فأصبح الأقباط في ذلك اليوم وهم يرون الجند وغير الجند يدخلون منازلهم للتفتيش، وأكثرهم يتخذون تلك الحجة ذريعة لدخول المنازل أو الكنائس أو الأديرة لينهبوا ما تصل إليه أيديهم من المال أو الأثاث، فضج الناس وعلا الصياح وأخذ القوم يتساءلون: «هل عاد زمن الظلم والاضطهاد والنهب والقتل.» وكانوا يحسبون أن ابن طولون قد كفاهم مئونة ذلك ونشر الراحة والطمأنينة في ربوعهم وأمنهم على أرواحهم وأموالهم ولم يقنعهم ما كان يقوله الشرطة من أنهم يفتشون عن سارق هرب واختبأ، فإنهم كثيرا ما كانوا يقاسون الاضطهاد والنهب بهذه الحجة.
وكان مرقس وإسطفانوس يرافقان الشرطة إلى بعض الأماكن القريبة التي يظنان أن دميانة لجأت إليها ويحرضان الجند على التفتيش وهؤلاء لا يبالون إلا النهب فقاسى الأقباط في الفسطاط وبابلون وضواحيها من العذاب والاضطهاد والخوف ما لم يقاسوه من عهد بعيد. فوقع الرعب في قلوب الناس وركب بعض وجوههم إلى ابن طولون يشكون إليه ما أصابهم فغضب وبعث إلى صاحب الشرطة أن يرجع رجاله عن التعدي ففعل ولم يقفوا على أثر لدميانة وخادمها. •••
كانت دميانة قد فرت مع زكريا إلى مكان أعده لها أثناء غيابه عنها في أصيل اليوم السابق؛ وذلك أنه لما رأى أباها والأسقف قد أخذا في مخاطبتها علم أنهما أتيا لإتمام الإكليل، فذهب إلى صديق حميم له من أهل بلدته كان قد اعتنق الإسلام وأقام بجوار المسجد الذي بناه ابن طولون على المقطم قبل بناء مسجده المشهور. وإنما اختار هذا المكان؛ لبعده ولعلمه أن الشرطة لا تبحث عنهما في المسجد وعاد إلى دميانة في المساء وأخبرها أن لا بد من الفرار، فأخذت أعز ما لديها وخرجا في العشاء من الدير بحجة زيارة كنيسة أبي سرجة - كما تقدم - وكان زكريا قد أعد جوادا لدميانة وركب هو حمارا حتى إذا خرجا من المحلة ألبسها عباءة وجعل على رأسها غطاء يشبه العمامة مما جعلها تظهر بمظهر الرجال. وساق حماره أمامها حتى نزلا المكان المعهود، فتلقاهما صاحبه بالترحاب.
وباتا ليلتهما وفي الصباح لبثا ينتظران ما يكون فما لبثا أن سمعا بمجيء الجند ودخولهم منازل النصارى لنهبها بحجة التفتيش عن ضائع أو هارب. وأطل زكريا على الطرق فرأى الجند يدخلون البيوت بالقوة فخاف أن يصل أحد إلى مقره، فرأى من الحكمة الانتقال إلى مكان آخر.
وكان له صديق عربي في حلوان اسمه «قعدان» أصله من أهل البادية ويقيم بمنزل وهبه عبد العزيز بن مروان لأجداده منذ وجه عنايته إلى تعمير تلك البلدة في أثناء إمارته على مصر. وانتقل ذلك المنزل في أعقابه إلى رجل عرفه زكريا من سنين عديدة وله معه صداقة وثيقة العرى، فرأى أن يلجأ إليه؛ ولا سيما لأنه يقيم مع عائلة فيها أمه وامرأته فتستأنس دميانة بهما، فإذا غاب عنها في مهمة كان مطمئنا عليها، فودع صاحبه وركب مع دميانة إلى حلوان عبر الصحراء، وقالت له دميانة: «تراني يا زكريا قد سلمت قيادي إليك أذهب معك حيث تريد لا أسألك عن السبب.»
قال: «كوني على يقين يا سيدتي أني أتفانى في سبيل راحتك، ولا تجزعي؛ فأنا ساع في كل ما يرضيك.»
قالت: «إلى أين نحن ذاهبون الآن؟»
قال: «إلى حلوان، وهو بلد طيب الهواء بعيد عن مظان الباحثين، وسترين هناك عائلة تستأنسين بها وترتاحين إليها؛ فإنها عربية بدوية.»
قالت: «وبعد ذلك؟»
قال: «بعد ذلك؟» وأطرق ثم قال: «إن الفرج سيأتينا ولا بد من انتظاره ولا بد لي - على كل حال - من الغياب عنك يوما أو يومين لأمر لا بد لي من قضائه، ثم أعود إليك، وعسى أن أبشرك بالفرج بعد قليل.»
ناپیژندل شوی مخ