وقد ذكر بعض المؤرخين أن هذا الوادي كان فيه نحو خمسين ديرا وقال آخرون: إنها أقل من ذلك. والموجود منها الآن لا يتجاوز عدد أصابع اليد أهمها: دير أبي مقار ودير الأنبا بشاي ودير البراموس. وأولها أقربها إلى الدلتا، ثم تتباعد حسب ترتيب ذكرها. وهي قديمة البناء ربما اتصل تأسيسها بالقرن الرابع للميلاد؛ أي عند شيوع الرهبنة في النصرانية مما لا محل لتفصيله هنا.
والذاهب إلى وادي النطرون لا يأمن الذهاب وحده في تلك البادية؛ خوف الضلال في الطريق وحذرا من أهل السطو، ولذلك لم يكن الناس يسافرون إلا مع القوافل جماعات، ولم يكن زكريا يجهل ما يعترضه من الخطر في السفر، فلما وصل إلى المحطة التي يبدأ منها الدخول في الصحراء غربا إلى وادي النطرون أخذ يبحث عن قافلة يسير برفقتها، فعلم أن ركبا يتأهب للمسير في الغد يحمل المئونة من الزيت والحنطة وغيرها إلى دير أبي مقار، ففرح لهذه الفرصة المواتية، وانخرط في سلكهم وكان معهم راهبان من رهبان الدير، فسألاه عن أمره فاضطر إلى أن يجعل قوله مطابقا لملابسه فقال: «إنني راهب من رهبان النوبة.» فقال الراهب: «أظنك قادما في مهمة إلى البطريرك ميخائيل؟» وتنحنح. فقال: «أطلب تقبيل يديه.»
فلما قال ذلك التفت أحد الراهبين إلى زميله وتبسم كأنه يلفته إلى شيء لحظه. فلما رأى زكريا تبسمه وإيماءه خاف أن يكون قد كشف أمره - ويكاد المريب يقول خذوني - لكنه تجلد والتفت إلى الراهب الذي ضحك وقال: «ما بالك تضحك أيها الأخ ألم تصدق قولي؟»
قال: «العفو يا أخي. ليس هذا غرضي معاذ الله أن أشك في قولك ولكنني ضحكت لأمر تذكرته وقع من عهد غير بعيد، وإذا كنت قادما من النوبة الآن فأنت جدير بمعرفته.»
وخشي زكريا أن ينكشف أمر تنكره فابتسم وأغضى كأنه يعرف السر ويود السكوت عنه، واكتفى بأن تحقق وجود البطريرك ميخائيل هناك. وسكت الراهبان وقضوا ذلك اليوم في الاستعداد، وأقلعوا في صباح اليوم التالي ومعهم الخدم لسوق الجمال أو البغال وكلها للدير وهي تحمل جرارا من الزيت وأكياسا من الحنطة والعدس والفول وبعض الأقمشة وغير ما عليها من الأقوات والماء للطريق.
وما تبطنوا الصحراء حتى أصبحوا في قفر يكتنفهم الرمل والصخور من كل ناحية كما يكتنف الماء المسافرين في البحار من كل الجهات. والمسافر في البادية إذا أوغل فيها لا يرى حوله إلا رمالا ومن أجمل مناظر الصحراء في النهار منظر السراب أو الآل الذي يتراءى للناظر عن بعد كأنه ماء يجري في نهر أو بحر ويرى ظلال الشجر أو الصخور في أسفل الماء كما تنعكس عن شواطئ البحور فيراها المقبل عليها من بعد.
ولم تكن هذه المناظر غريبة على زكريا؛ فقد طوى البادية مرارا، ورأى السراب وقاسى العذاب في شبابه، ولكنه لم يكن قد زار دير أبي مقار قبل ذلك الحين ولا عرف الطريق إليه فكان معوله على رفاقه، ورآهم في قلة من الرجال فقال لهم وهم يسوقون هجنهم ضحى ذلك اليوم لا يسمع لها خطو على الرمال: «أراكم في قلة وعهدي بالقافلة إذا لم تكن قوية أن يخشى عليها من قاطعي الطريق.»
فقال أحد الراهبين: «كان ذلك قبل إمارة ابن طولون؛ فإنه أحسن الظن بالأقباط ومنع التعدي عنهم، فأصبح الواحد - أو الاثنان - يسافران منفردين ولا خوف عليهم .»
فقال زكريا: «صدقت، إن حال مصر في ظل هذا الأمير لم يسبق لها مثيل منذ أول الفتح.»
استراح أهل القافلة عند الأصيل قليلا، ثم استأنفوا المسير حتى أقبل المساء، فنصبوا خيمة خفيفة للمبيت فيها وجلسوا للطعام وقد دنت الشمس من الأفق وأخذت تستطيل حتى صارت كمثرية الشكل واحمر لونها وأحاطت بها هالات من الشفق باهرة الألوان مما يسحر العقول. ولو كان أهل القافلة من الشعراء لوقفوا مبهوتين لهيبة الطبيعة ولخيل إليهم أنهم يسمعون خطيبا يعظم أمر الخليقة ويستعظم سرها. ولا يخطر للإنسان عظمة هذا الكون وكبر شأنه إلا إذا خلا في موقف طبيعي مثل هذا. أما في المدن فتشغله الجواذب والدوافع ويلهو بملذاته ومطامعه. ولكن أصحابنا الرهبان لم يكونوا من الشعراء ولا لفت ذلك المنظر انتباههم وإنما شغلهم تعبهم عن كل شاغل فلجئوا إلى الرقاد على أن يقلعوا في الغد فيصلوا إلى دير أبي مقار قبل غروب الشمس.
ناپیژندل شوی مخ