وليس من العدل أن نقول: إن كل التعليم يجري الآن بواسطة القلم والورق، والحق أنه لو كان كذلك لما تقدم الطب ولا الهندسة، فلقد كان الطبيب العربي يقصر علمه في الأمراض على ما تعلمه بالقلم والورق. وكان الخلفاء يمنعون الأطباء من التشريح؛ فبقي الطب لعبة سخيفة في أيدي المشعوذين، وكان علم القرون الوسطى يجري على هذا النحو أيضا، فلما كانت النهضة الأوروبية الحديثة أخذ العلماء في هجران علوم الورق ولجئوا إلى الطبيعة، فصاروا يشرحون النبات والحيوان، ويجربون بأيديهم التجارب العلمية، ولكن هذا الهجران لم يتم تماما، فإن معظم ثقافتنا الآن هي ثقافة الورق؛ وهي لذلك لا تقترن بأذهاننا ذلك الاقتران الشرعي المنجب، بل هي تخالل أذهاننا مخاللة عقيمة، فلو أنا مثلا كنا نعرف النبات بأقسامه وأنواعه - حية ومتحجرة - لأثمرت معرفتنا وأصبح كل منا أشبه شيء بمكتشف أو مخترع في هذه المملكة العجيبة التي يصح أن يقال عنا فيها: إنا نسمع عنها ولا نراها.
وما يقال عن التعليم يمكن أن يقال مثله عن سائر الأشياء التي حلم بها الفلاسفة فأخذنا قشورها العامة وتركنا لبها، فإن المدن الحاضرة، وما فيها من نظام أكثره قائم على وفرة مخترعات النقل، يرجع إلى أحلام الفلاسفة عن عصر الآلات التي تنبئوا به، ولكن هؤلاء عندما كانوا يفكرون في اختراع الآلات، كانوا ينظرون منه إلى أن يوفروا على الناس وقتهم كي يشغلوه فيما هو أزكى لنفوسهم وأدعى لراحتهم. ولكن عامة الأمم أخذت من اختراع الآلات ذريعة لزيادة ثروة أصحاب المصنع، ولو كان في ذلك زيادة جهد العمال واشتغالهم بالكفاح للمعاش.
تطور الأحلام
قد يكون من القحة أن تخبر فتاة عن تأويل ما رأت فيما يرى النائم من أمير بهي الطلعة وسيم القدقد حياها وحاول أن يقبل يديها أو فمها، فإن في التأويل الصحيح اتهاما لعقلها الباطن، الذي ينطلق وقت النوم، ويفرج لشهوات الجسم ما قيد منها العقل وقت الصحو.
والأحلام - سواء أكانت من رؤى اليقظة أم من رؤى النوم - دليل على شهوات أو رغبات لا يحققها الوعي أو اليقظة التامة.
وقد يكون أسد للمؤرخ وأجدى عليه، إذا هو نصب نفسه لدرس تاريخ أمة ما، أن يعمد إلى خرافاتها التي تتكشف فيها أحلامها، فيدرسها ويعرف منها تلك الشهوات والنوازع التي كانت تعتلج بها نفوس أبنائها، فسرد تاريخ الفراعنة مثلا بما فيه من حروب وأسرى وانتصارات ونحو ذلك، قد يكون أقل جدوى في معرفة تاريخ الأمة من تحليل قصة خرافية واحدة كانت تتحدث بها العامة في سمرهم؛ لأن في هذه الأحدوثة تتجسم رغبات هؤلاء العامة، وهي تمثل ما كانت تشتهيه نفوسهم، وهي أصدق في وصف أحوالهم من الأكاذيب التي كان الفراعنة يكتبونها أحيانا عن أنفسهم قبل وفاتهم.
وقد كانت أول «طوبى» فكر فيها الإنسان من الطوبيات الخرافية التي دخلت في صلب الدين، فإن المصري القديم مثلا، عندما وجد أن إصلاح الحال في الدنيا من المحال، وأن قوى الاستبداد متألبة عليه، وأنه يسخر طول النهار فيكدح في وهج الشمس، أخذ يحلم بنعيم يراه بعد الموت، فهو يكدح هنا ويتهضمه الولاة الظلمة ويصدمون فيه شهوات نفسه، وعلى ذلك فهو يرى في نعيم الآخرة ميزانا منصوبا لمعاقبة هؤلاء الظلمة، ويرى الهناء والراحة في ظلال الأشجار التي تتغلغل بينها جداول الماء، وهو في هذا الخيال الحلو لم يختلف عن الجائع أو العطشان الذي لا يرى في نومه سوى الموائد مبسوطة، والشراب مصفى، إلا من حيث إن حلمه قد صار حلم الأمة بأسرها، وخرجت رواية الفرد إلى رواية المجموع.
ثم جاء الفيلسوف فرسم طوباه لهذا العالم، لا يعبأ بما بعد الموت ولا يبالي بمصير الرمم، ولكن الفيلسوف من ذوي الأحلام الأرضية، لفرط اعتماده على الحقائق الملموسة، عني بالمادة أكثر مما عني بالمبدأ، وبالوسيلة أكثر من الغاية؛ ولذلك كثيرا ما تتصفح الحلم فتتساءل عندما تبلغ خاتمته: هل هذه هي السعادة والرقي، أو هل هذه ما نتعوض منهما ... وهل نحن بإزاء الأصل أم بإزاء البدل؟
ثم قد نتساءل أيضا: لماذا لم يتحقق حلم من هذه الأحلام مع مضي مئات السنين على بعضها؟
وهنا نرى ميزة الأديان على أحلام الفلاسفة ومن دونهم من المفكرين، فإن الدين قبل أن يعد بطوبى العالم الآخر كان يطلب من الفرد أن يغير بالإيمان قلبه، وأن تتبدل نفسه نفسا أخرى هي نفس المؤمن المرتاح إلى إيمانه الراضي به، بدلا من نفسه السابقة، نفس الكافر الذي توسوس إليها الشكوك، وكان هذا الإيمان وحده كافيا لأن ييسر على المؤمن كل تغيير يراه في طرق المعاش والاجتماع والزواج ونظام الحكومة وغير ذلك، ونقول بعبارة أخرى: إن الدين كان يحاول تغيير المجتمع بعد أن يبلغ قلب الفرد فيغيره، بل يخلقه من جديد. وكان لذلك ينجح في تحقيق غرضه؛ لأن أداة تحقيق هذا الغرض هو الفرد، فإذا لم يكن هو قد تغير، فكيف نطلب منه أن يغير طرق مجتمعه ؟
ناپیژندل شوی مخ