جر خطواته المتئدة على بلاط القاعة الفسيحة الشاحبة الإضاءة كأنها سماء مقلوبة غشيها الضباب الكثيف وانطفأت فيها كل الكواكب والنجوم، ووجد في طريقه إحدى العربات البيضاء التي تستخدم في نقل المرضى فسحبها أمامه في هدوء واتجه إلى الركن البعيد الذي أركنت فيه النقالة والجثمان الذي لا يعرف له صاحب ولا أهل، وبالرغم من إحساسه بالدوار والجوع والعطش وجد من واجبه أن يسلم الأمانة ولا يؤجل شيئا إلى الغد. تحامل على نفسه حتى وضع النقالة على العربة وراح يدفعها ناحية المشرحة. الباب الكبير مفتوح والأضواء الباهتة تنعكس على الأرضية والجدران الرطبة والثلاجات الرابضة بجوار بعضها كصفوف وحوش مائية منقرضة تجفف نفسها على اليابسة، لكن أين أنت يا عبد العاطي المتعوس؟
نادى بصوت خفيض ثم بصوت أخذ يرتفع شيئا فشيئا ويرتد إليه صداه الثقيل: يا عطا، يا عطية، يا ولد يا صعلوك في وادي الملوك. وابتسم لهذه الكنية التي أطلقها عليه أكثر من مرة وهو يسلمه رزقه الموعود في أوقات الليل والنهار دون أن يفقه الصعلوك الذي يفغر فاه من الدهشة شيئا مما يقول؟ كان عجبه يتزايد وتتسع ابتسامته كلما رأى أمامه الجسد القصير المفتول العضلات فيسأله على الدوام: كيف نقلوك من السيرك إلى المشرحة يا عطية؟ ثم يتذكر ما قاله له النائب سمير ذات مرة وهو يداعبه: كلما رأيتك يا عطية تذكرت حفار القبور في هاملت. ويواصل عطية نشاطه الدائب كالنحلة دون أن تزايل الدهشة والحيرة فمه ولا عينيه، ويضرب عبد الحق الذي لم يفهم كذلك شيئا مما قال النائب كفا بكف ويردد وهو يبسمل ويستعيذ بالله من شر ما خلق: حكمتك يا رب، بلياتشو وحارس مشرحة، اللهم لا اعتراض، لك حكمة في هذا وأنت أحكم الحاكمين.
لما يئس عبد الحق من سماع صوت عبد العاطي أو رؤية جسده ورأسه الصغير المضحك أقنع نفسه بأنه سيرجع حتما بعد قليل وليس أمامه إلا أن ينتظره في ركن هادئ، وتذكر الحقيبة السوداء عندما سقطت منه على الأرض وقال لنفسه: هي فرصة للتقليب في أوراقها قبل تحريزها وختمها بالشمع الأحمر في الصباح. فرش منديلا على الأرض تحت مصباح صغير معلق على الحائط وفتح الحقيبة وأفرغ محتوياتها على البلاط وبدأ يستعين بالقراءة على الملل المميت الذي تلفحه أنفاسه الثلجية من الكتل المعدنية الرابضة أمامه. - كل هذه الأوراق يا ربي. كل هذه السطور المضطربة كخربشة الدجاج؟
لم يلبث أن هتف بهذه الكلمات بمجرد أن تراكمت الأوراق أمامه وكونت تلا هرميا تجري عليه الحروف الصغيرة والكبيرة والسوداء والحمراء كجيوش النمل الأبيض والداكن من كل الألوان ... وقعت عيناه على خليط يصعب تمييزه: أوراق سائبة دونت عليها ملاحظات ونصوص نثرية وشعرية منقولة عن كتب عديدة ودواوين لا حصر لها، حزم ورقية كدفاتر اليد الصغيرة على كل منها عنوان مختلف عن الآخر: مشروعات، مسودات قصص وحوارات نثرية وشعرية، لم تركتني (وتحتها عنوان فرعي: سيرة ذاتية لن تكتمل)، مختارات شعرية (وتحتها كذلك عنوان فرعي: تم العدول عنها مؤقتا)، قصص حاضرة وقصص مؤجلة لم تنضج بعد، خواطر كاتب حر (وبين قوسين: يصارع كل شيء ليكون حرا من كل شيء ...)، النسخة الأولى من الجحيم، مذكرات من وحي اللحظة (وعنوان فرعي شطب على أكثر كلماته: أو من وحي الغربة، الحرمان، الإحباط، المرارة، غدر العقارب اللعينة والذئاب والكلاب السمينة ...)، نصوص يمكن الاستفادة منها في أعمال مقبلة (كانت حزمتها هي أضخم الحزم وأغناها بالنصوص وبالحذف والشطب والمحو المتكرر)، بجانب الصفحات المنسوخة والملازم التي أخرجها قبل قليل وعرضها على النقيب حازم وهو يقول إنها قد تكون تجارب طبع لكتب قديمة تعيد نشرها مكتبات قديمة في الأحياء الشعبية العتيقة، وإنها ربما تدل على أن الميت كان يكسب خبزه اليومي من نسخ الكتب والمخطوطات أو من تصحيح تجارب الطبع أو منهما معا ومن أشياء أخرى لا يعلمها.
أسند عبد الحق رأسه إلى الجدار الرخامي البارد وأخذ ينظر إلى الأوراق المتناثرة كسائح متعب يتأمل أطلال مدينة أثرية ترامت على ساحتها الخربة صنوف وأشكال من الأحجار والنقوش ورءوس تماثيل مبتورة وبقايا أسوار هياكل ومعابد وأمكنة مفرغة من أزمنتها القديمة.
استراح قليلا ليلتقط أنفاسه ومد أصابعه ليلتقط الحزمة التي كتب على غلافها المطوي بخط كوفي منسق وبديع: لم تركتني؟ سيرة ذاتية لن تكتمل، نزع الخيط المطاطي الذي ربطت به وبدأ يتابع السطور والجمل التي تشبه عناوين مؤقتة لا تؤدي معنى مفيدا، مجرد علامات طريق أو إشارات وتنبيهات للذاكرة ومفاتيح لأبواب يمكن أن تفتح في المستقبل: المطرود أو المنبوذ أو الغريب أو الشريد، لا، لا، كلمات صاخبة ومثيرة للسخرية.
لا داعي للفجاجة المنتشرة في هذه الأيام، ربما يكون الأفضل: لم تركتني؟ على الرغم من إشارتها الواضحة إلى المسيح على الصليب، أنا أيضا تركت وتركت نفسي للجلادين من كل نوع.
الفصول الأساسية (1)
المطرود: الخروج من البيت ليلا على صراخ الأم ونباح الكلاب الفشل في التعليم الديني والتصميم على عدم إكماله ورفض العمل مع أبي وإخوتي، كيف وهبت حياتي للأدب مع علمي بأنني وهبتها للجوع والحرمان وتنكر الحياة والمجتمع. (2)
التوجه للمدينة والبحث عن عمل ومسكن. صديقي عبد البصير الذي سبقني إليها واستقر في العمل الصحفي يرشدني إلى مطبعة الهدى والنور ويوصي علي صاحبها العجوز البخيل. عذاب النسخ والتصحيح وضياع الوقت والعمر. (3)
ناپیژندل شوی مخ