فرد السجادة أمامه ولبث لحظات يتأمل الخيوط الحريرية الدقيقة المختلفة الألوان التي نقشت فيها الكعبة وحولها أمم المطوفين كأمواج البحر، وحاول بدوره أن يرد أن أمواج الماضي البعيد التي بدأت تلطم شواطئ وعيه المضطرب لكي يتفرغ للصلاة، لكنه شعر أنها لن تكون صلاة خالصة لوجه الله وأنها ستلقى في وجهه كالخرقة القديمة إن لم يخل ذهنه من كل ما خلا الله.
قعد على القماش الناعم وأخرج المسبحة وراح يصب من البئر القديم محاولا أن يفرغه مما فيه وفي أسرع وقت ممكن. كان تيار الألم يسري في كل أعضائه ويعكر كل نقطة في دمه. هل يستطيع أن ينكر ذنبه القديم؟ هل يبرئه هذا أمام من يعلم السر وأخفى؟ يوم أن زار أخته - ولم يمر على زفافها العام - وهو شيخ صغير يتلفع كالقزم المضحك في قفطان وجبة قصيرة فضفاضة ويضع على رأسه عمامة كورها له أبوه واعتنى بفرز الشراشيب الدقيقة التي تنزل منها كالأشعة البيضاء. كان محمود البكر ممددا أمامها تعصف به الحمى التي أعجزت الطبيب، وأخته تمر بيدها على جبهته وجسده الصغير المنتفض وتحس أنها تغلي كالملسوعة، ودموعها تسقط كزخات المطر في يوم شتوي عابس بالسحب الثقيلة التي لا تكف عن الهطول، وها هو يتذكر ما قاله لها مما سمعه من أستاذ الحديث والتفسير: اطمئني يا أختي وسلمي أمرك لعلام الغيوب، الطفل الذي يموت صغيرا يأخذ بيد أمه على الصراط. تقولين ما هو الصراط؟ ألا تقرئين مع كل صلاة:
اهدنا الصراط المستقيم ؟ إنه جسر فوق النار؛ فوق جهنم والعياذ بالله، يمر عليه الجميع، لا بد أن يمروا عليه في طريقهم إلى النار أو إلى النعيم. يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض. يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
آه يا عبد الهادي. كنت لا تتوقف عن الكلام وتلاوة ما حفظت من الآيات. تكرر ما قرأته وما سمعته من معلمك الذي ذهبت إليه لتسأله عن حال الأطفال يوم القيامة، يوم تزلزل الأرض زلزالها، ويصدر الناس أشتاتا، المعلم قال لك وأنت قلت لأختك، تذكر يا عبد الهادي ماذا قلت؛ إن أولاد المؤمنين في جبل الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة حتى يردوهم إلى آبائهم يوم القيامة. وأخذت تؤكد لها أن نبينا رأى إبراهيم عليه السلام في الجنة وحوله أولاد الناس، قالوا: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: «وأولاد المشركين.» وتنظر أختك إليك وهي تبكي، وتختلج في عينيها أضواء اليقين وظلال الشك، ثم تبتسم كأن نفحة من الجنة هبت عليها، ويرتعش جسدها وترتجف يداها وهي تمدها وتقول: تعال يا ولدي، تعال، تعال. وتستقبل موت الصغير بالسلام والتسليم، بل يخيل إليك أنها كانت تبتسم وتكاد تستحم في نور الأمل واليقين وهي تمد يديها إليه وتهتف به ونحن نخرج نعشه الصغير في طريقنا إلى الجبانة الصغيرة: تعال يا ولدي، تعال، تعال، لا تنس أمك
ويلتفت إليها فيخيل إليه أنها تبكي وتبتسم في وقت واحد وتكاد تند عنها الزغرودة الطويلة المجلجلة التي عرفت عنها.
آه يا عالية! كيف خرج هذا التاريخ القديم من بئرك القديم؟ كيف لم تنسه بعد أن تعطلت مراكز التفكير والإحساس والفهم والكلام؟
شعر أن ابنة أخته تنهنه باكية في ركن بعيد. لم يجد من المناسب أن يدخل معها في حوار أو يكرر عليها القصة القديمة والكلام المعاد. قام وكبر بالشهادتين وخطف الركعات الأربع وهو يحاول أن يلقى الله بقلب سليم، وبعد أن سلم طوى السجادة ووضعها على مائدة الصالة واتجه ناحية الباب. قامت الأرملة متثاقلة وهي تحاول إخفاء دموعها ونظرت إليه بعيون محتقنة من البكاء وهي تقول: لا تتأخر علينا يا حاج، توكل على الله مع ألف سلامة، إذا تكلمت بدرية وحسن فسلم عليهما كثير السلام. جمجم بكلمات مختلطة وهو يواصل ختم الصلاة وقبلها من خدها وهو يقول: شدي حيلك يا بنتي، جزاؤك عند الله كبير.
وقبل أن تغلق الباب وراءه خيل إليه أنه يسمع من وراء الباب الآخر صوتا واهنا يتسلل إلى أذنيه: تعال يا ولدي، تعال، تعال.
تائهة على الصراط (2)
1
ناپیژندل شوی مخ