وفيما هو في ذلك رأى الناس يومئون إلى مجلس الوالي، ويشيرون إلى رجل دخل عليه، فعرف من لباسه وقيافته أنه المعلم حنا كاتب المارداني. ورأى بيده درجا ملفوفا بمنديل من الحرير. ورأى ابن طولون قد انصرف بكليته إليه، وأمره أن يقعد على وسادة بجانبه فقعد متأدبا واستأذن في اطلاعه على ما في الدرج ثم حله وبسطه وأخذا يتحادثان ويتنافسان فيما يحويه الدرج. ولحظ زكريا أن المعلم يحاول إقناع ابن طولون بشيء محطوط في الدرج وهو لا يقتنع. وما لبث حتى حول وجهه عنه، وأخذ في مشاهدة الجماهير ولسان حاله يقول: «هذا لا يعجبني والسلام.»
ولم يعلم زكريا شيئا عما في ذلك الدرج، ثم رأى الناس يوسعون لخارج من القصر فتنحى والتفت، فرأى المعلم حنا خارجا وبجانبه ابنه إسطفانوس متأبطا اللفافة، فسار خلفهما من حيث لا يشعران. لعله سمع شيئا حتى إذا أتيا مفترقا من الطريق قال المعلم حنا لابنه: «ماذا تعمل له؟ ما أظن في الدنيا أحدا يستطيع إجابة طلبه. جامع بلا أعمدة؟ هذا أمر غريب؟»
فسأله إسطفانوس: «أتريد أن يبني جامعا بلا أساطين؟»
قال: «نعم. قد استشرت أمهر المهندسين في الفسطاط، ومنهم من تعلم في القسطنطينية أو تخرج في بغداد. وقد شهد الناس لهم بالمهارة، وهذه الخريطة عليها رسم جامع من أجمل ما بلغ إليه إمكانهم. فلم يعجبه؛ لأنه يريد بلا أساطين.»
فقال إسطفانوس: «ولماذا لا يفعل كما فعل عمرو بن العاص في بناء جامعه؟»
فقطع حنا كلامه قائلا: «إن أميرنا عمد إلى هذا الطراز حتى يتجنب ما وقع فيه عمرو.»
فهز إسطفانوس رأسه وظل ماشيا في طريقه. أما زكريا فبعد أن سمع ما سمعه من الرجلين عاد إلى موقفه وقد فتح له باب الفرج ورأى الطريق الذي يمكنه من الوصول إلى إنقاذ سعيد وعاد إلى الأمر الذي جاء له. وتذكر دميانة ولهفتها على رجوعه فافتقد الأنبوب فوجده في مكانه فاطمأن؛ لعلمه أنه مهما يبلغ من قلق دميانة واضطرابها ففي هذا الأنبوب ما يخفف عنها.
حتى إذا انقضى وقت الصدقة وقد آذنت الشمس بالمغيب أغلقت الأبواب ونهض ابن طولون عن مجلسه فانصرف الناس وذهب زكريا إلى خان بات فيه. وفي الصباح التالي تنكر بلباس نوبي قادم من سفر يشكو من فكه الأسفل فربطه رباطا كالخمار يحجب معظم رأسه والتف بشملة من نسيج القطن الأبيض المعروف بالدمور ومشى حافيا مشية غريبة يدهشه كل شيء مبالغة في التنكر حتى لا يعرفه إسطفانوس لو رآه، فلما أتى باب القصر سأل الحراس الواقفين به عن الوالي أين يكون فقال له أحدهم: «إنه ينظر اليوم في المظالم.»
ولم يكن زكريا يعرف تلك العادة؛ لأن ابن طولون أول من نظر في المظالم من أمراء مصر، ولم يكن يفهم المراد من المظالم والنظر فيها، فاستفهم الحرسي قائلا: «وما معنى هذا عندكم؟»
فقال الحارس: «يظهر من لباسك وقيافتك أنك غريب عن الديار فاعلم يا صاحبي أن مولانا الأمير، لرغبته في راحة رعيته وخوفا من أن يعتدي أحد من عماله أو كتابه أو رجال حكومته على أحد الناس فيظلمه أو يؤذيه، قد خصص - حفظه الله - يومين في الأسبوع لسماع شكوى المتظلمين بنفسه وإنصافهم.»
ناپیژندل شوی مخ