فغال قرية لاطية في لحف جبل، تنظر إليها من عين كفاع فلا ترى إلا قبة كنيستها الشامخة - اليوم - كأنها أصبع جبارة تومئ بها إلى الأعالي. أما بيوت القرية فمستكنة في ظلال الأشجار صيفا شتاء، ولعلها القرية اللبنانية الوحيدة التي لا ترى بيوتها الشمس بالمرة حين يقصر عمر النهار.
ولو درجت العادة أن تعطى قرية الوسام الزراعي لاستحقت قرية فغال أرفع النياشين. إنها غزيرة المياه، فكأن عيونها أنداء تدر للقرية خيرات كثيرة، وتنعش أشجارها المتلازة فتعيش متعانقة متآخية لا تعرف الانقسام الطائفي، فاللوزة تعانق التينة والزيتونة حد المشمشة. والتوت - رحم الله أيام التوت - قائم بين هذه كلها. والبحر ترقص أمواجه قبالة الضيعة، فتضاحكها راضية، وتتوعدها وتهاجمها من بعيد، غاضبة.
إذا سرت في هذه الضيعة الغابة تلتبس عليك الطريق، ولا ترى بيتا من بيوتها المظللة بالأشجار المختلفة حتى تطأ عتبته. أهل قرية فغال عاملون قانعون يتقون الله، شعارهم: على قد بساطك مد رجليك لا ينفقون فوق طاقتهم. فأكره ما يكرهون الدين، ولذلك تراهم دائنين لا مديونين. يحبون الأرض ويتكلون على كرمها فيحرثونها ويسقونها من الينابيع المتفجرة من صدر الجبل النائمة قريتهم في حضنه، ومن يتكل على الأرض لا يبتعد عن خالقها.
إنهم ككل أبناء القرى يتكلون على السماء فإذا لم تمطر رفعوا إليها أبصارهم واستسقوها مصلين مبتهلين. إن بدعة المطر الاصطناعي لم تعث بينهم ولو حدثتهم عنه لأجابوك: لا نريده غصبا عن الله. أما السياسة فلها أخصاء يسمونهم زعماء. فهؤلاء يروحون ويجيئون ويعيشون على هامش المدينة ليكونوا سفراء القرية. وهم يسمونهم لبطالتهم مهندسي طرقات. وقد يبطر واحد من هؤلاء ويطغى فيستحيل حاكما بأمره إذا تعرف بأصحاب النفوذ. يتقرب من المسئولين ليستبد بالأهلين المساكين. والزعامة عند هؤلاء محل قومسيون نقال، وغالبا ما تكون في ذلك الزمان، في بيت خوري الضيغة؛ لأن تحت جبة كل أكليريكي، كبيرا كان أم صغيرا، حاكما مستبدا.
وإذا تغلغلت في قرية فغال بدا لك في رأس الضيعة بيت ضخم بالنسبة إلى البيوت الأخرى المتواضعة. فهو مؤلف من ثلاث غرف قائمة لصق بيت طويل عريض، ينام سقفه الخشبي على قناطر معمدة. في هذا البيت الواسع يسهر جمهور القرية شاتين مصطلين بناره التي لا تطفأ؛ لأن في هذا البيت تنام قفة عظام ليلا نهارا. عجوز تسعينية عقلها وحواسها كاملة وإن كانت ملامحها غير قابلة للوصف.
أما الغرف فواحدة يسمونها الصالون وإن كانت لا تتسع لعشرة أشخاص، والثانية لمنامة الخوري البتول وحده. وهذا الخوري مديد القامة كبير الهامة لا يقل تكعيب هيكله عن ثلاثة أذرع معمارية. لا يتزنر على خصره بل تحت إبطيه؛ لأن كرشه يحتاج إلى حبل جمل، وكان زناره عرض أصبعين حتى لا ينطوي فوق كرشه.
كانت تنام مع هللون العجوز بنت بنتها، الست لوسيا الأرملة الشابة. وكانت تداعب جدتها ولا تبالي بزواجر أمها. وكانت الجدة تحب هذه البنت حبا جما رغم شيطنتها، وتستجيب لأكثر رغباتها. فأقبلت البنية على جدتها تطلب منها حكاية المساء كما عودتها كل ليلة، فقعدت البنت على حافة فراش ستها وأصغت تنتظر الحكاية العتيدة.
ولكن هللون كانت مضطربة تفكر بعواقبها الأربع: الموت والدينونة، والجحيم والنعيم. وفيما هي منتظرة وصول الواعظ الشهير الأب اسطفان البنتاعلي، فنادت بأعلى صوتها المرتجف: يا خوري بطرس، وأين صار بونا اسطفان؟
وشخصت عينا هللون إلى الباب؛ لأنها كانت تستدل على مجيء الخوري بطرس من العتمة التي تسبقه وتنتشر رويدا رويدا ثم تسد الباب لأن الخوري كان عملاقا ضخما بلا جبة فكيف به إذا تثقل في كانون. وبعد هنيهة دخل الخوري ليقول: أبونا اسطفان صار في عين كفاع. واليوم ختم الرياضة. والليلة يكون عندنا افحصي ضميرك جيدا.
فقالت هللون: يهمني أن أسمع وعظته أولا، وبعد ذلك أفحص ضميري وأعترف وأتناول.
ناپیژندل شوی مخ