فتغيرت سحنة مرقس وبدا الاضطراب عليه، وتلعثم لسانه والحضور يتسمعون لسماع دعواه، ولما أبطأ تقدم زكريا، فقال: «أستأذن سيدي الأمير في أن أنوب عن المعلم مرقس في الكلام.»
فقطع مرقس كلامه قائلا: «من أنابك عني؟ أنا أتكلم عن نفسي.»
فسكت زكريا وتراجع ودميانة واقفة وقلبها يخفق؛ شفقة على أبيها وطال سكوت مرقس فقال زكريا: «للمعلم مرقس شريك في الدعوى فليأمر الأمير بإحضاره.»
قال: «من هو؟»
قال: «إسطفانوس ابن المعلم حنا كاتب الخراج.»
فأمر ابن طولون بإحضاره، فجاءوا به، وأوقفوه بجانب المعلم مرقس، ولم يفتح عليه هو أيضا بالكلام، واعتذر بألم أصابه يمنعه من التكلم، فأمر ابن طولون بإجلاسه والتفت إلى زكريا وقال: «قل يا أسمر ما تعرف من أمر هذه القضية؟»
فتقدم زكريا وأخذ الأسطوانة بيده، وقال: «إن الخصام كله على ما في هذه الأسطوانة، وهي رق مكتوب لمصلحة هذه العذراء الطاهرة ابنة المعلم مرقس، فقد ماتت والدتها وهي طفلة، وكانت لها مربية، وأظنكم تعرفونها وهي مارية القبطية صاحبة قرية طاء النمل التي مر بها الخليفة المأمون عند زيارته مصر، وبالغت في إكرامه، وكان المأمون لما شرفها بالضيافة قد أهدى إليها بعض الجواري والخصيان وأنا منهم، فقد كنت خصيا حملت إليه هدية من ملك النوبة مع خصيان آخرين. وربيت في منزلها وكان اسمي إبراهيم، فسمتني زكريا، فلما ولدت امرأة المعلم مرقس هذه الفتاة سمتها دميانة باسم القديسة دميانة، وكانت مارية - قدس الله روحها - تعرف سفه هذا المعلم وفسقه، فأرادت أن تضمن لابنته الصغيرة مستقبلها فوهبتها قرية طاء النمل وقرى أخرى بقربها، وكتبت بذلك صكا مسجلا حفظته في هذه الأسطوانة.» قال ذلك واستأذن ابن طولون في فض الختم، فأذن له ففضه وأخرج رقا مكتوبا بالقبطية دفعه إلى الكاتب وطلب إليه أن يترجمه إلى العربية وكان فيه ما يلي:
إن مارية القبطية وهبت ابنتها بالروح دميانة بنت المعلم مرقس قريتها طاء النمل كلها وما يلحقها من المغارس، وتدار هذه القرية بإرشاد أبيها، ولا يحق له أن يتصرف فيها، فإذا بلغت ابنته رشدها وتزوجت؛ آلت إدارتها إليها، ورفعت يد أبيها عنها ... إلخ.
وكان الحضور يسمعون ما يتلوه الكاتب وعيونهم على مرقس، وهو مطرق والعرق يتقطر من وجهه، وصدره يعلو ويهبط من عبر تنفسه فلما فرغ الكاتب من القراءة قال ابن طولون: «ألا يوجد شهود؟»
قال الكاتب: «نعم يا سيدي، إني أقرأ اسمي ميخائيل ومنقريوس.»
ناپیژندل شوی مخ