ولكنه لم يكاد يطمئن في مجلسه حتى غاب عن نفسه، أو غابت عنه نفسه، وكأن النوم كان ينتظره خلف هذا المجلس، فلم يكد يستقر فيه حتى مد إليه ذراعيه فطوق بهما عنقه في رأفة ورحمة وحنان، وإذا هو مغرق في رقاد عميق لذيذ لا يدري الملك أطال أم قصر، ولكنه أفاق مذعورا للمرة الثالثة، فمد بصره ومد سمعه، ثم لم يلبث أن ضرب إحدى يديه بالأخرى، ففتح الباب، وأسرع الحرس وفي أيديهم المصابيح، قال الملك: «هل أنكرتم شيئا؟» قال قائد الحرس: «لم ننكر شيئا يا مولاي.» قال الملك في صوت فاتر متكسر: «هذا غريب! إني لمؤرق منذ الليلة.»
ثم نهض ومضى متثاقلا حتى خرج من غرفته والحرس يتقدمونه ويتبعونه، وهو يسعى هادئا لا يقول شيئا ولا يلتفت إلى شيء، حتى بلغ ذلك الجناح من القصر حيث كانت غرفات الملكة، فمضى أمامه وعاد حراسه إلى أماكنهم، وانتهى شهريار إلى غرفة الملكة، فدخل دون أن يلتفت إلى هؤلاء الأحراس الذين أدهشهم مقدم الملك في هذه الساعة المتأخرة من الليل، ولكنهم لم يقولوا شيئا، وما كان لهم أن يقولوا شيئا، وأكبر الظن أن شيئا من العجب قد ظهر على وجوههم، وفي النظرات القصيرة السريعة التي كانوا يتراشقون بها ويختلسونها إلى الملك اختلاسا.
وأغلق الملك من ورائه باب الغرفة في رفق شديد، وسعى في هدوء أي هدوء إلى سرير الملكة يمشي على أطراف قدميه، فلما بلغه نظر إلى الملكة نظرة طويلة؛ فإذا هي مغرقة في نوم حلو، واستمع إلى تنفسها فإذا هو منتظم هادئ، وإذا الملكة لم تحس شيئا ولم تشعر بمقدم هذا الشخص الذي انسل إلى غرفتها في رفق كما تنسل الأفعى، على غير ما جرت به تقاليد القصر، ثم تراجع الملك شيئا حتى انتهى إلى مجلس من مجالس الغرفة، فأهوى إليه رفيقا حريصا على ألا يحدث حسا ما، وعلى ألا يزعج الملكة عن نومها، فلما اطمأن به مجلسه أطرق كأنما ينتظر شيئا، ولكن انتظاره لم يكن طويلا؛ فهذا صوت شهرزاد يبلغ أذنيه فيملؤه رعبا وفرقا ويكاد يخرجه عن طوره، لولا أنه يذكر شيئا فيثوب إلى نفسه في اللحظة الأخيرة ويطمئن في مجلسه مادا عينيه في الفضاء مصغيا إلى هذا الصوت الذي يسعى إليه من قبل شهرزاد صافيا نقيا، كأنه صوت ذلك الغدير الذي أحب الملك أن يجلس إليه حين تؤذن الشمس بالغروب، فيسمع إلى غنائه العذب وهو يداعب الحصى، وكأنما أسكره هذا العرف الذي تهديه إليه من شاطئيه جميعا أنفاس الورد والنرجس والياسمين.
2
وكان هذا الصوت الحلو يقول في نغمات موسيقية نفاذة إلى القلوب أخاذة للنفوس لم يعرفها الملك حين كانت شهرزاد تقص عليه أحاديثها مستيقظة: بلغني أيها الملك السعيد أن طهمان بن زهمان ملك الجن في حضرموت كانت له فتاة حسناء رائعة الحسن بارعة الجمال، لا تثبت القلوب للحظاتها إذا نظرت، ولا تثبت النفوس لصوتها إذا تكلمت، وكانت على حسنها الرائع وجمالها البارع ذكية القلب نافذة البصيرة، قد قرأت كتب الأولين وعرفت حكمة المحدثين؛ فلم يكن شيء يستغلق عليها، ولم يكن حكيم يثبت لحديثها أو يقدر على مناظرتها، وكان ملوك الجن في أطراف الأرض التي يسكنها الناس وفي أطراف الأرضين التي ليس للناس بها عهد، قد تسامعوا بجمالها وذكائها وما أتيح لها من فطنة وفتنة، وتسارعوا إلى أبيها الملك طهمان يخطبونها إليه ويحكمونه فيما يخضع لهم من الممالك والأقاليم: هذا يقدم إليه أقاليم البحر، وهذا يقدم إليه أقاليم البر، وهذا يقدم إليه أقاليم الجو إلى قريب من مواقع النجوم، ولكن طهمان بن زهمان كان يجيب هؤلاء الملوك جميعا بجواب واحد لا يتغير: «ما كان لي أن أقضي في أمر فاتنة بغير ما تريد! فأمر فاتنة إلى فاتنة، فأيكم أراد أن يتخذها لنفسه زوجا فليخطبها إلى نفسها. وأيكم ظفر منها بالرضا فله ملك أبيها مهرا.»
ولكن فاتنة كانت غريبة الأطوار، بعيدة الآمال، عظيمة الأطماع، قد زهدت في ملوك الجن جميعا واستيأست من حياة الجن جميعا، فردت خطابها مخذولين مدحورين، لم تمنح واحدا منهم ابتسامة، ولم تهد إلى واحد منهم نظرة فيها شيء من الرفق، وإنما كان ردها لهم عنيفا يملؤه السخط والازدراء، ويصدر عن نفس شديدة الكبرياء، لا تؤمن بأحد ولا تطمئن لأحد ولا تستريح إلى أحد، نافرة دائما، جامحة دائما، ساخرة إلى حين كانت تتحدث إلى أبيها، فهو وحده الذي كان يظفر منها بالوجه المشرق والثغر الباسم والنفس الراضية، وكان أبوها أول الأمر معجبا بهذه الكبرياء، فخورا بهذا الإباء، محبا لهذا الامتناع ؛ لأنه كان يرفعه فوق ملوك الجن درجات، ولأنه كان يمسك عليه ابنته في قصره، وكان يؤثر ابنته بحب لم يجده أب لابنته قط، وكان يؤثر نفسه بقرب هذه الفتاة الفاتنة، وكان يرى في امتناعها على الخاطبين فسحة في الوقت الذي أتيح له فيه أن ينعم بقرب ابنته، والأوقات عند الجن - أيها الملك السعيد - لا تحسب بالساعات والأيام، ولا تحسب بالشهور والأعوام، وإنما تحسب بالقرون المتتابعة والأحقاب المتلاحقة. فلما مضت آلاف السنين على فاتنة وهي تمتنع على ملوك الجن وأولي البأس منهم في البر والبحر والجو، وكانت كلما تتابعت القرون ازدادت حسنا إلى حسن، وجمالا إلى جمال، وفتنة إلى فتنة؛ أقبل عليها أبوها ذات يوم أو ذات قرن فقال لها: «يا ابنتي، إنك تعلمين أن أبا من الآباء لم يحبب قط ابنته كما أحببتك، كما أني أعلم أن فتاة من الفتيات لم تحبب قط أباها كما أحببتني، وأنك لتعلمين أني سعيد بامتناعك على خطابك من ملوك الجن؛ أرى في ذلك تعاليا عليهم وإرضاء لكبريائي، وأرى في ذلك - قبل كل شيء - حبا منك لي وإيثارا منك لأبيك بالمودة والحب، ولو استطعت لمضيت في تشجيعك على هذا الامتناع وإغرائك بهذا الإباء؛ ذلك أحرى أن يكفل لي السعادة وأن يضمن لي النعيم إلى آخر الدهر، ولكن لكل شيء يا ابنتي غاية يقف عندها وأمدا ينتهي إليه، وقد بلغت سعادتي بقربك أقصاها وانتهت إلى غايتها، وآن لنا أن نفترق، فقد علمت يا ابنتي أن أحدنا من أجيال الجن إذا أتم من عمره خمسة عشر ألفا من السنين وجب عليه أن يستعد لفراق الأحياء، وأن ينتظر هذه اللحظة الرهيبة التي يستحيل فيها إلى قبس من نار يمتزج بهذه الجذوة الهائلة التي يدور عليها الكون والتي تنضج حياة الأحياء، وقد بلغت يا ابنتي ستة عشر ألفا من العمر، وأخذت أحس أني أتحول نارا شيئا فشيئا، وما أحب أن أتركك وحيدة؛ فاختاري لنفسك أحب هؤلاء الملوك إليك أو أقلهم إلى نفسك بغضا.»
قالت فاتنة: «فإني لا أحب منهم أحدا، ولا أبغض منهم أحدا، وإنما أزدريهم جميعا، وإذا فلن أختار منهم أحدا.»
قال طمهان بن زهمان: «فإني لا أكره يا ابنتي أن تمتنعي عليهم وأن تعيشي وحيدة، تدبرين أمر هذا الملك بحكمتك وفطنتك لولا أني قد علمت الآن ما يملأ نفسي قلقا وخوفا على قلة ما يعتادني القلق ويبلغني الخوف.»
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح، وهم الملك شهريار أن يتكلم، وهم أن يأتي من الحركات ما كان خليقا أن ينبه النائمة، ولكنه ذكر شيئا في اللحظة الأخيرة، فانسل من الغرفة في هدوء كما انسل إليها.
ولم يكد ينتهي إلى غرفته حتى دعا إليه قواد الحرس الذين يقومون دون غرفته ودون غرفة شهرزاد، فلما مثلوا بين يديه قال لهم في صوت مهيب رهيب: «إن بقاء رءوسكم في أماكنها رهين بأن يجهل الناس جميعا، والملكة في أولهم، ما كان منذ الليلة، فلا أعلمن أن أحدا قد عرف خروجي من هذه الغرفة والرجوع إليها، وإني أقسم لا ينتهي إلي ما يدل على ذلك أو يشير إليه إلا ضربت أعناقكم جميعا، وقد تعلمون أني لا أوعد إلا تحقق الوعيد.» قالوا جميعا: «فإنا لا نعلم أن مولانا قد خرج من غرفته أو عاد إليها، وما نكاد نفهم من حديث مولانا شيئا، ولولا أن علينا أن نأتمر وليس لنا أن نسأل لاستوضحنا مولانا بعض ما يقول!» قال الملك: «أرى أنكم قد فهمتم عني ما أريد، فانصرفوا راشدين.»
ناپیژندل شوی مخ