مقدمة
الحمدلله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. وبعد:
إن الناظر إلى منهج شيخ الإسلام ابن تيمية يدرك تماما أنه تميز بأصلين عظيمين طالما أكدهما شيخ الإسلام , وهما: النقل المصدق , والنظر المحقق , ولا شك أن من التزم في منهجه تحري الصحيح من النصوص الشرعية واستحصل آلة ذلك بضبط قواعد وأصول الحديث وكسب سر ذلك بطول الخبرة والتجربة , فإنه مما لاشك فيه أنه ستتجلى له حقيقة التمييز بين الصحيح والسقيم من الحديث بل إنه من السهولة بمكان أن يصل إلى خبايا العلل ودقائقها.
والنظر الثاقب الذي وفق إليه شيخ الإسلام في معرفة ذلك والذي شهد له أئمة الحديث في زمانه وإلى يومنا هذا جعل مكانته الحديثية راجحة في كفة الميزان الذي يوزن به من سلك هذا المسلك من أئمة الحديث ففاق كثيرا من أقرانه فكأنه لم يتخصص إلا به , ولم يعرف إلا إياه , ولذا ألصق به لقب شيخ الإسلام , وقد أطلق هذا اللقب عليه سبعة وثمانون من أئمة الإسلام , كلهم لقبوه بهذا اللقب [ذكر ذلك صاحب كتاب الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمية " شيخ الإسلام " كافر ص 98]
وقد اتفق أهل العلم من أهل السنة من معاصري شيخ الإسلام إلى يومنا هذا على إمامة شيخ الإسلام , وتفوقه في مختلف العلوم والفضل والزهد والورع والخلق , وقد منحه الله عزوجل الحافظة الواعية التي هي أساس العلم , والتعمق والتأمل , وحضور البديهة , والاستقلال الفكري , والصدق والإخلاص والمتابعة في طلب الحق , والطهارة من أدران الهوى , مع فصاحته وقدرته البيانية والشجاعة والصبر وغير ذلك من جوامع الخصال الحميدة التي قلما اجتعمت في إمام , وقد بين الحافظ الذهبي إمامة شيخ الإسلام في الحديث وبالغ في وصفه والثناء عليه في هذا المجال فقال :
" وكانت له خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم , وطباقاتهم , ومعرفة بفنون الحديث , وبالعالي والنازل , والصحيح والسقيم , مع حفظ لمتونه الذي انفرد به , وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه , وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيميه فليس بحديث , ولكن الإحاطة لله , غير أنه يغترف فيه من بحر , وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي ".أ. ه
إن هذه الشخصية النادرة الفريدة التي ظهرت في أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن تركت آثارا حسنة عظيمة في مختلف المجالات العلمية الشرعية إلا أني ما وجدت أحدا من أهل العلم فيما أعلم حاول إبراز شخصية شيخ الإسلام ومكانته في الحديث وعلومه رواية ودراية مع شهرته في هذا المجال وإمامته فيه وإسهاماته الحديثية المنثورة في كتبه إلا ما رأيته من أخي وزميلي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن عبدالجبار الفريوائي في رسالته الدكتوراه بعنوان [شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه] في أربع مجلدات بما مجموعة ألفان وخمس وثمانون صفحة (2085 صفحة) (1)
وأما عملي في هذه الرسالة الصغيرة فهي جهد المقل , فقد عمدت فيه إلى استخراج جميع الأحاديث التي تكلم عليها شيخ الإسلام ووصفها بالضعف أو الوضع أو الكذب , وهي المنثورة في كتبه , وقد استقصيت جميع ما بين أيدينا من مؤلفاته المطبوعة , وأرجو من الله العلي القدير أن لايكون قد فاتني منها شيء سواء على سبيل الخطأ أو السهو والغفلة والكمال لله وحده وقد حرصت على أن لا يفوتني شيء , كما أنني أشكر أخي وزميلي الشيخ إياد عبداللطيف والذي أرسل إلي مجموعة من الأحاديث التي تكلم عليها شيخ الإسلام في بعض كتبه التي لم تطبع فنقلها من بعض المخطوطات , وكتب السخاوي مرعي الحنبلي
كما استخرجت بعض الأحاديث التي تكلم عليها شيخ الإسلام والمنثورة في كتب تليميذه ابن القيم وهي قليلة جدا , وأحب أن أشير إلى أن التعليق على جميع الأحاديث في هذا الكتاب هو من تعليق شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقد تميز شيخ الإسلام بميله إلى نقد المتون (2) , وهذا الفن لم يتمكن منه كثير من أهل العلم , لاسيما إذا كانت النكارة في المتن غير ظاهرة , أما ما ظهرت نكارته , واتضح كذبه لا سيما أكاذيب الشيعة وبعض أهل الأهواء , فإن شيخ الإسلام يكتفي غالبا في نقد متنه دون الرجوع إلى إسناده , لأن كذبه ظاهر.
وربما حكم شيخ الإسلام على بعض الأحاديث بالوضع والنكارة مع تصحيح بعض أئمة الحديث لها , ومن هنا نقد الحافظ ابن حجر العسقلاني شيخ الإسلام ابن تيمية في (لسان الميزان 6/ 319) وفي الدرر الكامنة (2/ 71) فقال " إنه تحامل في مواضع كثيرة , ورد أحاديث موجودة , وغن كانت ضعيفة بأنها مختلقة ". أ. ه.
وقد عد عبدالحي اللكنوي شيخ الإسلام ابن تيمية من الطبقة المتشددة من النقاد بناء على نقد ابن حجر له [انظر الرفع والتكميل (تعليق 90 91 135) ] وقد أقر الحافظ الذهبي ما حكم عليه شيخ الإسلام في منهاج السنة في كتابه المنتقى من منهاج الإعتدال وهو اختصار لمنهاج السنة النبوية.
وعند التحقيق والنظر وتتبع الأحكام التي يصدرها شيخ الإسلام على جملة من الأحاديث يتبين لنا أنه يسير على طريقة الإمام أحمد والبخاري وابن معين واضرابهم من الطبقة المتوسطة , ويظهر ميله هذا إليهم في إشادته بذكرهم ورجوعه إلى أقوالهم في الجرح والتعديل , لاختصاصهم وتميزهم بهذا الفن ومع ذلك فإننا لا ندعي العصمة لشيخ الإسلام , فهو كغيره من الجهابذة , وما يعتريهم من الخطأ والنسيان الذي لايحط من قدرهم ومكانتهم وحفظهم.
ولولا أن هذا المقام ليس مقام بسط وعرض واطناب لأطلت الكلام في جوانب كثيرة تتعلق بالجانب الحديثي لشيخ الإسلام ابن تيمية , ولدي كثير من الفوائد المتعلقة بهذا الموضوع , وأرجو أن يكون ذلك بعد الفراغ من العمل الذي أقوم بإعداده الذي هو [البلغة في عقائد أئمة النحو واللغة]
فأرجو من الله العلي القدير أن تتاح الفرصة المناسبة لعرض هذا الموضوع عرضا تفصيليا والله أسأل أن يتغمد شيخ الإسلام بواسع رحمته , ويسكنه فسيح جناته , وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين
كتبها
وليد الحسين
2/ 12 / 1415 ه
مخ ۲