الإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّة
أحكام الزّواج
جَمْعُ وَتحقيقه
محمّد عَبْدُ الْقَادِر عَطَا
دار الكتب العلمية
أسسها محمد علي بيضون سنة 1971
بيروت - لبنان
1
أحكام الزواج
للإمام العلامة تقي الدين
ابن تيمية
ولد سنة ٦٦١ وتوفي سنة ٧٢٨هـ
رحمه الله تعالى
تحقيق
محمد عبد القادر عطا
دار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
1
جميع الحقوق محفوظة لدار الكتب العلمية
الطبعة الأولى
١٤٠٨ هـ - ١٩٨٨ م
يطلب من: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
هاتف: ٨٠١٣٣٢ - ٨٠٥٦٠٤ - ٨٠٠٨٤٢
حرب: ١١/٩٤٢٤
تلكس: Nasher 41245 Le
3
بسم الله الرحمن الرحيم
(( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )).
صدق الله العظيم
((الروم: ٢١)).
3
4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه، نثني عليه الخير كله، أنت كما أثنيت على نفسك، عز جارك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي الأمين، صاحب الخلق العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً ... أما بعد:
قال تعالى: ﴿ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون﴾ [الروم: ٢١].
فالمرأة جزء الرجل، ومخلوقة من ضلعه، ومكملة له، يجد لديها سعادته وهناءه.
فالسكن النفسي الموحي بالهدوء واستجماع الشتات، وإسكات صرخات الجسد على صورة مطمئنة لا يزعجها الخوف، وتجديد قوى النفس كلما أخمدها الملل من رتابة العمل المعاشي، والاستئناس والاستمتاع بما في الجنس الآخر من غواية المتعة حتى تسكن نوازع التطلع إلى مثل تلك المفاتن في نساء أخريات. هذا هو المعنى الرحيب للسكن النفسي المراد من الزواج في قوله تعالى: ﴿ليسكن إليها﴾ [الأعراف: ١٨٩].
وليس المتاع الجنسي على هذه الصورة وحده مقصود الزواج في الإسلام، بل إن الزواج الإسلامي نموذج للشمول في العواطف والوجدانات يتناسب مع
5
الشمول في عقيدة الإيمان ، فهو وسيلة لثراء الإنسان في المشاعر العليا، وفي تهذيب الغرائز الجامحة وترويضها.
فالمودة والرحمة بين الزوجين من مقاصد الزواج الرئيسية، ومن الرحمة تكون الرحم، وهي القرابة في الآباء والأمهات. وتنشأ علاقة أخرى هي مودة الرحم التي سميت في الإسلام ((صلة الرحم))، والتي توعد الله قاطعها بالحرمان من الجنة، وربط بين اسمها واسم ((الرحمن، والرحيم)). دلالة وثيقة على ما بين مقاصد الزواج ومقاصد الإيمان.
فالزواج في الإسلام نبع يفيض بأسمى الأخلاق، ومدرسة جامعة يتعلم فيها الزوجان أصول المودة والرحمة والحب، وما ينشأ عنها من الغيرة والعزة، والوفاء، ورعاية المحرمات، والدأب على العمل.
ومن هذا النبع تفيض الأخلاق إلى الأبناء والبنات، ثم إلى المجتمع عن طريق المصاهرات، أو عن طريق الأخوة الإيمانية.
لذلك عنيت الشريعة الإسلامية بتحديد أركان عقد الزواج وأركانه، وشروطه وأحكامه، وعني الفقهاء والعلماء ببيان هذه الأحكام. ومن هؤلاء العلماء الإمام العلامة تقي الدين بن تيمية.
ابن تيمية في سطور : (١)
هو أحمد تقي الدين، أبو العباس ابن الشيخ شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم، ابن الشيخ مجد الدين أبي البركات عبد السلام، بن أبي محمد عبدالله، ابن أبي القاسم الخضر، بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله، الملقب بابن تيمية.
(١) انظر ترجمته في: (فوات الوفيات ٣٥/١، ٤٥، والمنهج الأحمد (خط)، والدرر الكامنة ١٤٤/١، والبداية والنهاية ٢٧١/٩، ودائرة المعارف الإسلامية ١٠٩/١، والأعلام للزر كلي ١٤٤/١، ابن تيمية، حياته وعصره للإمام أبو زهرة).
6
ولد في العاشر من شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة هجرياً، في مدينة حران. وكانت حياته مليئة بالأحداث التي لمع من خلالها اسمه، فقد توفي والده سنة ٦٨٢ وكان في الحادي والعشرين من عمره، فتولى التدريس في الجامع الكبير بدمشق بدلاً من والده.
وقد توفي الإمام تقي الدين بعد حياة حافلة كانت نهايتها في سجن قلعة دمشق وذلك في العشرين من شوال سنة ٧٢٨ هـ.
أصل الكتاب ومنهج التحقيق:
أصل هذا الكتاب من مجموع الرسائل والمسائل للإمام ابن تيمية، والتي قام بجمعها وترتيبها الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي، وساعده ابنه محمد، وقامت بنشره مكتبة ابن تيمية. ويقع في المجلد الثاني والثلاثين من صفحة ٥ إلى صفحة ٢٠٧، ومن صفحة ٢٤٧ إلى صفحة ٢٧٣. والمجلد الرابع والثلاثين من صفحة ٣١ إلى صفحة ٦٢.
وقد قمت بنسخ الكتاب من المطبوعة، ومراجعتها على أصولها المخطوطة، وقمت بإعادة ترتيب الكتاب، وفصل الفتاوى وإلحاقها في نهاية الكتاب، وخرجت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ووضعت عناوين للكتاب ليسهل على القارىء فهمه وتناوله، وليتم النفع به.
والله تعالى أسأل أن يخلص عمله لوجهه الكريم، وأن ينتفع به العالم الإسلامي، وأن يهيء للمسلمين والمسلمات طريق الرشاد، وفتح عيونهم على طريقهم إلى مجد الإسلام والمسلمين.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
محمد عبد الخالق عبد القادر أحمد عطا
الأهرام في ١٣ من ربيع أول ١٤٠٧ هـ ١٢ نوفمبر ١٩٨٦ م
7
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
8
مقدمة المؤلف
في الأسباب التي بين الله وعباده، وبين العباد
الخلقية والكسبية. الشرعية والشرطية
قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (١).
افتتح السورة بذكر خلق الجنس الإنساني من نفس واحدة؛ وأن زوجها مخلوق منها، وأنه بث منهما الرجال والنساء؛ أكمل الأسباب وأجلها، ثم ذكر ما بين الآدميين من الأسباب المخلوقة الشرعية؛ كالولادة، ومن الكسبية الشرطية؛ كالنكاح، ثم قال:
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ (٢).
قال طائفة من المفسرين من السلف: ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾: تتعاهدون به، وتتعاقدون. وهو كما قالوا؛ لأن كل واحد من المتعاقدين عقد البيع، أو النكاح، أو الهدنة، أو غير ذلك يسأل الآخر مطلوبه. هذا يطلب تسليم المبيع، وهذا تسليم الثمن، وكل منهما قد أوجب على نفسه مطلوب الآخر، فكل منهما طالب من الآخر موجب المطلوب الآخر.
ثم قال: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾. و((العهود))، و((الأرحام))؛ هما: جماع الأسباب التي بين بني آدم؛ فإن الأسباب التي بينهم، إما أن تكون بفعل الله أو بفعلهم.
(١) سورة: النساء، الآية: ١. (٢) سورة: النساء، الآية: ١.
9
فالأول ((الأرحام))، والثاني ((العهود))؛ ولهذا جمع الله بينهما في مواضع، في مثل قوله:
﴿لا يرقبون في مؤمن إلاَّ ولا ذمة﴾.
فالإل: القرابة، والرحم. والذمة العهد، والميثاق.
وقال تعالى في أول البقرة:
﴿الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل﴾(٣).
وقال:
﴿الذين يوفون بعهد الله، ولا ينقضون الميثاق، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل﴾ إلى قوله: ﴿والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل﴾(٤).
واعلم أن حق الله داخل في الحقين، ومقدم عليهما؛ ولهذا قدمه في قوله:
﴿اتقوا ربكم الذي خلقكم﴾(٥)، فإن الله خلق العبد وخلق أبويه، وخلقه من أبويه.
فالسبب الذي بينه وبين الله هو الخلقي التام؛ بخلاف سبب الأبوين؛ فإن أصل مادته منهما، وله مادة من غيرهما؛ ثم إنهما لم يصوراه في الأرحام. والعبد ليس له مادة إلا من أبويه، والله هو: خالقه، وبارئه، ومصوره، ورازقه، وناصره، وهاديه. وإنما حق الأبوين فيه بعض المناسبة لذلك؛ فلذلك قرن حق الأبوين بحقه في قوله:
﴿أن اشكر لي ولوالديك﴾(٦).
وفي قوله: ﴿واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحساناً﴾(٧).
وفي قوله: ﴿وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه، وبالوالدين إحساناً﴾(٨).
(٣) سورة: البقرة، الآية: ٢٧. (٦) سورة: لقمان، الآية: ١٤.
(٤) سورة: الرعد، الآية: ٢٠ وما بعدها. (٧) سورة: النساء، الآية: ٣٦.
(٥) سورة: النساء، الآية: ١. (٨) سورة: الإسراء، الآية: ٢٣.
10
وجعل النبي ﷺ التبرؤ من الأبوين كفراً؛ لمناسبته للتبرؤ من الرب. وفي الحديث الصحيح:
((من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر)) أخرجاه في الصحيحين(٩).
وقوله: ((كفر بالله من تبرأ من نسب وإن دق))(١٠).
وقوله: ((لا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم))(١١).
فحق النسب والقرابة والرحم تقدمه حق الربوبية، وحق القريب المجيب الرحمن؛ فإن غاية تلك أن تتصل بهذا، كما قال الله:
((أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته))(١٢).
وقال: ((الرحم شجنة من الرحمن))(١٣).
(٩) انظر الحديث في: (صحيح البخاري، الباب ٥ من كتاب المناقب، والباب ٢٩ من كتاب الفرائض. وصحيح مسلم، حديث ١١٢، ١١٤، ١١٥ من كتاب الإيمان، وحديث ٢١ من كتاب العتق. وسنن الترمذي، الباب ٥ من الوصايا، والباب ٣ من الولاء. وسنن ابن ماجة، الباب ٣٦ من كتاب الحدود، والباب ٦ من الوصايا. وسنن الدارمي، الباب ٨٢ من السير، والباب ٢ من كتاب الفرائض. ومسند أحمد بن حنبل ٢/١١٨، ٥/٣٨، ٤٦).
(١٠) أخرجه الدارمي في سننه، الباب ٢ من كتاب الفرائض. ومسند أحمد بن حنبل ٢/٢١٥. وابن ماجة في سننه، الباب ١٣ من كتاب الفرائض.
(١١) أخرجه البخاري في صحيحه، الباب ٢٩ من كتاب الفرائض. وصحيح مسلم، الحديث ١١٣ من كتاب الإيمان. وأحمد بن حنبل في المسند ١/٤٧، ٢/٥٥، ٢/٥٢٦.
(١٢) أخرجه البخاري في صحيحه، الباب ٣ من كتاب الأدب. وأبو داود في سننه، الباب ٤٥ من كتاب الزكاة، وسنن الترمذي، الباب ٩ من كتاب البر، وأحمد بن حنبل في المسند ١/١٩١، ٢/٤٩٨، ١/١٩٤، ٦/٠٦٢.
(١٣) أخرجه البخاري في صحيحه، الباب ١٣ من كتاب الأدب. والترمذي في سننه، الباب ١٦ من كتاب البر. وأحمد بن حنبل في المسند ١/١٩٠، ٢/٣٢١، ٢/٢٩٥، ٢/٣٨٣، ٢/٤٠٦، ٢/٤٥٥، ٢/٤٦٨.
11
وقال: ((لما خلق الله الرحم تعلقت بحقو الرحمن فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة؟ (١٤).
وقد قيل في قوله: ﴿لا يرقبون في مؤمن إلاً﴾ إن ((الإل)) الرب، كقول الصديق لما سمع قرآن مسيلمة: إن هذا كلام لم يخرج من إل.
وأما دخول حق الرب في العهود والعقود، فكدخول العبد في الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله؛ فإن هذا عهد الإسلام، وهو أشرف العهود وأوكدها، وأعمها وأكملها.
***
(١٤) أخرجه البخاري في صحيحه، سورة ٤٧ من كتاب التفسير، والباب ٣٥ من كتاب التوحيد. ومسلم في صحيحه، حديث ١٦ من كتاب البر، ومسند أحمد بن حنبل ٣٣٠/٢، ٣٨٣، ٤٠٦.
12
باب
أركان النكاح وشروطه
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عمدة من قال: لا يصح النكاح إلا بلفظ ((الإنكاح)) و((التزويج)) - وهم أصحاب الشافعي، وابن حامد، ومن وافقهم من أصحابنا كأبي الخطاب والقاضي، وأصحابه، ومن بعده - إلا في لفظ: ((أعتقتك، وجعل عتقك صداقك)). أنهم قالوا: ما سوى هذين اللفظين كناية، والكناية لا تقتضي الحكم إلا بالنية، والنية في القلب لا تعلم، فلا يصح عقد النكاح بالكناية؛ لأن صحته مفتقرة إلى الشهادة عليه، والنية لا يشهد عليها؛ بخلاف ما يصح بالكناية: من طلاق وعتق وبيع؛ فإن الشهادة لا تشترط في صحة ذلك.
ومنهم من يجعل ذلك تعبداً؛ لما فيه من ثبوت العبادات. وهذا قول من لا يصححه إلا بالعربية من أصحابنا وغيرهم. وهذا ضعيف لوجوه:
أحدها: لا نسلم أن ما سوى هذين كناية؛ بل ثم ألفاظ هي حقائق عرفية في العقد أبلغ من لفظ ((أنكحت))، فإن هذا اللفظ مشترك بين الوطء والعقد، ولفظ ((الإملاك)) خاص بالعقد، لا يفهم إذا قال القائل: أملك فلان على فلانة. إلا العقد، كما في الصحيحين:
((أملكتكها على ما معك من القرآن)) (١٥).
(١٥) انظر الحديث في: (صحيح البخاري، الباب ١٤، ٣٥، ٤٤ من كتاب النكاح، والباب ٢٢ من كتاب فضائل القرآن، والباب ٤٩ من كتاب اللباس) وصحيح مسلم، حديث ٧٦ من كتاب النكاح.
13
سواء كانت الرواية باللفظ أو بالمعنى.
الثاني: أنا لا نسلم أن الكناية تفتقر إلى النية مطلقاً؛ بل إذا قرن بها لفظ من ألفاظ الصريح، أو حكم من أحكام العقد كانت صريحة، كما قالوا في الوقف (إنه ينعقد بالكناية، كتصدقت، وحرمت، وأبدت. إذا قرن بها لفظ أو حكم.
فإذا [قال]: (١٦) أملكتكها فقال: قبلت هذا التزويج. أو أعطيتكها زوجة فقال: قبلت. أو أملكتكها على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ونحو ذلك: فقد قرن بها من الألفاظ والأحكام ما يجعله صريحاً.
الثالث: أن إضافة ذلك إلى الحرة يبين المعنى؛ فإنه إذا قال في ابنته: ملكتكها، أو أعطيتكها، أو زوجتكها، ونحو ذلك، فالمحل ينفي الإجمال والإشتراك.
الرابع: أن هذا منقوض عليهم بالشهادة في الرجعة؛ فإنها مشروعة إما واجبة، وإما مستحبة. وهي شرط في صحة الرجعة على قول، وبالشهادة على البيع وسائر العقود، فإن ذلك مشروع مطلقاً، سواء كان العقد بصريح، أو كناية مفسرة.
الخامس: أن الشهادة تصح على العقد، ويثبت بها عند الحاكم على أي صورة انعقدت، فعلم أن اعتبار الشهادة فيه لا يمنع ذلك.
السادس: أن العاقدين يمكنهما تفسير مرادهما، ويشهد الشهود على ما فسروه.
السابع: أن الكتابة عندنا إذا اقترن بها دلالة الحال كانت صريحة في الظاهر بلا نزاع، ومعلوم أن اجتماع الناس، وتقديم الخطبة، وذكر المهر، والمفاوضة فيه، والتحدث بأمر النكاح، قاطع في إرادة النكاح. وأما التعبد فيحتاج إلى دليل شرعي.
ثم العقد جنس لا يشرع فيه التعبد بالألفاظ؛ لأنها لا يشترط فيها الإيمان؛ بل تصح من الكافر، وما يصح من الكافر لا تعبد فيه. والله أعلم.
(١٦) ما بين المعقوفتين: أضيفت لاستقامة المعنى.
14
باب
المحرمات في النكاح
المحرمات بالنسب:
الحمد لله رب العالمين، أما المحرمات بالنسب فالضابط فيه أن جميع أقارب الرجل من النسب حرام عليه، إلا بنات أعمامه، وأخواله وعماته، وخالاته.
وهذه الأصناف الأربعة هن اللاتي أحلهن الله لرسوله ﷺ بقوله:
﴿يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك؛ وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين﴾ (١٧) الآية.
فأحل سبحانه لنبيه ﷺ من النساء أجناساً أربعة؛ ولم يجعل خالصاً له من دون المؤمنين إلا الموهوبة - التي تهب نفسها للنبي - فجعل هذه من خصائصه؛ له أن يتزوج الموهوبة بلا مهر، وليس هذا لغيره باتفاق المسلمين، بل ليس لغيره أن يستحل بضع امرأة إلا مع وجوب مهر، كما قال تعالى:
﴿وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين﴾ (١٨).
(١٧) سورة: الأحزاب، الآية: ٥٠.
(١٨) سورة: النساء، الآية: ٢٤.
15
إذا لم يقدر المهر:
واتفق العلماء على أن من تزوج امرأة ولم يقدر لها مهراً، صح النكاح، ووجب لها المهر إذا دخل بها، وإن طلقها قبل الدخول فليس لها مهر، بل لها المتعة بنص القرآن، وإن مات عنها ففيها قولان:
وهي ((مسألة بروع بنت واشق)) التي استفتى عنها ابن مسعود شهراً، ثم قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه: لها مهر نسائها، لا وكس، ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث. فقام رجال من أشجع فقالوا: نشهد ((أن رسول الله ﷺ قد قضى في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت به في هذه)).
قال علقمة: فما رأيت عبدالله فرح بشيء كفرحه بذلك. وهذا الذي أجاب به ابن مسعود هو قول فقهاء الكوفة، كأبي حنيفة وغيره، وفقهاء الحديث كأحمد وغيره، وهو أحد قولي الشافعي.
والقول الآخر له، وهو مذهب مالك: أنه لا مهر لها، وهو مروي عن علي، وزيد، وغيرهما من الصحابة.
شرط نفي المهر:
وتنازعوا في النكاح إذا شرط فيه نفي المهر، هل يصح النكاح؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره:
أحدهما: يبطل النكاح، كقول مالك.
والثاني: يصح، ويجب مهر المثل، كقول أبي حنيفة والشافعي.
والأولون يقولون: هو ((نكاح الشغار)) الذي أبطله النبي ﷺ؛ لأنه نفي فيه المهر، وجعل البضع مهراً للبضع. وهذا تعليل أحمد بن حنبل في غير موضع من كلامه، وهذا تعليل أكثر قدماء أصحابه.
والآخرون: منهم من يصحح نكاح الشغار، كأبي حنيفة؛ وقوله أقيس على
16
هذا الأصل، لكنه مخالف للنص وآثار الصحابة، فإنهم أبطلوا نكاح الشغار. ومنهم من يبطله ويعلل البطلان إما بدعوى التشريك في البضع، وإما بغير ذلك من العلل، كما يفعله أصحاب الشافعي، ومن وافقهم من أصحاب أحمد: كالقاضي أبي يعلى وأتباعه.
والقول الأول: أشبه بالنص والقياس الصحيح، كما قد بسط في موضعه.
وتنازعوا أيضاً في انعقاد النكاح مع المهر بلفظ: ((التمليك))، و((الهبة))، وغيرهما، فجوز ذلك الجمهور؛ كمالك وأبي حنيفة، وعليه تدل نصوص أحمد؛ وكلام قدماء أصحابه. ومنعه الشافعي وأكثر متأخري أصحاب أحمد، كابن حامد، والقاضي، ومن تبعهما. ولم أعلم أحداً قال هذا قبل ابن حامد من أصحاب أحمد.
والمقصود هنا: أن الله تعالى لم يخص رسوله ﷺ إلا بنكاح الموهوبة بقوله:
﴿وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي؛ إن أراد النبي أن يستنكحها، خالصة لك من دون المؤمنين﴾.
فدل ذلك على أن سائر ما أحله لنبيه ﷺ حلال لأمته، وقد دل على ذلك قوله:
﴿فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها؛ لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً﴾(١٩).
فلما أحل امرأة المتبنى، لاسيما للنبي ﷺ ليكون ذلك إحلالاً للمؤمنين، دل ذلك على أن الإحلال له إحلال لأمته؛ وقد أباح له من أقاربه بنات العم والعمات؛ وبنات الخال والخالات؛ وتخصيصهن بالذكر يدل على تحريم ما سواهن؛ لاسيما وقد قال بعد ذلك:
﴿لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج﴾(٢٠).
(١٩) سورة: الأحزاب، الآية: ٣٧.
(٢٠) سورة: الأحزاب، الآية: ٥٢.
17
أي: من بعد هؤلاء اللاتي أحللناهن لك وهن المذكورات في قوله تعالى: ﴿حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت﴾ (٢١).
فدخل في ((الأمهات)) أم أبيه، وأم أمه وإن علت بلا نزاع أعلمه بين العلماء. و کذلك دخل في ((البنات)) بنت ابنه، وبنت ابن ابنته وان سفلت بلا نزاع أعلمه .
وكذلك دخل في ((الأخوات)) الأخت من الأبوين، والأب، والأم.
ودخل في ((العمات)) و((الخالات)) عمات الأبوين وخالات الأبوين.
وفي ((بنات الأخ، والأخت)) ولد الإخوة وإن سفلن، فإذاً حرم عليه أصوله وفروعه وفروع أصوله البعيدة؛ دون بنات العم والعمات وبنات الخال والخالات.
المحرمات بالصهر:
وأما المحرمات بالصهر، فيقول: كل نساء الصهر حلال له، إلا أربعة أصناف، بخلاف الأقارب. فأقارب الإنسان كلهن حرام؛ إلا أربعة أصناف. وأقارب الزوجين كلهن حلال؛ إلا أربعة أصناف، وهن حلائل الآباء، والأبناء، وأمهات النساء وبناتهن.
فيحرم على كل من الزوجين أصول الآخر وفروعه، يحرم على الرجل أم امرأته: وأم أمها وأبيها وإن علت. وتحرم عليه بنت امرأته، وهي الربيبة، وبنت بنتها وإن سفلت، وبنت الربيب أيضاً حرام؛ كما نص عليه الأئمة المشهورون الشافعي وأحمد وغيرهما ، ولا أعلم فيه نزاعاً .
ويحرم عليه أن يتزوج بامرأة أبيه وان علا، وامرأة ابنه وإن سفل.
فهؤلاء الأربعة هن المحرمات بالمصاهرة في كتاب الله؛ وكل من الزوجين
(٢١) سورة: النساء، الآية: ٢٣.
18
يكون أقارب الآخر أصهاراً له، وأقارب الرجل أحماء المرأة؛ وأقارب المرأة أختان الرجل. وهؤلاء الأصناف الأربعة يحرمن بالعقد؛ إلا الربيبة، فإنها لا تحرم حتى يدخل بأمها، فإن الله لم يجعل هذا الشرط إلا في الربيبة، والبواقي أطلق فيهن التحريم، فلهذا قال الصحابة: أبهموا ما أبهم الله. وعلى هذا الأئمة الأربعة وجماهير العلماء.
وأما بنات هاتين وأمهاتهما فلا يحرمن، فيجوز له أن يتزوج بنت امرأة أبيه، وابنه باتفاق العلماء، فإن هذه ليست من حلائل الآباء والأبناء، فإن الحليلة هي الزوجة. وبنت الزوجة وأمها ليست زوجة؛ بخلاف الربيبة فإن ولد الربيب ربيب؛ كما أن ولد الولد ولد، وكذلك أم أم الزوجة أم للزوجة وبنت أم الزوجة لم تحرم، فإنها ليست أماً.
فلهذا قال من قال من الفقهاء: بنات المحرمات محرمات؛ إلا بنات العمات والخالات، وأمهات النساء، وحلائل الآباء والأبناء. فجعل بنت الربيبة محرمة؛ دون بنات الثلاثة. وهذا مما لا أعلم فيه نزاعاً.
ومن وطىء امرأة بما يعتقده نكاحاً فإنه يلحق به النسب، ويثبت فيه حرمة المصاهرة باتفاق العلماء فيما أعلم، وإن كان ذلك النكاح باطلاً عند الله ورسوله؛ مثل: الكافر إذا تزوج نكاحاً محرماً في دين الإسلام، فإن هذا يلحقه فيه النسب وتثبت به المصاهرة. فيحرم على كل واحد منهما أصول الآخر وفروعه باتفاق العلماء.
وكذلك كل وطء اعتقد أنه ليس حراماً وهو حرام؛ مثل: من تزوج امرأة نكاحاً فاسداً، وطلقها، وظن أنه لم يقع به الطلاق، لخطئه أو لخطأ من أفتاه، فوطئها بعد ذلك، فجاءه ولد؛ فههنا يلحقه النسب، وتكون هذه مدخولاً بها؛ فتحرم؛ وإن كانت ربيبة لم يدخل بأمها باتفاق العلماء.
فالكفار إذا تزوج أحدهم امرأة نكاحاً يراه في دينه، وأسلم بعد ذلك ابنه كما جرى للعرب الذين أسلم أولادهم، وكما يجري في هذا الزمان كثيراً -
19