افکار او خلک: د لويديځ فکر کيسه
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
ژانرونه
وحتى في الحدود المتطرفة من مثالية الفروسية، في الحب الرقيق وفي شرف الفارس، نستطيع أن نحس باللمسة المثالية، بالتجاوز عن المحسوس، وهو ما لم تتخل عنه المسيحية قط. غير أنا إذا وضعنا الفروسية في الميزان وجدناها إحدى القوى الاجتماعية التي كانت تميل إلى هدم المسيحية. فإذا كان من الدوافع الكامنة في المسيحية محاولة إخضاع النفس، وإذا كان التواضع هو حقا من الأهداف الكبرى في الحياة المسيحية، فإن الفروسية إذن لم تكن مسيحية للغاية. الفروسية في أعلى درجات الإيثار فيها لا تزال تشير إلى ذات الفارس، وتجعل من المنافسة في سبيل الشرف وفي سبيل التظاهر عملا يعتبر من الفضائل الاجتماعية. وفي مستواها العادي تشحذ الذات في نضالها مع العالم. وفي تدهورها تمجد في شرف الفرد تركيزه في نفسه تركيزا كثيرا ما يكون هستيريا، وغرورا يحمل صاحبه الهم، وهو غرور انحصر في الأغلب في طبقة المثقفين في الغرب. ولكن الفارس في عهد الفروسية المتأخر كان مثقفا على كل حال. ألم يكن كذلك دون كيشوت؟
والخلاصة أن الفروسية كانت أسلوبا من أساليب العيش في الطبقات العليا من الغرب في العصور الوسطى، تشبه إلى حد كبير ما كانت عليه الرواقية كأسلوب للحياة بين الطبقات العليا في العالم الإمبريالي الإغريقي الروماني. وبطبيعة الحال لم يكن البارون العادي شبيها بدون كيشوت، أو حتى ببلامون وأركيت إلا بمقدار ما كان الموظف الروماني العادي شبيها بزينو، الفيلسوف الرواقي. ومن أجل ذلك استعملنا عبارة «أسلوب من العيش»، في كلتا الحالتين. غير أن درجة التطرف - أو المثالية إن شئت - تؤثر في الرجل المتوسط بطريقة ما من حيث السلوك البشري بين الجماهير؛ فكان الكونت أو البارون، ووكيله والرهبان المجدون والأساقفة الذين كانوا يدبرون جانبا كبيرا من حياة العصور الوسطى، يمثلون حتى في اتجاهاتهم العملية بعض الأهداف التي رسمتها الفروسية، كما تمثل الفروسية ذاتها بعض نواحي نشاطهم المألوفة. إن التباين بين النظري والعملي، بين إخلاص الفارس لربه، ولسيدته، ولواجبه، وانكبابه على القتال، والمقامرة، والصيد، وممارسة الحب، أو لما يزال في الحقيقة أشد ما ينكب عليه الرجل، هذا التباين كان يسري خلال الحياة كلها في العصور الوسطى. وفي هذه العصور كان الفارس في صراع مع ضميره في كثير من الأحيان كلما أدرك أن هذا التباين أمر لا مفر منه. وفي هذه العصور كان الفارس في حركة لا تستقر، مزهوا بفرديته، وهي صفة الكفاح التي يكاد أكثر المحدثين أن يحسها في العصور الوسطى، حتى عندما يصرون على أن تلك العصور كانت تتميز بالاستقرار والاتزان الهادئ.
ولا بد للمرء أن يقفز مباشرة من ثقافة الطبقات الحاكمة في العصور الوسطى إلى ثقافة الشعب. وليس من الحق أنه لم تكن هناك طبقة وسطى في العصور الوسيطة؛ فقد كان التجار، وأصحاب المشروعات، وأرباب البنوك، يتزايدون في العدد والأهمية وبخاصة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. غير أن أسلوب معيشتهم، وآراءهم، كانت تتشكل في بطء على صورة تبتعد عن الطرق العامة التي كان يسلكها غير النبلاء، ويجدر بنا أن نؤجل إلى فصل قادم تحليل ما كان يعنيه ظهور طبقة متوسطة حاكمة في تاريخنا الفكري.
كانت الأغلبية العظمى من السكان في الغرب في العصور الوسطى من الفلاحين. وكانت مدن التسويق الصغرى، بل والمدن القليلة الكبرى - ومنها باريس، ولندن، وفلورنسة - مساحات مدنية محاطة بالأسوار، تقع المزارع عند مداخلها. وكانت على صلات دائمة بالفلاحين المجاورين الذين كانوا يستمدون أكثر مواد غذائهم منهم. أما أرباب الحرف فكانوا يقطنون القرى أو المدن، وقد ينفقون نصف أوقاتهم في الزراعة. وإذن فقد كانت هذه الثقافة الشعبية بسيطة، ثابتة نسبيا، واضحة محددة المعالم، ينقصها ذلك التعقيد السطحي الغامض العجيب الذي نلمسه بين الجماهير الساذجة في مدننا الحديثة الكبرى، ولكنها لم تكن البتة ثقافة بريئة. والواقع أن المرء ليدهش حين يطلع على القطع المنظومة الفرنسية وعلى غرائب الشواهد التي تشف عن أحاسيس الجماهير في العصور الوسطى، من تلك الواقعية الصارمة الدنيوية، وذلك الإعجاب بالماكرين، وأولئك المخادعين الذين يغررون بالسذج من الناس، ومن التشكك في اللفظ الرقيق والمهن الرفيعة. إن هذه الصفة الريفية الدائمة في العصور الوسطى لا بد أن تذكر؛ فهي تشير مرة أخرى إلى حدود الرأي الذي يقول بأن العصور الوسطى تمثل أسلوبا من العيش مسيحيا، ثابتا، وقورا.
لا بد أن نتوقع الكثير من الخشونة في هذه الثقافة، وقد كانت هذه الخشونة موجودة فعلا. وحتى فيما خلفه شوسر نجد الألفاظ ذات المقطع الواحد التي يعرفها كل إنسان إلى جانب لغة المثقفين - على الأقل - عندما كان يجعل أحد العامة يتكلم. وكما كانت «قصة الفارس» لشوسر مرآة صقيلة تعكس الفروسية من بعض جوانبها، فكذلك كانت «قصة صاحب الطاحون» انعكاسا أدبيا رائعا لبعض جوانب الذوق الشعبي. إنها قصة عامة هزلية فاجرة، يستخف فيها تماما بأروع أساليب الفولكلور بالزوج الغبي الغيور. إنها أبعد ما تكون عن المسيحية حتى إن المرء لا ينظر إليها قط من حيث علاقتها بالمثل المسيحية. ولكنها موجودة مع ذلك، وصاحب الطاحون الذي يرويها في طريقه إلى معبد كانتربري كي يؤدي الصلاة كما يؤديها رفاقه، الفارس الرقيق، وقسيس أكسفورد الرحيم، وزوجة باث صاحبة القلب الحار، وصاحبة الدير التي تلمس فيها الخروج على المسيحية بصورة خفية، وغير هؤلاء من حجاج كانتربري الذين قد تجد اليوم نظراء لهم يتجمعون للقيام برحلة إلى «الحجر الأصفر».
والظاهر أن الخشونة والفحش من الصفات الدائمة تقريبا في ثقافتنا الغربية. وهناك فيما يتعلق بمثل هذه الأمور كل صنوف مشكلات الذوق الشائقة. وربما كانت هناك في بعض العصور، كالعصور الوسطى، بساطة على طبيعتها مما لا يجده المرء عندما تختفي تقاليد التهذيب من الطبقات المحتشمة. وما كان مجرد خشونة في العصور الوسطى قد يصبح أدبا بذيئا في الأزمنة الحديثة. غير أن هذه المسائل شائكة، وليست لدينا البتة لحلها وسائل تجمعت على مر العصور. ومهما يكن من أمر فالظاهر أن الميل نحو الفحش في الطبيعة البشرية ميل ثابت، لا يمكن لأية ثقافة مهما تعمقت في التفكير أن تمحوه، أو حتى أن تنجح في كبته.
وبعض هذه الفكاهة البذيئة كان يوجه إلى القسس ورجال الدين. وأقول مرة أخرى إننا إن أردنا صورة متزنة فلا بد لنا من أن نأخذ في الاعتبار ما يجب أن نسميه الحركة الشعبية المعادية لرجال الدين في العصور الوسطى. وهذا الميل المنتشر نسبيا لم يكن في العصور الوسطى في أغلب الأحيان ذلك البغض المرير الذي ظهر في القرن الثامن عشر، بل لقد كان في كثير من الأحيان فكها، بل وينم عن طبيعة طيبة، والظاهر أن بعضه كان يسر رجال الدين أنفسهم. ولا يزال زوار الكنائس الفرنسية التي شيدت في العصور الوسطى يطلعون على نقوش منحوتة في جوانب مقاعد المرتلين، أخذ فيها على ما يظهر النقاش حرية كاملة؛ لأن كثيرا منها يعبر عن تفصيلات شخصية سارة في الحياة اليومية تبدو لنا - إلى حد ما - في غير موضعها في الكنيسة كما يرد كثيرا في الأدب الشعبي الوسيط ذكر القسيس الجشع، والقسيس الفاسق، والقسيس المغرور الذي تشغله أمور الدنيا. وكذلك لا يعطينا شوسر صورة طيبة عن رجال الدين باستثناء قسيس أكسفورد، وقد كان شوسر يعرف بالتأكيد ما كان يدور في خلد العامة. كان رجال الدين يحملون عبء الضعف البشري كاملا على عواتقهم.
ومع ذلك فلم يكن في كل هذا إلا قليل من المرارة، وإنما كان يرمي إلى إنزال القسيس إلى المستوى البشري العام. ولم يقصد إلى تحدي بناء المسيحية الفلسفي والديني - أي نظرتها الشاملة إلى الكون - كما قصد إلى تحديها في أيام فولتير وتوم بين. إن القطع المنظومة الفرنسية، والفلاحين وأرباب الحرف بكل تأكيد، لم يشكوا في وجود الله، أو في الحاجة إلى حضور القداس، بل ولا في مجموعة الخرافات المعقدة التي نمت في المسيحية الشعبية في العصور الوسطى. وربما تلمس أحيانا في هذا الاتجاه المعارض لرجال الدين في العصور الوسطى روح البغض للكنيسة باعتبارها مؤسسة غنية تستغل الفقير، وهو ما سوف نعود إليه بعد حين، ولكن المرء في أكثر الأحيان يحس أن الرجل في الحياة العامة في العصور الوسطى كان لا يثق بالقسيس إلا لأن القسيس بعزوبته، وفقره، وتواضعه، وبعبء مثله المسيحية كلها، كان يبدو إنكارا للإنسانية العامة. وقد أخذ الرجل في العصور الوسطى عن تعاليم المسيحية شيئا من عدم الثقة بإنسانيته العامة فحد ذلك من فكاهته عندما كان يسمع بالفتاة التي هربت إلى الدير في سلة الغسيل. كان الرجل في العصور الوسطى ينظر إلى القسيس - وإن يكن من ناحية واحدة فقط من نواحي تفكيره - كما ينبغي فقط أن يكون، أو متخلفا قليلا في رجولته. ولكنه كان من ناحية أخرى من نواحي التفكير - ينظر إلى القسيس باعتباره وكيل الله على الأرض، يمثل الاحترام، والقوة ، رجلا يدعو إلى الإعجاب، رفيع الشأن على وجه العموم؛ فكان الرجل في العصور الوسطى باختصار يحس نحو القسيس والكنيسة ما يشبه الشعور الغامض الذي يحسه الأمريكي المتوسط نحو الأساتذة والتعليم.
وإنا لنضل كثيرا إذا حسبنا الجماهير في العصور الوسطى مجرد سائمة، ليس لها مثل عليا البتة. وقد بينا في وضوح من قبل أن عامة الرجال والنساء من الجماهير في العصور الوسطى، كانت تشترك في ميراث المسيحية المشترك بالرغم من نقص تعليمها، والافتقار إلى الطباعة، وغير ذلك من الأجهزة الحديثة لنشر الثقافة. وكان هذا الميراث يدعو إلى العصيان إلى حد ما، كما كان جهدا متجددا لتحقيق جانب أكبر، على الأقل، من المثل المسيحية، في هذه الدنيا وفي هذا الزمن الذي نعيش فيه. وهذه المثل - كما ذكرنا من قبل - كانت ولا تزال معقدة متعددة الجوانب تعقيد الثقافة الغربية وتعدد جوانبها. وكان في كثير من الثورات الشعبية في العصور الوسطى، بل وخاصة في الحركات الدينية، مثل الفرنسيسكان، عنصر مما نسميه اليوم الاشتراكية، أو الديمقراطية الاشتراكية. وبالطبع لم تكن الثورات الشعبية الوسيطة من وحي المثل الماركسية، إنما كان الثوار يريدون العودة إلى الفضيلة والبساطة المسيحية الأولى. وليس من نسبة الظواهر إلى غير زمانها إن نقول إن الناس في الغرب لأكثر من ألف عام ممن كانوا يسعون إلى تحقيق مساواة اقتصادية واجتماعية أكبر، ويحاولون أن يحطموا مجتمعا من طبقات تتميز إحداها عن الأخرى - أولئك الثائرون الاجتماعيون في إيجاز - إن هؤلاء الناس كانوا يدعون إلى ما يعتبرونه التقاليد المسيحية الصادقة، وليس من شك في وجود عنصر المساواة في المسيحية التاريخية.
ومن الطبيعي أن يستخدم الناس في العصور الوسطى لغة الدين لتبرير ثورتهم. وأشهر ثورات العصور الوسطى في الشعوب التي تتكلم الإنجليزية تلك الحركة المتأخرة في القرن الرابع عشر التي ترتبط بوات تايلر، وأحد قادتها جون بول، أحد القسس، ولا يزال شعارها باقيا في كتب التاريخ، وهو: «أين كان الرجل المهذب عندما كان آدم يحرث الأرض وحواء تنسج الثياب؟»
ناپیژندل شوی مخ