ونحن حين يرفع الستار عن الفصل الأول في قصر من قصور الأشراف في الريف الفرنسي نرى رجلين يتحدثان: أحدهما مسيو بواسون والآخر صديق له، ومسيو بواسون هذا رجل من الأغنياء، كان يشتغل بتجارة الدقيق فأسرف في تجارته وغلا في طلب الربح حتى انتهى بالباريسيين إلى الجوع، فعوقب أشد العقاب ونفي من باريس واضطر إلى حياة الأقاليم، وهو لم يستيئس بعد من استئناف الحياة والنشاط، بل له آمال كبرى يتحرق على تحقيقها، وهو يتأذى كلما رأى رجلا من طبقته قد ارتفع إلى طبقة الأشراف وظفر بلقب من ألقابهم. وله ابنة جميلة رائعة الجمال، فاتنة الصورة، هي أنطوانيت، اقترنت برجل من الأشراف هو مسيو دي تيول، ونحن الآن في قصرها، وإذا رأينا هذه المرأة الجميلة الشابة عرفنا أن جمالها وذكاءها ومكانة زوجها وثروته، كل ذلك قد مكنها من أن ترفع نفسها إلى مكانة اجتماعية عالية حقا، فكبار الأدباء والشعراء يختلفون إلى قصرها، وهي منهمكة فيما كان ينهمك فيه أمثالها من قراءة الشعر والاستماع له، ومن الاشتراك في التمثيل الغنائي والقصصي، وهذا فولتير يخرج من عندها في الوقت الذي يرفع فيه الستار. وزوجها يحبها أشد الحب ولكنه لا يلقى منها حبا يلائم حبه، وإنما يجد فتورا وإعراضا وانصرافا إلى اللهو واللعب والأدب، وهو يشكو من ذلك، ولكنها لا تحفل بشكاته، وإنما تأخذه بالعبث مرة وبالجد والنذير مرة أخرى، وهو مذعن مطيع لأنه محب مفتون، بل نحن نحس من هذه المرأة شيئا آخر، فهي قبل كل شيء حرة غالية في الحرية، قد أحبت حين كانت في العاشرة من عمرها فتى من أبناء الأطباء وكلفت به، ولكنه لم يحفل بهذا الحب الصبي، وهي تقص ذلك على زوجها، وتغيظه به، وهي منذ أن كانت تتنزه في الغابة فرأت موكب الصيد ورأت الملك فأحبته وسمت نفسها إليه وأطالت التفكير فيه، وتعرضت للقائه غير مرة وهي تعلم أن الملك قد لاحظها، وهي تطمع في أن ترقى حتى تبلغ حب الملك. وهذا قريب لها من الأشراف يعمل في الخدمة الخاصة للملك، وهي تتحدث إليه عن الملك، وهو يجيبها مغريا لها، ضاحكا منها، محدثا نفسه فيما يظهر بأنه قد يبلغ بتقديمها إلى الملك حظوة عنده.
ويسدل الستار على هذا المنظر، وقد تهيأت نفس هذه المرأة لحب الملك والسعي إليه، وتهيأت نفس زوجها للخضوع والإذعان، وتهيأت نفس أبيها للطمع وتحقيق المآرب مهما يكلفه ذلك من تضحية.
فإذا رفع الستار عن المنظر الثاني فنحن في قصر الملك بفرسايل، وفي غرفة من غرفات الملكة نراها تدخل على وصائفها فتحييهن وتنبئهن بأنها قد نامت هذه الليلة مع أنها لم تتعود النوم، وتفهم من حديثها أنها امرأة صالحة، رقيقة القلب، كثيرة البكاء، سيئة الحظ، قوية الدين. ونحن في غداة اليوم الذي تزوج فيه ولي العهد، والملكة تسأل عن العروسين، وهذان العروسان قد أقبلا يحييانها، وهي تقبل ابنها وتتحدث إليه حديثا رقيقا، وتركع مع وصائفها للصلاة، وهذا الملك يقبل فيشاركهن في صلاتهن ، ثم يتحدث إلى ابنه وإلى امرأته، فنفهم من الحديث أن الفتى يؤثر أمه، ويؤثر الحرب، وأن الملك يعلم منه ذلك ويألم لضعف مكانته في قلب ابنه، ثم يخلو الملك إلى الملكة فيتحدثان ويتعاتبان، فإذا الملكة تشكو هجر الملك وصده، وإذا الملك يرد عليها هي إثم هذا الهجر لأنها أسرفت في الجد، ولم تلاحظ ما كان ينبغي للشباب من نشاط ومرح، فاضطرته إلى أن يلهو ويلعب بعيدا عن غرفاتها مع أنه أحبها أشد الحب وأصدقه، ولم يبق بد من هذه الحياة الجديدة التي فرضتها عليه الظروف، فهو قد رسم لنفسه خطة في اللهو أصبحت شيئا يشبه القانون لا سبيل إلى التخلص منه، وهذا رجل من الحاشية قد أقبل يدعوهما إلى الصلاة فيخرجان، ويسدل الستار على هذا المنظر، وقد فهمنا حياة الملك الخاصة في أسرته، فهو يحب امرأته ولكنه يخونها ويسرف في الخيانة لأنها صاحبة جد ودين، ومزاج هادئ لا تواتيه فيما يحب من المرح، وهي تعلم ذلك وتذعن له محزونة محبة لزوجها، وولي العهد يحب أمه، ويكبر أباه، ويتحرق شوقا إلى الحرب.
ثم يرفع الستار عن المنظر الثالث، فإذا نحن في قصر البلدية في مدينة باريس، والمدينة تحتفل بزواج ولي العهد؛ فتقيم لذلك عيدا راقصا قد سعى إليه الباريسيون على اختلاف طبقاتهم وهم منقبون، قد اتخذوا من الأزياء ما يخفي أشخاصهم، وقد حضر ولي العهد هذا العيد وقتا ثم انصرف، ونحن نرى في هذا القصر أنطوانيت قد أقبلت ومعها أبوها، وكأنها تنتظر شخصا، بل هي تنتظر الملك، تنتظر أن تراه، ومن يدري لعله يكلمها، فقد يجوز أن يكون قريبها سعى في هذا اللقاء، وآية ذلك أنها قد أبعدت زوجها عن باريس، وأنها تحاول أن تبعد أباها، وأنها قلقة تستبطئ مقدم الملك، وقد قبل أبوها أن ينصرف عنها لحظة ليلهو وليدعها فيما هي فيه. وهؤلاء أشخاص قد أقبلوا منقبين، وهذا أحدهم قد لحظ فتاة منقبة، فهو يتقدم إليها ويطلب أن ترفع النقاب، فتأبى، فيلح، فإذا رأى وجهها أراد أن يداعبها، فتفر منه ، ويرسل أصحابه في أثرها، وقد عرفت صاحبتنا أنه الملك فتضحك منه، وما تزال به حتى تضطره إلى أن يتحدث إليها، ثم إلى أن يداعبها، ثم إلى أن يغلو في مداعبتها، وهي تتعمد دفعه عن نفسها، وهي تلطمه لطمة خفيفة، وهو يغضب لذلك، ويأمرها أن ترفع النقاب فتأبى، فيهم بأن يرفع نقابه فتلفته إلى أن ذلك لا ينبغي له في هذا المكان، فهي إذن تعرفه وهي تحبه، تعلن إليه ذلك وقد رفعت نقابها، فرآها فعرفها، وهي تتهالك وتغريه فيستجيب لها، ولكن هذا الحوار الغرامي يصور لنا أجمل تصوير ذكاء هذه المرأة ودهاءها وسلطانها على نفوس الرجال.
فإذا رفع الستار عن المنظر الرابع، فنحن في فرسايل، وقد أمر الملك النفير العام، وهو يتهيأ للحرب وقد أقبلت أنطوانيت مع قريبها، فأدخلت حجرة ضئيلة مستخفية لترى الملك قبل سفره إلى الميدان، وقد أقبل الملك فقضى معها لحظات، وتحدث معها أحاديث نفهم منها أن الحب قد انتهى بهما إلى غايته، وأن الملك مفتون بها، وأنها ليست أقل منه افتتانا به، وهما يتحدثان حديث العاشقين عما كان قبل أن يلتقيا وما سيكون بعد هذا اللقاء، ولا يفارقها الملك إلا حين يضطره النظام الدقيق إلى هذا الفراق، وقد أقبل الخادم فأنبأه بأن الناس جميعا ينتظرونه، وبأن الملكة قد أشرفت من القصر لترى سفره، ولتحييه قبل هذا السفر، فيخرج وقد وعد هذه المرأة بأن تحيته الأخيرة ستوجه إليها، فلتقف عند هذه النافذة.
ويرفع الستار عن المنظر الخامس فإذا نحن في الميدان وقد انتصرت جيوش الملك على الإنجليز، وأبلى ولي العهد بلاء حسنا، والملك سعيد بالانتصار، سعيد بحسن بلاء ابنه، ولكن أنباء الجرحى والقتلى تنتهي إليه، وإذا هو محزون، وإذا هو رجل رقيق القلب، يكره الحرب، ويرثي لأوليائه وأعدائه معا، ويسرع لمواساة الصرعى في الميدان.
وبينما هو في طريقه إلى الميدان يرفع ستار جزئي فنرى الملكة وقد انتهت إليها أنباء النصر، فهي تبشر القصر وتصلي مع وصيفاتها.
ويرفع ستار آخر فنرى أنطوانيت معذبة تنتظر رسائل الملك التي لا تصل إليها .
وعلى هذا النحو ينتهي الجزء الأول من القصة، ولا يبتدئ الجزء الثاني إلا بعد عشرة أعوام قد استنفد الحب فيها قوته وحدته، ولذته ونشاطه، وانتهى إلى هذا الهدوء الذي لا يقطع الصلة بين العاشقين ولكنه يجعل كل واحد منهما على صاحبه ثقيلا عزيزا معا، ونحن نرى أنطوانيت في حجرتها تتخذ زينتها مع الضحى، وقد أقبل أبوها يتحدث إليها طالبا هذه الحاجات التي لا تنقضي، وهي ترده عن نفسها وعن الملك، والرجل يظهر الرضى، ويمضي في الإلحاح ويستقل ما ظفر به من مال كثير وشرف عظيم، وقد أقبل الملك فحيا هذا الرجل ثم خلا إلى صاحبته فإذا هي تتلطف له، وإذا هو يثقل عليها، وإذا هما يتحاوران حوار المتخاصمين، يشتد الخصام بينهما حتى ينتهي إلى العداء، ثم يلين حتى ينتهي إلى الصفاء، وهي تطلب إليه وهو يأبى عليها، وهي تسأله عن أمور السياسة وتشير عليه فيها، أليست تنصح له بالخدمة العسكرية الإجبارية؟ أليست تنصح له بموادعة البرلمان؟ أليست تشير عليه بموادعة الفلاسفة ومقاومتهم بالحيلة؟ وقد خرج الملك من عندها بعد حوار طويل ممتع فيه إلمام بالسياسة، وفيه تصوير للحب، واليأس من هذا الحب، والإذعان لسلطانه أيضا.
وقد ذهب الملك للصيد، ونحن نراه في المنظر السابع وقد انفرد عن أتباعه وانتهى إلى قرية من القرى ووقف عند أسرة من الأسر تعرفه ويعرفها، تعرفه على أنه طبيب بيطري من أطباء القصر، وهو يتحدث إليها عن الملك، وفي الأسرة فتاة جميلة ساذجة تحبه ويحبها لولا أن السن قد تقدمت به، فهو لا يستطيع أن يتخذها لنفسه زوجة وإن كانت هي لا تكره ذلك، بل تحبه وتؤثره، وعند الأسرة فتى طبيب مثقف يحب الفلاسفة ويقرأ كتبهم، ويبغض الملك ويتحدث إليه بهذا البغض، لأنه لا يعرفه، وهو خطيب هذه الفتاة، وفي الأسرة مع ذلك أطفال يداعبون الملك ويداعبهم، وهو يصنع لهم اللعب ويفكههم بالأحاديث، وهو سعيد بالخلوة إلى هذه الأسرة والحديث مع هذه الفتاة، ولكن ماذا؟ هؤلاء قوم قد أقبلوا لا يكاد الملك يراهم حتى ينكرهم ويضيق بهم، على رأسهم أنطوانيت وجماعة من الحاشية، قد أقبلوا يطلبون الملكة، فلما انتهوا إليه وعرفوا تنكره لم يظهروه ولم يظهروا أنفسهم، وإنما زعموا أنهم جماعة من الأشراف، وطلبوا إلى الأسرة - وهي صاحبة فندق قروي - طعاما وشرابا، فأما أنطوانيت فشديدة الغيرة من هذه الفتاة، ولكن الملك قد عرف من أمر هذا الفتى الفيلسوف ما أثار غيرته أيضا، فهو ابن ذلك الطبيب الذي أحبته أنطوانيت حين كانت في العاشرة من عمرها، والملك معني بالفتاة، وأنطوانيت معنية بالفتى، والحوار بينهما شديد مختلف، والدعابة بينهما حلوة مرة، ويسأل الملك آخر الأمر عن الساعة فيجيبه بعض الحاشية جوابا يظهر منه أمره وتتبين الأسرة أنه الملك، فينصرف وقد نفى الفتى إلى خارج فرنسا، وأمر أن ترسل الفتاة إلى دير لتتعلم، ثم أن تمنح بعد ذلك مهرا يمكنها من الزواج.
ناپیژندل شوی مخ