وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فلما رأى الظلال تستطيل انتبه واستوحش وعاد إلى صوابه فقال في نفسه: «لا يفيد البكاء في مثل هذه الحال. وعلي أن أعمل عملا وأن أسعى في إنقاذ دميانة. ولكن كيف أنقذها؟ أأذهب إلى سعيد أخبره بما أصابها وأستنجده؟ وماذا ينفع استنجاده؟ إنه لا يستطيع شيئا حتى ابن طولون نفسه لو أراد أن ينجدني وجرد جيشا على البجة لما جاءني بنفع فإن هؤلاء الأفاقين خارجون على الحكومة من عهد بعيد ولم تقو دولة على إخضاعهم؛ إذ اتخذوا من الصحراء مأوى لا يستطيع أحد الوصول إليهم فيه!»
ومر في ذهنه ماضي أيامه إبان شبابه في بلدة النوبة، وتذكر ما لملك النوبة من السطوة المهابة في قلوب البجة فقال: «لا ينجدني في هذا الأمر إلا ملك النوبة، ولكن أين هو وأين أنا منه؟ إن بيننا مراحل عديدة، ثم هو يعرفني ولا ينجدني!»
وكان يناجي نفسه وهو راجع عن تلك الأكمة نحو حلوان، فلم يجد خيرا من أن يعود إلى الفسطاط إلى الخان وفيه ثيابه وفرسه، ثم يرى ماذا يعمل. فمشى وهو لا يبالي التعب وقد أظلمت الدنيا، فجعل طريقه على ضفة النيل ولا شيء يلهيه عن التفكير في إنقاذ دميانة من مخالب أولئك اللصوص.
خرج من حلوان وهو في لباس بدو النوبة كما كان عند خروجه من القطائع، ومشى مشتت الأفكار، فوقع بصره على أنوار عند سفح المقطم على أنها في قبة الهواء. فتذكر موقفه مع دميانة وتذكر - للحال - صديقه في المسجد القائم هناك وكان قد مر به قبل ذهابه إلى حلوان وهو يعرف فيه الاطلاع على أحوال البجة وسائر أهل الصحراء، فخطر له أن يذهب إليه ويستشيره في الأمر لعل له وسيلة قريبة تنيله مراده. فعرج على المقطم. وما صعد حتى أتى المسجد، فلاقاه صديقه وأنكره لأول وهلة، ثم تعارفا فدعاه إلى الجلوس، فجلسا لدى باب المسجد، فسأله صاحبه عن حاله فأخبره أنه ترك دميانة عند صديقه العربي في حلوان، وجاء الفسطاط في مهمة ولما رجع رأى البجة قد سطوا على البلد وقتلوا من قتلوه وفر الباقون، وأنهم أخذوا دميانة سبية إلى أن قال: «هل تعرف شيئا عن هؤلاء البجة وأين يقيمون ومن هو زعيمهم؟»
قال: «إن زعيمهم اليوم رجل يقال له أبو حرملة.»
فصرخ زكريا: «أبو حرملة؟ فرج النوبي ابن بلدنا؟»
قال: «كلا. ليس هو الرجل الذي تعنيه، ولكنه تسمى باسمه تشبها بالشجعان ولف حوله عصابة من قومه وجعل ديدنه السطو على أطراف مصر ينهب ويقتل، ولم يسبق له أن سطا على حلوان قبل الآن.»
فتنهد زكريا وقال: «لعله فعل ذلك لسوء طالع تلك الفتاة التقية. وأين تظنهم يقيمون الآن؟»
قال: «يقيمون؟ لا أعرف لهم مقاما؛ لأنهم قوم رحل يعيشون على الغزو والسطو.»
قال: «وما رأيك الآن. كيف العمل يا صاحبي؟ إني أراني في حيرة. كيف يمكنني إنقاذ هذه الفتاة، فقد اؤتمنت عليها وعاهدت نفسي أن أقوم بخدمتها ورعايتها. وقد أخذت أثناء غيابي ويا ليتني كنت حاضرا ساعة السطو؛ فكنت أنقذها أو أقتل في سبيل ذلك فأذهب مرتاح الضمير.» قال ذلك وغص بريقه وأجهش في البكاء.
ناپیژندل شوی مخ