وهم قد أقبلوا حائرين ثائرين يقولون بصوت واحد ولسان واحد: «هذا هو السحر أيها الملك! هذا هو السحر الذي لم يعرفه قبل اليوم أحد من الجن ولم يعرفه قبل اليوم أحد من الناس.»
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.
وهم شهريار أن يفكر فيما سمع من هذا القصص الغريب، ولكنه لم يصل إلى ما أراد من ذلك؛ فقد أحس نفسه ثقيلة عليه لا يستطيع تحريكها إلى التفكير، وأحس جسمه ثقيلا عليه لا يستطيع دفعه إلى النشاط، وأحس كأن نفسه قد ثبتت في مكان بعينه لا تستطيع أن تجوزه، وكأن جسمه قد ثبت في مضجعه فهو لا يستطيع أن يأتي فيه حراكا، وأحس مع ذلك زورقه ذاك يضطرب به اضطرابا خفيفا هينا على الماء، كأنه أرجوحة الطفل تضطرب به اضطرابا خفيفا لتدفعه إلى النوم. وأحس مع هذا كله ذلك الجو الموسيقي الغريب هادئا حلوا رفيقا يدنو منه هونا ما، وينأى عنه هونا ما، كأنه النسيم الهادئ يداعب صفحة البحيرة في تأنق وترفق وظرف، ثم ينأى الملك من نفسه أو تنأى عن الملك نفسه، ويخيل إليه على هذا كله كأنه يرى فيما يرى النائم أنه في زورق جميل خفيف يسبح به وبشهرزاد النائمة منه غير بعيد في الماء والضوء والموسيقى والغناء جميعا.
6
على أن غناء عذبا يبلغ سمعه كأنه ترتيل الملائكة - لو أن للناس أن يسمعوا ترتيل الملائكة - فلا يكاد يمس سمعه حتى ينتهي إلى نفسه الشاعرة فيوقظها في أناة ويستلها من النوم في لطف، كما كان أبو نواس يستل من الدن روحه في لطف، وإذا الملك يفيق من نومه، ولكنه يمسك نفسه في هذا السكون الذي كان فيه قبل أن يخرج من النوم، كأنه كان يريد أن يستبقي حلاوة هذا الغناء.
وكان يظن، كما يظن الحالم حين يستيقظ، أنه يغالط نفسه ويغالط النوم، وأن اليقظة ذاهبة بلذة أحلامه لا محالة، ولكنه مع ذلك يسمع هذا الغناء العذب، ويحس موقعه من قلبه، ويتبين الأصوات التي تحمله والألفاظ التي تحويه، وكأن هذه الأصوات كانت تصدر عن هذه الأمواج الصغيرة التي كانت تصطفق من حوله وتداعب زورقه هذا الغريب، وكأن هذه الأمواج كانت تدعوه بصوتها ذلك العذب قائلة في لغة فارسية رقيقة حلوة: «أفق أيها الإنسان السعيد لتستمتع باليقظة كما استمتعت بالنوم، ولتنعم بالشعور كما نعمت باللاشعور. أفق أيها الإنسان السعيد؛ فما أقل الذين تتاح لهم السعادة في حياتهم هذه القصيرة! خذ حظك منها حريصا عليه كلفا به؛ فإنك لا تدري متى تفارقك أو متى تفارقها ؛ كما أنك لم تدر كيف لقيتها أو كيف لقيتك. أفق أيها الإنسان السعيد؛ فإن أخص ما تمتاز به السعادة أن الذين ينعمون بها لا يدرون أأيقاظ هم أم نيام.»
ثم يبعد الصوت، ويتضاءل الغناء، ويتسمع الملك؛ فلا يسمع إلا اصطفاق الأمواج هادئا ناعما رفيقا، كأنه صوت الحرير يمس الحرير، ثم ينظر الملك فيرى شهرزاد في سريرها غير بعيد وعلى وجهها ابتسامة حلوة وإشراق رائق وغبطة لا سبيل إلى وصفها، وهي تمد إليه عينيها كما يمد إليها عينيه، تريد أن تقول له صامتة ما كان يريد أن يقول لها صامتا: ما أعذب هذا الصوت وما أجمل هذا الغناء! ولكنها لا تقول شيئا، كما أنه هو لم يقل شيئا، وإنما تركت عينيها ممدودتين إليه كما ترك هو عينيه ممدودتين إليها.
ثم نمضي لحظات طوال أو قصار، وإذا الملك يستوي جالسا في نفس الوقت الذي تستوي فيه شهرزاد جالسة، وإذا الملك ينهض قائما في نفس الوقت الذي تنهض فيه شهرزاد قائمة، وإذا الملك يسعى خطوات قصارا كما تسعى شهرزاد خطوات قصارا، وإذا العاشقان يلتقيان فيتعانقان، فيغيبان في قبلة عرفا أولها ولم يعرفا آخرها، ثم يفيقان، وإذا الزورق ينساب بهما في نهر ضيق هادئ كأن مياهه قد ثبتت في مجراها، وقد كسي شاطئاه عن يمين وشمال عشبا أخضر كثيفا كأنه السندس. وينظران فإذا جماعات من الفتيات ينحدرن مسرعات عن يمين وشمال إلى النهر يحيين بالزهر النضر والأغصان الخضر ويدعون العاشقين أن هلم فقد بلغتما جزيرة النعيم.
ويرسو الزورق في مرسى قد هيئ له، ويصعد منه العاشقان صامتين، ولكن البهجة تغمر وجهيهما وتنطق عن قلبيهما بما لا تستطيع أن تنطق به الألسنة أو يصوره البيان المبين، وقل ما شئت والتمس عند القائلين ما أحببت من وصف الجنات الرائعة والرياض البارعة والحدائق الملتفة والغابات المتكاثفة والأزهار المنسقة والغدران المصفقة، فلن تبلغ مهما يكن حظك من ذلك وصف هذه الجزيرة التي ارتقى إليها العاشقان حين صعدا من زورقهما ذاك صامتين لا يقولان شيئا.
وكيف تريدني على أن أصف لك ما لا يوصف، أو أن أصور لك ما لا سبيل إلى تصويره. لقد انعقد لسان شهريار لأنه أحس وعجز عن تصوير حسه، وانعقد لسان شهرزاد لأنها شعرت وعجزت عن تصوير شعورها، ومع ذلك فما أكثر ما قال الملك بعينيه لشهرزاد! وما أكثر ما قالت شهرزاد بعينيها للملك!
ناپیژندل شوی مخ