99

افکار او خلک: د لويديځ فکر کيسه

أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي

ژانرونه

كان مارتن لوثر راهبا أوغسطيا. وبين مارتن لوثر وأوغسطين ملاءمة في الصلة العقائدية، وإن لم تكن في هذه الملاءمة بطبيعة الحال علاقة سببية. وقد رأينا أن عمل القديس أغسطس الذي شغل حياته كلها قد جعله من عمد الكنيسة الكاثوليكية، بيد أن شخصيته - بالرغم من ذلك - تنطوي على ذلك الجهد الصوفي الذي يهدف إلى الكمال، والذي كان دائما يقدم المشكلات للأفراد الأقل قداسة الذين تقع على عواتقهم إدارة الأمور في هذه الدنيا. وليست الحركة البروتستانتية - بمعنى من معانيها الهامة - سوى مظهر آخر لما بينا بالتحليل من قبل أنه التوتر المسيحي الشديد بين هذه الدنيا والدار الآخرة، أو بين الواقعي والمثالي. ولسنا بحاجة نحن المحدثين إلى أن نذكر بأن لوثر وكالفن وزوينجلي كانوا يتزعمون حركات تختلف اختلافا شديدا في هدفها وتنظيمها عن محاولات العصور الوسطى لإصلاح الشعائر الدينية القائمة. وذلك لسبب واحد وهو أنهم نجحوا في إقامة الكنائس، وقد أخفق وايكليف وهس من قبل في إقامتها. ونستطيع من ناحية أخرى أن نقول إن الكنيسة الكاثوليكية لم تستأنسهم أو تمتصهم كما فعلت ب «الإخوان الفقراء».

ولسنا بحاجة إلى التذكير بالدور الذي لعبته النظم الاقتصادية، والقومية، وشخصيات الزعماء، في التفريق بين الثورة البروتستانتية وحركات الإصلاح في العصور الوسطى. بل ربما كنا في حاجة إلى التذكير بأن البروتستانتية - مهما بلغت من العمق مشكلاتها الاقتصادية والسياسية - قد اكتسبت قلوب الناس وأفئدتهم برجوعها إلى التقاليد المسيحية. وحتى من الناحية الشكلية يصدق هذا القول، وليس الشكل البتة من الأمور التي ليست بذات أهمية. وقد أصر المصلحون البروتستانت جميعا على أنهم لم يكونوا مجددين، وإنما كانوا يرجعون إلى يسوع والكنيسة الأولى، وهي الكنيسة المسيحية «الحق».

وقد كان احتذاؤهم - باعتباره عملا يراه المشاهد المحايد - يختلف جد الاختلاف عن احتذاء القديس فرانسيس. وإذا كانت البروتستانتية هي مجرد مظهر من مظاهر جهد المسيحية في الارتفاع بطبيعة الإنسان البدائية، فيجب أن نذكر أنفسنا بأن هناك طرائق عدة تظهر فيها هذه الطبيعة البدائية، وطرائق عدة لمحاولة الارتفاع بها. ويجب أن نسأل أنفسنا عما كان جديدا في بروتستانتية أوائل القرن السادس عشر - جديدا بالرغم من أن صانعيه كانوا يحسبونه قديما. وعناصر الجدة هذه تسير بنا شوطا بعيدا نحو تفسير السبب في أن طوائف البروتستانتية أمسوا كنائس طائفية بدلا من أن يكونوا مجرد جماعات متزندقة تحيا حياة خفية على أية صورة من الصور، كما كان اللولارد والهوسيت.

ولكنا يجب أن نسجل أولا أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ذاتها كانت تخضع في القرن الرابع عشر - وفي القرن الخامس عشر خاصة - للضغط من فترة القلاقل التي كانت في ذلك الحين تشير إلى تدهور ثقافة العصور الوسطى. وكما أن مباني الكنيسة قد أخذت كثرة الألوان الزاهية عن الطراز الغوطي الذي زاد في نضجه، فكذلك اتجهت حياة الكنيسة اتجاها أكثر دنيوية، وأشد انحلالا، وفقدت ذلك الاتزان الدقيق الذي ساد في عصر أكويناس؛ فقد غالى المدرسيون في جدلهم الفارغ، وتنوعت نظم الأديرة، وزاد عدد رجال الدين الذين ليسوا من الدين في شيء، أو على الأقل باتوا أقوى ظهورا على مسرح الحياة. ونستطيع بصفة عامة أن نقول إنه ليس هناك أي نظام من النظم يبلغ من السوء مبلغ ما يصوره خصومه - وبخاصة إذا كانوا ناجحين في حملتهم. فالنظام القديم في فرنسا لم يكن من السوء كما يصوره رجال الثورة الفرنسية. ولم يكن جورج الثالث بتاتا ذلك الحاكم المستبد الذي يرسم الثوار الأمريكيون صورته. ولم تبلغ كنيسة البابا إسكندر السادس (رودريجو بورجيا) البتة من سوء الخلق ما بلغ ذلك البابا المفتري، ولم تكن البتة تلك الحمأة من المظالم كما تصورها الدعاية البروتستانتية. إن التاريخ - كصحفنا اليوم - يحب العناوين الكبرى. ولكن العادي الذي لا يستحق الرواية في الصحف يوجد بالرغم من هذا. وكم من قسيس أو راهب هادئ في القرن الخامس عشر عاش عيشة مسيحية كما عاش أسلافه في القرن الثالث عشر.

وبالرغم من هذا فقد كان هناك في الواقع تدهور في المستوى العام للحياة المسيحية والنظم المسيحية - وتدهور أكيد في قممها - في السنوات الأخيرة من العصور الوسطى. وقد بذلت الجهود لانتشال الحياة من هذا التدهور؛ فكانت هناك الثورات العلنية التي سبقت لوثر، وبخاصة ثورة وايكليف في إنجلترا، وهس في بوهيميا. وإنك لتجد كثيرا من الآراء، وكثيرا من طرق التنظيم التي لجأ إليها البروتستانت المتأخرون كامنة في هذه الحركات. وهنا تجد من غير شك ما يسميه المؤرخ - في غير دقة - ب «المؤثرات». ألم يعترف لوثر نفسه - كارها - بفضل هس عليه؟

ويجب أن نذكر ثانيا حركة إصلاح الكنيسة من داخلها بالوسائل التي نسميها اليوم دستورية، وهي الحركة التي قامت بها المجالس الدينية في القرن الخامس عشر، والتي تمخضت عن كتابات كثيرة يقدرها مؤرخ الفكر السياسي قدرا كبيرا. وكان هؤلاء المفكرون من رجال الدين في الفترة الأخيرة من العصور الوسطى، ويمثلهم جين جرسون، لا يزالون يعملون في إطار من أفكار العصور الوسطى. وتستطيع أن تستمد من جرسون شيئا يشبه أن يكون مشورة مقننة لدستور مختلط، تمتزج فيه عناصر الملكية، بالأرستقراطية، بالديمقراطية المعتدلة. وقد كانت هذه المشورة المقننة جذابة دائما للمعتدلين العقلاء من الرجال، من أرسطو إلى منتسكيو والإنجليز لعهد فكتوريا. وقد كان جرسون وزملاؤه يؤمنون إيمانا علميا كاملا «فيما ينبغي أن يكون» في غير إسراف، وبالعقيدة الوسيطة الكاملة بأن الله قد قدر الإدارة الصحيحة للكون في جلاء لا يعجز أي رجل معقول أن يدركه. ولما كان أعضاء الحركة الدينية يجتمعون في الواقع في مجالس تصطدم اصطداما عنيفا بالبابوات، فإنهم بذلك قد أدوا واجبهم نحو تمهيد الطريق لحركة الإصلاح الديني. إنهم لم يفلحوا في إخضاع البابا لهيئة من رجال الدين تشبه المجلس النيابي، ولكنهم تحدوا القوة النامية للبيروقراطية الرومانية. غير أن ألفاظهم، واتجاهاتهم، كان ينقصها المرارة والعنف والرجوع صراحة إلى ميول الجماهير كما كان لوثر. كانت تنقصهم الدفعة الثورية التي تميز بها كالفن، وكانت تنقصهم اللمسة القوية الواقعية - التي نألفها اليوم - كما كان ميكافيلي. ولا نريد بهذا أن نقول إن جرسون وزملاءه كانوا إلى العصور الوسطى أقرب منهم إلى العصر الحديث، وإنما نريد أن نقول إنهم كانوا أمثلة لتلك الظاهرة الغريبة الدائمة، وجود المثالي والمصلح المعتدل، رجل الألفاظ الرقيقة.

ولا مراء في أن الألفاظ يمكن أن تكون لها آثار عملية في هذا العالم - عالم العلاقات الإنسانية. وهي لا تنقلب إلى أعمال وحدها، وفي ذلك تشبه الغاز في آلة الاحتراق الداخلي الذي لا يتفجر وحده. وقد أبيت (في الفصل الأول) أن أنساق بشدة إلى شكل الجدل المعاصر الذي ليس من ورائه جدوى: أقصد الجدل في أيهما أسبق البيضة أو الكتكوت - أي الجدل في التفسير الاقتصادي للتاريخ. وليست بنا حاجة إلى التساؤل عما إذا كانت الآراء البروتستانتية هي التي أدت إلى التغيرات الاقتصادية، أم إن التغيرات الاقتصادية هي التي أدت إلى الأفكار البروتستانتية؟! وأود أن أحذر القارئ بأن الإصلاح البروتستانتي هو أحد الميادين الكبرى للعراك في الجدل بشأن الحتمية الاقتصادية، وأنا في هذا الكتاب آخذ بوجهة النظر التي ترى أن التغيرات الاقتصادية، التغيرات في الطريقة التي يؤدي بها الناس في المجتمع الغربي أعمالهم اليومية، عنصر هام في النظام الاجتماعي بأسره الذي أفلح فيه الإصلاح البروتستانتي. هذه التغيرات - إذا استعرنا المصطلحات الطبية التي تستحق رجوع القارئ إلى المعاجم - جانب من المرض (سندروم) لا نعرف أسبابه معرفة كاملة. إن التغيرات الخطيرة، كتلك التي تترتب على تحويل الاقتصاد الإقطاعي المكتفي بذاته إلى اقتصاد نقدي يقوم على تجارة واسعة، تغيرات تتوقع أن تصاحبها وتعقبها تغيرات خطيرة في جميع ميادين الحياة البشرية. إننا لا نتوقع أن تصطحب هذه التغيرات بالضرورة بإصلاح بروتستانتي، أو أن يعقبها مثل هذا الإصلاح، كما حدث فعلا؛ فإن تغيرات مشابهة في أنواع بسيطة من الاقتصاد غير الأوروبي في الأزمنة الحديثة - في اليابان مثلا - لم يصاحبها إصلاح بروتستانتي، وإنما صاحبتها تغيرات مختلفة أخرى.

إن أبسط تفسير اقتصادي للثورة البروتستانتية - يسبق ماركس بفترة طويلة - وربما عبر عنه تعبيرا قويا الثائر الإنجليزي وليام كوبت، الذي عاش في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. يقول هذا التفسير إن الكنيسة الكاثوليكية في كل مكان قد أثرت ثراء عريضا خلال العصور الدينية الوسيطة من تبرعات الواهبين الأغنياء الذين كانوا يتوقون إلى أن يضمنوا لأنفسهم مكانة في السماء، وقد تطلع الملوك والأمراء وأتباعهم من الطبقات الحاكمة ممن كانوا باختصار في حاجة ملحة إلى المال، إلى هذه الثروة، وحقدوا على أصحابها، فاغتنموا الآراء المجردة التي جاء بها لوثر ورفقاؤه في العمل، واتخذوها وسيلة لكي يبرهنوا للعالم أن اغتصاب أموال رجال الكنيسة أمر لا غبار عليه. وكانوا مدينين دينا عظيما للطبقة الجديدة من التجار والممولين، فتمكنوا من سد جانب من الدين من الأراضي والملكيات الأخرى التي استولوا عليها من الكنيسة. وهكذا نشأت طبقة حاكمة جديدة جشعة في المال، وعنها خرج الرأسماليون في العصر الحديث.

وهذا التفسير كله ينطبق تمام الانطباق على التجربة الإنجليزية. أما في ألمانيا فقد كان الأمراء أصحاب الأراضي هم المنتفعين الأساسيين من تجريد الكنيسة الكاثوليكية الرومانية من أملاكها. وفي فرنسا - حيث لعب الإصلاح الديني دورا هاما وإن لم يكن دور الظافرين - لم تكن المغامرات الاقتصادية بكل هذا الوضوح، وليس هناك - فوق ذلك - دليل على أن الطبقات الحاكمة في أكثر أنحاء أوروبا التي بقيت كاثوليكية كانت أقل جشعا أو أقل احتياجا إلى المال من تلك الأنحاء التي تحولت إلى البروتستانتية؛ فقد كان الأمراء الإيطاليون في حاجة إلى المال كما كان الألمان. وحتى التاج الإسباني قد شهد ثروة العالم الجديد وهي تتسرب، وعانى أزمة مالية حادة. ومن الجلي أننا بحاجة إلى تفسير أدق. وقد أمدنا به الماركسيون.

كانت هناك أولا - طبقا للتفسير الماركسي - سلسلة كاملة من التغيرات المادية الاقتصادية (ودعنا في هذه الآونة لا نسأل عن السبب في هذه التغيرات العنصرية) تعزز الاقتصاد التجاري الجديد، ويدير هذا الاقتصاد الجديد - أو يفيد منه على الأقل - رجال المال، والتجار، وهم طلائع طبقة تهدف إلى الشهرة أو النفوذ، هي طبقة البرجوازية. ولم يكن بوسع هؤلاء الرجال أن يتعايشوا مع الطبقة الحاكمة الإقطاعية القديمة، التي حددت عاداتهم العقلية والبدنية مراكزهم كأعيان يملكون الأراضي. والطبقة الإقطاعية القديمة تفرض الضريبة على التاجر، وتحط من شأنه، وتخدعه وتعاون الكنيسة على محاولة فرض تلك الآراء الطبقية التي تدعو إلى اعتدال الأسعار، وتحريم الربح باسم الربا، وكل اتجاهات العصور الوسطى إزاء التجارة مما سبق لنا تحليله عند الكلام على نظريات العصور الوسطى في العلاقات الإنسانية. ولم يكن التاجر الجديد يريد إلا أن يشتري في أرخص الأسواق ويبيع في أغلاها. ولم يكن يريد أن يكون لعماله أبا أو حاميا . إنه لم يرد بالنسبة إليهم إلا أن يكون صاحب العمل. وقد بدرت بالفعل حوالي عام 1500م بادرة التاجر الحديث بصورة ملموسة. ومن الطبيعي أن يستغل البروتستانتية ضد كنيسة تحاول أن تفرض طرقا اقتصادية تناقض مصالحه، ومن الطبيعي أن تنجح البروتستانتية في أجزاء من أوروبا حيث كان التجار الجدد، وأن تفشل حيث لم يصيبوا نجاحا. وكانت إنجلترا المتقدمة وهولندا مثلا تعتنق البروتستانتية، في حين لبثت إسبانيا ونابلي المتخلفة كاثوليكية.

ناپیژندل شوی مخ