر دون حاجة؛ لمناضلة العواطف المتدفقة من الفؤاد، ولكنني كظمت استيائي حالا؛ فقد تعودت كثيرا في الأيام الأخيرة هذه القياسات الفاسدة، حتى كادت تصبح ضئيلة التأثير أو عديمته علي، على أنني استتبعت ببعض الحدة «على أية حال أنت تسمي الانتحار ضعفا، ولكنني أحذرك وأرجوك، فلا تندفع وراء الأصوات الفارغة، هب أمة قد أرهقها نير الظلم والاستبداد، فقام قائمها، وثارت تفك قيودها، فهل تدعو ذلك التمرد ضعفا؟ وشخصا يبذل قواه إبان حريق ليخلص بيته من داهم النيران، فيجد الأحمال التي كان ينوء بها فلا يزحزحها، سهلة الحمل الآن، ورجلا يحمل في ساعة استياء حق على الفئة من الأعداء، فيهزمهم ويولون الأدبار، فهل تتهم هؤلاء بالضعف؟ وإذا كانت المقاومة يا سيدي العزيز دليلا على الجلد والصبر، فلم تدعون تلك المقاومة السامية ضعفا؟»
فسكت هنيهة ثم أجاب: «كل هذه الأمثلة - وأرجوك عفوا - لا تزال، كما أرى، خارجة عن الموضوع.» فأجبته: «هذا جائز، فطالما لوحظ أن في طريقة جمعي للأشياء ضربا من الإسراف، فلنحاول إذا أن نفكر في المسألة من طريق آخر، لنتساءل عن مركز ذلك الرجل الذي يصمم على إلقاء حمل الحياة من على كاهله، ذلك الحمل المحبوب عامة، ولننسل إلى أعماق مشاعره؛ فإننا بغير هذا يستحيل علينا درس الموضوع.»
ثم استمررت قائلا: «إن الطبيعة البشرية ذات حدود مخصوصة؛ فهي تحتمل درجة محدودة من السرور والحزن والألم، فإذا زادت الحال عن تلك الدرجة وهنت الطبيعة. لسنا نبحث عن بأس الإنسان أو ضعفه، ولكن عن مقدرته على احتمال تلك المصائب العقلية أو الجسمية التي تنزل به. ومن رأيي أنه إذا كان من السخف أن ندعو فريسة الحمى القتالة جبانا، فمنه أيضا أن نتهم الرجل الذي يضع حدا لوجوده بهذه التهمة.» فقاطعني ألبرت قائلا: «تناقض! تناقض بين!» فقلت: «ليس بالقدر الذي تظن. يجب أن تعترف أن الداء قتال إذا ما انقض على الطبيعة بعنف، فأوهن قواها، حتى صارت البقية الباقية منها عاجزة عن حفظ الحياة، وإدارة حركتها العادية، فلنطبق الآن هذا على العقل، ولنفحص قوة التأثيرات والدورة التي تأخذها الأفكار به، حتى تتسلط هناك عاطفة شديدة، وتتملك عليه كل التملك، فتخضع قواه ثم تلاشيها، وعبثا يتأمل امرؤ سريع الإدراك، حاد الذكاء رزين الطباع، ذلك المركز المنحوس يقع فيه شقي قد جرد من قواه، بل أية فائدة من النصيحة يزجيها إليه، وهو كالرجل الصحيح يجلس بجانب فراش صديقه الراحل، عاجزا عن مده بالنزر اليسير من صحته وقواه.»
وكان هذا النوع من التعليل مطلقا شائعا في عرف ألبرت، فضربت له مثلا بحديث سمعه من قبل عن فتاة انتحرت غرقا، وأردت أن أعيد القصة الآن: «فتاة طاهرة الذيل، اعتادت الانزواء في دارها والرضى بعملها الأسبوعي الذي تؤجر عليه، فكان هناؤها كله في جولة بالحقول على قدميها يوم أحد، ورقصة أو اثنتين أيام العطلة، قاطعة بقية أوقات فراغها بالحديث مع جيرانها عن شئون القرية واضطراباتها الصغيرة، وبدأ قلبها أخيرا يشتعل بآمال فتية، يذكيها تملق الإنسان ومداهنته، حتى فقدت طعم مسراتها السالفة تدريجا. والتقت صدفة بفتى ارتبطت معه دون أن تدري برباط القلوب، فانحصرت فيه آمالها، ولم تر من العالم غيره؛ إذ هو قبلة عنايتها وأفكارها، وأرادت وهي ساذجة القلب، تجهل الملذات المهلكة ربيبة الخيلاء الباطلة، أن تكون له. فأخذت تحلم أنها زوجته، ورغبت شغفة في تحقيق تلك الأحلام المغرية الخلابة، وعززت أمانيها وعوده الجمة وأقسامه الحارة، وزاد من افتتانها به شغفه الظاهر، فملأتها السعادة المنتظرة جذلا واغتباطا، ولم تعرف لعواطفها حدا. ثم فتحت ذراعيها لتضم تمثال حبها العزيز. ولكن يا للغواية القاتلة! لقد كذب حبيبها فهجرها ومضى!
وجمدت ضائعة الرشد، مسلوبة الحس أمام هوة الشقاء التي تجتذبها إليها: كل ما حواليها مظلم حالك، وليس ثمة شعاع من الأمل؛ فقد مضى خلفها إلى الأبد، وهو الذي من أجله عاشت؛ فالعالم أمامها الآن قفر فارغ، تشعر بوحدتها وهجرانها الأبدي وحولها من المعجبين بها الألوف! وهكذا عميت وساقها الحزن الممزق لفؤادها، فألقت بنفسها في قبر من الماء ... هذا يا ألبرت تاريخ كثير من الناس. أفلا تعده بربك مماثلا لحالة المرض؟ لم تجد الطبيعة طريقا آخر للنجاة وقد أنهكت قواها، وعجزت عن مناضلة الداء المتفاقم، فكانت النتيجة الموت. فليخسأ ذلك الرجل الذي يسمع هذه القصة المؤثرة، ثم يصيح: «يا للضعيفة! لم لم تصبر حتى يذهب الزمن بهذا التأثير؟ لقد كان من الممكن أن يتوارى ذلك اليأس تدريجا. ثم تجد محبا آخر يجعلها سعيدة هانئة.» كما يقول: «يا للأبله! يموت من الحمى؟ لم لم يصبر حتى يبرد دمه ويسترد قواه، فيصبح كل شيء حسنا، وينقلب هو حيا؟»»
ولم يقتنع ألبرت بصحة هذه المقارنة، فاعترض اعتراضات جمة، فقال إنني ضربت مثلا بفتاة غرة طائشة، وأنه لا يتصور كيف يقترف جريمة الانتحار امرؤ عاقل مهذب بعيد النظر، يستطيع به أن يجد وسائل عدة للسلوى والعزاء، فأجبته: «يا سيدي العزيز، مهما يكن من تهذيب الإنسان وعقله، فهو «إنسان»، وإن ما له من عقل وحزم لا يجدي نفعا أو يفعل قليلا متى اندفعت عواطفه تطلب مخرجا، أو ببيان أجلى، متى أطبقت عليه حدود الطبيعة البشرية، وزيادة على ذلك، ولكن حسبنا هذا الآن، فلنا عودة إلى الموضوع.» واستأذنت مسرعا. وا حسرتاه! لقد كان قلبي مفعما، وافترقنا دون أن يفهم كل منا أخاه، وما أقل التفاهم بين بني الإنسان!
الرسالة الثانية والثلاثون
15 أغسطس
ليس ثمة من ريب في أن تشابه الأذواق واتفاق العواطف رابطة قوية بين بني الإنسان، وإنني لواثق بأن شارلوت ستشعر ببعض الأسف لفراقي، أما الأطفال فهم يطلبون إلي بشوق كل يوم أن أعود إليهم في الغد. زرتهم بعد ظهر اليوم لأصلح أوتار آلة شارلوت الموسيقية، فما كدت أدخل حتى التفوا حولي، ورجوني بإلحاح أن أقص عليهم بعض القصص، ورغبت إلي شارلوت في إجابتهم إلى ما يطلبون، فبدأت بإعطائهم أنصبتهم من خبز المساء، وتلقوه من يدي بالسرور الذي يلقونه به من يد شارلوت. ثم أخذت أقص عليهم أحسن قصصي، وهي «هنري وبتر» أو «عواقب العجرفة وقلة الاختبار»، وقد أفادني هذا الضرب من التمرين كثيرا، ويدهشني تأثير تلك القصص الصغيرة على أذهان الأطفال، فإذا نسيت عند إعادة حكاية قديمة حادثة مهما صغرت، أو أضعت أخرى، لم يفت ذلك هؤلاء الخبثاء، بل سرعان ما يعترضونني، قائلين إنها لم تكن كذلك في المرة الأولى؛ ولذا فإني أتمشى معهم بنظام ودقة، وأحاول بقدر الإمكان أن أجعل لصوتي نفس النغمة الأولى.
وبذا أعتقد أن المؤلف قد يتلف من عمله بمراجعة الطبعة التالية، ولو استبدل شيئا بخير منه؛ فإن التأثير الأول تتشربه النفس بسرعة، وسواء كان العامل فيه سرعة الحكم أو صدقه، فإنه يبقى أثبت الجميع. وعلى هذا، فمن حاول اجتياح أثر قديم لم يلق إلا نجاحا ضئيلا.
الرسالة الثالثة والثلاثون
18 أغسطس
أمن الممكن أن نفس الظروف التي اجتمعت يوما فشادت سعادة امرئ تصبح سبب شقائه وبؤسه، لقد أصبح حبي الملتهب للطبيعة، ذلك الحب الذي انتعش به صدري، والذي منحني من الهناءة ما يقصر دونه الوصف، وجعل حولي جنة خيالية، لقد أصبح ألما لا قدرة لي على دفعه، وشيطانا مريدا يتتبعني، ولا يفتأ يسومني العذاب!
ما أشد ذلك السرور الذي شعرت به فيما مضى، حين وقفت بقمة الصخرة الشماء، أرقب النهر الفياض العظيم، يجري على مدى النظر، فيروي السهل الخصيب، ثم أثمر كل شيء وترعرع وانتشر. وخيل إلي أن كل ما أرى يتحرك، وكانت الجبال مكسوة حتى قممها بالأشجار العالية المزهرة، والوديان بمنعرجاتها المختلفة تحميها الغابات البهيجة، والغدير الهادئ ينسل بين الصخور المرتجفة، وقد انعكس على صفحته الساكنة ظل السحائب الخفيفة المعلقة في الفضاء يحملها النسيم الرقيق، وسمعت تغريد الأطيار التي كانت تنعش الغاب، ورأيت ما لا عدد له من الحيوانات الدنيئة، يرقص في أشعة الشمس الأرجوانية، واسترعى أذني طنين الجنادب دعاها داعي الليل. وقد انتصبت الصخرة الجرداء، ترمق الطحلب الأخضر، وفرش ما تحتها من الرمال بنبات المكانس.
1
وتوهجت حولي تلك الحرارة التي تحيي الطبيعة كلها، فملأت قلبي وأدفأته، وشعرت بسرور خفي لا يوصف، ثم غرقت في فكرة الأبدية؛ الجبال الهائلة شامخة برأسها فوق رأسي، والوهاد الوعرة مترامية عند قدمي، والأمواه تجري مسرعة بجانبي، والأنهار المتدفقة تذرع السهل، والصخور والتلال تردد صدى الأصوات النائية، وفي أعماق الأرض تعمل قوات عديدة وتتكاثر بلا انتهاء؛ كل المخلوقات بفصائلها المتباينة وأشكالها المختلفة تتحرك على الأرض وفي الهواء، بينا ينزوي الإنسان في كوخه الحقير، ثم يطل برأسه، ويتبجح هاتفا: «أنا رب هذا العالم العظيم!» أيها البشري الضعيف! إن كل ما حواليك يبدو لك حقيرا؛ لأنك أنت حقير! فالجبال الوعرة والصحاري التي لم يطأها الإنسان، وحدود المحيط المترامي الغامضة، كلها تحيا بنفس من الخالد الأزلي. وكل ذرة استمدت منه وجودها وحياتها، تتلقى من رؤيته النعيم. آه! طالما أشعرني غراب الماء في تلك الساعات التي أفكر فيها، وهو يهرب مارا فوق رأسي، برغبة عظيمة في ارتياد السحيق من المسافات، والرحيل إلى بقاع قاصية. وهناك أنهل من منبع النعيم الأبدي، وأذوق ولو هنيهة واحدة، وأنا البشري الفاني، من سعادة الأبدي الباقي «الذي فيه نحيا ونتحرك ونوجد».
آه أيها الصديق! إن مجرد ذكري تلك الأوقات لا يزال به بعض العزاء، ولكن متى عادت لذهني الملتهب تلك الإحساسات التي منها أستمد قوة البيان سموت عن نفسي، وأحسست بشقائي الحاضر مضاعفا. يسدل الستار ويغير المنظر، فلا أعود أبصر شيئا بعد بهجة الحياة الخالدة سوى هاوية عميقة لا قرار لها. فهل نقول عن شيء إنه «كائن» والكل يمضي ويفوت؟ والزمن يركض مسرعا يسوق معه كل شيء، وحياتنا الفانية يجترفها التيار، فإما أن تبتلعها الأمواج الهائجة، أو تصطدم بالصخور فتتحطم قطعا، كل لحظة تسرع بي وبما حولي إلى الهلاك، وكل لحظة أكون فيها أنا مهلكا! كل مشية طاهرة تقتل الآلاف من الحشرات البريئة، وفي خطوة واحدة يهدم كل ما شادته النملة العاملة من البناء العجيب، وكذلك يخرب عالم صغير. آه أيها الصديق! ليس ما ينال من عواطفي ويؤثر في بالخطوب الجليلة النادرة، ولا الفيضانات تغرق القرى بما وعت، ولا الزلازل تبتلع المدن بما حوت، كلا! ولكن هي تلك القوة الغامضة المدمرة السائدة في كل أعمال الطبيعة التي تنهك من نفسي؛ فإن معجزاتها (الطبيعة) تضم في جوفها عوامل انحلالها ودمارها! وإنها لم تخلق شيئا لا يبيد نفسه وكل ما جاوره؛ ولذا فإنني أدهش كثيرا، ويفعم قلبي حزنا وأنا محوط بالأرض والهواء بقواهما العديدة العاملة إذ لا أبصر السعادة، بل أرى العالم كله وحشا مريعا، لا يفتأ يبتلع ثم يقيء ما ابتلع.
الرسالة الرابعة والثلاثون
21 أغسطس
عبثا أفتح ذراعي لأضمها، حين أصحو في الصباح بعد أحلام الليل الكاذبة، عبثا أبحث عنها حين تخدعني الرؤيا المغرية؛ إذ أرى نفسي بجانبها في المراعي ممسكا بيدها، أطبع عليها ألف قبلة. وا حزناه! قد تأخذني شبه سنة من النوم، فأتصور مشغوفا أنني ألمسها، حتى إذا ما صحوت تماما انهمرت الدموع من عيني تفيض كالأنهار، وجاش قلبي مفعما بالهموم والأحزان.
لقد فقدت كل أمل، وأطلقت ليأسي العنان أتوقع كل شر وسوء.
الرسالة الخامسة والثلاثون
22 أغسطس
حال يرثى لها ويبكى عليها! فقد اضمحلت قواي العاملة، وانقلبت خمولا جامدا. لست أحتمل الكسل، على أنني لا أصلح لعمل ما، ولا أستطيع التفكير؛ لأنه يزيد في دائي، لم أعد أشعر بجمال الطبيعة أو تروح عني الكتب، ولكن هناك شيئا واحدا يتملك على عقلي، ولا يقربني سواه. وأود في بعض الأحايين لو كنت ميكانيكيا، إذا لقمت في الصباح، وقد أشغل بعمل أقطع به النهار الممل، وأبدد ظلمات أفكاري، وطالما حسدت ألبرت وهو مكب على أوراقه، وودت نفسي في مكانه، فكنت سعيدا، ها! «في مكانه!» إذا لكنت حقا سعيدا، وحينئذ شارلوت! ولكن دعنا من هذا.
تناولت القلم مرارا؛ لألتمس من الوزير الوظيفة التي يراها لي صديقي متى رغبت، وإنني لا أكاد أثق بنجاح مطلبي؛ فالرجل يكلؤني برعايته، ويظهر لي كثيرا رغبته في خدمتي، وتحت إمرته كما أعلم وظائف عدة؛ فهي لا تحتاج إلى كبير سعي أو عناء، ولكنني متى فكرت في الأمر، ذكرت خرافة الجواد الذي رضي بالسرج واللجام، وسرعان ما ندم على حريته التي ضحاها.
لست أدري أي طريق أسلك، وأعرف تقلب مزاجي، ولو أنني بطبيعتي لا أميل إلى التبديل، فأنا موقن بأنني في حالتي الحاضرة لا أستطيع التفكير في شيء سوى الحب.
الرسالة السادسة والثلاثون
28 أغسطس
لو أن هناك أي علاج لتوعكي هذا لأعطانيه هؤلاء القوم الأمجاد. هذا أيها الصديق يوم مولدي المنحوس، وصلتني في صباحه عقب مغادرة الفراش ربطة صغيرة من ألبرت معنونة بيد شارلوت، وفتحتها فوجدت نفس الشريط القرنفلي الضارب إلى الصفرة، الذي كان على ملابسها لأول مرة رأيتها فيها، والذي ألححت في طلبه منها مرارا؛ ليكون دليل ثقة وتقدير، أما ألبرت فكان منه مجلدا جيب من هومر، طالما سألته إياهما؛ لأن حمل المجلد الذي عندي أثناء السير يتعبني كثيرا. ما أشد دأبهم في إرضائي! وما أسمى هذه التذكارات الصغيرة، دلائل الصداقة، إذا قورنت بعطايا العظيم المشفوعة أبدا بمعاني الإذلال!
وأدنيت الشريط من شفتي الملتهبتين؛ فقد أذكرني تلك الأيام الهنيئة التي لا تعود. يا لنفسي! ما أعظم الفرق منذ ذلك الحين! على أنني لا أشكو ولا أتذمر. إن أجمل أزهار الحياة تذبل وما كادت تبتسم، وقد يهلك بعضها قبل نضجه، ولا يترك وراءه أثرا، وما أقل الأزهار التي تثمر، وإذا فعلت فما أندر نضج تلك الأثمار! بل كثيرا ما يهمل ذلك النادر وا أسفاه! فيترك للعطب والدمار، وعلينا أيضا أن نعتبر باختلاف الفصول؛ فهي تتغير كما نتغير. الوداع.
الطقس بديع صائف، وكثيرا ما أزور بستان شارلوت، فأتسلق شجرة كمثرى، وأرمي إلى شارلوت بالأثمار وهي واقفة تحتي، فتتلقاها في إتبها.
الرسالة السابعة والثلاثون
30 أغسطس
يا لي من شقي! فقد خادعت نفسي كثيرا، وارتكبت فعال الجهلاء! ما هذا الهيام الذي لا حد له؟ إنني لا أوجه صلاتي إلا إليها؛ فهي كل ما تصوره لي مخيلتي، وكل ما حوالي مهمل إلا ما كان ذا علاقة بها. إذا حضرت فما أسعد ساعاتي! ولكن إذا أرغمت على مفارقتها - كما يحصل كثيرا - وأنا أتأمل شكلها الجميل، مصغيا إلى صوتها الرخيم، آه يا صديقي! يغلبني السرور، فيخفق فؤادي ويضيع رشادي، وقد تنجدني الدموع، ثم، ثم أضطر متألما إلى مفارقتها، فأهيم على وجهي في المروج، أصعد الصخور الناتئة، واندفع بين الأدغال، ويقطع جسمي العوسج والشوك، وهكذا أخفض من عذابي بتغيير المنظر، وقد يضنيني الظمأ وينهكني العناء، فأنطرح على الأرض، وطالما استندت إلى شجرة معوجة، بقلب غاب مقفر ناء، في جوف الليل، وتحت أشعة القمر الفضية، فأخذني الكرى لشدة حاجتي إليه، حتى أيقظتني أشعة الشمس الذهبية.
أيتها السماء، إن أقبية السجن وأغلاله وملابسه الخشنة لا تعدل شيئا مما أحتمل الآن. الوداع! إن القبر وحده هو الذي يستطيع أن يضع حدا لويلاتي. القبر! ذلك المنزل الأمين ينتهي عنده كل بؤس وشقاء.
الرسالة الثامنة والثلاثون
3 سبتمبر
بلى، سأبرح المكان؛ لقد كنت مترددا، ولكنني مصمم الآن، والفضل لنصيحة صديقي القيمة. لقد قررت في الأسبوعين الماضيين مفارقتها، ولكنني الآن مصمم كل التصميم، لقد ذهبت منذ قليل إلى المدينة لزيارة صديقة ما، وألبرت ... وألبرت معها، وسأغادر هذا المكان في الحال.
الرسالة التاسعة والثلاثون
10 سبتمبر
وا لوعتاه أيها الصديق! ما كان أوحشها من ليلة تحملتها، ولكنها مرت، وأنا في انتظار الأشد والأسوأ. لن أراها قط قط، آه لو كان صديقي هنا، فارتميت بين ذراعيه الأمينين، وأطلقت العنان لفؤادي المفعم، ولتناولت من عطفه الشافي! إنني أبذل جهدي في حفظ نشاطي، وأحاول استعادة هدوئي وسكينتي، أنتظر بنافد الصبر ضوء الصباح؛ لتحملني جياد البريد التي طلبت إعدادها بعيدا عن هذا المكان، وشارلوت الآن نائمة مستريحة، ليت شعري أتدري أنها لن تراني أبدا، أبدا بعد الآن!
فارقتها فجأة، وكان لي من الثبات ما استطعت به كتمان ما اعتزمت عنها، مع أننا قطعنا بالحديث معا زهاء الساعتين، آه ما كان أبهى وأرق حديثها! وكان ألبرت قد وعد أن يلقاني في الحديقة مع شارلوت بعد تناول العشاء توا، وكنت واقفا على الشرفة تحت شجر الأبي فروة المظل، أعجب بالشمس الراحلة، فلم أرفع عنها عيني حتى غابت. في هذا المكان طالما اجتمعت بشارلوت - وكنت به ولوعا قبل تعارفنا - فكان استحسانها له جميل الوقع لدي عند بدء صداقتنا، وكما كانت رغباتنا متماثلة كان ودادنا متبادلا. والمسرح الذي يراه الإنسان من هذه الأشجار كبير واسع، ولكنني أذكر أنني وصفتها لك قريبا، وخصوصا تلك الشجيرات الباسقة التي تسد المنتهى، وكيف يظلم الطريق تدريجا بين أكتاف الغابة المجاورة، حتى ينتهي في مخبأ من الأشجار المظلة فيكون معتزلا جميلا. بل إنني لأذكر تلك الكآبة الحلوة، أحسست بها لأول مرة انتحيت فيها هذه الخلوة الهادئة، وكان ذلك في منتصف النهار، وربما كان إنذارا خفيا بأنها قد تكون في المستقبل مشهدا للألم والهناء.
وقضيت نحو نصف الساعة أفكر حزينا في رحلتي وأوبتي، ثم سمعتهما يقتربان فأسرعت ألقاهما، وتناولت مرتجفا يد شارلوت فقبلتها، وبلغنا طرف الشرفة، فرأينا القمر بنقابه الفضي يعلو وراء الشجيرات التي تزين ذرى الجبل، وتناول حديثنا مواضيع عامة، حتى بلغنا المنتهى المظلم من الطريق، فدخلت أولا شارلوت إلى هذا المكان الذي أحبه وجلست، ثم جلس ألبرت إلى جانبها، واخترت مجلسي إلى جانبها الآخر، ولكن عقلي كان منزعجا مضطربا حتى لم أطق القعود، فنهضت واقفا أمامها، ثم تمشيت روحة وجيئة، ثم عدت فجلست على أشد ما يكون من الانفعال، وأشارت شارلوت إلى آثار نور القمر الظاهرة بآخر الغاب، وقد زاد في بهائه الظلام المحيط به، وترجم سكون المكان ووحشته عن أحزان نفسي، أواه يا صديقي! لقد كان ذلك هائلا مخيفا.
ثم تكلمت شارلوت أخيرا قائلة: «كلما سرت في ضوء القمر ذكرت من كانوا أعزاء لدي وهم الآن لا شيء، ثم تحوم برأسي أفكار الموت، وما بعد الموت.» وأكملت حديثها بصوت ينبئ عن رقة ذلك الفؤاد: «بلى سنحيا بلا ريب فيما بعد، ولكن كيف يا فرتر؟ هل يرى كل منا الآخر؟ وهل يذكره؟ ماذا ترى؟» فأجبت مادا إليها يدي، والدموع تطفر من عيني: «شارلوت، سنلتقي ثانية، وأؤكد لك هنا وفيما بعد.» ولم أستطع أن أزيد. آه يا صديقي! لقد كان سؤالا قاسيا في الوقت الذي كانت تلتهم فيه نفسي أفكار فراق طويل، وعادت شارلوت تقول: «آه! ليت شعري أيشعر هؤلاء الأعزاء الذين أحببناهم، والذين لا نفتأ نجل ذكراهم في حالتهم السعيدة الآن؛ باهتمامنا بهم، وباللحظات الهانئة التي قضيناها معهم! ويخيل لي أنني أرى شبح أمي الحبيبة يحوم حولي حين أجلس في مساء هادئ مع هؤلاء الأطفال الأطهار، الذين خلفتهم وراءها رمزا حلوا لها، حين يلتفون حولي بشغف كما كانوا يفعلون معها، هناك أرفع عيني إلى السماء، ثم أصلي متوسلة أن تشرف من مأواها السموي، فترى أنني قد قمت وفية بالوعد الذي وعدتها في دقائقها الأخيرة بأن أكون لهم أما. وطالما هتفت: يا أعز الأمهات عفوك إذا لم أكن لهم كل ما كنت أنت، وا حزناه! ليس في استطاعتي أن أكون لهم كل ما كانت، ولكنني أبذل ما في وسعي، إنني أطعمهم وألبسهم، ثم أنا أحبهم وأحنو عليهم وأعنى بتهذيبهم. آه لو استطاعت أمي الحبيبة أن تشهد هذه الألفة الخالدة بيننا، إذا لأسدت الحمد خالصا لذلك الإله السموي، الذي صلت إليه على فراش الموت صلاتها الحارة كي يمنحنا السعادة.» واستمرت في كلامها هذا، ولكن عبثا أحاول أن أعيد كل تلك العواطف الشريفة. إن اندفاق العبقرية الممتلئ حياة لا يعبر عنه المتشدقون الجامدون.
وهنا قاطعها ألبرت ممتلئا عواطف ورقة: «يا حبيبتي شارلوت، إنك تكبدين نفسك تأثرا شديدا، إن هذه التذكارات حلوة رقيقة، ولكنني أناشدك الله ألا تفكري فيها طويلا.» فأجابت: «آه يا ألبرت! أنت تذكر بملء الشعور تلكم الليالي الهادئة حين كنا نجلس ثلاثتنا إلى مائدتنا الصغيرة، وقد نام الأطفال، ولم يعد أبي بعد. وكنت في أكثر الأحايين تمسك بيدك كتابا، ولكن قل ما تهبه من عنايتك، فمن ذا الذي لا يفضل حديث تلك المرأة الذكية الفؤاد، ذلك الحديث المثقف على أكبر المجلدات تسلية، وكانت رقيقة رءوفة، هاشة الوجه، سعيدة بواجباتها المنزلية، بل إن السماء لتشهد كم مرة جثوت فيها، وتوسلت طالبة من القوى السموية أن تمنحني ولو بعض طيبتها وصلاحها.»
فارتميت على قدميها، وأمسكت بيديها فغسلتهما بالدموع قائلا: «آه! شارلوت، شارلوت! إن بركات الله وأمك لا تزال مسبغة عليك.» فأجابت وهي تضغط على يدي المبللة كيدها بالدموع: «آه يا فرتر! ليتك عرفتها؛ فقد كانت جديرة حتى بصداقتك.» فجمدت في مكاني؛ إذ لم أتلق أبدا من قبل مديحا شعرت به بهذه القوة، وأكملت حديثها: «وقد اختطف الموت هذه المرأة الفاضلة في صدر حياتها، ولما يبلغ أصغر أطفالها الستة الشهور، وفي أثناء مرضها القصير كانت رابطة الجأش مستسلمة، وكان همها الوحيد أسرتها، وخصوصا أصغر أطفالها، ولما أحست بدنو ساعتها الأخيرة، طلبت إلي أن آتي بهم إليها فأطعت، والتف الصغار الأطهار حول فراشها، لا يعرف أصاغرهم الخسارة الواقعة بهم؛ أما الكبار فقد ملأ قلوبهم الحزن، فغلبهم على أمرهم، ثم رفعت يديها الواهيتين إلى السماء، تبتهل بحرارة إلى الله القدير أن يكون أبا لهم، وقبلتهم بالتوالي، ثم صرفتهم والتفتت إلي قائلة: «شارلوت! كوني لهم أما.» فأعطيتها يدي أؤكد لها صامتة طاعتي لها «إنك تعدين بالجلل العظيم يا بنيتي - بحنو الأم، بعناية الأم - ولكن حبك البنوي يحملني على الاعتقاد بأنك ستكونين كفؤا للشعور الأموي، كوني بهم رفيقة محبة كما كنت بي أنا، قومي بالواجب نحو أبيك، وكوني له في موضع الزوجة الأمينة، بل كوني مسرة أيامه المدبرة.» ثم استفسرت عن زوجها، ولكنه - وقد شعر بالكنز الذي يكاد يفقده - كان قد خلا إلى نفسه يبكي في الخفاء مطلقا العنان للألم الذي يفت في فؤاده، وكنت يا ألبرت في مخدع أمي حينذاك، وسمعتك تتحرك، فلما علمت بوجودك، ألحت عليك في الدنو منها، ثم نظرت إلى كلينا بسكون تام، ورضى ظاهر قائلة: «ستكونان معا سعيدين، إنني لأرى ذلك».» وقاطعها ألبرت وقد ضمها إليه بإخلاص قائلا: «بلى يا حبيبتي شارلوت، إننا سعيدان وسنكون كذلك.» حتى ألبرت الهادئ المفكر حركه وصفها المؤثر؛ أما أنا فقد فقدت حواسي تقريبا. ثم استمرت: «آه يا فرتر، لقد اختطفت هذه المرأة الفاضلة المحبوبة من بين أسرتها. يا للسماء! أهكذا نفترق عمن نحب ونعز كل الإعزاز، ويخيل إلي الآن أنني أسمع نحيب الأطفال المفجع الذين حزنوا مدة لفقد أمهم المحبة، قائلين إن «الرجل الأسود» اختطف منهم أمهم العزيزة.»
وتركت شارلوت مقعدها، وكنت ثائر العواطف، ولكنني بقيت جالسا ممسكا بيدها، فصاحت: «يجب أن نذهب؛ فقد تأخر الوقت.» وحاولت أن تنسحب، ولكنني بقيت قابضا على يدها، وقلت: «سيرى كل منا الآخر ثانية، وسنلتقي فيما بعد. بلى ومهما كانت مراكزنا، فسيرى ويعرف كل منا الآخر فيما بعد. إنني ذاهب وبما أنه علي أن أذهب فسأذهب راضيا، ولكنني لا أقول «إلى الأبد» إن ذلك يكسر قلبي. الوداع يا شارلوت. وأنت يا ألبرت! سنلتقي ثانية.» فأكملت شارلوت وهي تبتسم: «نعم، وغدا كما أظن.»
أواه يا صديقي! إن «غدا» كان خنجرا في فؤادي.
يا لنفسي! إنها لم تكن تدري متى تسحب يدها، وانطلقا في الطريق، وقمت مسرعا فأتبعتهما عيني في ضوء القمر، ثم انطرحت على الأرض وأطلقت لعواطفي الهائجة العنان، وأخيرا نهضت فجأة، فركضت إلى الشرفة، ووقفت تحت ظل أشجار الزيزفون، فلمحت ثوبها الأبيض يتموج قرب باب الحديقة، فمددت ذراعي ولكن عبثا، لقد ذهبت واختفت الساحرة في لحظة.
الرسالة الأربعون
20 أكتوبر
وصلت إلى هنا الليلة الماضية، وها أنا منجز وعدي في الكتابة إلى صديقي بأسرع ما أستطيع. السفير مصاب بالنقرس، وهذا المرض لا يزيد من «الحلاوة الطبيعية» في خلقه؛ فهو أبدا شكس الخلق، منكود الطلعة، وقد زادت عبوسته في الأيام الأخيرة كثيرا، وأرى بكل جلاء أن حظي سيحفظ لي تجاريب قاسية، بيد أنني لن أجبن أو أخاف، بل سأتعلم النشاط قليلا. لا أتمالك نفسي من الابتسام للكلمة الأخيرة التي سقطت من قلمي؛ فإن قليلا من ذلك النشاط الذي أحتاج إليه جد الحاجة الآن يجعلني أسعد الناس. ولكن أأيأس من كفاءتي وما منحتنيه الطبيعة وأمامي من هم أقل مني مواهب وقوة، يسيرون ينفخهم تيه الطاووس الفارغ، وليس لهم ما يدلون به اللهم إلا ريشهم المموه؟ أيها الإله القدير لم لم تقرن تلك الصفات التي أعطيتنيها بالثقة بالنفس والرضى بها؟ ولكن يخيل إلي أن صديقي يهتف بي: صبرا صبرا يا فرتر، إن الزمان يلد المعجزات، وقد تتغير الأشياء. حقا إنني أعترف بصحة ما يقول صديقي؛ لأنني منذ اضطررت للاختلاط بالبيئة التي هنا، منذ سنحت لي فرصة التطلع في أفكارها وسيرها وأحاديثها بدأ الاطمئنان والراحة يعودان إلي، وبما أننا بالطبيعة نقارن أنفسنا بمختلف الكائنات التي نجدها في هذه الحياة، فإن سرورنا أو حزننا ينشأ عن الحاضر أمامنا. الوحدة مربية الأفكار المحزنة المظلمة، التي فيها يميل الخيال دائما إلى التحليق في الفضاء بأجنحته الجبارة الجريئة، ويتغذى بمثل هذه الأفكار الوهمية، فيخلق كائنات لا وجود لها، حتى نرى أنفسنا بالمقارنة معها منحطين خاملين. وتظهر كل الأشياء بأكثر من أهميتها الحقيقية، ويظهر بعض الناس خيرا منا وهو ليس كذلك، وهذه العملية العقلية طبيعية؛ فإننا دائما نجد في أنفسنا نقائص جمة، كما نجد للغير صفات ليست فيه، وكذلك نصور لأنفسنا بطلا ما وهو في الحقيقة ليس إلا شخصا وهميا، ابن خيالنا ووليد تصورنا.
ومن جهة أخرى، إذا صوبنا أفكارنا إلى نقطة واحدة وثابرنا بحماس في السبيل الذي ارتأيناه، فكثيرا ما نجد، رغم الحنق والغيظ، أننا - ولو غيرنا دائما في دفتنا - قد تقدمنا عن الغير مسافات شاسعة بمعاونة التيار والريح. وإن الحكم الذي نصدره على أنفسنا بالنسبة إلى هذا الغير، سواء أكنا معه متساويين أم وراءه أم أمامه؛ يكون عادلا.
الرسالة الحادية والأربعون
10 نوفمبر
كل يوم أرى مركزي هنا يزداد عناء؛ فإنني دائما مشغول، وإن ما حولي من الأشخاص والأدوار المتباينة التي يلعبونها، والمناظر المختلفة التي يقدمونها، لتستنفد على التعاقب كل اهتمامي. وقد تعرفت إلى الكونت الذي يزداد قدره عندي كل يوم؛ فإنه رجل عظيم حاد الإدراك، وهو على مواهبه وكفاءته العالية ليس بالمتكتم الصامت، ولا بالفاتر الطبع، صبوح الوجه، لطيف المعشر، وفوق ذلك كله ذو شعور دقيق، وقد رأيت عنايته بي لأول مرة لقيته فيها؛ حيث كنت أتم معه عملا ما، ولما وجد أن كلا منا يفهم الآخر نبذ الرسميات والتقاليد، فصار صريحا لطيفا، وسرني منه جدا سرعة خاطره وظرفه الذي لا يوصف، وإن الثقة الصريحة من ذهن عظيم كذهنه لتميل أبدا إلى تخفيف حدة شعور قلب كقلبي. لقد خبرت ذلك القلب طويلا أيها الصديق، وإنني لواثق بأن ستتغاضى كثيرا عن خطيئاته.
الرسالة الثانية والأربعون
24 ديسمبر
لقد صح ظني، فمن المحال اتفاقي والسفير، هو دون ريب أسرع من عرفت غضبا، أحمق الرأي، غريب الشكل، جامد كالعانس،
1
وكيف يرضى بالناس وهو لا ترضيه نفسه قط؟ أريد إتمام الأعمال بنظام وسرعة، حتى بإنجازها أنتهي منها، ولكن هذا لا يلائم طريقته، إذا قدمت له مسودة أعادها وعليها: «واثق أنها تقوم بالغرض، ولكني أفضل أن تراجعها؛ فقد تجد بها ما يستحق الإصلاح، أو تفكر في استبدال عبارة بأنسب منها، أو كلمة بما هو أشد وقعا.» ويفرغ ذلك صبري، فألعنه وألعن ملاحظاته، ويجب ألا تغفل نقطة واحدة، أو حرف عطف واحد، أما تغيير الوضع في الكلمات - أسلوبي الكتابي المحبوب - فلا يحتمله، كل رأي يجب أن يكون طبق الأسلوب الرسمي القاطع، فإن خالف ذلك رفض بلا إمهال، وأنت يا صديقي، يا من تعرف مقتي لهذه القواعد القاسية، تستطيع إذا أن تتصور العذاب الذي أحتمله مع رجل كهذا، ولولا معرفة الكونت المحبوبة لما وجدت لي عزاء. وقد أكد لي بإخلاص منذ أيام بغضه لبطء هذا «الرجل العظيم» وحرصه، قائلا لي: «إن هؤلاء الناس لا يجعلون كل شيء مملا لهم فقط، بل لكل من احتك بهم، ولكننا يجب أن نذعن لهم، كالرحالة الذي يضطر لصعود الجبل، ولو لم يعترضه لكان طريقه أقصر وأسهل، أما والحال كما هي فعليه أن يجتازه صابرا.» وقد رأى الأبله تعلق الكونت بي فزاد غمه وضجره، وهو يتحين كل فرصة لتحقيره أمامي، ولكنني أدفع عنه بالطبع، فأزيد في استيائه. ورأيت أمس أنه وجه إحدى طعناته إلى الكونت، كما قصدني بها؛ فقد قال: «إن الكونت يصلح جدا للأعمال العامة في الدنيا، فأسلوبه جيد، وكتابته سهلة، ولكن تعلمه - كبعض «عظماء النابغين» - سطحي.» وكانت لصوته رنة خاصة، شفعها بنظرة ذات معنى كأنه يقول: «آمل أن تشعر بما أقول.» ولم يقرصني تهكمه لأنني أحترم نفسي. إنني أحتقر الرجل الذي يفكر مثله ويعمل عمله، ومن يجادل هؤلاء الأشقياء؟ وعلى أية حال فقد أجبته ببعض الحدة قائلا: إن الكونت رجل فاضل، جدير بكل احترام لسيرته وفطنته، وإنه هو الشخص الوحيد ممن عرفت الذي يسمو بنبوغه الواسع عن الناس العاديين، مع امتلاكه النشاط الضروري للعمل والجد ، فكان هذا في رأيه مما لا يفهم. وخفت أن يستمر في قدحه لرجل أفضل منه بكثير، فيزيد من استيائي؛ ولذا انسحبت في الحال.
أنا أحمد لك، لك أيها الصديق عبوديتي هذه؛ فقد رضيت لإلحاحك المتواصل، ونصحك الشديد لي بالنشاط، أن أحني عنقي لهذا النير الممقوت. النشاط! إنني لأرضى بعشر سنوات أقضيها في هذه السفينة
2
الملعونة المقيد بها الآن، إذا لم يكن الرجل الذي يزرع البطاطس ويحملها إلى السوق أشد مني نفعا وأكثر نشاطا. وما أعظم الحنق! ما أعظم الخمول الكريه المنتشر في الجماعات المهذبة! فشد ما يدأبون متطلعين إلى التقدم عن الغير! وما أحقر وأجشع هذه العاطفة تتجلى في كل ما يعلمون! وهنا الآن سيدة وقد أصمت الناس بتحدثها عن أسرتها وما تملك من واسع الضياع، ولو شهدها غريب وسمع تفاخرها لحسبها مجنونا قد اختلط عقله بحيازة رتبة أو لقب غير منتظر. ومما يزيد في السخرية منها أنها مع ذلك كله ليست إلا كاتبة لنائب أعمال في الجهات المجاورة. وليت شعري كيف يتعلم الإنسان أن يكون محتقرا بهذه الدرجة!
كل يوم أيها الصديق أرى أكثر من ذي قبل سخف الحكم على الناس بقياسهم بنا؛ إذ إنه من الصعب أن أخفض من نيران تخيلاتي والعواصف الثائرة بفؤادي. إنني أدع الناس راضيا، يسلكون ما يختارون لأنفسهم من السبل، وأرغب في الوقت عينه أن أعمل طبق أميالي، وأن ما يسوءني جد الإساءة هو ذلك التميز المضحك بين أبناء البلد الواحد، أنا أعلم كل العلم أن عدم التساوي في الصفات ضرورة لازمة، كما أعلم النفع الذي يجره ذلك على نفسي، ولكنني لا أرضى بصد اليسير من السرور، تهبه هذه الدنيا المملوءة بالآلام.
تعرفت في إحدى جولاتي الأخيرة إلى فتاة تدعى الآنسة بوير، لطيفة، أنيسة المعشر، بسيطة اللباس، وديعة الأخلاق، رغم تكلف جيرانها وتمسكهم بالتقاليد المرسومة، وقد سر كل منا بمعرفة صاحبه لأول مرة التقينا فيها، ورغبت إليها قبل الافتراق أن تسمح لي بزيارتها في منزلها، فأجابتني إلى ذلك بأدب صادق، حتى أخذت أتحين الفرص الملائمة بفارغ الصبر، وهي ليست بابنة هذه البقاع، ولكنها نزيلتها منذ زمن قريب مع عمتها التي خلا وجهها من أي أثر للطف، حتى نفرت منها لأول ما رأيتها، ولكنني عاملتها بكل عناية مرضاة لابنة أخيها، وطالما وجهت إليها الحديث، وقد حزرت في أقل من نصف ساعة ما حدثتني عنه الآنسة من أن عمتها الكهلة ذات ثروة قليلة وعقل أقل، لا يسرها شيء غير رضاها الخفي بتعديد أسلافها وذكر مناقبهم، وأن مولدها الشريف واق لها، وهذا ما تحيط به نفسها من السياج، وأن لهوها الوحيد هو أن تقف في شرفتها، تطل باحتقار ملكي على كل الرءوس الوضيعة، في زعمها، التي تمر من تحتها. وكان لها في أيامها الغابرة بعض الحسن، ولكن عز حياتها قد بدد على مهل، وطالما لعب هواها بأفئدة الشبان، وكذلك كان عصرها الذهبي، فلما طاح جمالها اضطرت أن تقبل ضابطا طاعنا في السن، وترضخ لطبعه الكئيب، وكذلك كان «عصرها النحاسي»، وهي الآن أرمل مهملة، ولولا لطف ابنة أخيها لهجرت كل الهجر، وهذا ما قد يسمى ب «عصرها الحديدي»!
الرسالة الثالثة والأربعون
8 يناير عام 1772
ما أغرب هؤلاء الناس هنا؛ فهم يدرسون بلا انقطاع علم الأشكال، وقد يشغل كل وقتهم فكرهم عاما كاملا في مسألة لا تتعدى في الأهمية كيف يتقدمون نحو طرف المنضدة الأعلى مقعدا واحدا! وليس هذا الضرب من الناس بالخامل؛ لأنه يزيد دائما في عمله بأن يصرف إلى الضئيل التافه تلك العناية التي يجب توجيهها إلى الأجل من الأمور. اجتمع في يوم من الأسبوع الفائت فريق عظيم للنزهة على الثلوج بالزحافات، وما لبثوا حتى تفرق جمعهم فجأة بمشاحنة تافهة عن الأسبقية! ألا يعلم الحمقى أن المركز لا يخلق السعادة الحقة، وأن من يشغل أكبر المناصب لا يظهر في أغلب الأحايين عاملا واضحا؟ فكم من ملك يحكمه وزيره، وكم من وزير يقوده كاتم سره! ومن يعد العامل الرئيسي في مثل هذه الأحوال إنما هو الذي يستطيع بكفاءته السامية أن يجعل قوى الغير وأميالهم خاضعة لإرادته.
الرسالة الرابعة والأربعون
20 يناير
من هذا الكوخ الحقير الذي أسكنه، والذي كان لي خير ملجأ أحتمي به من عاصفة ثائرة جائرة، أخاطب الآن عزيزتي شارلوت.
لم أتمكن قط من الكتابة إليك أثناء إقامتي في مدينة «د...» المكتئبة المحزنة، بين أناس أغراب؛ أغراب لأنهم يجهلون ميولي وعواطفي، ولكنني في اللحظة التي دخلت فيها هذا المكان المنفرد، والبرد والثلوج تصطدم بنافذتي الصغيرة، عدت إليك وإلى نفسي، فما وطئت المكان حتى اندفعت صورتك أمام عيني، وملأت فؤادي ذكرى شارلوت، إيه أيتها الذكرى المقدسة الحلوة! أيتها القوى الرحيمة! ألا من عود لتلك اللحظة الأولى التي رأيتك فيها!
إيه شارلوت! لو قيض لك أن تريني وسط هذا الدردور
1
الذي أحاط بي، وقد اختلط كل شيء واضطرب دون أن يمسني، لقد استولى علي جمود مطلق؛ فلم أعد أشعر بذلك الرضى الخفي يبعثه السرور الحق، ولم أذرف قط دمعة شعور أو عطف؛ فقد همد ذلك الثوران. أقف دون حراك كالمصعوق أمام صندوق
2
الصور، وتتحرك أمام ناظري ألاعيب كبيرة وصغيرة. وكثيرا ما أسائل نفسي عما إذا لم يكن الكل خدعة خيالية، وتصبح هذه الألاعيب أسباب لهوي، أو بالأحرى أصبح أنا ملهاة لها، وآخذ بيد جاري فأجدها جامدة كالخشب، فأسحب يدي وقد ملئت رعبا. وأعتزم في المساء شهود بزوغ الشمس في الصباح، ولكن عبثا؛ فإنني لا أملك مفارقة فراشي، وفي الصباح أفكر في السير على ضوء القمر متى ظهر، ولكنني لا أقوى على مغادرة غرفتي، ولست أدري لم أصحو من نومي ولم أذهب إليه، والخواطر التي تبهجني في الليل وتوقظني في الصباح تتلاشى سريعا.
ولم أجد من تطبق عليه صفاتك خلا واحدة «الآنسة بوير»، بلى يا شارلوت، إنها تشبهك تماما إذا كان ثمة من يشبهك. قد تقولين: «إيه لقد تعلم المديح الباهر.» وهذا حق؛ فقد صرت مؤدبا إلى النهاية في الأيام الأخيرة؛ إذ عجزت عما يفضل ذلك، والسيدات يقلن إنني أضرب في الذكاء بسهم وافر، وإنني منعدم النظير في المداهنة، وستضيفين إلى ذلك «والكذب أيضا»؛ لأن الاثنين مترافقان، على أنني أردت أن أقول بعض الشيء عن الآنسة بوير؛ ذلك أنها رقيقة الشعور سامية الذكاء؛ صفتان تظهران في عينيها الزرقاوين اللطيفتين، ومركزها عبء ثقيل عليها؛ فهو لا يرضى قط ميولها. تحتقر فراغ الحياة الزاهية، وكثيرا ما نقضي الساعات معا نتحدث عن السرور والسعادة اللذين تبعثهما المناظر الخلوية، ونفكر فيك أثناء حديثنا؛ لأن الآنسة بوير لا تعرفك فقط بل تجلك إجلالا خالصا، لم يبعثه بنفسها مؤثر ما، وهي تعجب بك وتسر دائما متى ذكر اسمك.
آه لو كنت معك الآن في ذلك المخدع الصغير المحبوب؛ حيث يلعب حولنا أخواتك وإخوتك الصغار الأعزاء! وإذا ما أتعبوك أخذت ألقي عليهم بعض القصص، فيلتفون حولي وكلهم إصغاء وشوق.
آذنت الشمس بالمغيب، وأشعتها الرائحة تتألق على الثلوج التي تغطي الفضاء الفسيح، وقد هدأت العاصفة، فعلي أن أعود إلى سجني المظلم. الوداع! هل ألبرت معك؟ ومن هو لك الآن؟ ما أحمقني! فلم أسأل هذا السؤال؟!
الرسالة الخامسة والأربعون
17 فبراير
يلوح أنه ليس من المستطاع أن أبقى مع السفير طويلا؛ فهو لا يحتمل البتة، أما طريقته في إنجاز الأعمال فليست ثمة أسخف منها حتى لا أستطيع الكف عن معارضته، واتباع أميالي رغم كل تعليماته، وهذا ما يسوءه دون ريب، وقد لمح بشيء من هذا للوزير الذي أرسل يعنفني، ولو أنه كتب بلهجة لطيفة إلا أنه تعنيف على أية حال. وعزمت على تقديم استقالتي، فوصلني كتاب خاص منه، أعترف بأنه قد أخضعني، وملأني إعجابا بالذكاء العميق السامي الذي أملاه؛ فقد حوى أشرف العواطف لتهدئة إحساسي المتألم، وبين بكل إخلاص وتواضع تحبيذه الكبير لآرائي، ومدح ثبات الشباب وحميته مدحا ليس بالقليل، وقد نصح لي بعدم الضغط على هذه الحمية والغيرة، ولكن بعدم الذهاب بها بعد حدود مناسبة؛ حتى يعاون هذا كفاءتي ومقدرتي، وهكذا هدأت نفسي، وأوصيت بالصبر بضعة أيام على الأقل. إن هدوء العقل وسكونه، أيها الصديق، نعمة ثمينة ولكنها قصيرة الأجل.
الرسالة السادسة والأربعون
20 فبراير
فلتحفظ السماء أصدقائي الأعزاء، ولتغمرهم بنعم الحياة التي حرمت منها، ألبرت إنني أشكر لك بإخلاص ذلك الخداع الكريم؛ لقد انتظرت أن أنبأ بحفلة العرس، وعزمت أن آخذ في ذلك اليوم «السعيد لك» رسم شارلوت الجانبي من الحائط فأواريه مع أوراق أخرى. لقد ارتبطتما الآن وصورتها لا تزال باقية هناك، وكذلك فلتبق. ولم لا! ألا تجد شارلوت الآن في قلبها متسعا لي؟ بلى يا ألبرت؛ فأنت تسمح أن تكون لي المنزلة الثانية هناك، بل «يجب» أن يكون لي ذلك، ولو نسيتني لأصابني الخبل والجنون. إيه أيها الزوج السعيد! بل أنا الآن مختبل مجنون.
ولكن كن سعيدا يا ألبرت، وأنت يا شارلوت، أيتها المخلوقة الملائكية، لتكوني أسعد بنات جنسك.
الرسالة السابعة والأربعون
15 مارس
حدث منذ قليل حادث غريب يمنع، دون شك بقائي هنا. لقد نفد صبري، وأصبح الاحتمال لا يطاق، وليس ثمة من علاج، وصديقي السبب في ذلك كله؛ فأنت الذي لججت علي وألححت لأقبل هذا المنصب الذي لا أليق له بوجه ما، أنا واثق من هذا الآن، وكذلك يجب أن تكون، ولكن كيلا ينسب فشلي إلى حدة طبعي، فسيشفع هذا ببيان مفصل عن الأمر.
الرسالة الثامنة والأربعون
ذكرت لك وكررت تقدير الكونت ومشايعته لي، تناولت طعام الغداء معه أمس، وهو اليوم الذي يلتقي فيه بمنزله كل ذوي المراكز العالية، ولم أفطن قط إلى الجماعة وإبعادهم أتباعهم في ذلك الوقت. وذهبنا بعد الطعام إلى البهو نتحدث ونتمشى، وكان الكولونيل «ب» يزور الكونت أيضا، فدخل معنا في حلبة الحديث، وكذلك قضينا الوقت حتى أقبل النبلاء، ويعلم الله أنني لم أكن مستعدا البتة حين دخلت لادي «س» - أشرف السيدات وأنبلهن - مصحوبة بزوجها وابنتها - فتاة خرقاء ذات خصر قصير وصدر منبسط - فمرت بي ناظرة إلي باحتقار وصلف شديد، وعزمت على مغادرة المكان لاحتقاري أمثال هؤلاء، ولم يبق علي إلا البقاء لاستئذان الكونت الذي كان مشغولا بالتحيات الواهنة العقيمة. ودخلت في هذه اللحظة الآنسة بوير، فتأخرت قليلا لأحادثها؛ لأن وجودها يسرني دائما، وكنت مستندا على مؤخر مقعدها، فلحظت أخيرا أن هناك هرجا لم أره في أول الأمر قلل من لطفها ورقتها، وأدهشني هذا التغير الفجائي، ففكرت قائلا: «أمن الممكن أن تكون هي أيضا كباقي الجماعة؟» وساءني ذلك، وكدت أنسحب لولا شوقي إلى تعرف السبب.
ووصل الآن باقي الجماعة، وكان بينهم بارون معروف بسترته القديمة المحبوبة وكونت آخر، يظهر اختلاف ملابسه العتيقة عن أزياء اليوم أيما ظهور. وحادثت كل من أعرف منهم، فلاحظت أنهم يتباعدون، وأدهشني جدا سلوك الآنسة بوير، وشغل هذا كل التفاتي؛ فلم ألاحظ - كما أخبرت منذ ذلك الوقت - أن السيدات يتهامسن فيما بينهن، وأن هذا الهمس قد انقلب طنينا بين السادة الرجال، ويظهر أنه كان بين السيدة «س» والكونت مناقشة حارة في الموضوع، وأخيرا أخذ بيدي الكونت إلى جانب من الغرفة، وقال لي بمنتهى الرقة: «أنت تدري خرق التقاليد، وهنا بعض ممن لا يرضيهم وجودك، وأنه ليحزنني جدا ...» فقلت: «أرجوك عفوا؛ فقد كان من الواجب أن أفطن إلى ذلك، ولكنني واثق أن كرم نفسك سيتجاوز عن هذا السهو، ولقد كان في عزمي الانصراف منذ حين طويل، ولكن شيطاني اعترضني.» وابتسمت منحنيا، وانصرفت بعد أن صافحني بإخلاص نم عن صفاء قلبه، وانحنيت أيضا للسادة «النبلاء»، وأسرعت إلى مركبتي الخفيفة، ميمما قرية مجاورة؛ حيث شهدت غروب الشمس من قمة تل هناك، وتلهيت قليلا بمطالعة هومر، وكان ما قرأت بالصدفة ذلك الوصف الجميل لمقابلة ملك إثاكا الكريمة للرعاة المخلصين. وبعد أن متعت نفسي بذلك عدت أدراجي، ودخلت قاعة العشاء في المساء، فلم أجد إلا بضعة أنفار يتلهون بالنرد، فحياني ألديهيم «الرقيق»، وهمس في أذني قائلا: «لقد كانت حادثة سيئة، وهكذا اضطرك الكونت إلى مغادرة الجماعة!» فأجبت: «الجماعة! لقد سررت جدا بمفارقتهم.» وهكذا كان.
والشيء الوحيد الذي يغضبني هو الخبر الوقح الذي انتشر، ثم أخذت أفكر في المسألة بجد، وخيل إلي أن الكل ينظرون إلي وأنا جالس إلى المائدة بشأن الحادثة، فآلمني هذا في أعماق فؤادي، وحيثما ذهبت الآن أسمع الناس يرثون لي، ويقول أعدائي الظافرون: «هكذا يقع أبدا لهؤلاء الناس الوضيعين المتظاهرين باحتقار المراكز، وهم مع ذلك يسعون للظهور والشهرة.»
أواه! إنني لأمزق فؤادي! إن الجلد يجب أن يكون عنصرا جوهريا في الفلسفة؛ فلو أننا لا نلقى السفاسف، على العموم، إلا بالسخرية، ولكنها إذا أنتجت عواقب سيئة كانت خطيرة، وإذا استخدمتها الدناءة المنقبة لأغراضها كانت أصلا للغم والحزن.
الرسالة التاسعة والأربعون
15 مارس
كل ما يحدث يزيد في غيظي وكدري، لقيت اليوم الآنسة بوير، فاستفسرت منها عن سبب سلوكها الأخير، فقالت متهيجة: «آه يا فرتر! أنت يا من تعرف قلبي، يجب أن تشعر بما تحملته من أجلك لأول ما دخلت القاعة؛ فقد تنبأت بنتائج وجودك هناك، ورغبت في فرصة أكشف لك فيها عن مخاوفي؛ إذ كنت واثقة تمام الوثوق بأنه كان هناك من يغادر الجماعة حالا إذا بقيت، وقد جرح الكونت كثيرا، ولكنه لم يكن في مقدوره أن يغضبهم، ثم حدث اللغط حينذاك.» وحاولت أن أخفي عواطفي الثائرة، فقلت: «أي لغط؟» فأجابت والدموع في عينيها: «آه لشد ما سبب لي ذلك من القلق!» وكان هذا الدليل الإرادي على عطفها وودادها مهدئا لاستيائي، ومعزيا لقلبي، فكدت أقع على قدمي محاميتي الجميلة، وصحت قائلا: «كوني صريحة.» فتزايدت دموعها وقالت: «آه يا سيدي! لقد كانت عمتي - وأنت تعرف طباعها - حاضرة. يا للسماء! ما أشد غموض خواطرها! ومع ذلك فهي تفخر بمعرفتها للحياة وحنكتها، وحبها للعدل والتهذيب. فرتر، فرتر، آه لو عرفت كيف عنفتني في الليلة الماضية وهذا الصباح لتعارفنا! وكيف حاولت الحط من قدرك، بينا لم أستطع أن أفوه بكلمة واحدة دفاعا عنك!» وكانت كل كلمة خنجرا في صدري، ولكن يا للنفس المحبوبة! إنها لم تكن تشعر أن من الإشفاق علي كتمان كل ما أخبرتني به. وكذلك حدثتني عن الأحاديث الباطلة التي أذاعتها الوقاحة النشطة، ونقحها الحقد والافتراء، وازداد ألمي منذ ذلك الوقت، حتى أمسكت بالسيف أكثر من مرة لأريح به قلبي. لقد قرأت عن بعض الخيل الحارة الروح أنها إذا ما أرادت التخلص من شوط ثقيل، فتحت بالغريزة وريدا بواسطة أسنانها، وطالما رغبت في فتح أحد أوردتي، وكذلك أستريح راحة أبدية.
الرسالة الخمسون
24 مارس
كتبت إلى البلاط أستأذن في الاستقالة، وأعتقد أنها لا تنكر علي، وأرى واجبا عليك أن تعفو عني؛ إذ لم أسألك رأيك؛ فإن مبارحتي هنا محتمة لازمة. أنا أعلم أنك تسر بإقناعي بالعدول عن عزمي، ولكن عبثا تذهب كل محاولة، وأرجو أن تفضي بهذا إلى أمي بتحفظ ورفق، وبما أنني عاجز عن عمل شيء لنفسي، فلا ينتظر مني خدمة للغير. أنا أدري أنها ستحزن لذلك، ستحزن كثيرا حين تسمع بأن ولدها قد وقف في هذا الميدان الذي كان سيرفعه تدريجا إلى رتبة مستشار خاص أو سفير. قد تجادل كما تريد، وتقدم أقوى الأسباب لبقائي.
ولكن عبثا ما تريد؛ فقد صممت على الرحيل، ولكي تعلم محطي الذي سأذهب إليه، فاعلم أن أميرا هنا وقد سمع بعزمي على الاستقالة، فدعاني متلطفا أن أقضي معه شهر الربيع في بيته الخلوي، وقد وعدني بتركي أتبع كل ما يروق لي، ويمكنني القول - ما دمنا قد اتفقنا في كل شيء عدا واحدا - إنني سأصحبه، على أنني إذا غيرت عزمي، أطلعت صديقي على ذلك في حينه.
الرسالة الحادية والخمسون
16 أبريل
أشكر لصديقي رسالتيه الممتلئتين بالعزاء. انتظرت رجع كتابي من البلاط قبل أن أكتب إليك، وقد أشفقت كثيرا أن تكون أمي قد تداخلت في الأمر، فأحبطت أملي في الخروج، ولكن قد تم كل شيء واستلمت الجواب الآن، ولست أخبرك بأي اشمئزاز منحنيه السفير، ولا بما حواه كتابه عن الموضوع؛ إذ يزيد ذلك في شكاواك.
أهدى إلي الأمير الوراثي خمسا وعشرين دوكات
1
أصحبها بعبارات ملؤها الحنو، كادت تسيلني دموعا، وعلى هذا فلست بحاجة إلى المال الذي طلبته أخيرا من أمي.
الرسالة الثانية والخمسون
5 مايو
غدا أرحل، وبما أن موطني الأصلي لا يبعد عن طريقي غير ستة أميال، فمن المحتمل أن أزوره لأعيد إلى الذاكرة ساعات طفولتي السعيدة، وسأدخل من نفس الباب الكبير الذي مررت منه مع أمي حين غادرت بعد موت أبي ذلك المسكن البهيج إلى المدينة الممقوتة.
الوداع يا صديقي العزيز، وسيكون برسالتي التالية تفصيل واف عن سياحتي.
الرسالة الثالثة والخمسون
أنجزت رحلتي إلى موطني الأصلي بكل إخلاص الحاج؛ حيث كان استعراضي لمناظر أذكرها جيدا يملؤني بشعور وعواطف لا توصف، وما دنوت من شجرة الزيزفون الكبيرة التي تبعد عن القرية نحو ربع فرسخ، حتى تركت مركبتي وأمرت السائق أن يسبقني ليزيد تمتعي بحلاوة الذكرى، وأنا وحيد على قدمي، ووقفت تحت الشجرة التي كانت دائما المنتهى الذي أتمشى إليه في أيامي الأولى، وما أشد التبدل منذ ذلك الحين! في تلك الأيام السعيدة الساذجة كنت أحن شوقا إلى عالم لم أعرفه، ولكنني عللت به نفسي مزينا بأجمل الأزهار، ضاما لكل متع الشباب ورغائبه، والآن وقد زرت العالم فماذا رأيت يا صديقي العزيز؟ ماذا رأيت سوى أضداد كل المناظر الخلابة التي صورها خيالي الفتي؟! إنني أشهد الآن قبالتي هذه الجبال التي - كما أذكر جيدا - طالما أثارت حب التغرب والأسفار؛ فقد كنت أجلس الساعات ناظرا إليها وأنا أتحرق شوقا لأكون بين تلك الغابات الكثيفة والوديان التي تجعل المنظر مديحا رائعا، وإذا ما انتهت تلكم الساعات الممتعة واضطررت للعودة، فما أشد أسفي حين أبرح هذه البقعة المحبوبة! ودنوت من القرية، فعرفت تلك الحدائق الصغيرة الجمة، وبيوت الصيف التي كنت معروفا بها جيدا في أيامي الأولى، على أنني لم أستحسن الجديد منها أو أي تغيير عمل بها. ودخلت القرية من الباب الكبير، فشعرت ثانية أنني في بيتي، ومن المستحيل يا صديقي العزيز أن أذكر بدقة كل ظروف هذه الرحلة المؤثرة، وليست بممتعة لديك تفاصيلها، ولو أنها عندي من أجمل الأشياء؛ لما تجلبه من الذكريات المسرة. وكان في نيتي أن أنزل بالسوق قرب بيتنا القديم، ولكنني إذ انتحيت تلك الجهة وجدت غرفة المدرسة التي كانت من قبل مستأجرة لسيدة عجوز فاضلة، قد انقلبت إلى حانوت بائع، وذكرت الهواجس العديدة، والدموع الكثيرة التي ذرفتها في ذلك المحبس. وكان لكل خطوة تالية تأثير خاص بها، وليس ثمة من حاج في الأرض المقدسة جذبته آثار عدة كهذه، أو أظهر ولاء كولائي، ولا أستطيع الكف عن ذكر واحد من آلاف الإحساسات التي شعرت بها.
وسرت أتبع مجرى صغيرا إلى تلك المزرعة التي كانت محل جولتي المحبوبة؛ حيث كنت أستحم مع أولاد آخرين، ونلعب «البط وذكر البط» في الماء، فأثرت في بشدة ذكرى ما كنت فيه. يا للذكرى المؤلمة! وأذكر جيدا أنني طالما نظرت إلى الماء وهو يجري، وطالما كونت خواطر خيالية عن البلاد الكثيرة المختلفة التي سيمر بها حتى يتعب خيالي، وفي جريان الماء المستمر يظل عقلي متأملا المسافات غير المعروفة، وهذا أيها الصديق مثل تام لعواطف أسلافنا العظماء، ومن المؤكد أن لغة يوليسيس
1
وهو يتكلم عن المحيط اللامتناهي والأرض التي لا حد لها، تلائم فهم الرجل الضئيل كما تلائم فهم الشاب المدعي الذي يتظاهر بوقار الفيلسوف؛ لأنه تعلم من المدرسة أن الأرض كرية. ووجدت خيالي لا يزال هائما، وأن أفكاري في اضطرابها هذا لن تقف عند حد، فتهيأت فجأة للعودة، ودخلت مركبتي وبدأت سفري وقد أثرت على مشاعري المسرات الماضية والأحزان الآتية.
وأنا الآن يا صديقي العزيز مع الأمير في أحد بيوته، وهو رجل غاية في الإخلاص والكرم، وأشعر في رفقتي له أنني في بيتي، والسوءة الوحيدة في طباعه أنه سريع الاعتقاد؛ فهو يميل جدا إلى تصديق الأقاويل، كما أنه يخرج أمامك تأكيداته دون تجربة أو بحث، ويسوءني القول بأنه يقدر كفاءتي وتهذبي الخارجي أكثر من أميالي ومواهبي العقلية، وهي في الحقيقة كل ما أفخر به؛ إذ هي منبع كدي وسعادتي وشقائي وكل شيء، وهي كل ما أملك لنفسي وما يكون كل صفة حميدة أختال بها، مع أنني لا أتظاهر قط بالعلم والمعرفة الكبيرة.
الرسالة الرابعة والخمسون
25 مايو
دبرت خطة آليت لا أدلي بها إلى صديقي حتى تتم، بيد أن المشروع قد أحبط؛ ولذا ألقيها إليك الآن، صممت منذ حين على الانخراط في سلك الجيش، وهذا في الحقيقة ما ساقني رئيسيا إلى قبول دعوة الأمير؛ فهو جنرال في خدمة منتخب ... وقد أخبرته منذ قريب إذ كنا نتمشى معا بميلي، فلم يحبذه، ونجاحه موقوف على رغبته؛ ولذا رأيت من الحكمة ألا أعارضه .
الرسالة الخامسة والخمسون
11 يونيو
شقي عاثر الجد، فلا أستطيع العيش هنا طويلا، وماذا أعمل هنا؟ لقد سئمت المكان. آه! أنا بائس دون ريب أيها الصديق! حقا إن الأمير يعاملني كمساو له في كل شيء، ولكنني لا أستطيع أن أثق به؛ فعقلانا لا يتشابهان بحال من الأحوال، ولو أن تمييزه حسن فهو لا يخرج عن المألوف في شيء؛ ولذا فمحادثته لا توليني لذة أكثر من متابعتي لكتاب جيد اللغة. سأقضي هنا أسبوعا آخر فقط، أبدأ بعده حياة متجولة كذي قبل، وكان خير ما عملت منذ مجيئي إلى هنا بعض صور رسمتها، وللأمير ذوق في الفنون لولا تقيده بالاصطلاحات الفنية الفارغة، والقواعد السفسطائية لكان عظيما. وكثيرا ما ينفد صبري؛ إذ يعترض تقدم ذلك المظهر الحي الذي ينفحه خيالي الملتهب للفن وللطبيعة، بانتقاد مزخرف لا يقدر به نفسه قليلا.
الرسالة السادسة والخمسون
16 يوليو
لست في الحقيقة أيها الصديق إلا رحالة حاجا في هذه الحياة، ومن هناك غير ذلك في العالم؟
الرسالة السابعة والخمسون
18 يوليو
ما غايتي الحالية؟ ستسمع. أنا مرغم على البقاء هنا أسبوعين، ثم أزور مناجم ... كما أنوي، ولكن هذا مستحيل. حقا إن عزمي يتغير كل ساعة، وأنا أخدع نفسي؛ فرغبتي الوحيدة أن أكون بجانب شارلوت، تلك هي الحقيقة. وا حزناه! إنني أرى ضعف فؤادي، على أنني لست بالغر، ولكنني عبد راض، سرعان ما أذعن لأوامره.
الرسالة الثامنة والخمسون
29 يوليو
كلا كلا! هذا خير! بل هو أحسن شيء لي، أنا زوجها، لو كانت القوة الإلهية التي منحتني الحياة قد قدرت لي هذه السعادة أيضا، لوقفت بقية حياتي السعيدة على شكر لا ينقطع، بيد أنني لا أتذمر أمام إرادة الله، ولتغفر لي هذه الدموع وهذه المشتهيات العديمة الثمر. آه لو كانت لي! إذا لطوقت بذراعي أجمل بنات جنسها بأي سرور، بل ما أشد تهيجي حين أرى ألبرت يضم هيكلها السموي!
لقد كنت على وشك القول - ولم لا؟ - بأنها تكون أسعد بكثير لو كانت معي عما هي مع ألبرت، إنه لم يخلق لها قط ؛ تنقصه تلك الحساسة الرقيقة التي فيها، التي بها تسر، وينقصه ... وبالإيجاز فإن قلبيهما لا يضربان معا. إيه يا صديقي طالما رأيت، وأنا أقرأ لها قطعة ما ممتعة، أن شعورنا متبادل، وأننا نفكر ونحس معا، وأن كلا منا ينقل إلى الآخر ما يعني بنظرات أفصح من الكلمات، على أن ألبرت يحبها، وهو يتعلم كيف يسرها، أفلا يستحق حبه جزاء؟!
قوطعت بزيارة في غير وقتها؛ وعلى ذلك فقد حاولت تسكين نفسي، وعقلي الآن أهدأ، فالوداع يا أعز الأصدقاء.
الرسالة التاسعة والخمسون
لست وحدي بالتاعس أحبطت آمال سعادته، وإن هذه الحياة هدف للأكدار. كنت أزور المرأة الطيبة التي تسكن الحقول على مقربة من أشجار الزيزفون، فهرع ولدها الأكبر لمقابلتي، وجاءت أمه على صيحات فرحه، يظهر على محياها الحزن، فاستفسرت عن سبب غمها، فأجابت والدموع المنهمرة على وجهها الشاحب تقطع حديثها: «وا حزناه يا سيدي العزيز! إن جوهان الصغير الذي كان سرور قلبي وعزاءه قد مات.» وكان هذا أصغر أطفالها. فوجمت صامتا، واستمرت تقول: «وقد عاد زوجي من هولاندا بلا مال، وأخذته حمى وقشعريرة، ولولا إحسان بعض الناس وهباتهم لتسول في الطريق.» وأحزنتني قصتها، فنفحت الصغير ببعض المال، وقدمت إلي تفاحا فقبلته، وعدت مثقل الفؤاد.
الرسالة الستون
21 أغسطس
ينتقل فكري بسرعة البرق، ويضيء الآن فجأة شعاع من الأمل على روحي الخاملة، فينبثق علي فرح لا يدوم إلا هنيهة، ولكن وا أسفاه! إن ذلك الشعاع فان، وفي مدة بقائه القصيرة آخذ في التفكير: إذا مات ألبرت، فشارلوت تكون إذا ... ثم أظل ذاهبا مع هذا الوهم، حتى أجد نفسي على قمة صخر شاهق، فأتراجع فجأة مرتاعا، حتى لو كانت الصخرة حقيقية، لكنت هالكا لا محالة. وإذا خرجت من نفس الباب، أو سلكت الطريق الذي قادني لأول مرة إلى مسكن شارلوت، وهن فؤادي، وأخذت، بألم عميق، أقارن ما كنت، بما «أنا الآن».
لقد انتهت كل سعادة، وتغيرت الدنيا، وقلبي يدق لا كدقاته في الزمن الماضي، ولست أشعر بنفس بهجة ذلك الحين.
إذا استطاع، أيها الصديق، شبح أمير راحل أن يعود فيتفقد الأماكن الفخمة التي شادها في أيامه الهانئة، وتركها لولد حبيب، فوجدها قد تهدمت بأيدي الأعداء، وصارت أطلالا؛ فماذا يكون شعوره؟ ذلك حالي، وا أسفاه!
الرسالة الحادية والستون
3 سبتمبر
طالما حرت في أمري؛ فلم أفهم كيف تستطيع أن تحب غيري، كيف يحق لها أن تحب غيري، بينا تحكم وحدها في هذا القلب، بينا يحتكر خيالها الجميل كل فكر، ويطرد كل ما عداه من الخواطر.
الرسالة الثانية والستون
الوقت وقت الحصاد، والطبيعة زاهية، ولكن كل ما في معتم كالشتاء، ومتى اصفرت أوراق الأشجار، وسقطت في الخريف، فسيبيض شعر رأسي، ويتساقط ملء اليد. بصري آخذ في الضعف، وكدت أفقد سمعي وكل حواسي، إلا «الشعور»؛ فهو باق متضاعف الحدة.
ذكرت لك في رسالة
1
سابقة شابا قرويا لقيته صدفة في أول مجيئي إلى هنا، وقد علمت بسؤالي عنه أنه عزل من عمله، ولم أتمكن من معرفة أكثر من ذلك عنه، واتفق أمس أن لقيته في الطريق المؤدي إلى القرية المجاورة، فحييته بسرور وشوق، حتى أخذ حالا يحدثني بقصته المحزنة، محزنة حقا كما سيرى صديقي حين يقرؤها، ولكن لم أقلق صديقي بكل حادث يؤلمني؟ لم أولمه؟ لم أجلب شفقته واستياءه؟ ولكن قدر لي أن أجر الشقاء لكل من يعرفني.
وكان في بادئ الأمر متكتما، ولكن صراحته العادية عاودته كما لو تذكرني فجأة، فأخذ بملء الصدق يعترف بخطيئاته ويسرد مصائبه، وإنني لأود لو أنقل إليك كلماته بنغماتها، والكيفية التي نطقت بها، بالانفعال الثائر، والحب الهائج الحار الذي منعه من الزاد والشراب والرقاد، والذي جعله عاجزا عن العمل، فإذا أراد عمل شيء نسيه حالا، وقد يأتي ضده تماما، وكانت عشيقته تعذله أبدا وتلومه، ولكنه تخيل ذلك الصوت الذي يعنفه عذبا فكان سعيدا. وحدثني أن روحا شيطانية قد أخذت بتلابيبه، وأغرته أخيرا على إتيان ما كان من الواجب عليه تجنبه؛ ففي ذات يوم تبع، أو بالأحرى دفع ليتبع عشيقته إلى مخدعها، ولما رفضت رجاءه واستعطافه أغوي - بطريقة لا يعلمها - أن ينال رضاها بالقوة اللينة، وقد أقسم لي أن أغراضه كانت دائما شريفة، وأن الزواج كان ما أمل، وأن في هذا الأمل قد انحصرت كل أمانيه في السعادة، واعترف بعد بعض التردد بما منحته له من الامتيازات، ثم خاف أن يكون قد صرح بالكثير، فأخذ يدافع عن سلوكها قائلا إن حبه كان جائرا ملتهبا، وكانت حالته مؤثرة جدا حتى لتعجز الكلمات عن تصويرها، ولو أن خياله لا يزال ماثلا أمام عيني، ولو رأيته لأشفقت عليه وغفرت له ذنبه، وإنني لأرى نفسي مهتما بأمره، ولكن لم أثير رحمتك به وأنت تعرف شخصا يشبهه في جده؟
أعدت الرسالة فرأيت أنني قد أغفلت خاتمة قصة ذلك الشاب:
وفي أثناء نضال السيدة دخل أخوها الذي طالما دفعه مقته الشديد للمحب إلى الرغبة في طرده من خدمة أخته؛ فقد كان يخاف أن تتزوج ثانية وقد ترزق أطفالا؛ وعلى ذلك يحرم أولاده من وراثة ثروتها. فانتهز الأخ هذه الفرصة لطرده، وانتشر الخبر بالأمر كله، فلم يكن في وسع السيدة قبوله ثانية دون التزوج به أو تلطيخ سمعتها. وأخبرني الشاب المسكين أنها قد أدخلت شابا آخر في خدمتها، وأن ذلك قد زاد في قلق أخيها؛ فقد أشيع أنها تريد الزواج منه، ويقول الشاب إنه لو صح هذا لأصبحت حياته حملا عليه.
إن هذه العاطفة المسيطرة - هذا الحب - ليس ابتداعا شعريا؛ فقد يوجد حتى بين الطبقة الأمية والوضيعة بكل نقائه الأصلي. اقرأ هذه القصة أيها الصديق باهتمام خاص. لقد هدأت قليلا منذ بدأت الكتابة إليك، وأنت سترى من رسالتي الطويلة خلافا للعادة أنني لست عجولا؛ فأنا أستحلفك أن تقرأها بعناية، وانظر أنك فيها تقرأ قصة فرتر المنحوس، بلى إنها لكذلك، وستكون أبدا كذلك، بيد أنه يحزنني القول إن ذلك الشاب المحب يفوقني في جلده حتى لأستحي عند مقارنة نفسي به.
الرسالة الثالثة والستون
5 سبتمبر
يغيب زوج شارلوت هذه البضعة الأيام في الريف، وقد بدأت رسالة إليه بقولها: «أيها العزيز المحبوب إلى الأبد، عد بأسرع ما تستطيع؛ إنني أطلب لك في انتظاري أطيب الرغبات.» وما كادت تنتهي منه حتى ألقى إليها صديق أن أعمالا هامة جدا قد اعترضت ألبرت، وستؤخره أكثر مما ظن. وعلى هذا لم تبعث طبعا بالرسالة، واتفق في المساء أن تناولتها فقرأتها وعلى شفتي بسمة سرور، وقبلتها منفعلا، واستفسرت عن السبب فصحت قائلا: «ما أهنأ الخيال!» وقرأت بسرعة في محياي قوة ذلك التصور؛ فقد خيل إلي أن الرسالة لي، فصمتت وظهرت عليها علامات الاستياء، وأسكتتني تلك النظرة.
الرسالة الرابعة والستون
6 سبتمبر
ألست تستطيع أن تتصور استيائي حين ألقيت بسترتي المرسلة الزرقاء التي كنت أرتديها لأول رقصة لي مع شارلوت؛ فقد استحال علي أن ألبسها بعد الآن؛ إذ ظهر عليها القدم الكثير، ولكنني صنعت أخرى تشبهها تماما بسراويل وصدرة من جلد البقر، بيد أنني لا أعجب بالجديدة إعجابي بزي الأصلية. وا أسفاه! إنها لا تماثلها، ولكنها بمرور الزمن قد تصبح مثلها جذابة.
الرسالة الخامسة والستون
12 سبتمبر
ذهبت شارلوت إلى زوجها فغابت زمنا ما، وقد زرتها اليوم وحظيت بسعادة لا توصف؛ إذ قبلت يدها وطار عصفور «كناري» من المرآة إلى كتفها، فقالت: «هذا صديق جديد.» ثم أخذت تحرضه على الوقوف بيدها قائلة: «انظر كيف يحبني كثيرا، وكيف يحرك جناحيه الصغيرين، ويلتقط بمنقاره كلما أعطيه طعاما. بالله انظر يا فرتر إنه يقبلني تماما!» وقدمت له شفتيها، فظهر مبتهجا بأنفاسها العطرة، ثم قالت مادة يدها بالعصفور إلي: «والآن سيقبلك أيضا.» وعلى ذلك حول منقاره الصغير إلى شفتي، فما أجمل الشعور الذي أحسست به حينذاك! وقلت: «شارلوت! إن هذا الطائر الصغير لا تشبعه قبلاتنا تماما؛ فهو يطلب مكافأة مادية، إنه بحاجة إلى الطعام.» وأخذت بعض الخبز تطعمه إياه من فيها، فأرغمت على تحويل وجهي.
وا حزناه! إن عليها ألا تثير من عواطفي بمثل هذه المناظر، وإذا هجع فؤادي وجب أن تمنحه الراحة، فلا توقظه من النسيان إلى الذكرى، ومع ذلك أليس لها حق؟ ولكنها تثق بي كثيرا؛ فهي تعلم أنني أحبها.
الرسالة السادسة والستون
15 سبتمبر
ما أقتل هذه الكائنات الحقيرة لأي رجل ذي تفكير! فهي لتجردها عن الشعور لا تعبأ بالأشياء الهامة الخليقة بالالتفات. أنت تذكر ذكري لشجرتي الجوز في س... اللتين جلست تحتهما مع شارلوت عند القسيس الفاضل الشيخ، وكيف زينت تلك الشجرتان الجميلتان المحبوبتان مسكن رئيس الكنيسة، وأن ظل أفرعهما الموقرة كان يوحي أبهج الأفكار، ويحمل إلى الذاكرة ذكرى القسيس الفاضل الذي غرسهما، وكثيرا ما ذكر ناظر المدرسة اسم غارس الأولى، وقد عرفه من جده، فيقول: «لقد كان ذلك القسيس فاضلا عظيما، وطالما ذكر اسمه بسرور تحت هاتين الشجرتين.» وأخبرني هذا الناظر نفسه أمس والدموع في عينيه أنهما قد قطعتا، فصحت: «قطعتا! آه لو كنت حاضرا لقتلت بالتأكيد في سورة غضبي ذلك اللص الجريء الذي سدد إليهما الضربة الأولى، إن هذا لا يحتمل، ولو كنت صاحب شجرتين مثلهما، وهلكت إحداهما هرما للبست عليها الحداد.» ويظهر أن القرية جميعها مهتمة بالأمر، فالكل يتذمر، وآمل ألا يبعث الفلاحون الأمناء بعد الآن بهداياهم إلى زوجة القسيس، بل يذرونها تندم على ما اقترفت من إثم؛ فهي زوجة القسيس الحالي، الآمرة بقطعهما، وربما قد سقط الشيخ قبل شجرتيه، وليس ثمة من يجرؤ على قطع شجرتي الجوز سوى مخلوقة طويلة مخيفة هزيلة، نزلت بها الأسقام الدائمة، حتى لم تعد تسرها الحياة؛ فهي تحتقر العالم لأن العالم يحتقرها، سوى خرقاء بالية عتيقة تتظاهر بالعلم، وبمعرفة الكتب الشرعية، وبالمعاونة في كتابة «إصلاح أدبي انتقادي حديث للدين المسيحي» يفصح عن أمر الاحتقار للافاتر!
1
لن أنساهما أيها الصديق، ولن أغفر لها فعلتها أبدا، بل إن السبب السخيف الذي تبني عليه حمقها هذا يزيد في حنقي. فحقا إن الأوراق التي تسقط منها تجعل الفناء رطبا قذرا، والأفرع الباسقة تعترض الضوء، وصغار الصبية يرمون الجوز بالحجارة فيقلقون من أعصابها الحساسة، ويقطعون عليها تفكيرها العميق وهي تزن فضائل كنيكوت
2
وسملر
3
وميخائيليس.
4
ولما رأيت مسلكها قد ساء كل سكان القرية، وعلى الخصوص الشيوخ المحنكين، وسألتهم كيف أجازوا هذه الفعلة، فأجابوا: «إيه يا سيدي العزيز، إذا أصدر الحاكم أوامره فماذا يفعل الفلاحون المساكين؟» وعلى أية حال فقد سرني حادث وقع ، وهو أن الحاكم والقسيس كانا قد اتفقا فيما بينهما على جني بعض الربح من تقلب هذه المرأة، وذلك باقتسام الفوائد الناتجة من هاتين الشجرتين، ولكن الخبر نما إلى الضابط الموكل بالإيراد، فوضع يده على الشجرتين وباعهما لمن قدم الثمن الأكبر، وفوق هذا فهما لا تزالان باقيتين على الأرض.
آه لو كنت أميرا ذا بطش، لعاقبت القسيس وامرأته والحاكم وضابط الإيراد أي عقاب! ولكن لا أيها الصديق، لا، فلو ولدت أميرا لما تمتعت بالهناءة في رفقة شارلوت تحت هاتين الشجرتين المظلتين اللتين أندب حظهما الآن أيما ندب!
الرسالة السابعة والستون
10 أكتوبر
عندي السعادة العظمى في أن أرى عينيها القاتمتين البراقتين، ويحزنني حقا أن أرى ألبرت غير سعيد كما كان ينتظر، أو كما كنت لو ... أمقت الجمل المتقطعة، ومع ذلك فلا أستطيع بدونها على التعبير عما بنفسي. يا لله! أولست جليا بينا؟
الرسالة الثامنة والستون
12 أكتوبر
أقصى أوسيان كلية هومر عن قلبي وأفكاري. إلى أي عالم يقودني هذا الشاعر السموي هناك؛ لأهيم في المروج والفيافي، تحوطني العواطف الجبارة لأشهد على ضوء القمر الضئيل أرواح أسلافنا المحبوبين، لأسمع من قمم الجبال بين زمجرة الأمواج أصوات شكاتهم صاعدة من الوهاد السحيقة، ونحيب العذراء المحزن أسقمها الغرام، وهي تصعد زفرتها الأخيرة فوق قبر مغطى بالطحلب، هو مثوى البطل الذي كان يعبدها. ألقى هذا الشاعر بشعره الفضي هائما في الوادي، يبحث عن مواطئ أقدام آبائه، فلا يجد - وا لوعتاه! - إلا قبورهم، ثم يطالع القمر الشاحب وهو يتوارى خلف أمواج الأعماق المزبدة، وتعود ذكرى الأزمان الخالية إلى عقل البطل، تلك الأزمان التي كان يسر قلبه فيها وينعش جثمانه اقتراب الأخطار، والتي سطع فيها القمر على سفينته المحملة حينذاك بأسلاب أعدائه، وأضاء بانتصاره. وحين أقرأ في محياه أعمق الحزن، حين أرى مجده الذي أذهل يوما غارقا في اللحد، حين يرمي بنظرة إلى الطين البارد الذي سيغطيه قائلا: «سيأتي الرحالة الذي عرف قدري باحثا عن الشاعر الذي ينعش القلوب، ابن فنجال
Finjal
المجيد، وسيمشي على قبري، ولكن عبثا يبحث عني .» هناك، إيه هناك يا صديقي العزيز، أكاد أمسك بسيف فارس باسل نبيل، ومتى أنقذت أميري من الآلام المتعبة لحياة طويلة، أغمده في صدري، لألحق بشبيه الإله الذي فككت إساره.
الرسالة التاسعة والستون
19 أكتوبر
آه! يا لهذا الفراغ الهائل الذي لا يوصف، يملأ صدري! في بعض الأحايين، بين خطرات الخيال، أتصور بشغف لو قدر لي مرة واحدة، واحدة فقط، أن أضمها إلى قلبي! إذا لتم لي الهناء.
الرسالة السبعون
26 أكتوبر
أنا مقتنع كل الاقتناع الآن أيها الصديق العزيز بأن وجود أي فرد لا يهم الهيئة الاجتماعية. قدمت إلى شارلوت صاحبة لها تزورها، فذهبت إلى الغرفة المجاورة وتناولت كتابا، ولكنني لم أجد ميلا إلى المطالعة، فألقيت به جانبا، وتناولت القلم أكتب إلى صديقي، وكذلك أصرح لك بإخلاص أنك لا تدين لي لكتابتي هذه الرسالة إلا بالقليل. حتى الآن أسمع حديثهما: يتحدثان عن أخبار البلدة العادية؛ فواحد سيتزوج، وآخر مريض جدا بسل هائل، سعال وإغماء متكرر ولا أمل في الشفاء. تقول شارلوت: «هرس أيضا في حالة مخطرة.» وتجيبها الأخرى: «آه أظنني الآن قرب فراشهم، ويخيل إلي أنهم يناضلون الردى الظالم، ويودون لو يعيشون قليلا بين أتعابهم وعذابهم.» ومع ذلك يا صديقي فإن هاتين الشابتين الفاضلتين تتكلمان بكل هدوء وثبات عن أصدقائهما المائتين، كأنهما لا تعرفانهم. آه يا للسماء! حين أتلفت في هذه الغرفة التي أنا بها الآن، وأرى ثياب شارلوت وحليها، وأوراق ألبرت مبعثرة هنا وهناك، وهذه الأشياء التي أعرفها جيدا، حتى الدواة التي أستخدمها الآن، أفكر حالا في علاقتي بهذه الأسرة؛ أنني كل شيء، وهم يقدرونني ويسعدون بصحبتي، وأنا واثق أنني شقي بدونهم، ومع ذلك إذا فارقتهم فجأة فهل يشعرون طويلا بالفراغ الذي يحدثه غيابي؟ طويلا! وا لوعتاه! هكذا يضعف الإنسان، حتى إنه حيث ينعم بنفسه، وحيث تتعلق بوجوده هناءة قوم آخرين، وحيث يعيش في قلوب أحب أصدقائه إليه؛ هناك يجب أن يموت وينسى اسمه سريعا.
الرسالة الحادية والسبعون
27 أكتوبر
إيه! إنني لأكاد أمزق صدري وأحطم رأسي بالحائط حين أرى خيبتي؛ إذ أفتح قلبي لامرئ غير كفؤ لتقدير شعوره، لا أستطيع أن أتلقى من غيري الحب والجذل والسرور والسعادة التي لا تلتئم وشعوري، كما لا أستطيع بقلب يشتعل بأحر الإحساس أن أبين لغيري تلك السعادة التي جعلته الطبيعة غير قادر على الشعور بها.
الرسالة الثانية والسبعون
مساء
الخيال يهبني أكثر من كفايتي، وتفكري في ذات شارلوت المحبوبة يمحو كل فكر سواه، ويجعل ما حولي فردوسا حقا، فلولاها لما كان العالم شيئا.
الرسالة الثالثة والسبعون
30 أكتوبر
أغويت ألف مرة أن أطوق خصرها الملائكي بذراعي، وأضمها إلى صدري الخافق. أيتها السماء إن من العذاب أن يكون أمامي دائما كل هذا الجمال ولا أجرؤ على لمسه، اللمس من أول غرائز الطبيعة، أفلا يحاول الأطفال إمساك كل ما يدور بخلدهم؟ وأنا - أجل أجل - أنا في الحقيقة طفل.
الرسالة الرابعة والسبعون
3 نوفمبر
طالما ضرعت بحرارة، حين هممت بإغماض عيني في الفراش، ألا أفتحهما ثانية أبدا، بيد أنني فتحتهما في الصباح، فرأيت الشمس ثانية، وأحسست ببؤسي السابق. وا حسرتاه! لم لا تصيبني السوداء أو الجنون؟ ولم لا يصلح لي أن أعزو هذا الشقاء القارس إلى تأثير إقليم غير ملائم، إلى أطماع لم تنل، إلى إحن عدو مضطهد؟ إن عبث الحزن هذا يكون أكثر احتمالا حينذاك، ولكن الآن، وا أسفاه! إنني أحس به تمام الإحساس؛ لأنه يقع بكليته علي وأنا وحدي أصل كل شيء. إن هذا الصدر نفسه الذي كان مقر الفرح والسلام قد أصبح الآن منبعا كئيبا لأحزان لا تحصى، لقد تغيرت عن ذي قبل، فلم يكن يسود على أفكاري سابقا غير أسعد الإحساسات، وحيثما سرت ظهر لي الفضاء المحيط بي كالجنان، واشتعل حب الإنسانية بفؤادي، ولكن أواه! إن الجمود البارد يجمد ذلك القلب، بل هو ميت أمام كل سرور، وقد جفت عيناي، فلم تعد تبللهما دموع الشعور المنعشة، وحواسي تخونني فلا تعاون عقلي، وآلامي لا يتناولها الوصف؛ فقد أضعت جمال الحياة الفذ، تلك القوة النبيلة العاملة التي خلفت حولي العوالم، لقد انتهت، ومن نافذتي أرى التلال البعيدة والشمس البازغة تشتت السحب المتكسرة، وتصبغ المنظر بذهب من أشعتها الساطعة، والغدير الهادئ ينحدر بلطف بين أشجار الصفصاف العارية، والطبيعة لا تزال تظهر كل جمالها العجيب، وتعرض أبدع المناظر، بيد أن قلبي لا يشعر الآن وأنا أعمى لا أتأثر، ميت لا أتحرك، وكثيرا ما تمددت على الثرى، ضارعا إلى السماء كي تحبوني بالدموع كما يضرع المزارع من أجل المطر ليرطب أرضه الجافة، ولكنني أرى السماء لا تمنح المطر ولا ضوء الشمس بالإلحاحات المفرطة. إن أوقاتي العافية، التي تمزق ذكراها صميم قلبي، كانت ملأى بالسعادة؛ لأنني انتظرت بصبر إرادة السماء، وكنت شاكرا كل نعمها.
الرسالة الخامسة والسبعون
8 نوفمبر
عذلتني شارلوت برفق لإفراطي في الأيام الأخيرة؛ لأنني، والحق يقال يا صديقي العزيز، قد زدت المقدار العادي لي من النبيذ منذ زمن ما؛ لأغرق به الألم، قالت: «أرجوك ألا تفعل، فكر في شارلوت.» «وا حسرتاه! ما أقل الحاجة إلى تلك النصيحة! إنني أفكر فيك، وأكثر من أن «أفكر»، أنت دائما نصب عيني، أنت أبدا في فؤادي. لقد كنت جالسا هذا الصباح في المكان الذي جلست فيه اليوم الغابر ...» وهنا غيرت الموضوع.
حقا أيها الصديق إنني ألعوبة وحسب، تستطيع هذه المخلوقة العزيزة المقدسة أن تحركها، وأن تجعلها تفعل ما تريد.
الرسالة السادسة والسبعون
15 نوفمبر
أشكر بإخلاص لصديقي نصيحته الرقيقة، وخصوصا لمحاولاته الكريمة كي يصلح من مركزي، ولكن لم هذا العناء الذي لا يجدي؟ اتركني لنفسي، أنا تاعس، ولكنني لا أزال أستطيع تحمل آلامي.
1
الرسالة السابعة والسبعون
21 نوفمبر
لا تكاد تدري شارلوت أنها تحضر لي سما أرى من المحتمل جدا أن يهلك كلينا؛ فهي تقدم لي الشربة القاتلة، وأنا أبتلعها في جرع كبيرة. ما معنى تلكم النظرات الرقيقة تلقي إلي في بعض الأحايين - تلك الوداعة تصفى إلى كل عاطفة تفلت اتفاقا مني، ذلك الحنو أقرؤه أحيانا في وجهها الملائكي؟ كنت أستأذنها أمس في الانصراف، فمدت إلي يدها قائلة: «الوداع أيها العزيز فرتر.» العزيز فرتر، لقد أصابت صميم فؤادي، إنها المرة الأولى التي أسمعها تدعوني بالعزيز ، لن أنسى أبدا أبدا هذا الصوت الحنون، لقد كررت قولها ألف مرة حتى الآن! وحين ذهبت إلى فراشي الليلة الماضية صحت قهرا عني: «عم مساء أيها العزيز فرتر.» ثم عدت إلى رشدي وابتسمت لهذه التحية أزجيها لنفسي.
الرسالة الثامنة والسبعون
22 نوفمبر
لا أستطيع التوسل إلى السماء لتكون لي شارلوت «قريبا»، على أنني كثيرا ما أتصورها لي من قبل، ولا أستطيع التوسل لتكون لي الآن؛ لأنها من قبل لآخر.
إن أحزاني لا تثمر، وشكاواي لا تجدي، آه! هلا فارقني هذا الفؤاد!
الرسالة التاسعة والسبعون
24 نوفمبر
شارلوت تشعر الآن بآلامي، وجدتها اليوم وحيدة، وغلبتني نظراتها فسكت، ثم حدقت بي عيناها، فاختفت شعلة العبقرية، وتلاشى سحر الجمال، بيد أنه كان في محياها شيء يتكلم بقوة يحدث عن أجمل الرحمة وأرق العناية. لم تمنعني التقاليد الباطلة من الركوع لدى قدميها، من ضمها ومقابلة جميلها وشفقتها بآلاف من القبل، وفي أثناء حيرتي ذهبت إلى آلتها الموسيقية، فأصحبت النغمات الحزينة بصوتها العذب الرقيق، ولم أر من قبل في شفتيها هذه الحلاوة، فكأنهما لا تنفتحان إلا لتلقي نغمات الآلة، ولتعاونا اهتزازها بتوازن مزدوج. ولا أستطيع وصف شعوري؛ فقد خارت قواي، فانحنيت إلى أسفل وأنا أتلفظ بهذا الاحتجاج الهادئ: «أيتها الشفتان الجميلتان، وكأن الملائكة تحرسكما، لن أفكر في تدنيسكما قط.» على أنني كيف أتمنى أن أذوق هذه السعادة، ولكن لا، مستحيل! إن بيننا حاجزا أبديا، ولكن إذا أتيح لي أن أعيش لحظة واحدة على هاتين الشفتين، لرضيت الموت في اللحظة التالية بسرور.
الرسالة الثمانون
26 نوفمبر
أحسب في بعض الأحايين أن حظي فذ وحيد، وأن سائر الناس ناعمون وأنا وحدي الملعون، ثم أتصفح قول شاعر قديم، فأقرأ ما يأتي كأنه يعبر عما بنفسي: «متى تنتهي هذه الأحزان؟ أهناك شقي مثلي؟»
الرسالة الحادية والثمانون
30 نوفمبر
أرى أن مصيري قد قرر، وكل شيء يأتمر ليزيد من غمي ويومئ إلى حظي القابل.
لم تكن لي شهية للطعام في وقت الغداء اليوم، فسرت وحدي بجانب شاطئ النهر، وظهر الخلاء أمامي مهجورا، وكان اليوم معتما، وهبت ريح شرقية باردة من التلال، وحامت فوق السهل سحب سوداء مثقلة، ورأيت عن بعد رجلا يرتدي معطفا باليا يتجول بين الصخور، باحثا كما يظهر عن نباتات، وما دنوت منه حتى التفت إلي، فرأيت وجها قد ارتسمت عليه بوضوح علامات الكآبة الطويلة، وكان شعره الأسود الجميل منسدلا بلا انتظام على كتفيه، فتساءلت عما يبحث عنه، فأجاب وهو يتنهد تنهيدة بعيدة: «أبحث عن الأزهار يا سيدي، ولكنني لم أجد بعد ولا واحدة.» فخبرته أن الفصل ليس بفصل الأزهار، فقال: «ولكن هناك أزهارا كثيرة مع ذلك، وعندي ورود وزنبق كثير من صديقتي، وقد أعطاني أبي نوعا واحدا، وهي تنمو بكل مكان. لقد مضيت هذين اليومين في البحث، ولكنني لا أجد واحدة، إن هناك دائما أزهارا صفراء وزرقاء وحمراء في الحقول هنا، خصوصا القنطورس الذي ينمو في لمم جميلة، ومع ذلك لا أجد ولا واحدة من أي نوع.» فسألته لم يريد هذه الأزهار، فابتسم وقال رافعا إصبعه مرتابا: «ولكن لا تخبر أحدا، لقد وعدت فتاتي العزيزة باقة منها.» فقلت: «هذا حسن.» فقال: «أوه، إن عندها كل شيء؛ فهي غنية جدا جدا.» فقاطعته: «ولكنها تخص بالحب باقاتك.» فقال: «أوه، عندها مجوهرات وتاج.» فسألته عن اسمها، ولكنه استمر يقول: «وإذا نقدتني الهيئة
1
الممثلة لكنت رجلا آخر، يا لنفسي! لقد مضى علي وقت كنت فيه سعيدا، سعيدا جدا جدا، ولكن لقد مر ذلك الزمن، لقد فات، لقد فات.» وهنا رفع عينيه الدامعتين إلى السماء، فقلت: «إذا لقد «مضى عليك وقت «كنت» فيه سعيدا».» فأجاب: «آه! إنني لأود من السماء أن أعود كما كنت، نعم، لقد كنت سعيدا فرحا راضيا مسرورا، كنت كالسمكة في الماء.»
واقتربت امرأة عجوز وهي تصيح: «هنري، هنري! أين كنت؟ لقد بحثت عنك في كل مكان، تعال فقد جهز الغداء.» وسألتها عما إذا كان ولدها، فأجابت: «بلى، ولدي التاعس المسكين؛ لقد أراد الله أن يرمينا بهذا البلاء.» فتساءلت عما إذا كان مضى عليه وقت طويل في هذه الحالة، فأجابت: «لقد مضت ستة شهور على وجه التقريب وهو ساكن كما هو، الحمد لله، وكان قضى عاما كاملا، وهو هائج مقيد بالسلاسل في مستشفى للمجانين، أما الآن فهو لا يتعب ولا يضر أحدا، على أن حديثه كله عن الملوك والإمبراطرة. لقد كان شخصا فاضلا، وعضدني فيما مضى، وكان يكتب بخط جميل، ولكنه انقلب فجأة كئيبا منقبضا، وأصيب بحمى محرقة، ثم صار مجنونا هائجا، وهو الآن كما ترى.» فقاطعتها بالاستفسار عن الزمن السعيد الذي أشار إليه، فأجابت وعلى شفتيها ابتسامة رحمة: «آه! يا لولدي المسكين! لقد كان ذلك يا سيدي حين كان هائجا مقيدا، وهو لا يفتأ ينعى ذلك الزمن.» فدهشت وألقيت في يدها بعض المال، ثم افترقنا.
وحين أسرعت عائدا في طريقي كنت أقول لنفسي: «لقد كنت سعيدا، لقد كنت حينذاك كالسمكة في الماء، أهذا مصير الإنسان؟ أيكون سعيدا فقط قبل أن يبلغ العقل وبعد أن يفقده؟ يا للشقي المسكين! ومع ذلك فإنني أحسدك على حالك، أنت مليء بالآمال، تذهب لتجمع الأزهار لمليكتك في الشتاء، ثم لا تجد أزهارا فتستاء، ولا تستطيع أن تفسر استياءك. أما أنا فأسير بلا أمل ولا غاية، ثم أعود كما كنت، ويظهر لخيالك المختلط أنه إذا نقدتك الهيئة الممثلة لكنت رجلا ذا قيمة، ومن حسن حظك أنك لا تستطيع أن تعزو آلامك إلى أي قوة غريبة، أنت لا تعلم، أنت لا تشعر أن كل ألمك يخرج من عقل هائج ومخ مختبل، وأن كل ملوك العالم ليس في مكنتهم أن يساعدوك.
فليموتوا بلا أمل أولئك الذين يستطيعون أن يضحكوا من المريض يسافر إلى الينابيع البعيدة ليزيد فقط من شكواه، وليجعل الموت أشد إيلاما! أو من ينتصرون على النفس اليائسة التي تحج إلى الأرض المقدسة لتخفف من وخز الضمير ولتهدئ الفكر. إن كل خطوة من الطريق الوعر الذي يمزق قدميه بلسم لفؤاده، وكل ليلة من رحلته تدنو به من الأمل والعزاء. أفتجرءون أن تسموا هذا إسرافا، أنتم يا من ترفعون أنفسكم على أرجل من خشب لتلقوا خطبا زاهرة؟ إسراف! يا للسماء ! ألا يكفي حظنا المقسوم من الشقاء دون أن تزيده حماقة جيراننا المزعجة؟ إن الكرم المقوي النافع، والنبات الشافي، والعون والصحة المنجية؛ كلها ترتيبات إلهية، يا أبانا القادر على كل شيء، والذي لا أعرفه، أنت يا من كنت تبدل وحشة روحي انتعاشا، لم نبذتني؟ استدع عبدك الهائم، وألق على فؤاده العزاء؛ إن روحي ظمأى وراءك، ولا تستطيع تحمل صمتك، وهل يغضب والد من ولده الذي يدخل فجأة إلى حضرته، فيتعلق بعنقه صارخا: اغفر لي يا أبي العزيز؛ لأنني اقتضبت رحلتي وعدت قبل وقتي المحدد، لقد وجدت العالم في كل مكان سواء، العمل والعناء والسرور والجزاء، كلها لم أعبأ بها، في حضرتك فقط توجد الهناءة، وأنا أبحث عن حضرتك، ولتكن العاقبة كما تكون.»
الرسالة الثانية والثمانون
أول ديسمبر
آه يا صديقي! لقد كان ذلك المجنون المسكين البائس - الذي ذكرت لك في رسالتي السابقة، والذي يحسد شقاؤه كثيرا - كاتبا لأبي شارلوت، ثم علق بها لسوء الحظ، وحفظ وجده وأخفاه، ولكنه باح به أخيرا؛ وعلى ذلك فصل، وصار إلى الجنون الذي وصفت.
تصور - إذا استطعت - التأثير الذي تحدثه في تلك القصة المقتضبة التي حدثني بها ألبرت بلا مبالاة وهدوء كالذي يحتمل جدا أن تقابلها به الآن.
الرسالة الثالثة والثمانون
4 ديسمبر
حقا أيها الصديق ليس في استطاعتي البقاء على حالتي هذه، كنت اليوم مع شارلوت، وكانت تعزف على آلتها الموسيقية بشكل يقصر دونه كل وصف، وكانت أختها الصغيرة تلبس عروسها على حجري، وانحدرت الدموع على خدي، ورأيت بانحناءة مني خاتم الزواج، فزادت دموعي حتى فاضت كالسيل، ثم بدأت حالا في نغم محبب طالما سرني وهدأ مني، فأتى بالعزاء المطلوب للحظة ما، ولكنه سرعان ما أعاد لي ذكرى أوقاتنا السعيدة الداثرة، الشقاء واليأس! فذعرت، وتمشيت في الغرفة بخطوات مسرعة، ثم ذهبت إليها أخيرا، وصرخت بحدة: «بحق السماء، أمسكي عن هذه النغمة.» فأمسكت وحدجتني بنظرة، ثم قالت وهي تبسم ابتسامة أصابت من فؤادي الصميم: «حقا يا فرتر، إنني أخاف أن تكون مريضا؛ فإنك لتنفر نفورا غريبا من غدائك الذي تحبه كل الحب، أرجو أن تذهب فتحاول تسكين نفسك.» ففارقتها. أيتها السماء! أنت ترين آلامي، وإنني لواثق أنك ستضعين لها حدا.
الرسالة الرابعة والثمانون
6 ديسمبر
يلازمني خيال شارلوت، فيراها فكري المعذب، صاحيا كنت أو نائما، وإذا بحثت عن الراحة وجدت عينيها القائمتين المجبورتين مطبوعتين على ذهني، وهنا لا أستطيع أن أعبر عما بنفسي، ولا أكاد أطبق جفني المتعبين حتى أرى صورتها الحلوة تمر أمام خيالي، ويخمد طيفها الوهمي كل قواي.
وما الإنسان؟ هذا النصف الإله الفخور؟ إذا ما أراد العمل هجرته قواه، وسواء أسبح في تيار السرور، أو اعترض في عباب الشقاء، وجب عليه أن يقف يوما، ولو كان الخلود أمله؛ فهو واثق أنه سيعود سريعا إلى كيانه البارد الأصلي.
من المؤلف إلى القارئ
كي نضع للقارئ بيانا أكثر ارتباطا عن أيام فرتر الأخيرة، لزم علينا أن نعترض سير رسائله برواية قصيرة، جمعت معلوماتها من النائب الشيخ، وألبرت وشارلوت وخادمه، والقوم الذين ساكنهم.
أما الوجد المنكود الذي نزل بفرتر من شارلوت، فقد قلل على مهل من الوفاق الذي كان في البداءة بينها وبين ألبرت، وكان حب الزوج خالصا، بيد أنه معتدل، وقد ذهب به تدريجا غرامه بالعمل، ولكنه لم يشعر، ولم يفكر قط أن هناك بونا كبيرا بين أيام الخطبة وأيام الزواج. على أن تعلق فرتر الظاهر بزوجه سبب له قلقا خفيا؛ فإن ذلك التعلق لم يكن تعديا على حقوقه وحسب، بل تأنيبا مضمرا لإهماله إياها، وزادته قلقا وانزعاجا المصاعب المتزايدة في وظيفته وكسبه المتضائل.
أما الحزن المخيم على فكر فرتر فقد أخمد نار عبقريته، وحرمه من نشاطه وسرعة خاطره، فجعله بطيئا خاملا في الجماعة، وكانت شارلوت تراه كل يوم، وأثر فيها بالطبع تغيره السريع، فصارت بدورها خاملة مفكرة، وحسب ألبرت تلك الكآبة تأثير شغفها المتزايد بمحبها، بينا عزاه فرتر إلى إهمال زوجها الظاهر لها، وجعل فقدان الثقة التي كانت دائما بين هذين الصديقين اجتماعهما معكرا، فلا يدخل ألبرت إلى غرف زوجه قط حين يعلم أن فرتر هناك . ولحظ فرتر استياءه فسعى جهده عبثا ليوقف زوراته كلية، وصار لا يرى شارلوت إلا إذا علم أن زوجها مشغول، وزادت هذه الزيارات السرية في قلق ألبرت وغيرته، فانتهز فرصة أخبر فيها زوجه أنه إذا كان محتما عليها لقاء فرتر بحكم المجاملة، وجب عليها أن تغير من معاملتها له، وألا تقبل زياراته بهذه الكثرة، وفكر المنحوس فرتر حوالي هذا الوقت في الانتحار، وكان هذا موضوع تفكيره منذ عهد بعيد، خصوصا بعد عودته من جوار شارلوت، وكانت الفكرة محببة إليه أبدا، ولكنه لم يرد أن يقترف هذا العمل الجدي بتسرع وطيش؛ فقد صمم أن يكون رجلا بعزم، ولكن بهدوء.
وفي الثاني من ديسمبر زار شارلوت كالعادة، فوجد بأسرتها اضطرابا كبيرا، وأخبره أكبر إخوتها أن السبب في هذا الارتباك العام كارثة محزنة حلت في الليلة الماضية؛ فقد قتل فلاح، ولم يهتم فرتر في بادئ الأمر بالخبر كثيرا، فدخل إلى الغرفة التي كانت بها شارلوت، ورآها تلح بجد على أبيها، الذي كان مهتما بالبحث في ظروف هذا القتل، ألا يحاول الخروج محتجة بمرض الأخير القاسي، وأسفر البحث عن أن الجثة وجدت في الفجر أمام باب منزل، أما الجاني فلم يعرف بعد، ولكن هناك شكوكا كبيرة؛ فقد كان المقتول خادما لأرملة كان لها في السابق خادم ترك خدمتها باستياء ظاهر، وذعر فرتر لهذا الخبر، فقام مسرعا وهو يقول: «أممكن هذا؟! يجب أن أذهب إلى والهيم.» وازدادت وساوسه، وبدأ يوقن أن ذلك الشاب الفلاح الذي لقيه مرارا، والذي مال إليه كثيرا هو الجاني التاعس.
وما وصل إلى الفندق الذي كان محوطا بسكان البلدة، حتى سمع ضجيجا عاما، ورأى على مسافة قوما مدججين بالسلاح، بينا ارتفعت الأصوات بأن الجاني قد قبض عليه، وتحققت الآن ريب فرتر؛ فقد كان هو الشاب الذي يهوى الأرملة، والذي لقيه منذ غير بعيد هائما، وعلى وجهه نظرات الغضب المنكتم واليأس الخفي. واقترب من السجين قائلا: «أيها الشقي المسكين! ماذا صنعت؟» فنظر إليه الشاب نظرة عادية هادئة، وظل ساكتا بضع دقائق، ثم صاح أخيرا: «لن ينالها أحد، لن يملكها غيري قط.» واقتادوا السجين إلى الفندق، ورحل فرتر على عجل.
وهاجه هذا المنظر المحزن فاشتد غمه إلى حد لا يوصف، وصحبت عطفه الذي أثاره الغم رغبة لتنجية المحب المسكين، ورآه عاثر الحظ حتى حسبه بريئا وهو جان. وأثرت فيه هذه الفكرة حتى خال في مكنته إظهار براءته، فعاد بأقصى ما استطاع من سرعة، ودخل غرفة النائب خائر القوى لا يكاد يقوى على التنفس؛ ليحادثه في صالح السجين. ولقي ألبرت هناك فجأة، فزاده هذا اللقاء غير المنتظر انزعاجا، على أنه حاول أن يجمع قواه، وبدأ يدافع بحماس عن الدافع للشاب إلى جنايته، وفي أثناء شفاعته الحارة القصيرة، هز النائب رأسه كثيرا، ثم قاطعه أخيرا بتعنيف حاد لدفاعه عن قاتل، قائلا: «إذا فلا فائدة من القانون، ليس ثمة أمن إذا وقعت مثل هذه الرحمة المخطئة. وفوق هذا، فعلي القيام بواجبات المحقق، وسيأخذ القانون مجراه الرسمي.»
واستمر فرتر في دفاعه رغم هذا التثبيط، حتى لمح إلى أنه في المستطاع إعطاء الشاب فرصة للفرار، وأن يقدم هو يد المساعدة في ذلك، وهنا أظهر ألبرت الذي كان صامتا مصغيا كل هذه الأثناء آراءه المطابقة لرأي النائب، والتي خيبت فرتر حتى ترك الغرفة في أشد التهيج، والشيخ يقول: «ذلك محال، يجب ألا ينجى.»
ويظهر من خلال رسالته الآتية عظيم الأثر الذي ألقته على ذهنه هذه الكلمات، وقد كتبت هذه الرسالة دون شك في اليوم نفسه، ووجدت بين أوراقه بعد.
الرسالة الخامسة والثمانون
أيها الشاب الشقي! إن هلاكك محقق، ولن تنجو. أواه! إن الفناء البين ينتظر كلينا.
ويظهر أن فرتر قد أثر فيه كثيرا ما قال ألبرت؛ فقد ظن ملاحظاته موجهة إليه، ولو أنه إذا أمعن في النظر لاقتنع بعدل آراء هذين السيدين، على أن التهكم الذي تخيله وطد عزيمته على الانتحار. ومن جزء رسالته الآتية إلى صديقه، والتي وجدت أيضا بين أوراقه، ترى شكوكه ومحاولاته العديدة.
الرسالة السادسة والثمانون
إن وجودها الجليل، وابتساماتها الحلوة، والاهتمام الذي تظهره بمصيري، ليكاد يسيل دموعي من مخي المختل المتعب.
لم يستطع الفلاح المسكين أن يفقد عشيقته، لم يتحمل مزاحما في حبه. وا حسرتاه! لم كان النائب عنيدا هكذا؟ لقد كان من الممكن أن ينجو. إسدال الستار، والمرور إلى الجهة الأخرى، وينقضي الأمر. لم إذا هذه الشكوك، هذه المخاوف؟ لأننا نجهل ما يأتي بعد، وليست العودة من المستطاع، فحيثما كان الشك، ارتبك العقل بطبيعته وروع.
ولم ينس فرتر قط الإهانات التي لحقته أيام كان كاتم سر للسفير، بل على العكس لذعته في أعماق فؤاده، وشعر بنفسه مهانا مجروح الكبرياء؛ ولذا كره كل الأعمال العامة والشئون السياسية. ومنذ ذلك الحين سخط على الدنيا، فعكف على تلك الأفكار المتطرفة، تلك العواصف الغريبة التي تضمها رسائله، وهذا الحب المنكود اللامحدود، الذي يبتلع قوته الباقية، وقد اجتمع عليه جمود الحال، والحزن المتصل بزوراته لألطف وأجمل بنات جنسها التي عكر عليها صفاء ذهنها ومنازعاته وعراكه، واعتقاده أنه يعيش للا شيء، ليوطد عزيمته على ترك عالم نكد.
وفي الرسائل التالية وغيرها التي تركها شهادة كافية على اضطراب باله.
الرسالة السابعة والثمانون
12 ديسمبر
حقا أيها الصديق، إنني متأثر كهؤلاء الأشقياء المساكين الذين كانوا يظنونهم مصابين بمس من الجن؛ فأنا عرضة للفزع الفجائي والانفعالات الغريبة، ليس هذا بألم وليس بوله، ولكنه غضب خفي يسيطر على عقلي، ويكاد يخنقني.
وبينا أكون في هذه الحالة المنحوسة إذ أنهض فجأة، وكثيرا ما أهيم في منتصف الليل بين تلك المسارح المظلمة التي تكثر في هذا الفصل غير المحبوب. هكذا استملت لأجول في الليلة الغابرة؛ فقد سمعت أن النهر والجداول المجاورة قد فاضت، فغمرت الأرض من والهيم إلى وادي المحبوب، وهناك عدوت بعد الساعة الحادية عشرة، وكان المنظر حالكا رهيبا، والقمر وراء غمامة، ولكن قبسا من أشعته المنتشرة كان يكشف الأمواج المزبدة الفائضة في الحقول والمصطدمة بالأحراش، وكأن الوادي جميعا بحر متلاطم تثيره الرياح العاتية، وبزغ القمر من غمامة مظلمة فزاد بجلاله اضطراب الطبيعة، ولم تكن الأصداء تردد وحسب عجيج الأمواج وهزيز الرياح، بل كانت تردها مزدوجة، وأشرفت على الهاوية. لقد أردت ولكني ارتعدت ومددت ذراعي وانحنيت وتأوهت ثم نسيت نفسي، أفكر مسرورا في دفن كل مصائبي وعذابي في تلك الهوة وهياج الأمواج.
لم تثبت قدماي على الأرض؟ ولم لم تضع نهاية لأحزاني؟ بيد أنني أشعر بالحقيقة أيها الصديق؛ فلم تأت ساعتي بعد. إيه! وباي سرور كنت أغير من طبيعتي، فأتصل بالإعصار وأمزق الغمام وأثير الأعماق.
ورأيت على أسف مني بقعة صغيرة جلست فيها بجانب شارلوت بعد جولة صيف تحت شجرة صفصاف، وكانت هذه أيضا غارقة في الماء، وبالجهد ميزت الشجرة. آه أيها الصديق! لقد فكرت حينذاك في بيت النائب والحقول المحيطة به، ونزهنا المحبوبة والمخابئ الخضراء، كل هذا ربما أفسده السيل. ومزقت فؤادي ذكرى هذه الدقائق الغالية، وهكذا يذكر الأسير النائم بأحلامه تلك النعم التي حرم منها، وتقهقرت على أنني لا ألوم نفسي؛ فأنا لا أزال شجاعا لأموت، وهكذا يجب علي.
وأنا الآن كامرأة عجوز خائرة القوى، تلتقط جاف العصي بجانب السياج، وتلتمس الخبز من بيت إلى بيت لتطيل حياة بائسة.
الرسالة الثامنة والثمانون
14 ديسمبر
لا يزال فكري مضطربا أيها الصديق، ولو أنني لا أستطيع لذلك شرحا. أليس حبي لشارلوت أنقى الحب وأقدسه؟ أليس حب الأخ لأخته؟ وهل فكرت في رغبة دنسة قط؟ ليس ثمة ضرورة للأقسام التي تثبت طهارتي. والآن هذه الأحلام، يا للسماء! لقد صدق حقا من عزى العواطف المناضلة لقوى غريبة.
حتى الليلة الماضية - إنني لأرتجف وأنا أخط هذا - الليلة الماضية، أمسكتها بين ذراعي، وضممتها إلى صدري، وعلى شفتيها المرتجفتين طبعت قبلات حارة ناعمة، وكانت عيناها تفيضان رقة سائلة، وعيناي تسطعان بالفرح والسعادة، أيكون السرور الذي أشعر به الآن لذكرى هذه السعادة الوهمية جريمة؟ آه! شارلوت، شارلوت، إن هلاكي محقق، وليس في استطاعتي تحمل هذه الحال المزعجة المختلة. أنا مضطرب، ولم أكن نفسي طول هذا الأسبوع، وعيناي غارقتان بالدموع، وسواء لدي أينما كنت؛ لأنني لا أجد الراحة في أي مكان. لا أبغي شيئا، بيد أنني أرغب كل شيء، يا لنفسي! خير لي أن أترك هذا العالم بلا إبطاء.
الرسالة التاسعة والثمانون
20 ديسمبر
أحمد لصديقي مشورته الخالصة الكيسة عما يجب أن أفعل، نعم. لقد ألححت علي بصدق أن أغادر مكاني توا، ولكن نصحك لي بالعودة مباشرة إلى جواركم لا أستحسنه بوجه ما، وأرى أن جولة في طريقي الخيالي ذات تأثير أفضل على أفكاري المشتتة، خصوصا ونحن ننتظر الآن الجليد، وبالتالي طرقا حسنة. وإن صداقتك لتسحرني حين تقترح مجيئك إلى هنا للبحث عني. على أنني أرجوك أن تؤخر عزمك نحو عشرة أيام أو أسبوعين، وألا تبدأ في سفرتك حتى تصلك رسالة أخرى مني، يجب ألا تتعجل في قطف الثمار قبل نضجها، وأسبوعان كما تعلم سواء قبل أو بعد لهما تأثير مادي. اطلب إلى أمي أن تذكرني في صلواتها، وأكد لها أنني آسف للأسى الذي جلبته لها دون قصد مني. وا حسرتاه يا صديقي! لقد قدر لي أن أرسل الشقاء حيث أرغب كل الرغبة في منح السعادة.
الوداع يا أعز الأصدقاء، ولتغدق عليك أبدا كل النعم التي أنت بها جدير، ولست أرغب لك في أكثر من ذلك. الوداع.
وفي اليوم الذي خط فيه فرتر هذه الرسالة الأخيرة - يوم الأحد السابق للميلاد - زار شارلوت في ظلمة المساء، فوجدها منفردة منهمكة كعادتها السنوية في تهييء هدايا الميلاد لأخواتها وإخوتها، فبدأ حديثه بملاحظات عن تحولات الفصل البسيطة، وعن السرور والرضى الذي توحيه لنفوس الأطفال. وقالت شارلوت: «حسن، لك هدية أنت أيضا إذا سلكت مسلكا حسنا.» قالت ذلك وهي تخفي بابتسامة رصينة اهتمامها العميق بأمره. فأجاب فرتر على الفور: «ماذا تعنين بالمسلك الحسن يا عزيزتي شارلوت؟» فقالت: «الخميس القابل سيكون ليلة عيد الميلاد، وسيكون أبي والأطفال هنا جميعا. فتعال أنت أيضا، وسيعطى كل هديته. ولكن لا تأت قبل ليلة عيد الميلاد.» فظللت محيا فرتر دهشة فجائية وكاد يجيب، ولكن شارلوت منعته بقولها: «حقا، يجب أن تكون كذلك. أريد أن يكون، كلا بل أطلب ذلك منك منة خاصة؛ لأن هناك أسبابا قوية، قوية جدا.» ثم أضافت بصوت أرفق ونظرة ملؤها الفتنة، قائلة برفق: «صدقني إنني أطلب هذه المنة لراحة كلينا وهدوئنا. آه يا فرتر! يجب ألا نستمر في حالنا هذه، تعال إذا فاستعد حياتك الأولى، وتغلب على هذا الارتباط المنكود، هذه العاطفة التي لا أجرؤ إلا على العطف عليها.» فأحنى فرتر رأسه وتأوه، ورأت شارلوت غمه، فأخذته بيدها: «صبرا يا فرتر، كن مذعنا ولا تستسلم إلى هذا الضلال الذي لا ينتهي إلا بهلاكك. ألست متزوجة؟ فلم تفكر بي إذا؛ حقا إنني أخشى أن ينهمك فرتر في هيام لا يجدي لأنني متزوجة.» فنظر إليها نظرة استياء عميق وخوف قائلا: «حقا، أيكون هذا فكر شارلوت الخاص؟» وانطلق يتمشى مسرعا جيئة وذهابا في الغرفة، ثم وقف فجأة وصاح: «كلا، لا يمكن ذلك، بل هي الأفكار العقيمة، أفكار «ألبرت» الحانق.» فأكدت له شارلوت بكل ما استطاعت من لطف في ذلك الموقف أن حبه الجامح قد أعماه عن الحقيقة، وأن هذه هي أفكارها، أفكار شخص يحترم فضائله المحبوبة، أفكار من يعنى بصالحه، ويتأثر جد التأثر أن يراه مستسلما لعاطفة قتالة. ثم قالت: «تعال استجمع نفسك، وفكر في كصديقة ودودة وحسب. تأمل كيف يتألم العالم حين يحتجب عنه رجل بعبقريتك ومواهبك. عد إلى الدوائر الزاهية، وابحث عن مهبط آخر لحبك، شخص يستحق هذا الحب، حر يستطيع أن يقابلك بمثله، وأنا الكفيلة لك بأنك ستجد هذا الشخص، والتجربة جديرة على الأقل بعنايتك، والسفرة دون ريب ستهدئ من ذهنك المضطرب. ولست بآيسة من التقائك بامرأة جديرة بك. ثم عد ثانية نقتسم هذا السكون البيتي، فتخرج السعادة من الصداقة الاجتماعية.» فقال فرتر بابتسامة معنوية: «يا عزيزتي شارلوت، يجب أن يطبع هذا الخطاب لفائدة المتحذلقين والأخلاقيين، أسألك رفقا لمدة وجيزة، وثقي بعد ذلك أنه سينتهي كل شيء.» فقالت: «ولكن لا تدعني أراك يا فرتر قبل ليل الخميس.» وكان على وشك أن يجيب، ولكن ألبرت دخل فجأة، فلقي فرتر بتحية باردة، وتمشى هذا جيئة وذهابا في الغرفة بارتباك ظاهر، وتحدثوا عن موضوعات مختلفة ولكنها نسيت سريعا. واستفسر ألبرت من شارلوت عن بعض طلبات طفيفة كان قد سألها إنفاذها ولقيها مهملة، فنطق بلوم شديد جرح فرتر في أعماق قلبه، وأراد الانصراف، فلم يدر كيف يفعل، وبقي في حالته المشوشة حتى زهاء الساعة الثامنة، وفي كل هذا الوقت كان هياجه وحدته يتزايدان، وأخيرا هيأ ألبرت المائدة فاستأذن فرتر في الانصراف، ولم يدعه ألبرت إلى العشاء إلا بدعوة باردة.
وعاد فرتر إلى منزله بغم عميق يمشي على مهل، فتناول الشمعة من الخادم، وصعد إلى غرفته صامتا وحيدا، وسمع بعدئذ يبكي مر البكاء ويتكلم بجد، ويسير في غرفته. وأخيرا ارتمى على فراشه دون أن يخلع ملابسه، واجترأ الخادم في الدخول إليه الساعة الحادية عشرة فسمح له بمساعدته في خلع حذائه، ولكنه طلب منه ألا يدخل حتى يقرع الجرس.
ووجدت الرسالة الآتية مختومة في مكتبه بعد موته، وقد كتبت صباح الاثنين 21 ديسمبر، فسلمت إلى شارلوت حسب العنوان الذي عليها، وها هي في حالتها المختلفة التي يظهر أنها كتبت بها.
الرسالة التسعون
شارلوت العزيزة
لقد قضي الأمر، وصممت على الموت، وها أنا أخبرك بذلك بملء الهدوء والتروي دون أي تهيج فجائي، أي غضب مشتعل.
يا أعز النساء وأجملهن! قبل أن تقرئي هذه السطور، ستوارى رفات البائس المسكين الهامدة في قبر بارد، البائس الذي كانت سعادته الكبرى في دقائقه الأخيرة أن يناجيك. آه! يا لها من ليلة هائلة قضيتها، ليلة قلق وانزعاج متواصل! على أنني أسميتها ليلة مباركة؛ لأنها أبعدت كل مخاوفي، ووطدت عقلي المذبذب؛ بلى فأنا مصمم على الموت.
أمس حين تركتك كانت حواسي كالعناصر معقودة بالغيوم مضطربة، وكان قلبي حزينا بلا أمل، بلا شعاع واحد من السرور، وكان كل جثماني باردا كالثلج. ووصلت مأواي بالجهد، فدخلت غرفتي وارتميت على ركبتي، وساعدتني السماء للمرة الأخيرة بمخلص لي من الدموع الغزيرة. وهز نفسي المعذبة ألف رأي وألف اقتراح، وأخيرا تأصلت في تلك الفكرة التي طالما خطرت لي؛ فكرة الموت.
ليس هذا باليأس، ولكنه اعتقاد بأن الحياة لا تستحق الحياة؛ لقد أتممت آلامي دون ريب؛ لأن كأس الحزن قد طفح، وقد وصلت الآن إلى الغرض، ويجب أن تحصل التضحية في سبيل السعادة. بلى يا شارلوت العزيزة، سعادتك أنت. أحد ثلاثتنا يجب أن يموت، فهل يتردد فرتر في أن يكون ذلك الواحد؟ آه أيها الملك المحبوب، لقد خامر هذا العقل الشارد المسيطر عليه الغضب والجنون أكثر من مرة فكرة هائلة شيطانية؛ فكرة قتل زوجك! فمن العدل إذا أن أموت.
وفي الساعة العاشرة من الصباح نادى فرتر خادمه، فأمره أن يرتب ملابسه، وأن يطلب بيان معاملاته، وأن يعيد بعض كتب قد أعيرت في الخارج، وأن يوزع مرتب شهرين على الفقراء الذين تعودوا منه عطاء أسبوعيا؛ لأنه بعد بضعة أيام سيرحل رحلة طويلة.
وتناول طعام الإفطار في غرفته، ثم امتطى جوادا إلى دار النائب ولم يجده، فتمشى وحده في الحديقة، وعكف يستعيد ذكريات مؤلمة، وكان الأطفال في شوق إليه، فعبثوا بوحدته راقصين لاعبين حوله، وهم يقولون إنهم بعد غد، وغدا، ويوما آخر، سيتناولون هدايا الميلاد من أختهم. ثم بدءوا كما توحي إليهم خيالاتهم المحببة يصورون له ما ينتظرون من الأشياء المدهشة. فصاح: «غدا، ويوما آخر!» ثم تهيأ للرواح، وضمهم واحدا بعد الآخر بحنو كبير، واستوقفه أصغرهم، قائلا إن أخاه الأكبر قد كتب أبيات تهنئة لطيفة جدا بالعام الجديد إلى جميع الأصدقاء، وإنها ستقدم في يوم رأس السنة إلى الوالد، وإلى ألبرت، وإلى شارلوت، وإلى فرتر. وأثر فيه هذا كثيرا، وخانته شجاعته فأعطى كلا منهم هدية، وسألهم أن يقدموا إلى والدهم كثير احتراماته، وفارقهم منفعلا جد الانفعال.
وعاد إلى منزله، فطلب من الخادم أن يبقي النار مشتعلة، وأن يضع الكتب والتيل في قاع الحقيبة وفوقها ملابسه. ويظهر أن الرسالة التالية إلى شارلوت كتبت في ذلك الوقت.
الرسالة الحادية والتسعون
أي حبيبتي
أنت لا تنتظرينني! وتظنين أني سأطيعك، وأنني لا أراك قبل ليلة يوم الميلاد. آه أيها الملك العزيز، اليوم أو أبدا! ليلة يوم الميلاد ستمسكين هذه الورقة بيدك المرتجفة، وتبللينها بدموع الرحمة.
أجل يا شارلوت! لقد حتم ذلك، وأنا راض كل الرضى بأنه قد قرر أخيرا.
وزار شارلوت في الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم، ولم تكن ثم فرصة لإنكار نفسها؛ فقد اندفع داخلا ووجدها جالسة وحدها، واضطربت حين رأته أيما اضطراب؛ فقد أكدت لألبرت في محادثة أخيرة معه أن فرتر لا ينوي أن يعود حتى ليلة يوم الميلاد، وعلى هذا ركب لإنجاز بعض المهام مع رطوبة اليوم، وساءتها جدا هذه المفاجأة القاسية، ولكنها كانت شاعرة ببراءتها؛ فهي تحب زوجها وتعطف على فرتر، وما كاد يظهر حتى بادرته والدموع في عينيها: «فرتر لم تف بوعدك.» فأجاب: «لم أعد.» فقالت: «ولكن كان عليك أن تذعن لرغبتي لفائدة كلينا.» ثم أرسلت في الحال تطلب بعض أصدقائها، وسألتهم البقاء معها هذا المساء، لا ليكونوا شهودا على حديثهما وحسب، ولكن ليسرع فرتر في الانصراف متى وصلوا، وأحضر إليها بعض الكتب، فكانت مع أخرى قد أعارها إياها موضوع حديثهما، ثم فتحت هي موضوعات أخرى في الوقت الذي انتظرت فيه وصول أصدقائها. ولكن الخادم عاد يحمل اعتذارات من الجميع، وحيرها هذا قليلا، على أن شعورها ببراءتها أعاد إليها هدوءها، وشعرت بنفسها ملهمة بثقة ممدوحة تحمي عقلها من شكوك ألبرت الدنيئة، وفكرت في بادئ الأمر في إبقاء الخادمة معهما في الغرفة، ولكن اقتناعها بطهر فؤادها رد هذا العزم؛ فذهبت إلى آلتها الموسيقية، ووقعت بعض أنغامها المحبوبة حتى هدأت تماما، ثم جلست إلى جانب فرتر على الأريكة، وسألته عما إذا كان لديه شيء يقرؤه لها، فأجاب برزانة: «كلا.» فصاحت: «إذا فافتح هذا الدرج تجد ترجمتك «لأغاني أوسيان» التي لم أقرأها بعد، وأنا أعلم أنها تكون أفضل بكثير إذا خرجت من بين شفتيك، ولكنك كنت كسلان في العهد الأخير فلم أرد أن أسألك.»
فابتسم وبحث عن الكتاب المخطوط، ولما تناوله ظهر عليه انفعال فجائي، ثم جلس وقد دمعت عيناه، وأخد يقرأ بصوت مرتجف حتى وصل بعد وقت ما إلى هذه الأبيات المؤثرة؛ حيث يندب أرمن فقد طفلته المحبوبة:
هناك على صخرة يلطمها البحر،
سمعت ابنتي الوحيدة تنتحب،
وا حسرتاه! لقد كانت أناتها كثيرة عالية .
فعبثا كان عون الوالد. •••
وقفت على الشاطئ كل الليل،
ورأيتها جليا على أشعة القمر الشاحب،
وسمعت طول الليل صرخاتها المفتتة للفؤاد،
رغم دوي الرياح ووابل المطر. •••
وقبل وضوح النهار المنير،
خفت صوتها الضعيف المرتجف، وا حزناه!
كما يسكت نسيم المساء العليل،
الذي يمر على حشيش الصخرة الأهيف. •••
لقد أضناها الحزن فماتت.
وخلفتك وحيدا يا أرمن المسكين.
لقد ضاع بأسك في الحرب،
وتلاشى فخرك بين النسا. •••
وإذا ما قصفت العاصفة من الجبال،
وارتفعت اللجج عالية،
جلست على الشاطئ المتجاوب الحزين،
على الصخرة، الصخرة القاتلة، ثم حدقت. •••
وكلما غاب القمر،
رأيت أشباح أطفالي الأعزاء تتمشى،
وتظهر نصف محتجبة عن نظري،
وهي تتكلم معا حزينة. •••
ألا يتكلم أحدكم رحمة بي؟
ولكنهم لا يرون أباهم فيذهبون.
أنا حزين، حزين جدا حقيقة؛
لأن مصيبتي هائلة!
وهنا طفح سيل الدموع من عيني شارلوت، فخفف من الضغط الشديد على فؤادها، فرمى فرتر بالورقة وأمسك يدها فبللها بدموعه، واستندت شارلوت على ذراعها الثانية، ووضعت منديلها على عينيها؛ فقد كان كلاهما في شدة التأثر؛ إذ أحيت هذه القصة المحزنة مصائبهما، وأثارت عواطفهما المتبادلة. وألصق فرتر عينيه وشفتيه الملتهبتين بذراعها المرمرية، فارتعدت وحاولت أن تترك الغرفة، ولكن الحزن والرحمة الناعمة منعاها من التحرك، ثم خففت على نفسها بالتأوه والدموع المستشفعة، ورجته أن يستمر، فتناول الورقة خائر القوى، وقرأ بصوت يرتجف:
لم توقظني أيها النوء؟
يقول إنني مغطى بقطرات الندى،
ولكن قد آن وقت فنائي.
وستهب الريح التي تذبل أوراقي. •••
سيأتي الرحالة غدا،
الذي رآني يوما لطيفا شجاعا،
وستبحث عيناه في المزرعة،
ولكن لن يراني أبدا.
ونفذت هذه الكلمات الموافقة لموقف بطلنا كالبرق إلى نفسه، فارتمى هائجا يائسا على قدمي شارلوت، وأمسك بيديها فأدناهما إلى عينيه ثم إلى جبينه، ورأت شارلوت لأول مرة عزمه المشئوم، فأفقدها هذا الخوف الخفي حواسها، فضغطت على يديه بحنو ثم ضمتهما إلى صدرها، وأحنت رأسها بلطف نحوه متأثرة بعاطفة وشعور حلو، فلمس خدها الملتهب خده صدفة، وفي تلك الدقائق المهيجة لم يحسا بشيء سوى ميلهما المتبادل ، فأمسكها فرتر بين ذراعيه، وضمها إلى فؤاده الخافق، وطبع على شفتيها المرتجفتين ألف قبلة ملتهبة، فصاحت بصوت ضعيف مرتعش وهي تحول وجهها عنه: «فرتر! فرتر!» ثم أزاحته عنها بيدها الضعيفة، وتأخرت بضع خطوات، وحدجته بعينين يسطع منهما الجلال والفضيلة، وكررت لثالث مرة: «فرتر!» وغشيته هيبة فجائية، فتباعد باحترام وسقط على ركبتيه، وعادت هي ترتعد نحو الباب، وبصوت ملؤه الشفقة الممتزجة بالاستياء خاطبته قائلة: «هذه هي المرة الأخيرة يا فرتر، لن تراني بعد الآن.» ثم ألقت على المحب المسكين نظرة أخرى هي الحنان مجسما، وأسرعت إلى غرفتها وأقفلت الباب. ومد فرتر ذراعيه إليها، ولكنه لم يحاول منعها، وبقي على الأرض في حالته المحزنة زمنا ما، ورأسه منحن على الأريكة، وأخيرا أيقظه من غفلته صوت الخادم الذي جاء يجهز المائدة، فسار جيئة وذهابا في الغرفة، وعندما خرج الخادم اقترب من باب شارلوت وصاح بصوت ضعيف: «شارلوت شارلوت! كلمة أخرى، وداعا أخيرا.» وأنصت فلم يسمع رجعا، فتوسل ثانية ولكن عبثا، فانطلق خارجا يصيح بصوت مرتعد: «يا شارلوت العزيزة وداعا، وداعا إلى الأبد.»
ووصل فرتر خائر القوى إلى باب البلدة وعرفه الحارس فتركه يمر، وكان الليل حالكا عاصفا كثير المطر والثلج، فوصل إلى منزله في نحو الساعة الحادية عشرة، ولاحظ خادمه أنه كان بلا قبعة، ورأى من الحكمة ألا يعلمه بذلك، ووجد وهو يساعده في خلع ملابسه أنها مبتلة قذرة، ووجدت القبعة بعدئذ على قمة صخر عند منحنى جبل، ومن المدهش أنه تسلق في تلك الليلة المظلمة العاصفة دون أن يسقط في الهوة فيتهشم. وذهب إلى فراشه ونام حتى الصباح، ولما أحضر له الخادم طعام الإفطار وجده يكتب، وكان ذلك تتمة رسالته السابقة إلى شارلوت.
الرسالة التسعون: تتمة
أفتح عيني الآن للمرة الأخيرة ولن تريا الشمس الطالعة ثانية؛ فثم غمامة تحجبها، لن تريا جسمك الملائكي قط، يجب أن يمنع ذلك الموت. الموت! وما الموت! نوم أبدي، نحن نحلم حين نتكلم عنه، ألم أر الكثيرين يموتون؟ ولكن هذه حدود أفهامنا المحصورة؛ فإننا نجهل كل الجهل بداءة ونهاية وجودنا.
لقد عدت الآن إلى نفسي أو بالأحرى «إليك» يا عزيزتي شارلوت، ولكن وا حسرتاه! سنفترق سريعا وربما للأبد، ولكن لا، لا يا شارلوت، بما أننا نشعر بوجودنا الحالي، فالفناء مستحيل، الفناء صوت فارغ آخر. الموت! آه يا شارلوت، أوأرى في قبر ضيق بارد مظلم؟!
كانت لي صديقة هي بهجة أيامي الأولى، فماتت وشيعت جنازتها، ووقفت على مقربة من القبر، وسمعت صوت الحبال التي أدلي بها النعش، ولما سقط عليه أول معول من التراب، ردد صوتا فارغا، وخفتت هذه الأصوات تدريجا حتى امتلأ القبر ترابا، فانطرحت على الثرى وقد اختنق قلبي وطعن ومزق، ولم أشعر بما حدث لي بعد ذلك، كما أجهل ما كان سيحدث. الموت، القبر، كلمات لا معنى لها.
أي شارلوت العزيزة! اصفحي عني. أمس، أمس، آه تلك الدقيقة الهائلة! كان عليها أن تنهي حياتي، إذا لمت سعيدا لأنك تحبينني، إنني لأتهيج لمجرد التفكير في ذلك، وإن هاتين الشفتين لتلتهبان بالحرارة المقدسة التي استمدتها من شفتيك، وإن هذا الفؤاد لا يفتأ يحس بالسعادة التي سالت، ولكن أأغضبك عفوا يا شارلوت العزيزة، آه عفوا!
بلى لقد ظننت نفسي عزيزا لديك، لقد رأيت ذلك في النظرة الأولى المنعشة التي وجهتها إلي؛ لقد شعرت بذلك حين شددت في البداءة على يدي بلطف، بيد أنني كنت إذا غبت عنك أو رأيت ألبرت بجانبك عادت إلي شكوكي ومخاوفي. أتذكرين الأزهار التي بعثت بها إلي يوم كنا في اجتماع مزدحم فلم تستطيعي أن تكلميني أو أن تعطيني يدك؟ لقد قضيت نصف الليل في عبادتها دلائل الحب، ولكن أين هذا من سعادة الأمس، إن أبدية كاملة لتقصر عن أن تمحو أثر شفتيك العذبتين.
أنت تحبينني؛ لقد ضمتك هاتان الذراعان، وهاتان الشفتان قد اتصلتا بملء السعادة مع شفتيك، أنت لي، بلى يا شارلوت لي إلى الأبد.
أعرف أن ألبرت زوجك، وبعد؟ وهو زوجك في الحياة؛ وعلى ذلك ففي هذه الحياة يعتبر جرما أن أحبك على أنني سأعاقب نفسي. لقد رشفت من السعادة التي أحيت ذابل عواطفي، وليس لي أن أشرب كثيرا لأنني أخاف، ولكنك لي، أنا أسبقك إلى أبي،
1
إلى أبيك، وسأحمل أحزاني إلى قاعدة عرشه السموي، وآمل أن أتعزى حتى تأتي، وعند ذلك أطير على جناحي سيرافيم
2
لألقاك ثم أطلبك فنبقى معا إلى الأبد.
ليس هذا بحلم ولا بمتعة خيال، اذكري «سنحيا هنا فيما بعد، وسيعرف ويرى كل منا الآخر ثانية».
وفي نحو الساعة الحادية عشرة سأل فرتر خادمه عما إذا كان ألبرت قد عاد، فأجاب بالإيجاب؛ لأنه مر عليه ممتطيا جواده، فناوله فرتر الرسالة الآتية غير مختومة ليحملها إليه بداره:
أنا مزمع سفرة فأعرني مسدساتك وإلى الملتقى.
فرتر
أما الجميلة شارلوت فقد قضت الليلة في أقصى حالات الحزن والاضطراب، وازدحمت برأسها آلاف من الإحساسات المؤلمة؛ فإن حرارة ضمات فرتر الحادة قد وجدت إلى قلبها سبيلا رغم كل تظاهر مبرقش، وذكرت كل الأيام الماضية؛ أيام الطهر والهدوء التي يظهر لها - بالمقارنة مع الحاضر - حسن جديد، وخافت عبوسة ألبرت وتعنيفه الحاد متى علم بزورة فرتر، وهي لم تكذب في حياتها قط، ولم تخادع أبدا، بيد أنها وجدت من المحتم إخفاء الحقيقة لأول مرة، وقد كبرت خطيئتها في نظرها رقتها المتناهية واشمئزازها الذي شعرت به، على أنها لم تكره مسببها ولم تعزم على منعه عنها، ولقت ألبرت متعبة حزينة، ولم تكد تتم ارتداء ملابسها، وكانت هذه هي المرة الأولى التي لقته فيها غير راضية، وارتعدت خشية أن يلحظ بكاءها وأن يكتشف ذبولها لقلة النوم، فزادت هذه المخاوف اضطرابها، وقابلته بشوق أظهر خوفا وارتباكا أكثر من سرور حقيقي، ولم يفت هذا عين ألبرت اليقظة، فجلس وفض بعض الرسائل، ثم سأل بوقار عما إذا كانت هناك أخبار جديدة، وعما إذا كان قد زارهم أحد في غيبته، فأجابت بعد تلعثم قليل أن فرتر قد جاء أمس وبقي نحو ساعة، فقال ألبرت: «إنه ليتخير الفرص جيدا.» ثم قام إلى غرفته.
وبقيت شارلوت وحيدة تفكر زهاء ربع الساعة؛ فإن حضور رجل تحبه وتقدره قد غير مجرى أفكارها، وعادت لذهنها رقته الماضية وحبه للخير وكماله وهيامه بها وحدها، فأنبت نفسها على سوء مقابلتها له، وألهمت إلهاما خفيا أن تتبعه، فدخلت إلى حيث كان وسألته عما إذا كان يريد شيئا، فأجابها سلبا ببرود، وبدأ يكتب وجلست تشتغل، وكان يترك مكتبه بين آن وآخر ليتمشى في الغرفة، فكانت شارلوت تنتهز هذه الفرصة لتحدثه، ولكنه كان يتجنب ذلك بأن يكاد لا يجيبها، ثم يعود إلى مجلسه، وكانت هذه المعاملة القاسية أشد إيلاما لاجتهادها في إخفاء الهم الذي سببته، ولإمساك الدموع التي تكاد تسيل كل لحظة. وانقضت ساعة على هذه الحال، ثم وصل خادم فرتر فزاد في حزنها، وما قرأ ألبرت الرسالة حتى التفت بهدوء إلى زوجته قائلا: «أعطيه المسدسات، وإنني لأرجو له سفرا طيبا.» ووقع هذا الأمر كالصاعقة على شارلوت، فقامت مذعورة من مقعدها، وتقدمت بخطى بطيئة مرتجة إلى الحائط حيث تعلق المسدسات، وتناولتها بيد مرتجفة، ثم أخذت تنفض عنها الغبار على مهل، ولولا نظرة معنوية من ألبرت اضطرتها للطاعة لأطالت الإبطاء، فسلمت الأسلحة المشئومة إلى الخادم دون أن تستطيع النطق بكلمة واحدة، ثم طوت ما كانت تعمل فيه، وانصرفت توا إلى غرفتها، وقد غلبها حزن لاذع وتقريع مريع، ومر بفكرها خاطر خفي في بعض الأحايين كي تعود إلى زوجها، فتنطرح على قدميه وتفصح له عما وقع في الليلة الماضية، معترفة بخطئها وما تخشاه، ولكنها تأكدت عاجلا سوء المغبة من مثل هذه الأساليب، وأيقنت أن ألبرت لا يمكن أبدا أن يغرى على الذهاب إلى فرتر. وأخيرا جهزت المائدة، ولولا سيدة من صاحباتها كانت مدعوة لساد على المائدة السكون.
ولما علم فرتر من خادمه أن شارلوت هي التي سلمته المسدسات تناولها بملء السرور، ثم جلس إلى بعض الخبز والنبيذ، وصرف الخادم لعشائه وبدأ يكتب.
الرسالة الثانية والتسعون
أي شارلوت العزيزة
كانت هذه المسدسات في يديك، وقد نفضت عنها الغبار، لقد جلوتها من أجلي، فالسماء تحبذ مشروعي.
أجل، على يديك اللتين أنفذتا إلي هذه، كنت دائما أرجو أن ينتهي أجلي. آه يا شارلوت! إن الأجيال لن تمحو الأثر، وأنا واثق أنك لا تستطيعين كره الرجل الذي يعبدك بهيام حتى في دقائقه الأخيرة.
وبعد أن تناول طعام العشاء، طلب فرتر إلى خادمه أن يحزم الحقيبة، ثم أتلف بعض الأوراق، وخرج يوفي ديونا صغيرة عليه في الجهة المجاورة، ثم عاد سريعا ولم يأبه بالمطر، فخرج إلى حديقة الكونت ثم إلى البرية، وانقلب إلى داره ليلا وتناول قلمه ثانية.
الرسالة الثالثة والتسعون
عزيزي ولهلم
رأيت الآن الحدائق لآخر مرة، وكذا الحقول والجبال والسماء، الوداع! عز أمي العجوز الحبيبة بقدر ما تستطيع ولتكافئك السماء. لقد رتبت كل شئوني، وسنلتقي في عالم آخر أكثر سعادة وسرورا.
ألبرت! عفوك واصفح عني؛ فقد عكرت هناءك البيتي، لقد أزعجت هدوء أسرتك، وأفسدت الثقة التي كانت بينك وبين شارلوت، على أنني أثق أن موتي سيزيح من طريق سعادتك كل عثرة.
آه ألبرت! أحب شارلوت، ولتبارككما السماء!
ثم التفت إلى أوراقه فأتلف كثيرا منها، وختم البعض وكتب عليه عنوان صديقه، وكانت هذه عبارة عن آراء غير متصلة، وانسكاب عقل مضطرب، وفي الساعة العاشرة طلب نارا ونصف لتر من النبيذ، ثم صرف خادمه.
الرسالة الرابعة والتسعون
بعد الساعة الحادية عشرة
السكون شامل وفكري هادئ، أحمد الله الذي قواني ووطد عزيمتي في دقائقي الأخيرة هذه.
إيه شارلوت! إن خيالك المقدس ماثل أمامي الآن، وأراك في كل مكان. لقد جمعت كل صغيرة لمستها يدك فقدستها بشغف صبياني، وها أنا أعيد إليك رسم منظرك الجانبي، وأستحلفك أن تحفظيه لأنني طبعت عليه ألف قبلة، وقد كتبت إلى أبيك أرجوه أن يعنى برفاتي، في زاوية من فناء الكنيسة شجرتا زيزفون، وهناك أريد أن أدفن فعززي رجائي، وقد يبدي بعض المسيحيين الصالحين رغبته في أن يدفن بجانبي، فإذا عارضوا فلأوار قرب الطريق العام حتى يمر بي الراهب واللاوي
1
فيرفعان من عينيهما المطهرتين ويصليان بينا يقف السماري
2
ليذرف دمعة حنو علي.
وأريد يا شارلوت أن أدفن بالملابس التي علي؛ لأنني كنت بها في حضرتك؛ ولذا فهي عزيزة لدي، وقد طلبت هذه المنة أيضا إلى أبيك. إن روحي لتحلق فوق القبر، فلا تدعي أحدا يفتش جيوبي؛ ففيها الشريط القرنفلي الذي وضعته على صدرك حين رأيتك لأول مرة محوطة بالأطفال. يا للنفوس الحلوة! وإخال أنني أراهم الآن يلعبون حواليك. قبليهم عني كثيرا.
إيه شارلوت! كيف أحببتك في تلك اللحظة الأولى، ولم أستطع أن أنتزعك من فؤادي بعد!
المسدس محشو والساعة تدق منتصف الليل.
شارلوت إنني ثابت، وعقلي لا يتردد. الوداع.
وفي نحو الساعة السادسة صباحا دخل خادم فرتر إلى الغرفة يحمل شمعة، فوجد سيده ممددا على الأرض غارقا في الدماء، فأسرع توا إلى بيت ألبرت، وعرت شارلوت رجفة حين سمعت جرس الباب يدق، فأيقظت زوجها وقام كلاهما، فأدلى إليهما الخادم بالحادثة المفجعة والدموع في عينيه، فوقعت شارلوت فاقدة الحس عند قدمي زوجها، وارتدى ألبرت ملابسه مسرعا، وخرج ليرى إذا كان هناك أمل ما.
ولكن وا حسرتاه! عبثا يذهب كل عون؛ فقد مات الشاب المسكين!
وكان قد سبقه الطبيب إلى هناك وفحص الجثة، فوجدها حارة ولكن لا حياة فيها، وعلى مكتبه كان كتاب «إميليا جالوتي» مفتوحا.
وخير لنا أن نترك للقارئ تصور ألم ألبرت، وكآبة شارلوت، من أن نصفهما. وشيعت الجنازة بمهابة واحتفال بسيط، وكان حزن ألبرت خالصا، وأسى شارلوت مفجعا. ووريت الجثة بحضور النائب وأولاده، والكل محزون لفقد هذا الرجل العظيم.
ناپیژندل شوی مخ